الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيضاح
(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي قاتلوا أهل الكتاب، إذ هم جمعو أربع صفات هى العلة فى عداوتهم للاسلام، ووجوب خضوعهم لحكمه ما داموا فى داره إذ لو أجيز لهم حمل السلاح لأفضى ذلك إلى قتال المسلمين فى دارهم ومساعدة من يهاجمهم فيها كما فعل يهود المدينة وما حولها بعد تأمين النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وجعلهم حلفاء له، وأجاز لهم الحكم فيها بينهم بشرعهم، وسمح لهم بالعبادة على النحو الذي يريدون، وكذلك فعل مع نصارى الروم فى حدود البلاد العربية.
وهذه الأمور الأربعة التي أسند إليهم تركها هى أصول كل دين إلهى، ومن ثم أمر بقتال الذين لا يقيمونها وهى:
(1)
إنهم لا يؤمنون بالله، وقد شهد القرآن بأن اليهود والنصارى فقدوه بهدم أساسه وهو التوحيد، إذ هم قد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، يشرّعون لهم العبادات ويحرمون ويحللون فيتبعونهم، وبذا أشركوهم فى الربوبية، ومنهم من أشرك به فى الألوهية كالذين قالوا عزير ابن الله، والذين قالوا: المسيح ابن الله، أو هو الله.
(2)
إنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، إذ هم يقولون إن حياة الآخرة حياة روحانية محضة يكون فيها الناس كالملائكة، لكنا نؤمن بأن الإنسان لا تنقلب حقيقته، بل يبقى مؤلفا من جسد وروح، ويتمتع بنعيم الأرواح والأجساد.
ولا يوجد فيما بين أيدى اليهود والنصارى من التوراة نصوص صريحة فى البعث والجزاء بعد الموت، بل فيها إشارات غير صريحة فى ذلك.
(3)
إنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، فاليهود لا يحرمون ما حرم فى شرعهم
الذي جاء به موسى ونسخ بعضه عيسى، ولا يلتزمون العمل بما حرّم، فقد استحلوا أكل أموال الناس بالباطل كالربا وغيره، واتبعوا عادات المشركين فى القتال والنفي ومفاداة الأسرى، والنصارى استباحوا ما حرّم عليهم فى التوراة مما لم ينسخه الإنجيل، فأباحوا جميع محرمات الطعام والشراب إلا ما ذبح للأصنام، فقد ثبت فى كتبهم أن الله حرم عليهم الشحوم فأذابوها وباعوها وأكلوا أثمانها، وحرّم عليهم أشياء كثيرة فأحلوها.
(3)
إنهم لا يدينون دين الحق، إذ أن ما يتقلدونه إنما هو دين تقليدى وضعه لهم أساقفتهم وأحبارهم بآرائهم الاجتهادية وأهوائهم المذهبية، لا دين الحق الذي أو حاه الله إلى عيسى وموسى عليهما السلام.
فاليهود لم يحفظوا ما استحفظوا من التوراة التي كتبها موسى وكان يحكم بها هو والنبيون من بعده، إلى أن عاقبهم الله بتسليط البابليين عليهم فجاسوا خلال الديار وأحرقوا الهيكل وما فيه من الأسفار وسبوا بقية السيف منهم وأجلوهم عن وطنهم إلى أرض من استعبدهم فدانوا لشريعة غير شريعتهم.
ولما أعادوهم إلى أوطانهم وكانوا قد فقدوا نصوص التوراة وحفظوا بعضها دون بعض- كتبوا ما حفظوا من شريعة الرب ممزوجا بما دانوا به من شريعة ملك بابل كما أمرهم كاهنهم عزرا (عزير) ثم هم بعد ذلك حرّفوا وبدلوا ولم يقيموها كما أمروا، والنصارى لم يحفظوا كل ما بلّغهم عيسى عليه السلام من العقائد والوصايا والأحكام القليلة الناسخة لبعض أحكام التوراة الشديدة، وذلك هو دين الله الحق.
وكتب كثير منهم تواريخ أودعوا فيها ما عرفوه من ذلك ومن غيره، وجاءت المجامع الرسمية بعد ثلاثة قرون فاعتمدت أربعة أناجيل من نحو نيّف وسبعين إنجيلا رفضتها وجعلتها غير قانونية.
وإلى ما تقدم فى أهل الملتين الإشارة بقوله: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ،
وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» .
من هذا النص يعلم أن كلا من اليهود والنصارى نسى حظا مما ذكرهم به نبيهم، ولم يعملوا بالبعض الآخر، فأكثر عباداتهم من وضع أحبارهم.
ولقب- أهل الكتاب- والذين أوتوا الكتاب- وإن كان عاما- خص به اليهود والنصارى، لأنهم هم الذين كانوا مخالطين ومجاورين للأمة العربية ومعروفين لديها كما قال تعالى مخاطبا مشركى العرب «أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ» .
(حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) أي قاتلوا من ذكروا حين وجود ما يقتضى القتال كالاعتداء عليكم أو على بلادكم أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم أو تهديد منكم وسلامتكم كما فعل بكم الروم وكان ذلك سببا لغزوة تبوك- إلى أن تأمنوا عدوانهم بإعطائكم الجزية بشرط أن تكون صادرة عن يد أي من قدرة واسعة فلا يظلموا ولا يرهقوا، وأن يخضعوا لسيادتكم وحكمكم، وبذا يسهل السبيل لاهتدائهم إلى الإسلام بما يشاهدون من عدلكم وفضائلكم التي يرونها رأى العين.
فإن أسلموا عمّ الهدى والعدل، وإن لم يسلموا وأعطوا الجزية وجب تأمينهم وحمايتهم والدفاع عنهم وإعطاؤهم حريتهم فى دينهم ومعاملتهم بالعدل والمساواة كالمسلمين «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» .
ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون، ويسمّون حينئذ أهل الذمة، إذ كل هذه الحقوق تكون لهم بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله.
أما الذين يعقد بيننا وبينهم صلح بعهد وميثاق يعترف به الطرفان فيسمّون المعاهدين أو أهل العهد.
وأول من سن الجزية كسرى أنو شروان، قال أبو حنيفة الدّينورى: إنه وظّف الجزية على أربع طبقات، وأسقطها عن أهل البيوتات والمرازبة والأساورة والكتاب ومن كان فى خدمة الملك، ولم يلزم أحدا لم تأت له عشرون سنة أو جاوز الخمسين.
وقد اقتدى به عمر بن الخطاب حين افتتح بلاد الفرس ولم يكن هو بأول واضع لها.
وهاك عهدا كتبه أحد قواد عمر بن الخطاب لرزبان وأهل دهستان:
«هذا كتاب من سويد بن مقرّن لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان، إن لكم الذمة وعلينا المنعة. على أن عليكم من الجزاء فى كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنّا به منكم فله جزاؤه فى معونته عوضا عن جزائه، ولكم الأمان على أنفسكم وأموالكم ومللكم وشرائعكم ولا يغيّر شىء من ذلك.
شهد بذلك سواد بن قطبة وهند بن عمر وسماك بن مخرمة وعتيبة بن النهاس» .
وكتب عتبة بن فرقد أحد عمال عمر بن الخطاب قال: «هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين لأهل أذربيجان سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ومن حشر منهم فى سنة (أرسل لميدان القتال) وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك» .
والجزية التي وضعها عمر على الفقراء من أهل الذمة اثنا عشر درهما، وعلى الأوساط أربعة وعشرون، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعون.