الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قُلْتُ: قَوْلُهُ (فِي كَثِيبٍ) يُرِيدُ أَهْلَ الْجَنَّةِ، أَيْ وَهُمْ عَلَى كُثُبٍ، كَمَا فِي مُرْسَلِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَنْظُرُونَ رَبَّهُمْ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى كَثِيبٍ مِنْ كَافُورٍ) الْحَدِيثَ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ (التَّذْكِرَةِ). وَقِيلَ: إِنَّ الْمَزِيدَ مَا يُزَوَّجُونَ بِهِ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ مَرْفُوعًا.
[سورة ق (50): الآيات 36 الى 38]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أَيْ كَمْ أَهْلَكْنَا يَا مُحَمَّدُ قَبْلَ قَوْمِكَ مِنْ أُمَّةٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَقُوَّةً. (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) أَيْ سَارُوا فِيهَا طَلَبًا لِلْمَهْرَبِ. وَقِيلَ: أَثَّرُوا فِي الْبِلَادِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ضَرَبُوا وَطَافُوا. وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: دَوَّرُوا. وَقَالَ قَتَادَةُ: طَوَّفُوا. وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ تَبَاعَدُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَقَدْ نَقَّبْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى
…
رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ
ثُمَّ قِيلَ: طَافُوا فِي أَقَاصِي الْبِلَادِ طَلَبًا لِلتِّجَارَاتِ، وَهَلْ وَجَدُوا مِنَ الْمَوْتِ مَحِيصًا؟. وَقِيلَ: طَوَّفُوا فِي البلاد يلتمسون محيصا من الموت. قال الحرث بْنُ حِلِّزَةَ: نَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ مِنْ حَذَرِ الموت وَجَالُوا فِي الْأَرْضِ كُلَّ مَجَالِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ (فَنَقَبُوا) بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِهَا. وَالنَّقْبُ هُوَ الْخَرْقُ وَالدُّخُولُ فِي الشَّيْءِ. وَقِيلَ: النَّقْبُ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ، وَكَذَلِكَ الْمَنْقَبُ وَالْمَنْقَبَةُ، عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ. وَنَقَبَ الْجِدَارَ نَقْبًا، وَاسْمُ تِلْكَ النَّقْبَةِ نَقْبٌ أَيْضًا، وَجَمْعُ النَّقْبِ النُّقُوبُ، أَيْ خَرَقُوا الْبِلَادَ وَسَارُوا فِي نُقُوبِهَا. وَقِيلَ: أَثَّرُوا فِيهَا كَتَأْثِيرِ الْحَدِيدِ فِيمَا يَنْقُبُ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ (فَنَقِّبُوا) بِكَسْرِ الْقَافِ وَالتَّشْدِيدِ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، أَيْ طُوفُوا الْبِلَادَ وسيروا
فِيهَا فَانْظُرُوا (هَلْ مِنْ) الْمَوْتِ (مَحِيصٍ) وَمَهْرَبٌ، ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَحَكَى الْقُشَيْرِيُّ (فَنَقِبُوا) بِكَسْرِ الْقَافِ مَعَ التَّخْفِيفِ، أَيْ أَكْثَرُوا السَّيْرَ فِيهَا حَتَّى نَقِبَتْ دَوَابُّهُمْ الْجَوْهَرِيُّ: وَنَقِبَ الْبَعِيرُ بِالْكَسْرِ إِذَا رَقَّتْ أَخْفَافُهُ، وَأَنْقَبَ الرَّجُلُ إِذَا نَقِبَ بَعِيرُهُ، وَنَقِبَ الْخُفُّ الْمَلْبُوسُ أَيْ تَخَرَّقَ. وَالْمَحِيصُ مَصْدَرُ حَاصَ عَنْهُ يَحِيصُ حَيْصًا وَحُيُوصًا وَمَحِيصًا وَمَحَاصًا وَحَيَصَانًا، أَيْ عَدَلَ وَحَادَ. يُقَالُ: مَا عَنْهُ مَحِيصٌ أَيْ مَحِيدٌ وَمَهْرَبٌ. وَالِانْحِيَاصُ مِثْلُهُ، يُقَالُ لِلْأَوْلِيَاءِ: حَاصُوا عَنِ الْعَدُوِّ وَلِلْأَعْدَاءِ انْهَزَمُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) أَيْ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَذْكِرَةٌ وَمَوْعِظَةٌ (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أَيْ عَقْلٌ يَتَدَبَّرُ بِهِ، فَكَنَّى بِالْقَلْبِ عَنِ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُهُ، قَالَ مَعْنَاهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: لِمَنْ كَانَ لَهُ حَيَاةٌ وَنَفْسٌ مُمَيِّزَةٌ، فَعَبَّرَ عَنِ النَّفْسِ الْحَيَّةِ بِالْقَلْبِ، لِأَنَّهُ وَطَنُهَا وَمَعْدِنُ حَيَاتِهَا، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
أَغَرَّكِ مِنِّي أَنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي
…
وَأَنَّكِ مَهْمَا تَأْمُرِي الْقَلْبَ يَفْعَلِ
وَفِي التَّنْزِيلِ: (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا)«1» . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الْقَلْبُ قَلْبَانِ، قَلْبٌ مُحْتَشٍ بِأَشْغَالِ الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ الْآخِرَةِ لَمْ يَدْرِ مَا يَصْنَعُ، وَقَلْبٌ قَدِ احْتَشَى بِأَهْوَالِ الْآخِرَةِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا لَمْ يَدْرِ مَا يَصْنَعُ لِذَهَابِ قَلْبِهِ فِي الْآخِرَةِ. (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أَيِ اسْتَمَعَ الْقُرْآنَ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَلْقِ إِلَيَّ سَمْعَكَ أَيِ اسْتَمِعْ. وَقَدْ مَضَى فِي (طه)«2» كَيْفِيَّةُ الِاسْتِمَاعِ وَثَمَرَتُهُ. (وَهُوَ شَهِيدٌ) أَيْ شَاهِدُ الْقَلْبِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ قَلْبُهُ حَاضِرٌ فِيمَا يَسْمَعُ. وَقَالَ سُفْيَانُ: أَيْ لَا يَكُونُ حَاضِرًا وَقَلْبُهُ غَائِبٌ. ثُمَّ قِيلَ: الْآيَةُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهَا فِي الْيَهُودِ والنصارى خاصة. وقال محمد ابن كَعْبٍ وَأَبُو صَالِحٍ: إِنَّهَا فِي أَهْلِ الْقُرْآنِ خَاصَّةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) تَقَدَّمَ فِي (الْأَعْرَافِ)«3» وَغَيْرِهَا. وَاللُّغُوبُ التعب والإعياء، تقول منه: لغب
(1). راجع ج 15 ص (55)
(2)
. راجع ج 11 ص (176)
(3)
. راجع ج 7 ص 218