الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عذابا مضاعفا فى الممات فى القبر وبعد البعث، ونصيرا: أي معينا يدفع عنك العذاب، لا يلبثون: أي لا يبقون، خلافك: أي بعدك، سنة من قد أرسلنا: أي سنتنا بك سنة الرسل قبلك، تحويلا: أي تغييرا
المعنى الجملي
بعد أن ذكر جل ثناؤه أحوال بنى آدم فى الدنيا، وذكر أنه أكرمهم على كثير من خلقه، وفضلهم عليهم تفضيلا- فصّل فى هذه الآيات تفاوت أحوالهم فى الآخرة مع شرح أحوال السعداء، ثم أردفه ما يجرى مجرى تحذير السعداء من الاغترار بوساوس أرباب الضلال، والانخداع بكلامهم المشتمل على المكر والتلبيس، ثم قفى على ذلك ببيان أن سنته قد جرت بأن الأمم التي تلجىء رسلها إلى الخروج من أرضها لا بد أن يصيبها الوبال والنكال.
الإيضاح
(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) أي اذكر لهم ذلك اليوم، يوم ندعو كل أناس بكتابهم الذي فيه أعمالهم التي قدّموها، ولا ذكر للأنساب حينئذ لأنها مقطوعة، فلا يقال يا ابن فلان، وإنما يقال يا صاحب كذا كما قال تعالى «فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون» .
والخلاصة: إن المعوّل عليه يومئذ الأعمال والأخلاق، والآراء والعقائد النفسية التي تغرس فى النفوس لا الأنساب، لأن الأولى باقية والثانية فانية.
(فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) أي فمن أعطى كتاب عمله بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم مبتهجين فرحين بما فيه من العمل الصالح.
ونحو الآية قوله «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» .
(وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) أي ولا ينقصون شيئا من أجور أعمالهم، وقد ثبت
فى علم الكيمياء أن وزن الذرات التي تدخل فى كل جسم بنسب معينة، فلو أن ذرة واحدة فى عنصر من العناصر الداخلة فى تركيب أي جسم من النبات أو الحيوان أو الجماد نقصت عن النسبة المقدرة لتكوينه لم يتكون ذلك المخلوق.
وخالق الدنيا هو خالق الآخرة، فالظلم مستحيل هناك كما استحال هنا فى نظم الطبيعة، فما أجلّ قدرة الله وما أعظم حكمته فى خلقه!.
(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أي ومن كان فى دار الدنيا أعمى القلب لا يبصر سبل الرشد، ولا يتأمل حجج الله وبيناته التي وضعها فى صحيفة الكون وأمر بالتأمل فيها- فهو فى الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة، وأضل سبيلا منه فى الدنيا، لأن الروح الباقي بعد الموت هو الروح الذي كان فى هذه الحياة الدنيا، وقد خرج من الجسم وكأنه ولد منه كما تلد المرأة الصبى، وكما يثمر النخل الثمر، والأشجار الفواكه، وما الثمر والفواكه إلا ما كان من طباع الشجرة، فهكذا الروح الباقي هو هذا الروح نفسه قد خرج بجميع صفاته وأخلاقه وأعماله، فهو ينظر إلى نفسه وينفر أو ينشرح بحسب ما يرى، وما الثمر إلا بحسب الشجر، فإذا كان هنا ساهيا لا هيا فهناك يكون أكثر سهوا ولهوا وأبعد مدى فى الضلال، لأن آلات العلم والعمل قد عطّلت، وبقي فيه مناقبه ومثالبه، ولا قدرة على الزيادة فى الأولى ولا النقص فى الثانية.
وبعد أن ذكر سبحانه درجات الخلق فى الآخرة وشرح أحوال السعداء، أردفه بتحذيرهم من وساوس أرباب الضلال والخديعة بمكرهم فقال:
(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) أي وإن المشركين قاربوا بخداعهم أن يوقعوك فى الفتنة بصرفك عما أوحيناه إليك من الأحكام، لتتقوّل علينا غير الذي أوحيناه إليك مما اقترح عليك.
أخرج ابن اسحق وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس «أن أمية بن حنف وأبا جهل ورجالا من قريش أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا تعال فتمسّح بآلهتنا، وندخا
معك فى دينك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه فراق قومه، ويجب إسلامهم، فرقّ لهم، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله نصيرا.
وعن سعيد بن جبير قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر الأسود فى طوافه، فمنعته قريش وقالوا: لا ندعك تستلم حتى تلمّ بآلهتنا فحدّث نفسه وقال:
ما على أن ألمّ بها بعد أن يدعونى أستلم الحجر والله يعلم إنى لها كاره، فأبى الله ذلك، وأنزل عليه هذه الآية» .
(وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا) أي ولو اتبعت ما يريدون لا تخذوك خليلا ووليّا لهم، وخرجت من ولايتي.
(وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) أي ولولا تثبيتنا إياك، وعصمتك عما دعوك إليه لقاربت أن تميل إلى ما يرومون.
وخلاصة ذلك- إنك كنت على أهبة الركون إليهم، لا لضعف منك، بل لشدة مبالغتهم فى التحيل والخداع، ولكن عنايتنا بك منعتك أن تقرب من الركون، فضلا عن أن تركن إليهم.
وفى هذا تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم لم يهمّ بإجابتهم ولم يقرب من ذلك.
ثم توعده على ذلك أشد الوعيد فقال:
(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) أي ولو فعلت ذلك لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات: أي ضاعفنا لك العذاب فى الدنيا والآخرة، فهو صلى الله عليه وسلم لو ركن إليهم يكون عذابه ضعف عذاب غيره، لأن الذنب من العظيم يكون عقابه أعظم، ومن ثم يعاقب العلماء على زلاتهم أشد من عقاب العامة لأنهم يتبعونهم.
ونظير ذلك من وجه ما جاء فى نسائه صلى الله عليه وسلم من قوله «يا نساء النبىّ من يأت منكنّ بفاحشة مبينّة يضاعف لها العذاب ضعفين» .
وخلاصة ذلك- إنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك، وعقدت على
الركون همّك، لا ستحققت تضعيف العذاب عليك فى الدنيا والآخرة، ولصار عذابك مثلى عذاب المشرك فى الدنيا ومثلى عذابه فى الآخرة.
وقد ذكروا فى حكمة هذا- أن الخطير إذا ارتكب جرما وخطا خطيئة يكون سببا فى ارتكاب غيره مثله والاحتجاج به، فكأنه سن ذلك،
وقد جاء فى الأثر- «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» .
(ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) أي ثم لا تجد من يدفع العذاب أو يرفعه عنك.
روى عن قتادة أنه قال: «لما نزل قوله: وإن كادوا ليفتنونك إلخ قال صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تكلنى إلى نفسى طرفة عين»
فينبغى للمؤمن أن يتدبّرها حين تلاوتها، ويستشعر الخشية، ويستمسك بأهداب دينه، ويقول كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم لا تكلنى إلى نفسى طرفة عين» .
(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) أي ولقد كاد أهل مكة يزعجونك ويستخفونك بعداوتهم ومكرهم من الأرض التي أنت فيها ليخرجوك منها، بما فعلوه من حصرك والتضييق عليك وقد وقع ذلك بعد نزول الآية وصار ذلك سببا لخروجه صلى الله عليه وسلم.
(وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا) أي ولو استفزوك فخرجت لا يبقون بعدك إلا زمانا قليلا.
وفى هذا وعيد لهم بإهلاكهم بعد خروجه بقليل، وقد تحقق ذلك بإفناء صناديد قريش فى وقعة بدر لثمانية عشر شهرا من ذلك التاريخ.
(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) أي هكذا عادتنا فى الذين كفروا برسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم أن يأتيهم العذاب، ولولا أنه صلى الله عليه وسلم رسول الرحمة لجاءهم من النقم ما لا قبل لهم به، ومن ثم قال تعالى:«وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم» الآية.