الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعين لهم مجلسا وللسادة مجلسا آخر حتى لا يؤذوهم بمناظرهم البشعة، وروائحهم المستقذرة، وحتى لا يقال إن السادة ومواليهم يجتمعون فى صعيد واحد، ويتحدثون وإياهم حديث الند للند، وفى ذلك امتهان لكبريائهم وخفض من عزتهم- قفى على ذلك بمثل يستبين منه أن المال لا ينبغى أن يكون موضع فخار، لأنه ظل زائل، وأنه كثيرا ما يصير الفقير غنيا والغنى فقيرا، وإنما الذي يجب أن يكون أساس التفاخر، وعمدة التفاضل، هو طاعة الله وعبادته والعمل على ما يرضيه فى دار الكرامة حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
الإيضاح
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) أي واضرب أيها الرسول لهؤلاء المشركين بالله الذين سألوك أن تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى- مثلا هو مثل رجلين جعلنا لأحدهما بستانين من كروم العنب، وأحطناهما بنخل، وجعلنا وسط هذين البستانين زرعا.
وخلاصة ذلك- إن أرضه جمعت القوت والفواكه، وهى متواصلة متشابكة، فلها منظر ورواء حسن ووضع أنيق يخلب اللب بجماله وبهجته إذا امتلأ منه البصر.
روى أن أخوين من بنى إسرائيل ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراها فاشترى الكافر بنصيبه ضياعا وعقارا، وأنفق المؤمن ما ورثه فى وجوه الخير وطاعة الله وآل أمرهما إلى ما قصه الله علينا فى كتابه.
وسواء أصحت الرواية أم لم تصح، فإن ضرب المثل لا يتوقف على صحتها.
وقد ضرب الله المثل ليبين حال الفريقين المؤمنين والكافرين، من قبل أن الكفار مع تقلبهم فى النعيم قد عصوا ربهم، وأن المؤمنين مع مكابدتهم للشدائد والبأساء قد أطاعوه.
(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) أي كلتا الجنتين أخرجت ثمرها
ولم تنقص منه شيئا فى سائر الأعوام على خلاف ما يعهد فى الكروم والأشجار من أنها تكثر غلتها أعواما وتقل أعواما أخرى.
(وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) أي وشققنا وسط الجنتين نهرا كبيرا تتفرع منه عدة جداول، ليدوم سقيهما، ويزيد بهاؤهما وتكثر غلتهما.
(وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) أي وكان لصاحب الجنتين أموال أخرى غيرهما من ذهب وفضة ثمرها بما ادخره من غلات الجنتين ومن تجارات أخرى.
وخلاصة ذلك- إنه سبحانه أنعم عليه بخيرات الدنيا صامتها وناطقها، ثاغيها وراغيها، وكان له مزارع يستخدم فيها أعوانه وخدمه ولا يستعصى عليه شىء من مسرات الدنيا ومباهجها، ولذاتها ونعيمها.
وبعد أن تم له الأمر وقعد على سنام العز والكبرياء، داخله الزّهو والخيلاء.
(فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً) أي فقال لصاحبه المؤمن حين حاوره وراجعه الحديث، مذكرا له بالإيمان بالله والبعث والقيامة: أنا أكثر منك مالا كما ترى من جناتى وزروعى المختلفة، وأعز عشيرة ورهطا تقوم بالذبّ عنى ودفع خصومتى، وتنفر معى عند الحاجة إلى ذلك.
ثم زاد فخرا على صاحبه المسلم وأراه عيانا ما يتمتع به من المناظر البهيجة فى تلك الجنان التي لا تفنى، وذلك ما أخبر عنه سبحانه بقوله:
(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً، وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي ودخل هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب وأشجار ونخيل، ومعه صاحبه، هاتين الجنتين وطاف به فيهما مفاخرا وقال حين عاين ما فيهما من أشجار وثمار وزروع وأنهار مطردة: ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدا ولا تخرب- كما قال (وهو شاك فى المعاد إلى الله والبعث والنشور) ما أظن أن يوم القيامة آت كما تقولون، وقد كان فى كل ذلك ظالما لنفسه، إذ وضع الشيء فى غير موضعه، فقد كان أليق به أن يكون شاكرا لتلك
النعم، متواضعا لربه، لا أن يكون كافرا به، منكرا لما جاء به الوحى، وأقرته جميع الشرائع.
وخلاصة ذلك- إنه لحقه الخسار من وجهين.
(1)
ظنه أن تلك الجنة لا تهلك ولا تبيد مدى الحياة.
(2)
ظنه أن يوم القيامة لن يكون.
ثم تمنى أمنية أخرى كان فى شك منها فقال:
(وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) أي ولئن كان معاد ورجعة إلى الله ليكوننّ لى هناك أحسن من هذا الحظ عند ربى، والذي جرّأه على هذا الطمع وعلى تلك اليمين الفاجرة- اعتقاده أن الله إنما حباه بما حباه به فى الدنيا لما له من كرامة لديه، ولما فيه من مزايا استحق بها أن ينال ما نال.
ونحو الآية قوله تعالى حكاية عن الكافر «وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى» .
وخلاصة ذلك- إنه لم يعطنى الجنة فى الدنيا إلا ليعطينى فى الآخرة ما هو أفضل منها قال ذلك طمعا وتمنيا على الله، وادعاء للكرامة عنده.
ثم ذكر سبحانه جواب المؤمن له فقال:
(قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا؟) أي قال له صاحبه المؤمن واعظا وزاجرا عما هو فيه من الكفر: أكفرت بالذي خلقك من التراب؟ إذ غذاء والديك من النبات والحيوان، وغذاء النبات من التراب والماء، وغذاء الحيوان من النبات، ثم يصير هذا الغذاء دما يتحول بعضه إلى نطفة يكون منها خلقك بشرا سويا على أتم حال وأحكمه بحسب ما تقتضيه الحكمة- فهذا الذي خلقك على هذه الحال قادر على أن يخلقك مرة أخرى.
والخلاصة- كيف تجحدون ربكم، ودلالة خلقكم على وجوده ظاهرة جلية
يعلمها كل أحد من نفسه، فما من أحد إلا يعلم أنه كان معدوما ثم وجد، وليس وجوده من نفسه. ولا مستندا إلى شىء من المخلوقات، لأنها مثله، وقد أشار إلى ذلك بقوله:
(لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي) أي لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أعترف بالوحدانية والربوبية وأقول هو الله ربى.
(وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) فهو المعبود وحده لا شريك له.
وفى هذا تعريض بأن صاحبه لما عجز الله عن البعث فقد جعله مساويا لخلقه فى هذا العجز، وإذا أثبت المساواة فقد أثبت الشريك.
ثم زاد فى عظة صاحبه فقال له:
(وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ: ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) أي وهلا إذ أعجبتك جنتك حين دخلتها ونظرت إليها- حمدت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال والولد ما لم يعط غيرك، وقلت: الأمر ما شاء الله، والكائن ما قدره الله، ليكون ذلك منك اعترافا بالعجز، وبأن كل خير بمشيئة الله وفضله، وهلا قلت: لا قوة إلا بالله، إقرارا بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها فإنما هو بمعونة الله وتأييده.
وبعد أن نصح الكافر بالإيمان، وأبان له عظيم قدرة الله وكبير سلطانه- أجابه عن افتخاره بالمال والنفس ورد على قوله: أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا فقال:
(إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً، فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً. أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) أي إن ترنى أيها الرجل أفقر منك فإنى أرجو الله أن يقلب الآية، ويجعل ما بي بك، ويرزقنى الغنى، ويرزقنى لإيمانى جنة خيرا من جنتك، ويسلبك بكفرك نعمته، ويخرب جنتك، بأن يرسل عليها مطرا من السماء يقلع زروعها وأشجارها، أو يجعل ماءها يغور فى الأرض، فلن تطيق أن تدركه بعد غوره بطلبك إياه.
وخلاصة ذلك- إن المؤمن رجا هلاك جنة صاحبه الكافر إما باقة سماوية أو بآفة أرضية وهى غور مائها، وكلناهما تتلف الشجر والزرع والكرم.
ثم أخبر سبحانه بأنه قد حقق ما قدره هذا المؤمن فقال:
(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) أي وأحاطت الجوائح بثمار جنته التي كان يقول فيها: ما أظن أن تبيد هذه أبدا- فأصبح يقلب كفيه ندما وأسفا على ضياع نفقته التي أنفقها فى عمارتها حين رآها ساقطة على عروشها، ويتمنى أن لم يكن قد أشرك بربه أحدا.
ولخلاصة- إنه لما أنفق عمره فى تحصيل الدنيا وأعرض عن الدين، ثم ضاعت منه الدنيا حرم الدين والدنيا معا، ومن ثم عظمت حسرته وقال: ليتنى لم أشرك بربي أحدا.
(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) أي ولم تكن له عشيرة ممن افتخر بهم واستعز ينصرونه ويقدرون على دفع الجوائح عنه أو رد المهلك له، من دون الله، فإن الله هو الذي يقدر وحده على نصره، وما كان منتصرا بقوته عن انتقام الله منه بإهلاك جنته.
وخلاصته- إنه لا يقدر على نصره إلا الله، ولا ينصره غيره من عشيرة وولد، وخدم وحشم وأعوان، كما لا يقدر أن ينتصر لنفسه.
ثم أكد الجملة السالفة وقرر المراد منها بقوله:
(هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) أي فى مثل هذه الشدائد والمحن- النصرة لله وحده لا يقدر عليها غيره.
(هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) أي هو خير جزاء وخير عاقبة لأوليائه، فينتقم لهم منهم، ويفوض أمرهم إليهم.
وبعد أن ضرب المثل لدنيا هؤلاء الكافرين التي أبطرتهم، وكانت سبب