الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء السابع عشر
[تفسير سورة ق
-]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ ق مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا، وَهِيَ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَجَابِرٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ: إِلَّا آيَةً، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ تَنُّورُنَا وَتَنُّورُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاحِدًا سَنَتَيْنِ- أَوْ سَنَةً وَبَعْضَ سَنَةٍ- وَمَا أَخَذْتُ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إِلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا خَطَبَ النَّاسَ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَضْحَى وَالْفِطْرِ؟ فَقَالَ: كَانَ يَقْرَأُ فِيهِمَا بِ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) وَ (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ). وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِ (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) وَكَانَتْ صَلَاتُهُ بَعْدُ تَخْفِيفًا.
[سورة ق (50): الآيات 1 الى 5]
بسم الله الرحمن الرحيم
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) قَوْلُهُ تَعَالَى: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) قَرَأَ الْعَامَّةُ (قَافْ) بِالْجَزْمِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَنَصْرُ بْنُ عَاصِمٍ (قَافِ) بِكَسْرِ الْفَاءِ، لِأَنَّ الْكَسْرَ أَخُو الْجَزْمِ، فَلَمَّا سكن
آخِرُهُ حَرَّكُوهُ بِحَرَكَةِ الْخَفْضِ. وَقَرَأَ عِيسَى الثَّقَفِيُّ بِفَتْحِ الْفَاءِ حَرَّكَهُ إِلَى أَخَفِّ الْحَرَكَاتِ. وَقَرَأَ هرون ومحمد بن السميقع (قَافُ) بِالضَّمِّ، لِأَنَّهُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ حَرَكَةُ الْبِنَاءِ نَحْوُ مُنْذُ وَقَطُّ وَقَبْلُ وَبَعْدُ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى (ق) مَا هُوَ؟ فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ جَبَلٌ مُحِيطٌ بِالْأَرْضِ مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ اخْضَرَّتِ السَّمَاءُ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ طَرَفَا السَّمَاءِ وَالسَّمَاءُ عَلَيْهِ مُقْبِيَّةٌ، وَمَا أَصَابَ النَّاسَ مِنْ زُمُرُّدٍ كَانَ مِمَّا تَسَاقَطَ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ. وَرَوَاهُ أَبُو الْجَوْزَاءِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يَظْهَرَ الْإِعْرَابُ فِي (ق)، لِأَنَّهُ اسْمٌ وَلَيْسَ بِهِجَاءٍ. قَالَ: وَلَعَلَّ الْقَافَ وحدها ذكرت من اسمه، كقوله الْقَائِلِ:
قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ
أَيْ أَنَا وَاقِفَةٌ. وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ (الْبَقَرَةِ)«1» . وَقَالَ وَهْبٌ: أَشْرَفَ ذُو الْقَرْنَيْنِ عَلَى جَبَلِ قَافٍ فَرَأَى تَحْتَهُ جِبَالًا صِغَارًا، فَقَالَ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا قَافٌ، قَالَ: فَمَا هَذِهِ الْجِبَالُ حَوْلَكَ؟ قَالَ: هِيَ عُرُوقِي وَمَا مِنْ مَدِينَةٍ إِلَّا وَفِيهَا عِرْقٌ مِنْ عُرُوقِي، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُزَلْزِلَ مَدِينَةً أَمَرَنِي فَحَرَّكْتُ عِرْقِي ذَلِكَ فَتَزَلْزَلَتْ تِلْكَ الْأَرْضُ، فَقَالَ لَهُ: يَا قَافٌ أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ شَأْنَ رَبِّنَا لَعَظِيمٌ، وَإِنَّ وَرَائِي أَرْضًا مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ فِي خَمْسِمِائَةِ عَامٍ مِنْ جِبَالِ ثَلْجٍ يُحَطِّمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، لَوْلَا هِيَ لَاحْتَرَقْتُ مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ. [فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَهَنَّمَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَوْضِعِهَا، وَأَيْنَ هِيَ مِنَ الْأَرْضِ «2»]. قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَرْعَدُ فَرَائِصُهُ، يَخْلُقُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ رَعْدَةٍ مِائَةَ أَلْفِ مَلَكٍ، فَأُولَئِكَ الْمَلَائِكَةُ وُقُوفٌ بَيْنَ يَدَيِ الله تعالى منكسو رُؤُوسُهُمْ، فَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً)«3» يَعْنِي قَوْلَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُهُ (ق)
أَيْ قُضِيَ الْأَمْرُ، كَمَا قِيلَ فِي (حم) أَيْ حُمَّ الْأَمْرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:(ق) اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: أَنَّهُ اسْمٌ من أسماء
(1). راجع ج 1 ص (155)
(2)
. الزيادة من حاشية الجمل عن القرطبي.
(3)
. راجع ج 19 ص 184
الْقُرْآنِ. وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: افْتِتَاحُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيرٌ وَقَاهِرٌ وَقَرِيبٌ وَقَاضٍ وَقَابِضٌ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: فَاتِحَةُ السُّورَةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: مَعْنَاهُ قِفْ عِنْدَ أَمْرِنَا وَنَهْيِنَا وَلَا تَعْدُهُمَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيُّ: هُوَ قُرْبُ اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ، بَيَانُهُ (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِقُوَّةِ قَلْبِ حَبِيبِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، حَيْثُ حَمَلَ الْخِطَابَ وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِيهِ لِعُلُوِّ حَالِهِ. (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أَيِ الرَّفِيعُ الْقَدْرِ. وَقِيلَ: الْكَرِيمُ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: الْكَثِيرُ، مَأْخُوذٌ مِنْ كَثْرَةِ الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَةِ لَا مِنْ كَثْرَةِ الْعَدَدِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: كَثِيرُ فُلَانٍ فِي النُّفُوسِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ فِي الْمَثَلِ السَّائِرِ:(فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ، وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ)«1» (وَالْعَفَارُ). أَيِ اسْتَكْثَرَ هَذَانِ النَّوْعَانِ من النار فزادا على سائر الشجر، قال ابْنُ بَحْرٍ. وَجَوَابُ الْقَسَمِ قِيلَ هُوَ:(قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) عَلَى إِرَادَةِ اللَّامِ، أَيْ لَقَدْ عَلِمْنَا. وَقِيلَ: هُوَ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) وَهُوَ اخْتِيَارُ التِّرْمِذِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: (ق) قَسَمٌ بِاسْمٍ هُوَ أَعْظَمُ الْأَسْمَاءِ الَّتِي خَرَجَتْ إِلَى الْعِبَادِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ، وَأَقْسَمَ أَيْضًا بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، ثُمَّ اقْتَصَّ ما خرج من القدرة من خلق السموات وَالْأَرَضِينَ وَأَرْزَاقِ الْعِبَادِ، وَخَلْقِ الْآدَمِيِّينَ، وَصِفَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ قَالَ:(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) فَوَقَعَ الْقَسَمُ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: (ق) أَيْ بِالْقُدْرَةِ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ أَقْسَمْتُ أَنَّ فِيمَا اقْتَصَصْتُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ). وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: جَوَابُهُ (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ). وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: جَوَابُ هَذَا الْقَسَمِ (بَلْ عَجِبُوا). وَقَالَ الْأَخْفَشُ: جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قَالَ: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) لَتُبْعَثُنَّ، يَدُلُّ عَلَيْهِ (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً). قوله تعالى:(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ)(أَنْ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى تَقْدِيرِ لِأَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، يَعْنِي مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَالضَّمِيرُ لِلْكُفَّارِ. وَقِيلَ: لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ جَمِيعًا. ثُمَّ مَيَّزَ بَيْنَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَقالَ الْكافِرُونَ) وَلَمْ يَقُلْ فَقَالُوا، بَلْ قَبَّحَ حَالَهُمْ وَفِعْلَهُمْ وَوَصَفَهُمْ بِالْكُفْرِ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي فُلَانٌ فَأَسْمَعَنِي المكروه، وقال لي الفاسق
(1). المرخ والعفار: شجرتان فيهما نار ليس في غيرهما من الشجر، ويسوى من أغصانهما الزناد فيقتدح بها.
أَنْتَ كَذَا وَكَذَا. (هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ) الْعَجِيبُ الْأَمْرُ الَّذِي يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْعُجَابُ بِالضَّمِّ، وَالْعُجَّابُ بِالتَّشْدِيدِ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْأُعْجُوبَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَجَبُهُمْ أَنْ دُعُوا إِلَى إِلَهٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: مِنْ إِنْذَارِهِمْ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ. وَالَّذِي نَصَّ عليه القرآن أولى. قوله تعالى: (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) نُبْعَثُ، فَفِيهِ إِضْمَارٌ. (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) الرَّجْعُ الرَّدُّ أَيْ هُوَ رَدٌّ بَعِيدٌ أَيْ مُحَالٌ. يُقَالُ: رَجَعْتُهُ أَرْجِعُهُ رَجْعًا، وَرَجَعَ هُوَ يَرْجِعُ رُجُوعًا، وَفِيهِ إِضْمَارٌ آخَرُ، أَيْ وَقَالُوا أَنُبْعَثُ إِذَا مِتْنَا. وَذِكْرُ الْبَعْثِ وإن لم يجرها هنا فَقَدْ جَرَى فِي مَوَاضِعَ، وَالْقُرْآنُ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ. وَأَيْضًا ذِكْرُ الْبَعْثِ مُنْطَوٍ تَحْتَ قَوْلِهِ:(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) لِأَنَّهُ إِنَّمَا ينذر بالعقاب والحساب في الآخرة. أَيْ مَا تَأْكُلُ مِنْ أَجْسَادِهِمْ فَلَا يَضِلُّ عنا شي حَتَّى تَتَعَذَّرَ عَلَيْنَا الْإِعَادَةُ. وَفِي التَّنْزِيلِ: (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى)«1» وَفِي الصَّحِيحِ: (كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُهُ التُّرَابُ إِلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ مِنْهُ خُلِقَ وَفِيهِ يركب) وقد تقدم. وثبت أن لأنبياء وَالْأَوْلِيَاءَ وَالشُّهَدَاءَ لَا تَأْكُلُ الْأَرْضُ أَجْسَادَهُمْ، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ (التَّذْكِرَةِ) وَتَقَدَّمَ أَيْضًا فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: النَّقْصُ هُنَا الْمَوْتُ يَقُولُ قَدْ عَلِمْنَا مِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ وَمَنْ يَبْقَى، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ دُفِنَ فَكَأَنَّ الْأَرْضَ تَنْقُصُ مِنَ النَّاسِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) أَيْ بِعِدَّتِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ. وَقِيلَ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ أَيْ مَحْفُوظٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَوْ مَحْفُوظٌ فِيهِ كُلُّ شي. وَقِيلَ: الْكِتَابُ عِبَارَةٌ عَنِ الْعِلْمِ وَالْإِحْصَاءِ، كَمَا تَقُولُ: كَتَبْتُ عَلَيْكَ هَذَا أَيْ حَفِظْتُهُ، وَهَذَا تَرْكُ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَقِيلَ: أَيْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ لِأَعْمَالِ بَنِي آدَمَ لِنُحَاسِبَهُمْ عليها. قوله تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ) أَيِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: بِالْحَقِّ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ: الْإِسْلَامُ. وَقِيلَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)
(1). راجع ج 11 ص 205