الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عدّها، حاضرا، أي مسطورا فى كتاب كل منهم، ولا يظلم ربك: أي لا يتجاوز ما حدّه من الثواب والعقاب.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أن الدنيا ظل زائل، وأنه لا ينبغى أن يغتر أحد بزخرفها ونعيمها، بل يجب أن يكون موضع التفاخر العمل الصالح الذي فيه رضا الله وانتظار مثوبته فى جنات تجرى من تحتها الأنهار- أردف ذلك ذكر أحوال يوم القيامة وما يكون فيها من أخطار وأهوال، وأنه لا ينجى منها إلا اتباع ما أمر به الدين وترك ما نهى عنه مما جاء على لسان الأنبياء والمرسلين، لا الأموال التي يفتخر بها المشركون على المؤمنين.
الإيضاح
ذكر سبحانه من أحوال يوم القيامة أمورا:
(1)
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) أي واذكر أيها الرسول يوم نقلع الجبال من أماكنها ونسيّرها فى الجو كالسحاب ونجعلها هباء منثورا كما قال «ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربّى نسفا. فيذرها قاعا صفصفا. لا ترى فيها عوجا ولا أمتا» أي تذهب الجبال، وتتساوى المهاد، وتبقى الأرض سطحا مستويا لا عوج فيه ولا وادي ولا جبل، وقال:«وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ» وقال: «وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا» .
(2)
(وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) أي وترى أيها الرائي جميع جوانب الأرض بادية ظاهرة، إذ لم يبق على وجهها شىء من العمائر ولا شىء من الجبال ولا شىء من الأشجار فليس عليها ما يسترها، فيكون جميع الخلق ضاحين لربهم لا تخفى عليه خافية من أمرهم وهذا هو المراد من قوله: لا ترى فيها عوجا ولا أمتا.
(3)
(وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) أي وجمعنا الأولين والآخرين للحساب بعد أن أقمناهم من قبورهم، فلم نترك منهم أحدا لا صغيرا ولا كبيرا كما قال:«قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» وقال: «ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ»
وعن عائشة رضى الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «يحشر الناس حفاة عراة غرلا (الغرلة القلفة) فقلت: الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال الأمر أشد من أن يهمّهم ذلك» زاد النسائي فى رواية «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» .
ولما ذكر سبحانه حشر الخلق بين كيفية عرضهم على ربهم فقال:
(4)
َ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)
أي يعرض الخلق كلهم على الله صفا واحدا كما قال: «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» ويقال لهم على طريق التوبيخ والتقريع: لقد جئتمونا أيها الناس أحياء كهيئتكم حين خلقناكم أول مرة فرادى حفاة عراة لا شىء معكم من المال والولد.
ونحو الآية قوله: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ» .
وفى هذا زجر لأولئك المشركين المنكرين للبعث الذين يفخرون فى الدنيا على الفقراء من المؤمنين بالأموال والأنصار.
أخرج ابن المنذر عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى ينادى يوم القيامة: يا عبادى أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين، أحضروا حجتكم. ويسّروا جوابكم، فإنكم مسئولون محاسبون، يا ملائكتى أقيموا عبادى صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب» .
وفى الحديث الصحيح «يجمع الله تعالى الأولين والآخرين فى صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفذهم البصر»
والحديث له بقية.
َلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً)
أي ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم ولا هو كائن، وكنتم مع الافتخار على المؤمنين بالأموال تنكرونه، فالآن قد استبان لكم أنه حق، وأنه لا مال ولا ولد بين أيديكم.
(5)
(وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) أي ووضع كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير فى يد صاحب اليمين والشمال، فترى المجرمين جميعا نادمين على ما فيه من قبائح أعمالهم، وسىء أفعالهم وأقوالهم، وظهور ذلك لأهل الموقف، خائفين من عقاب الحق، والفضيحة عند الخلق.
(وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها؟) أي ويقولون حين وقوفهم على ما فى تضاعيفه: يا حسرتنا على ما فرطنا فى جنب الله، ما لهذا الكتاب لا يترك هنة صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وعدّها، فهو محيط بجميع ما كسبته يد الإنسان.
ونحو الآية قوله: «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» وقوله: «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» وما مثل النفس إلا مثل الزجاجة التي يضعها المصور فى صندوق آلة التصوير، فكل صورة تقع عليها تلتقطها وتحفظها من ضار ونافع، فإذا كشف الغطاء أبصرنا كل ما عملنا ورأينا صوره كما هى من حسن وسىء، وفضيلة ورذيلة، فتفعل فى عقولنا فعلها دون كلام ولا كتابة، وكل امرئ يراها يقرؤها والناس فيها سواء.
ثم أكد ما سلف بقوله:
(وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) مثبتا فى كتابهم، خيرا كان أو شرا كما قال:
«يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً» الآية. وقال: «يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ» .
(وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) من خلقه، بل يعفو ويصفح، ويغفر ويرحم، ويعذب