الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واغتنام الأموال وأخذ الجزية ثم أردف ذلك ببيان أنه ما منعه من إرسال الآيات التي طلب مثلها الأولون كقولهم: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً» إلخ إلا أنه لو جاء بها ولم يؤمنوا لأصابهم عذاب الاستئصال كما أصاب من قبلهم، أولم ينظروا إلى ما أصاب ثمود حين كذبوا بآيات ربهم وعقروا الناقة، ثم قفى على ذلك بأن الله حافظه من قومه، وأنه سينضره ويؤيده، ثم أتبع ذلك بأن أمر الإسراء كان فتنة للناس وامتحانا لإيمانهم، كما كان ذكر شجرة الزقوم فى قوله:«إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ» ثم تلا هذا بذكر تماديهم فى العناد، وأنه كلما خوّفهم وأنذرهم ازدادوا تماديا وطغيانا، فلو أنزل عليهم الآيات التي اقترحوها لم ينتفعوا بها، ومن ثم أجّل عذابهم إلى يوم الوقت المعلوم.
الإيضاح
(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك الذين يعبدون من دون الله من خلقه: ادعوا أيها القوم الذين زعمتم أنهم أرباب وآلهة من دونه حين ينزل الضر بكم من فقر ومرض ونحوهما، وانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم أو تحويله عنكم إلى غيركم؟ إنهم لا يقدرون على دفع شىء من ذلك ولا يملكونه، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم.
روى أنه لما ابتليت قريش بالقحط وشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله هذه الآية.
(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) أي هؤلاء الذين يدعوهم المشركون أربابا، وينادونهم لكشف الضر عنهم- يطلبون مجتهدين إلى ربهم ومالك أمرهم القرب إليه بالطاعة والقربة.
أخرج الترمذي وابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «سلوا الله لى الوسيلة، قالوا وما الوسيلة؟ قال القرب من الله؟ ثم قرأ هذه الآية» .
(أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) أي إن أقرب أولئك المعبودين إلى الله يدعوه يبتغى إليه الوسيلة والقرب منه، وإذا كان العجز عن كشف الضر عنكم، والافتقار إلى ربكم، شأن أعلاهم وأدناهم، فكيف تعبدونهم؟.
(وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) أي ويرجون بفعلهم للطاعة رحمته، ويخافون بمخالفة أمره عذابه.
ثم ذكر العلة فى خوفهم من العذاب فقال:
(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) أي إن عذابه حقيق بأن يحذره كل أحد من الملائكة والأنبياء فضلا عن سواهما.
ثم ذكر مآل الدنيا وأهلها فقال:
(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً) أي وما من قرية من القرى التي ظلم أهلها بالكفر والمعاصي إلا نحن مهلكو أهلها بالفناء ومبيدوهم بالاستئصال قبل يوم القيامة، أو معذبوها ببلاء من قتل بالسيف أو غير ذلك من صنوف العذاب، بسبب ذنوبهم وخطاياهم كما قال سبحانه عن الأمم الماضية:
«وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» وقال: «فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً» وقال: «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ» الآية.
(كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي كان ذلك مثبتا فى علم الله أو فى اللوح المحفوظ.
عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، فقال ما أكتب؟ قال اكتب المقدر وما هو كائن إلى يوم القيامة» أخرجه الترمذي:
وكان كفار قريش يقولون يا محمد: إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء منهم من سخّرت له الريح، ومنهم من كان يحيى الموتى، فإن سرّك أن نؤمن بك ونصدقك فادع ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا، فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله:
(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) أي إنه تعالى لو أظهر تلك المعجزات القاهرة ثم لم يؤمنوا بها بل بقوا مصرين على كفرهم لاستحقوا عذاب الاستئصال كما هى سنتنا فى الأمم السالفة، لكن هذا العذاب على هذه الأمة لا يكون، لأن الله يعلم أن فيهم من سيؤمنون أو يؤمن أولادهم، فلم يجبهم إلى ما طلبوا ولم يظهر لهم تلك المعجزات.
والخلاصة- إنه ما ما منعنا من إرسال الآية التي سألوها إلا تكذيب الأولين بمثلها، فإن أرسلناها وكذب بها هؤلاء عوجلوا ولم يمهلوا كما هو سنة الله فى عباده.
وأخرج البيهقي فى الدلائل عن الربيع بن أنس قال: قال الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم «لو جئتنا بآية كما جاء بها صالح والنبيون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئتم دعوت الله فأنزلها عليكم، فإن عصيتم هلكتم فقالوا لا نريدها» .
ثم بين أن الآيات التي التمسوها هى مثل آية ثمود وقد أوتوها واضحة بينة فكفروا بها فاستحقوا العذاب، فكيف يتمنى مثلها هؤلاء على سبيل الاقتراح كما قال:
(وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) أي وقد سألت ثمود من قبل قومك الآيات فآتيناها ما سألت، وجعلنا لها الناقة حجة واضحة دالة على وحدانية من خلقها وصدق رسوله الذي أجيب دعاؤه فيها، فكفروا بها ومنعوها شربها وقتلوها، فأبادهم الله، وانتقم منهم، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
(وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) أي إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات، لعلهم يعتبرون ويذّكّرون فيرجعوا.
ذكر المؤرخون أن الكوفة رجفت (زلزلت) فى عهد ابن مسعود فقال: أيها الناس، إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه، وروى أن المدينة زلزلت فى عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه مرات فقال عمر: أحدثتم والله، لئن عادت لأفعلنّ ولأفعلنّ،
ثم قال سبحانه محرّضا رسوله على إبلاغ رسالته، ومخبرا له بأنه قد عصمه من الناس.
(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) أي واذكر إذ أوحينا إليك أن ربك هو القادر على عباده، وهم فى قبضته، وتحت قهره وغلبته، فلا يقدرون على أمر إلا بقضائه وقدره، وقد عصمك من أعدائك، فلا يقدرون على إيصال الأذى إليك كما قال:«وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» .
وخلاصة ذلك- إن الله ناصرك ومؤيدك حتى تبلّغ رسالته، وتظهر دينه.
قال الحسن: حال بينهم وبين أن يقتلوه، ويؤيد هذا قوله تعالى:«وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» .
(وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) أي وما جعلنا الرؤيا التي أريتها ليلة الإسراء إلا امتحانا واختبارا للناس، فأنكرها قوم وكذبوا بها، وكفر كثير ممن كان قد آمن به، وازداد المخلصون إيمانا.
روى البخاري فى التفسير عن ابن عباس إنها رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله الله عليه وسلّم ليلة الإسراء،
وهو قول سعيد بن جبير ومسروق وقتادة، والعرب تقول رأيته بعيني رؤية ورؤيا.
(وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) أي وما جعلنا الشجرة الملعونة فى القرآن إلا فتنة للناس، فإنهم حين سمعوا:«إنّ شجرة الزّقوم، طعام الأثيم» اختلفوا، فقوم ازدادوا
إيمانا، وقوم ازدادوا كفرا كأبى جهل إذ قال: إن ابن أبى كبشة (يعنى النبي صلى الله الله عليه وسلّم) توعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنها تنبت شجرة وتعلمون أن النار نحرق الشجر، وقال عبد الله بن الزّبعرى: إن محمدا يخوّفنا بالزقوم، وما الزقوم إلا التمر والزبد، فتزقموا منه، وجعل يأكل من هذا بهذا.
وقد فات هؤلاء أن فى الدنيا أشياء كثيرة لا تحرقها النار، فهناك نوع من الحرير يسمى بالحرير الصخرى لا تؤثر فيه النار، بل هو يزداد إذا لا مسها نظافة، ومن ثم يلبسه جال المطافى فى الدول المتدينة.
وكم فى الأرض من عجائب، وكم فى العوالم الأخرى من مثلها، فالأرض مملوءة نارا، وما خلص من النار إلا قشرتها التي نعيش عليها، وما من شجر أو حجر إلا وفيه نار، والماء نفسه مادة نارية فنحو 8/ 9 منه اكسوجين وهو مادة تشتعل سريعا، والتسع أدروجين، فأرضنا نار، وماؤنا نار، وأشجارنا وأحجارنا مليئة بالنار، وهذا العالم لذى نسكنه تتخلله النار.
والخلاصة- إن هؤلاء المشركين فتنوا بالرؤيا، وفتنوا بالشجرة.
وقد وصفت هذه الشجرة بكونها ملعونة ولا ذنب لها، للعن الكفار الذين يأكلونها، توسعا فى الاستعمال وهو كثير فى كلام العرب.
(وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) أي ونخوفهم بمخاوف الدنيا والآخرة، فما يزيدهم التخويف إلا تماديا فى الطغيان والضلال، فلو أننا أنزلنا عليهم الآيات التي اقترحوها، لم يزدادوا بها إلا تمردا وعنادا واستكبارا فى الأرض وفعل بهم ما فعل بأمثالهم من الأمم الغابرة من عذاب الاستئصال، لكن قد سبقت كلمتنا بتأخير العذاب عنهم إلى حلول الطامة الكبرى.
والكلام مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم على ما عسى أن يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات المقترحة لمخالفتها للحكمة، من الحزن لطعن الكفار، إذ ربما يقولون لو كنت رسولا حقا لأتيت بمثل هذه المعجزات التي أتى بها من قبلك من الأنبياء.