الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الرحمن (55): الآيات 1 الى 13]
بسم الله الرحمن الرحيم
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلَاّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ) قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: (الرَّحْمنُ) فَاتِحَةُ ثَلَاثِ سُوَرٍ إِذَا جُمِعْنَ كُنَّ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى (الر) وَ (حم) وَ (ن) فَيَكُونُ مَجْمُوعُ هَذِهِ (الرَّحْمنُ). (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أَيْ عَلَّمَهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَدَّاهُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ. وَأُنْزِلَتْ حِينَ قَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ؟ وَقِيلَ: نَزَلَتْ جَوَابًا لِأَهْلِ مَكَّةَ حِينَ قَالُوا: إنما يعلمه بشر وهو رحمان الْيَمَامَةِ، يَعْنُونَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:(الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ). وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أَيْ سَهَّلَهُ لِأَنْ يُذْكَرَ وَيُقْرَأَ كَمَا قَالَ: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ). وَقِيلَ: جَعَلَهُ عَلَامَةً لِمَا تَعَبَّدَ النَّاسُ بِهِ. (خَلَقَ الْإِنْسانَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ يَعْنِي آدَمَ عليه السلام. (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) أسماء كل شي. وَقِيلَ: عَلَّمَهُ اللُّغَاتِ كُلَّهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَابْنِ كَيْسَانَ: الْإِنْسَانُ هَاهُنَا يُرَادَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَالْبَيَانُ بَيَانُ الْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ، وَالْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ. وَقِيلَ: مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، لِأَنَّهُ بَيَّنَ عَنِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَيَوْمِ الدِّينِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:(الْبَيانَ) الْخَيْرُ وَالشَّرُّ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: هُوَ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ، وَقَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ:(الْإِنْسانَ) يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ فَهُوَ اسْمٌ للجنس و (الْبَيانَ) عَلَى هَذَا الْكَلَامُ وَالْفَهْمُ، وَهُوَ مِمَّا فُضِّلَ بِهِ الْإِنْسَانُ عَلَى
سَائِرِ الْحَيَوَانِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَلَّمَ كُلَّ قَوْمٍ لِسَانَهُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ. وَقَالَ يَمَانٌ: الْكِتَابَةُ وَالْخَطُّ بِالْقَلَمِ. نَظِيرُهُ: (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا «1» لَمْ يَعْلَمْ). (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أَيْ يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ مَعْلُومٍ فَأَضْمَرَ الْخَبَرَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَأَبُو مَالِكٍ: أَيْ يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ فِي مَنَازِلَ لَا يَعْدُوَانِهَا وَلَا يَحِيدَانِ عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ كَيْسَانَ: يَعْنِي أَنَّ بهما تحسب الأوقات والآجال الأعمار، وَلَوْلَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَمْ يَدْرِ أَحَدٌ كَيْفَ يَحْسُبُ شَيْئًا لَوْ كَانَ الدَّهْرُ كله أَوْ نَهَارًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ:(بِحُسْبانٍ) تَقْدِيرُ آجَالِهِمَا أَيْ تَجْرِي بِآجَالٍ كَآجَالِ النَّاسِ، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمَا هَلَكَا، نَظِيرُهُ:(كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى)«2» . وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِقَدَرٍ. مُجَاهِدٌ: (بِحُسْبانٍ) كَحُسْبَانِ الرَّحَى يَعْنِي قُطْبَهَا يَدُورَانِ فِي مِثْلِ الْقُطْبِ. وَالْحُسْبَانُ قد يكون مصدر حسبته أحسبته بِالضَّمِّ حَسْبًا وَحُسْبَانًا، مِثْلُ الْغُفْرَانِ وَالْكُفْرَانِ وَالرُّجْحَانِ، وَحِسَابَةٌ أَيْضًا أَيْ عَدَدْتُهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَيَكُونُ جَمَاعَةَ الْحِسَابِ مِثْلُ شِهَابٍ وَشُهْبَانٍ. وَالْحُسْبَانُ أَيْضًا بِالضَّمِّ الْعَذَابُ وَالسِّهَامُ الْقِصَارُ، وَقَدْ مَضَى فِي (الْكَهْفِ)«3» الْوَاحِدَةُ حُسْبَانَةٌ، وَالْحُسْبَانَةُ أَيْضًا الْوِسَادَةُ الصَّغِيرَةُ، تقول منه: حسبته إذا وسدته، قال»
:
…
لَثَوَيْتَ غَيْرَ مُحَسَّبِ
أَيْ غَيْرَ مُوَسَّدٍ يَعْنِي غَيْرَ مُكَرَّمٍ وَلَا مُكَفَّنٍ (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) قال ابن عباس وغيره: النجم مالا ساق له والشجر ماله سَاقٌ، وَأَنْشَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلَ صَفْوَانَ بْنِ أَسَدٍ التَّمِيمِيُّ:
لَقَدْ أَنْجَمَ الْقَاعُ الْكَبِيرُ عِضَاهَهُ
…
وَتَمَّ بِهِ حَيَّا تَمِيمٍ وَوَائِلِ
وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى:
مُكَلَّلٌ بِأُصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ
…
ريح الجنوب لضاحي مائه حبك
(1). راجع ج 20 ص 120.
(2)
. راجع ج 9 ص 279.
(3)
. راجع ج 10 ص 408.
(4)
. هو نهيك الفزاري يخاطب عامر بن الطفيل، والبيت بتمامه:
لتقيت بالوجعاء طعنة مرهف
…
مران أو لثويت غير محسب
الوجعاء الاست. يقول: لو طعنتك لوليتني دبرك واتقيت طعنتي بوجعائك، ولثويت هالكا غير مكرم.
وَاشْتِقَاقُ النَّجْمِ مِنْ نَجَمَ الشَّيْءُ يَنْجُمُ بِالضَّمِّ نجوما ظهر وطلع، وسجودهما بسجود ظلا لهما «1» ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: سُجُودُهُمَا أَنَّهُمَا يَسْتَقْبِلَانِ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ ثُمَّ يَمِيلَانِ مَعَهَا حَتَّى يَنْكَسِرَ الْفَيْءُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سُجُودُهُمَا دَوَرَانُ الظِّلِّ معهما، كما قال تعالى:(يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ)«2» . وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: النَّجْمُ نَجْمُ السَّمَاءِ، وَسُجُودُهُ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ دَوَرَانُ ظِلِّهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَقِيلَ: سُجُودُ النَّجْمِ أُفُولُهُ، وَسُجُودُ الشَّجَرِ إِمْكَانُ الِاجْتِنَاءِ لِثَمَرِهَا، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقِيلَ: إِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُسَخَّرٌ لِلَّهِ، فَلَا تَعْبُدُوا النَّجْمَ كَمَا عَبَدَ قَوْمٌ مِنَ الصَّابِئِينَ النُّجُومَ، وَعَبَدَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَجَمِ الشَّجَرَ. وَالسُّجُودُ الْخُضُوعُ، وَالْمَعْنِيُّ بِهِ آثَارُ الْحُدُوثِ، حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ. النَّحَّاسُ: أَصْلُ السُّجُودِ فِي اللُّغَةِ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ لِلَّهِ عز وجل، فَهُوَ مِنَ الْمَوَاتِ كُلِّهَا اسْتِسْلَامُهَا لِأَمْرِ اللَّهِ عز وجل وَانْقِيَادُهَا لَهُ، وَمِنَ الْحَيَوَانِ كَذَلِكَ وَيَكُونُ مِنْ سُجُودِ الصَّلَاةِ، وَأَنْشَدَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ فِي النَّجْمِ بِمَعْنَى النُّجُومِ قَالَ «3»:
فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ فِي مُسْتَحِيرَةٍ
…
سَرِيعٌ بِأَيْدِي الْآكِلِينَ جُمُودُهَا
(وَالسَّماءَ رَفَعَها) وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ (وَالسَّماءَ) بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَاخْتَارَ ذَلِكَ لَمَّا عُطِفَ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي هِيَ: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) فَجَعَلَ الْمَعْطُوفَ مُرَكَّبًا مِنْ مُبْتَدَإٍ وَخَبَرٍ كَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ. (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أَيِ الْعَدْلَ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ، أَيْ وَضَعَ فِي الْأَرْضِ الْعَدْلَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، يُقَالُ: وَضَعَ اللَّهُ الشَّرِيعَةَ. وَوَضَعَ فُلَانٌ كَذَا أَيْ أَلْقَاهُ، وَقِيلَ: عَلَى هَذَا الْمِيزَانُ الْقُرْآنُ، لِأَنَّ فِيهِ بَيَانَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ- أَيْضًا- وَالضَّحَّاكُ: هُوَ الْمِيزَانُ ذُو اللِّسَانِ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ لِيَنْتَصِفَ بِهِ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ بِالْعَدْلِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ. وَقِيلَ: هُوَ الْحُكْمُ. وَقِيلَ: أَرَادَ وَضْعَ الْمِيزَانِ فِي الْآخِرَةِ لِوَزْنِ الْأَعْمَالِ. وَأَصْلُ مِيزَانٍ مِوْزَانٍ وَقَدْ مَضَى فِي (الْأَعْرَافِ)«4» الْقَوْلُ فِيهِ. (أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) مَوْضِعُ (أن) يجوز أن يكون نصبا
(1). في ب، ح، س، هـ:(وسجودهما سجود .. ).
(2)
. راجع ج 10 ص 111.
(3)
. قائله الراعي.
(4)
. راجع ج 7 ص 166.
عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ كَأَنَّهُ قَالَ: لِئَلَّا تَطْغَوْا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)«1» . وَيَجُوزُ أَلَّا يَكُونَ لِ (أَنْ) موضع من الاعراب فتكون بمعنى أي و (تَطْغَوْا) عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مَجْزُومًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ «2» امْشُوا)[أَيِ امْشُوا «3»]. وَالطُّغْيَانُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ. فَمَنْ قَالَ: الْمِيزَانُ الْعَدْلُ قَالَ طُغْيَانُهُ الْجَوْرُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْمِيزَانُ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ قَالَ طُغْيَانُهُ الْبَخْسُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ لَا تَخُونُوا مَنْ وُزِنْتُمْ لَهُ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمَوَالِيَ! وُلِّيتُمْ أَمْرَيْنِ بِهِمَا هَلَكَ النَّاسُ: الْمِكْيَالُ وَالْمِيزَانُ. وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ الْحُكْمُ قَالَ: طُغْيَانُهُ التَّحْرِيفُ. وَقِيلَ: فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ وَضَعَ الْمِيزَانَ وَأَمَرَكُمْ أَلَّا تَطْغَوْا فِيهِ. (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) أَيِ افْعَلُوهُ مُسْتَقِيمًا بِالْعَدْلِ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه: أَقِيمُوا لِسَانَ الْمِيزَانِ بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ. وَقَالَ ابْنُ «4» عُيَيْنَةَ: الْإِقَامَةُ بِالْيَدِ وَالْقِسْطُ بِالْقَلْبِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقِسْطُ الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ. وَقِيلَ: هُوَ كَقَوْلِكَ أَقَامَ الصَّلَاةَ أَيْ أَتَى بِهَا فِي وَقْتِهَا، وَأَقَامَ النَّاسُ أَسْوَاقَهُمْ أَيْ أَتَوْهَا لِوَقْتِهَا. أَيْ لَا تَدَعُوا التَّعَامُلَ بِالْوَزْنِ بِالْعَدْلِ. (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) وَلَا تَنْقُصُوا الْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ:(وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ)«5» . وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: اعْدِلْ يَا بن آدَمَ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُعْدَلَ لَكَ، وَأَوْفِ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُوفَى لَكَ، فَإِنَّ الْعَدْلَ صَلَاحُ النَّاسِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا تُخْسِرُوا مِيزَانَ حَسَنَاتِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَكُونَ ذَلِكَ حَسْرَةً عَلَيْكُمْ. وَكَرَّرَ الْمِيزَانَ لِحَالِ رُءُوسِ الْآيِ. وَقِيلَ: التَّكْرِيرُ لِلْأَمْرِ بِإِيفَاءِ الْوَزْنِ وَرِعَايَةِ الْعَدْلِ فِيهِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (تُخْسِرُوا) بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ السِّينِ. وَقَرَأَ بِلَالُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ وَأَبَانٌ عَنْ عُثْمَانَ (تَخْسَرُوا) بِفَتْحِ التَّاءِ وَالسِّينِ وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ: أَخْسَرْتُ الْمِيزَانَ وَخَسَرْتُهُ كَأَجْبَرْتُهُ وَجَبَرْتُهُ. وَقِيلَ: (تَخْسَرُوا) بِفَتْحِ التَّاءِ وَالسِّينِ مَحْمُولٌ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، وَالْمَعْنَى وَلَا تَخْسَرُوا فِي الْمِيزَانِ. (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) الْأَنَامُ النَّاسُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْحَسَنُ: الْجِنُّ وَالْإِنْسُ. الضَّحَّاكُ: كُلُّ مَا دَبَّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَهَذَا عَامٌّ. (فِيها فاكِهَةٌ) أي كل
(1). راجع ج 6 ص 29.
(2)
. راجع ج 15 ص 151.
(3)
. الزيادة من ب، ح، س، هـ.
(4)
. في حاشية الجمل نقلا عن القرطبي (أبو عبيدة) بدل ابن عيينة.
(5)
. راجع ج 9 ص 85. [ ..... ]
مَا يَتَفَكَّهُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ أَلْوَانِ الثِّمَارِ. (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) الا كمام جَمْعُ كِمٍّ بِالْكَسْرِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْكِمَّةُ بِالْكَسْرِ وَالْكِمَامَةُ وِعَاءُ الطَّلْعِ وَغِطَاءُ النَّوْرِ وَالْجَمْعُ كِمَامٌ وَأَكِمَّةٌ وَأَكْمَامٌ وَالْأَكَامِيمٌ أَيْضًا. وَكُمَّ الْفَصِيلُ إِذَا أُشْفِقَ عَلَيْهِ فَسُتِرَ حَتَّى يَقْوَى، قَالَ الْعَجَّاجُ:
بَلْ لَوْ شَهِدْتَ النَّاسَ إِذْ تُكُمُّوا
…
بِغُمَّةٍ لَوْ لَمْ تُفَرَّجْ غُمُّوا
وَتُكُمُّوا أَيْ أُغْمِيَ عَلَيْهِمْ وَغُطُّوا. وَأَكَمَّتِ [النَّخْلَةُ «1»] وَكَمَّمَتْ أَيْ أَخْرَجَتْ أَكْمَامَهَا. وَالْكِمَامُ بِالْكَسْرِ وَالْكِمَامَةُ أَيْضًا مَا يُكَمُّ بِهِ فَمُ الْبَعِيرِ لِئَلَّا يَعَضَّ، تَقُولُ مِنْهُ: بَعِيرٌ مَكْمُومٌ أَيْ مَحْجُومٌ. وَكَمَّمْتُ الشَّيْءَ غَطَّيْتُهُ. وَالْكَمُّ مَا سَتَرَ شَيْئًا وَغَطَّاهُ، وَمِنْهُ كُمُّ الْقَمِيصِ بِالضَّمِّ وَالْجَمْعُ أَكْمَامٌ وَكِمَمَةٌ، مِثْلُ حَبٍّ وَحِبَبَةٌ. وَالْكُمَّةُ الْقَلَنْسُوَةُ الْمُدَوَّرَةُ، لِأَنَّهَا تُغَطِّي الرَّأْسَ. قَالَ:
فَقُلْتُ لَهُمْ كِيلُو بِكُمَّةِ بَعْضِكُمْ
…
دَرَاهِمَكُمْ إِنِّي كَذَلِكَ أَكْيَلُ
قَالَ الْحَسَنُ: (ذاتُ الْأَكْمامِ) أَيْ ذَاتُ اللِّيفِ فَإِنَّ النَّخْلَةَ قَدْ تُكَمَّمُ بِاللِّيفِ، وَكِمَامُهَا لِيفُهَا الَّذِي فِي أَعْنَاقِهَا. ابْنُ زَيْدٍ: ذَاتُ الطَّلْعِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَتَّقَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ذَاتُ الْأَحْمَالِ. (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) الْحَبُّ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَنَحْوُهُمَا، وَالْعَصْفُ التِّبْنُ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ. مُجَاهِدٌ: وَرَقُ الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: تِبْنُ الزَّرْعِ وَوَرَقُهُ الَّذِي تَعْصِفُهُ الرِّيَاحُ. سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: بَقْلُ الزَّرْعِ أَيْ أَوَّلُ مَا يَنْبُتُ مِنْهُ، وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خَرَجْنَا نَعْصِفُ الزَّرْعَ إِذَا قَطَعُوا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ. وَكَذَا فِي الصِّحَاحِ: وَعَصَفْتُ الزَّرْعَ أَيْ جَزَزْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْعَصْفُ وَرَقُ الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ إِذَا قُطِعَ رُءُوسُهُ وَيَبِسَ، نَظِيرُهُ:(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ «2» مَأْكُولٍ). الْجَوْهَرِيُّ، وَقَدْ أَعْصَفَ الزَّرْعُ، وَمَكَانٌ مُعْصِفٌ أَيْ كَثِيرُ الزَّرْعِ. قَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ الْأَنْصَارِيُّ:
إِذَا جُمَادَى مَنَعَتْ قَطْرَهَا
…
زَانَ جَنَابِي عطن معصف
(1). الزيادة من الصحاح للجوهري.
(2)
. راجع ج 20 ص.
وَالْعَصْفُ أَيْضًا الْكَسْبُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ «1»:
بِغَيْرِ مَا عَصْفٍ وَلَا اصْطِرَافِ
وَكَذَلِكَ الِاعْتِصَافُ. وَالْعَصِيفَةُ الْوَرَقُ الْمُجْتَمِعُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ السُّنْبُلُ. وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: وَالْعَصْفُ وَالْعَصِيفَةُ وَرَقُ السُّنْبُلِ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ: وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ تَقُولُ الْعَرَبُ لِوَرَقِ الزَّرْعِ الْعَصْفُ وَالْعَصِيفَةُ وَالْجِلُّ بِكَسْرِ الْجِيمِ. قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ:
تَسْقِي مَذَانِبَ قَدْ مَالَتْ عَصِيفَتُهَا
…
حَدُورُهَا مِنْ أَتِيِّ الْمَاءِ مَطْمُومُ
وَفِي الصِّحَاحِ: وَالْجِلُّ بِالْكَسْرِ قَصَبُ الزَّرْعِ إِذَا حُصِدَ. وَالرَّيْحَانُ الرِّزْقُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. الضَّحَّاكُ: هِيَ لُغَةُ حِمْيَرَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ: أَنَّهُ الرَّيْحَانُ الَّذِي يُشَمُّ، وَقَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّهُ خُضْرَةُ الزرع. وقال سعيد ابن جُبَيْرٍ: هُوَ مَا قَامَ عَلَى سَاقٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَصْفُ الْمَأْكُولُ مِنَ الزَّرْعِ، وَالرَّيْحَانُ مَا لَا يُؤْكَلُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ الْعَصْفَ الْوَرَقُ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ، وَالرَّيْحَانُ هُوَ الْحَبُّ الْمَأْكُولُ. وَقِيلَ: الرَّيْحَانُ كُلُّ بَقْلَةٍ طَيِّبَةِ الرِّيحِ سُمِّيَتْ رَيْحَانًا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرَاحُ لَهَا رَائِحَةً طَيِّبَةً. أَيْ يَشُمُّ فَهُوَ فَعْلَانُ رَوْحَانُ مِنَ الرَّائِحَةِ، وَأَصْلُ الْيَاءِ فِي الْكَلِمَةِ وَاوٌ قُلِبَ يَاءً للفرق بينه وبين الروحاني وهو كل شي له روح. قال ابن الاعرابي: يقال شي رُوحَانِيٌّ وَرَيْحَانِيٌّ أَيْ لَهُ رُوحٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَزْنِ فَيْعَلَانِ فَأَصْلُهُ رَيْوَحَانُ فَأُبْدِلَ مِنَ الْوَاوِ يَاءً وَأُدْغِمَ كَهَيِّنٍ وَلَيِّنٍ، ثُمَّ أُلْزِمَ التَّخْفِيفُ لِطُولِهِ وَلِحَاقِ الزَّائِدَتَيْنِ الْأَلِفِ وَالنُّونِ، وَالْأَصْلُ فِيمَا يَتَرَكَّبُ مِنَ الرَّاءِ وَالْوَاوِ وَالْحَاءِ الِاهْتِزَازُ وَالْحَرَكَةُ. وَفِي الصِّحَاحِ: وَالرَّيْحَانُ نَبْتٌ مَعْرُوفٌ، وَالرَّيْحَانُ الرِّزْقُ، تَقُولُ: خَرَجْتُ أَبْتَغِي رَيْحَانَ اللَّهِ، قال النمر بن تولب:
سلام الإله وريحانه
…
وَرَحْمَتُهُ وَسَمَاءٌ دِرَرْ
وَفِي الْحَدِيثِ: (الْوَلَدُ مِنْ رَيْحَانِ اللَّهِ). وَقَوْلُهُمْ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَرَيْحَانَهُ، نَصَبُوهُمَا عَلَى الْمَصْدَرِ يُرِيدُونَ تَنْزِيهًا لَهُ وَاسْتِرْزَاقًا. وَأَمَّا قوله:(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) فالعصف
(1). قائله العجاج. وصدر البيت:
قد يكسب المال الهدان الجافي
والهدان الأحمق.
سَاقُ الزَّرْعِ، وَالرَّيْحَانُ وَرَقُهُ، عَنِ الْفَرَّاءِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) بِالرَّفْعِ فِيهَا كُلِّهَا عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الْفَاكِهَةِ. وَنَصَبَهَا كُلَّهَا ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو حَيْوَةَ وَالْمُغِيرَةُ عَطْفًا عَلَى الْأَرْضِ. وَقِيلَ: بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ وَخَلَقَ الْحَبَّ ذَا الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانَ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى (ذاتُ الْأَكْمامِ). وَجَرَّ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (الرَّيْحَانَ) عَطْفًا عَلَى الْعَصْفِ، أَيْ فِيهَا الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانِ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الرَّيْحَانَ الرِّزْقَ، فَيَكُونُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَالْحَبُّ ذُو الرِّزْقِ. وَالرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْعَصْفُ رِزْقًا، لِأَنَّ الْعَصْفَ رِزْقٌ لِلْبَهَائِمِ، وَالرَّيْحَانُ رِزْقٌ لِلنَّاسِ، وَلَا شُبْهَةَ فِيهِ فِي قول من قال إنه الريحان المشموم. قوله تعالى:(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) خِطَابٌ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ، لِأَنَّ الْأَنَامَ وَاقِعٌ عَلَيْهِمَا. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جَابِرٍ الْمَذْكُورُ أَوَّلَ السُّورَةِ، وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَفِيهِ (لَلْجِنُّ أَحْسَنُ مِنْكُمْ «1» رَدًّا). وَقِيلَ: لَمَّا قَالَ: (خَلَقَ الْإِنْسانَ)(وَخَلَقَ الْجَانَّ) دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تأخر لهما. وأيضا قال: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) وَهُوَ خِطَابٌ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَقَدْ قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ). وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: خَاطَبَ الْجِنَّ مَعَ الْإِنْسِ وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلْجِنِّ ذِكْرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:(حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ «2»). وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ الْجِنِّ فِيمَا سَبَقَ نُزُولُهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ كَالسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ كَالْإِنْسِ خُوطِبَ الْجِنْسَانِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْإِنْسِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْخِطَابِ لِلْوَاحِدِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ، حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقَوْلِ فِي (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) «3». وكذلك قوله:
قفا نبك «4»
…
وخليلي مرابي «5»
…
(1). رواية الترمذي المتقدمة تخالف هذه الرواية في اللفظ وهذه رواية الحاكم.
(2)
. راجع ج 15 ص 195.
(3)
. راجع ص 16 من هذا الجزء.
(4)
. البيت مطلع معلقة امرى القيس وتمامه:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
…
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
(5)
. البيت مطلع قصيدة لامرى القيس أيضا والبيت بتمامه:
خليلي مرابى على أم جندب
…
نقض لبانات الفؤاد المعذب
فأما ما بعد (خَلَقَ الْإِنْسانَ) و (خَلَقَ الْجَانَّ) فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) وَالْآلَاءُ النِّعَمُ، وَهُوَ قَوْلُ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَاحِدُهَا إِلًى وَأَلًى مِثْلُ مِعًى وَعَصًا، وَإِلْيٌ وَأَلْيٌ أَرْبَعُ لُغَاتٍ حَكَاهَا النَّحَّاسُ قَالَ: وَفِي وَاحِدِ (آناءَ اللَّيْلِ) ثَلَاثٌ تَسْقُطُ مِنْهَا الْمَفْتُوحَةُ الْأَلِفِ الْمُسَكَّنَةُ اللَّامِ، وَقَدْ مَضَى فِي (الْأَعْرَافِ) «1» وَ (النَّجْمِ) «2». وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهَا الْقُدْرَةُ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَبِأَيِّ قُدْرَةِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، وَقَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَاخْتَارَهُ التِّرْمِذِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَقَالَ: هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ بَيْنِ السُّوَرِ عَلَمُ الْقُرْآنِ، وَالْعَلَمُ إِمَامُ الْجُنْدِ وَالْجُنْدُ تَتْبَعُهُ، وَإِنَّمَا صَارَتْ عَلَمًا لِأَنَّهَا سُورَةُ صِفَةِ الْمُلْكِ وَالْقُدْرَةِ، فَقَالَ:(الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ) فَافْتَتَحَ السُّورَةَ بِاسْمِ الرَّحْمَنِ مِنْ بَيْنِ الْأَسْمَاءِ لِيَعْلَمَ الْعِبَادُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَصِفُهُ بَعْدَ هَذَا مِنْ أَفْعَالِهِ وَمِنْ مُلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ خَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الرَّحْمَةِ الْعُظْمَى مِنْ رَحْمَانِيَّتِهِ فَقَالَ: (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ) ثُمَّ ذَكَرَ الْإِنْسَانَ فَقَالَ: (خَلَقَ الْإِنْسانَ) ثُمَّ ذَكَرَ مَا صَنَعَ بِهِ وَمَا مَنَّ عَلَيْهِ بِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ حُسْبَانَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَسُجُودَ الْأَشْيَاءِ مِمَّا نَجَمَ وَشَجَرَ، وَذَكَرَ رَفْعَ السَّمَاءِ وَوَضْعَ الْمِيزَانِ وَهُوَ الْعَدْلُ، وَوَضْعَ الْأَرْضِ لِلْأَنَامِ، فَخَاطَبَ هَذَيْنِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ حِينَ رَأَوْا مَا خَرَجَ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْمُلْكِ بِرَحْمَانِيَّتِهِ الَّتِي رَحِمَهُمْ بِهَا مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَلَا حَاجَةٍ إِلَى ذَلِكَ، فَأَشْرَكُوا بِهِ الْأَوْثَانَ وَكُلَّ مَعْبُودٍ اتَّخَذُوهُ مِنْ دُونِهِ، وَجَحَدُوا الرَّحْمَةَ الَّتِي خَرَجَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِهَا إِلَيْهِمْ، فَقَالَ سَائِلًا لَهُمْ:(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أَيْ بِأَيِّ قُدْرَةِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فَإِنَّمَا كَانَ تَكْذِيبُهُمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ مُلْكِهِ وَقُدْرَتِهِ شَرِيكًا يملك معه يقدر مَعَهُ، فَذَلِكَ تَكْذِيبُهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ صَلْصَالٍ، وَذَكَرَ خَلْقَ الْجَانِّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، ثُمَّ سَأَلَهُمْ فَقَالَ:(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أَيْ بِأَيِّ قُدْرَةِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، فَإِنَّ لَهُ فِي كُلِّ خَلْقٍ بَعْدَ خَلْقٍ قُدْرَةً بَعْدَ قُدْرَةٍ، فَالتَّكْرِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّقْرِيرِ، وَاتِّخَاذِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِمَا وَقَفَهُمْ عَلَى خَلْقٍ خَلْقٍ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَدَّدَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نعماءه، وذكر خلقه آلاءه، ثم أتبع
(1). راجع ج 7 ص 237.
(2)
. راجع ص 121 من هذا الجزء.