الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي آجَالِكُمْ، أَيْ لَا يَتَقَدَّمُ مُتَأَخِّرٌ وَلَا يَتَأَخَّرُ مُتَقَدِّمٌ. (وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ)
مِنَ الصُّوَرِ وَالْهَيْئَاتِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ نَجْعَلُكُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ كَمَا فَعَلْنَا بِأَقْوَامٍ قَبْلَكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى نُنْشِئُكُمْ فِي الْبَعْثِ عَلَى غَيْرِ صُوَرِكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَيُجَمَّلُ الْمُؤْمِنُ بِبَيَاضِ وَجْهِهِ، وَيُقَبَّحُ الْكَافِرُ بِسَوَادِ وَجْهِهِ. سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ «1»: قَوْلُهُ تعالى: (فِي ما لَا تَعْلَمُونَ)
يَعْنِي فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ سُودٍ تَكُونُ بِبَرَهُوتَ كَأَنَّهَا الْخَطَاطِيفُ، وَبَرَهُوتُ وَادٍ فِي اليمن. وقال مجاهد:(فِي ما لَا تَعْلَمُونَ)
فِي أَيِّ خَلْقٍ شِئْنَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى نُنْشِئُكُمْ فِي عَالَمٍ لَا تَعْلَمُونَ، وَفِي مَكَانٍ لَا تَعْلَمُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) أَيْ إِذْ خُلِقْتُمْ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا، عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: يعني خلق آدم عليه السلام. (فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ) أَيْ فَهَلَّا تَذَكَّرُونَ. وَفِي الْخَبَرِ: عَجَبًا كُلَّ الْعَجَبِ لِلْمُكَذِّبِ بِالنَّشْأَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ يَرَى النَّشْأَةَ الْأُولَى، وَعَجَبًا لِلْمُصَدِّقِ بِالنَّشْأَةِ الْآخِرَةِ وَهُوَ لَا يَسْعَى لِدَارِ الْقَرَارِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (النَّشْأَةَ) بِالْقَصْرِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو:(النَّشَاءَةَ) بِالْمَدِّ، وَقَدْ مَضَى فِي (الْعَنْكَبُوتِ)«2» بيانه.
[سورة الواقعة (56): الآيات 63 الى 67]
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ) هَذِهِ حُجَّةٌ أُخْرَى، أَيْ أَخْبِرُونِي عَمَّا تَحْرُثُونَ مِنْ أَرْضِكُمْ فَتَطْرَحُونَ فِيهَا الْبَذْرَ، أَنْتُمْ تُنْبِتُونَهُ وَتُحَصِّلُونَهُ زَرْعًا فَيَكُونَ فِيهِ السُّنْبُلُ وَالْحَبُّ أَمْ نَحْنُ نَفْعَلُ ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا مِنْكُمُ الْبَذْرُ وَشَقُّ الْأَرْضِ، فَإِذَا أَقْرَرْتُمْ بِأَنَّ إِخْرَاجَ السُّنْبُلَ مِنَ الْحَبِّ لَيْسَ إِلَيْكُمْ، فَكَيْفَ تُنْكِرُونَ إِخْرَاجَ الْأَمْوَاتِ مِنَ الْأَرْضِ وَإِعَادَتَهُمْ؟! وَأَضَافَ الْحَرْثَ إِلَيْهِمْ وَالزَّرْعَ إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْحَرْثَ فِعْلُهُمْ وَيَجْرِي عَلَى اخْتِيَارِهِمْ، وَالزَّرْعُ مِنْ فِعْلِ الله تعالى
(1). في ب: (سعيد بن المسيب).
(2)
. راجع ج 13 ص 337 [ ..... ]
وَيَنْبُتُ عَلَى اخْتِيَارِهِ لَا عَلَى اخْتِيَارِهِمْ. وَكَذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ زَرَعْتُ وَلْيَقُلْ حَرَثْتُ فَإِنَّ الزَّارِعَ هُوَ اللَّهُ) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ). وَالْمُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مَنْ يُلْقِي الْبَذْرَ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَ الِاسْتِعَاذَةِ (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ) الْآيَةَ، ثُمَّ يَقُولُ: بَلِ اللَّهُ الزَّارِعُ وَالْمُنْبِتُ والمبلغ، اللهم صلي عَلَى مُحَمَّدٍ، وَارْزُقْنَا ثَمَرَهُ، وَجَنِّبْنَا ضَرَرَهُ، وَاجْعَلْنَا لِأَنْعُمِكَ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَلِآلَائِكَ مِنَ الذَّاكِرِينَ، وَبَارِكْ لَنَا فِيهِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَيُقَالُ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَمَانٌ لِذَلِكَ الزَّرْعِ مِنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ: الدُّودُ وَالْجَرَادُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، سَمِعْنَاهُ مِنْ ثِقَةٍ وَجَرَّبَ فَوَجَدَ كَذَلِكَ. وَمَعْنَى (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) أَيْ تَجْعَلُونَهُ [زَرْعًا «1»]. وَقَدْ يُقَالُ: فُلَانٌ زَرَّاعٌ كَمَا يُقَالُ حَرَّاثٌ، أَيْ يَفْعَلُ مَا يَئُولُ إِلَى أَنْ يَكُونَ زَرْعًا يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ. وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الزَّرْعِ عَلَى بَذْرِ الْأَرْضِ وَتَكْرِيبِهَا تَجَوُّزًا. قُلْتُ: فَهُوَ نَهْيُ إِرْشَادٍ [وَأَدَبٍ «2»] لَا نَهْيَ حَظْرٍ وَإِيجَابٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه السلام:(لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي وَلْيَقُلْ غُلَامِي وَجَارِيَتِي وَفَتَايَ وَفَتَاتِي) وَقَدْ مَضَى فِي (يُوسُفَ)«3» الْقَوْلُ فِيهِ. وَقَدْ بَالَغَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ: لَا يَقُلْ حَرَثْتُ فَأَصَبْتُ، بَلْ يَقُلْ: أَعَانَنِي اللَّهُ فَحَرَثْتُ، وَأَعْطَانِي بِفَضْلِهِ مَا أَصَبْتُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَتَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْآيَةُ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا- الِامْتِنَانُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَنْبَتَ زَرْعَهُمْ حَتَّى عَاشُوا بِهِ لِيَشْكُرُوهُ عَلَى نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ. الثَّانِي- الْبُرْهَانُ الْمُوجِبُ لِلِاعْتِبَارِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْبَتَ زَرْعَهُمْ بَعْدَ تَلَاشِي بَذْرِهِ، وَانْتِقَالِهِ إِلَى اسْتِوَاءِ حَالِهِ مِنَ الْعَفَنِ وَالتَّتْرِيبِ حَتَّى صَارَ زَرْعًا أَخْضَرَ، ثُمَّ جَعَلَهُ قَوِيًّا مُشْتَدًّا أَضْعَافَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَهُوَ بِإِعَادَةِ مَنْ أَمَاتَ أَخَفُّ عَلَيْهِ وَأَقْدَرُ، وَفِي هَذَا الْبُرْهَانِ مَقْنَعٌ لِذَوِي الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ. ثُمَّ قَالَ (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) أَيْ مُتَكَسِّرًا يَعْنِي الزَّرْعَ. وَالْحُطَامُ الْهَشِيمُ الْهَالِكُ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي مَطْعَمٍ وَلَا غِذَاءٍ، فَنُبِّهَ بِذَلِكَ أَيْضًا عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا- مَا أَوْلَاهُمْ بِهِ مِنَ النِّعَمِ فِي زَرْعِهِمْ إِذْ لَمْ يَجْعَلْهُ حُطَامًا لِيَشْكُرُوهُ. الثَّانِي- لِيَعْتَبِرُوا بِذَلِكَ فِي أنفسهم، كما أنه يجعل
(1). زيادة يقتضيها السياق.
(2)
. الزيادة: من ب، ز، ح، س، ل، هـ.
(3)
. راجع ج 9 ص 194
الزَّرْعَ حُطَامًا إِذَا شَاءَ، وَكَذَلِكَ يُهْلِكُهُمْ إِذَا شَاءَ لِيَتَّعِظُوا فَيَنْزَجِرُوا. (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أَيْ تَعْجَبُونَ بِذَهَابِهَا وَتَنْدَمُونَ مِمَّا حَلَّ بِكُمْ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا. وَفِي الصِّحَاحِ: وَتَفَكَّهَ أَيْ تَعَجَّبَ، وَيُقَالُ: تَنَدَّمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:(فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أَيْ تَنْدَمُونَ. وَتَفَكَّهْتُ بِالشَّيْءِ تَمَتَّعْتُ بِهِ. وَقَالَ يَمَانٌ: تَنْدَمُونَ عَلَى نَفَقَاتِكُمْ، دَلِيلُهُ:(فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ «1» فِيها). وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تَلَاوَمُونَ وَتَنْدَمُونَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْكُمْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ الَّتِي أَوْجَبَتْ عُقُوبَتَكُمْ حَتَّى نَالَتْكُمْ فِي زَرْعِكُمْ. ابْنُ كَيْسَانَ: تَحْزَنُونَ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَفِيهِ لُغَتَانِ: تَفَكَّهُونَ وَتَفَكَّنُونَ: قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالنُّونُ لُغَةُ عُكْلٍ. وَفِي الصِّحَاحِ: الْتَفَكُّنُ التَّنَدُّمُ عَلَى مَا فَاتَ. وَقِيلَ: التَّفَكُّهُ التَّكَلُّمُ فِيمَا لَا يعنيك، ومنه قيل للمزاج فُكَاهَةٌ بِالضَّمِّ، فَأَمَّا الْفُكَاهَةُ بِالْفَتْحِ فَمَصْدَرُ فَكِهَ الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النَّفْسِ مَزَّاحًا. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ (فَظَلْتُمْ) بِفَتْحِ الظَّاءِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ (فَظِلْتُمْ) بِكَسْرِ الظَّاءِ وَرَوَاهَا هرون عَنْ حُسَيْنٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ. فَمَنْ فَتَحَ فَعَلَى الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ ظَلَلْتُمْ فَحَذَفَ اللَّامَ الْأُولَى تَخْفِيفًا، وَمَنْ كَسَرَ نَقَلَ كَسْرَةَ اللَّامِ الْأُولَى إِلَى الظَّاءِ ثُمَّ حَذَفَهَا. (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) وَقَرَأَ أبو بكر والمفضل (أينا) بِهَمْزَتَيْنِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَرَوَاهُ عَاصِمٌ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ. الْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْخَبَرِ، أَيْ يَقُولُونَ (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) أَيْ مُعَذَّبُونَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ قَالَا: وَالْغَرَامُ الْعَذَابُ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ الْمُحَلِّمِ:
وَثِقْتُ بِأَنَّ الْحِفْظَ مِنِّي سَجِيَّةٌ
…
وَأَنَّ فُؤَادِي مُتْبَلٌ بِكَ مُغْرَمُ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: لَمُولَعٌ بِنَا، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ:
سَلَا عَنْ تَذَكُّرِهِ تُكْتَمَا «2»
…
وَكَانَ رَهِينًا بِهَا مُغْرَمَا
يُقَالُ: أُغْرِمَ فُلَانٌ بِفُلَانَةٍ، أَيْ أُولِعَ بِهَا وَمِنْهُ الْغَرَامُ وَهُوَ الشَّرُّ اللَّازِمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: لَمُلْقُونَ شَرًّا. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: مُهْلَكُونَ. النَّحَّاسُ: (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) مَأْخُوذٌ مِنَ الْغَرَامِ وَهُوَ الْهَلَاكُ، كَمَا قَالَ «3»:
يوم النسار ويوم الجفا
…
ر كانا عذابا وكانا غراما
(1). راجع ج 10 ص (409)
(2)
. تكتم: اسم من يشبب بها.
(3)
. قائله بشر بن أبى خازم. النسار موضع وقيل: هو ماء لبنى عامر. والجفار: موضع وقيل: هو ماء لبنى تميم. ويوم النسار ويوم الجفار: يومان من أيام العرب مشهوران.