الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيضاح
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) أي إن شر ما يدب على وجه الأرض فى حكم الله وعدله هم الكافرون الذين اجتمعت فيهم صفتان:
(1)
الإصرار على الكفر والرسوخ فيه بحيث لا يرجى إيمان جملتهم أو إيمان جمهورهم، لأنهم إما رؤساء حاسدون للرسول صلى الله عليه وسلم معاندون له جاحدون بآياته المؤيدة لرسالته على علم منهم، وفيهم يقول سبحانه:«يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» وإما مقلدون جامدون على التقليد لا ينظرون فى الدلائل والآيات.
وقد لقبهم الله بالدواب وهو اللفظ الذي غلب استعماله فى ذوات الأربع، لإفادة أنهم ليسوا من شرار البشر فقط، بل هم أضل من العجماوات، لأن لها منافع وهؤلاء لا خير فيهم ولا نفع لغيرهم منهم كما قال تعالى فى أمثالهم:«أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» .
(2)
نقض العهد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عقد مع يهود المدينة عقب هجرته إليهم عهدا أقرّهم فيه على دينهم وأمّنهم على أنفسهم وأموالهم، فنقض كل منهم عهده.
روى عن ابن عباس أنهم بنو قريظة نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا عليه بالسلاح فى يوم بدر ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد ومالئوا الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وركب زعيمهم كعب بن الأشرف إلى مكة فخالفهم على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: وهم لا يتقون، أي لا يتقون الله فى نقض العهد ولا فيما قد يترتب عليه من قتالهم والظفر بهم.
وبعد أن بين سبحانه أنهم قد تكرر منهم نقض العهد- أردف ذلك ذكر ما يجب أن يعاملوا به فقال:
(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي إنك إن تدرك هؤلاء الناقضين لعهدهم وتظفر بهم فى الحرب- فنكّل بهم أشد التنكيل حتى يكون ذلك سببا لشرود من وراءهم من الأعداء وتفرقهم، فيكون مثلهم مثل الإبل الشاردة النادّة عن أمكنتها.
وإنما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالإثخان فى هؤلاء الأعداء الذين تكررت مسالمته لهم وتجديده لعهدهم بعد نقضه، لئلا ينخدع مرة أخرى بكذبهم، لما جبل عليه من الرحمة وحب السلم واعتبار الحرب ضرورة تترك إذا زال سببها كما قال تعالى:
«وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها» وهم قد أوهموه المرة بعد المرة أنهم يرغبون فى السلم واعتذروا عن نقضهم العهد وكانوا فى ذلك مخادعين.
(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي لعل من خلفهم من الأعداء يذكّرون النكال فيمنعهم ذلك من نقض العهد ومن القتال.
روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فى بعض أيامه التي لقى فيها العدو فقال: «أيها الناس لا تمنّوا لقاء العدوّ وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف- ثم قال: اللهم منزّل الكتاب، ومجرى السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم» .
وفى ذلك إيماء إلى شيئين:
(1)
إن الحرب ليست محبوبة عند الله ولا عند رسوله، وإنما هى ضرورة يراد بها منع البغي والعدوان وإعلاء كلمة الحق ودحض الباطل:«فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» .
(2)
إن استعمال القسوة مع الناقضين للعهد والبادئين بالحرب والتنكيل بهم لتشريد من ورائهم- أمر لا بد منه للعظة والاعتبار حتى لا يعودوا إلى مثلها هم ولا غيرهم.
ولا يزال الأمر كذلك فى هذا العصر، وإن كانوا يريدون به الانتقام وشفاء ما فى الصدور من الأحقاد، والتمتع بالمغانم من مال وعقار.
وبعد أن ذكر حكم ناقضى العهد حين سنوح الفرصة- قفى على ذلك بحكم من لا ثقة بعهودهم فقال:
(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أي وإن توقعت من قوم معاهدين خيانة ونكثا للعهد بوجود أمارات ظاهرة وقرائن تنذر بها، فاقطع عليهم طريق الخيانة قبل وقوعها بأن تنبذ إليهم عهدهم وتنذرهم بأنك غير مقيّد به ولا مهتم بأمرهم، بطريق واضح لاخداع فيه ولا استخفاء.
والحكمة فى هذا أن الإسلام لا يبيج الخيانة مطلقا.
وخلاصة ذلك- لا تجاربهم قبل أن تعلمهم أنك قد فسخت العهد الذي بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم فى العلم بنقض العهد سواء، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب عليهم.
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) أي إن الخيانة مبغوضة بجميع ضروبها، ولا وسيلة لاتقاء ضررها من الكفار إذا ظهرت أماراتها إلا بنبذ عهدهم جهرة.
روى البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة المسلم والكافر فيهن سواء- من عاهدته فوفّ بعهده مسلما كان أو كافرا، فإنما العهد لله، ومن كانت بينك وبينه رحم فصلها، مسلما كان أو كافرا، ومن ائتمنك على أمانة فأدّها إليه، مسلما كان أو كافرا» .
وبعد هذا أنذر أولئك الخائنين ما سيحل بهم من عقاب فقال:
(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) أي ولا يظننّ الذين كفروا أنهم سبقونا ونجوا من عاقبة خيانتهم وشرهم، ونحو الآية قوله:«أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» .
(إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أي إنهم لا يعجزون الله تعالى ولا يفوتونه بمكرهم وخيانتهم