الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدنيا، يصلاها: أي يقاسى حرها، مدحورا: أي مطرودا مبعدا من رحمة الله، محظورا:
أي ممنوعا عمن يريده.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سلف حال كتابه الذي يحوى النافع والضار من الأعمال، مما يكون به سعادة الإنسان وشقاؤه فى دينه ودنياه- قفى على ذلك بذكر حال كتاب المرء وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعماله إلا أحصاها، وأن حسنها وقبحها تابع لأخذه بما فى الكتاب الأول أو تركه لذلك، فمن أخذ به اهتدى ومنفعة ذلك عائدة إليه، ومن أعرض عنه ضل وغوى، ووبال ذلك راجع عليه ثم أكد عنايته بعباده، وأنه لا يعاقب أحدا منهم إلا إذا أرسل الرسل يبلغون رسالات ربهم رحمة بهم ورأفة، وأعقب ذلك بأن عذابه إنما يكون بكسب المرء واختياره، وأن هذا واقع بتقدير الله وعلمه، وإذا وقعت المعصية حلت العقوبة بعذاب الاستئصال، كما فعل بكثير من الأمم التي من بعد نوح كعاد وثمود، والله عليم بأفعالهم وبما يستحقون، ثم قسم العباد قسمين قسم يحب الحياة الدنيا ويعمل لها، وعاقبته دار البوار وبئس القرار، وقسم يعمل للآخرة ويسعى لها سعيها وهو مؤمن، وأولئك سعيهم مشكور مقبول عند ربهم، ولهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، وهؤلاء وهؤلاء يمدهم ربهم بعطائه، إذ ليس عطاؤه بممنوع عن أحد، ولكن قد فضّل بعضهم على بعض فى أرزاق الدنيا، ومراتب التفاوت فى الآخرة أكثر من درجات التفاوت فى الدنيا وأبعد مدى.
الإيضاح
(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) أي وألزمنا كل امرئ عمله الذي يصدر منه باختياره بحسب ما قدر له من خير أو شر،
لا ينفك عنه بحال والعرب تضرب المثل للشىء الذي يلزم بالشيء الذي يوضع فى العنق، فيقولون جعلت هذا فى عنقك أي قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به، وخصوا العنق لأنه يظهر عليه ما يزين المرء كالقلائد والأطواق، أو ما يشينه كالأغلال والأوهاق (الحبال تجرّ بها الدواب) .
وخلاصة هذا- إن كل إنسان منكم معشر بنى آدم ألزمناه نحسه وسعده، وشقاءه وسعادته، بما سبق فى علمنا أنه صائر إليه، ونحن نخرج له حين الحساب كتابا يراه منشورا وفيه أعماله التي كسبها فى الدنيا، وقد أحصى عليه ربه فيه كل ما أسلف فى تلك الحياة.
أخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال: قال الله يا بن آدم بسطنا لك صحيفة، ووكّل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك، والآخر عن يسارك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا متّ طويت صحيفتك فجعلت فى عنقك معك فى قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، قد عدل والله من جعلك حسيب نفسك.
(اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي ونخرج له يوم القيامة حين البعث والحساب كتابا يلقاه منشورا، فيقال له اقرأ كتاب عملك الذي عملته فى الدنيا وكان الملكان يكتبانه ويحصيانه عليك، وحسبك اليوم نفسك عليك حاسبا تحسب عليك أعمالك فتحصيها، لا نبتغى عليك شاهدا غيرها، ولا نطلب محصيا سواها.
وبعد أن ذكر أن القرآن هاد للتى هى أقوم وأن الأعمال لازمة لأصحابها بين أن منفعة العمل ومضرته راجعة إلى عامله فقال:
(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي من استقام على طريق الحق واتبعه، واتبع الدين الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، فنفسه قد نفع، ومن حاد عن قصد السبيل وسار على غير هدى وكفر بالله ورسوله وبما جاء به من
عند ربه من الحق فلا يضرنّ إلا نفسه، لأنه جعلها مستحقة لغضب الله وأليم عذابه ثم زاد الجملة الثانية توكيدا بقوله:
(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي ولا تأثم نفس آثمة إثم نفس أخرى، بل على كل نفس إثمها دون إثم غيرها من الأنفس.
وفى هذا قطع لأطماعهم الفارغة، إذ كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم. روى عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت فى الوليد ابن المغيرة حين قال: اكفروا بمحمد وعلىّ أوزاركم.
ولا منافاة بين هذه الآية وبين قوله: «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ» وقوله: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ» فإن الدعاة إلى الضّلال عليهم إثم ضلالتهم فى أنفسهم، وإثم آخر بسبب إضلالهم من أضلوا من غير أن ينقص أوزار أولئك ولا يرفع عنهم منها شيئا، وهذا عدل من الله ورحمة منه بعباده.
ثم ذكر عنايته ورحمته بهم فقال:
(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) أي وما كنا مهلكى قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع أعذارهم، وبمعنى الآية قوله تعالى «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ» وقوله:
«أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ؟ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» إلى نحو ذلك من الآيات الدالة على أن الله لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه.
وخلاصة ذلك- إن سنتنا المبنية على الحكم العالية ألا نعذب أحدا أي نوع من العذاب الدنيوي أو الأخروى على فعل شىء أو تركه إلا إذا أرسلنا رسولا يهدى إلى الحق ويردع عن الضلال ويقيم الحجج ويمهد الشرائع وتبلغه دعوته.
قال الإمام الغزالي: الناس بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أصناف ثلاثة:
(ا) من لم تبلغهم دعوته ولم يسمعوا به أصلا، وأولئك مقطوع لهم بالجنة.
(ب) من بلغتهم دعوته وظهور المعجزات على يديه، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الأخلاق العظيمة والصفات الكريمة، ولم يؤمنوا به كالكفرة الذين بين ظهر أنينا، وأولئك مقطوع لهم بالنار.
(ح) من بلغتهم دعوته صلى الله عليه وسلم وسمعوا به ولكن كما يسمع أحدنا بالدجالين وحاشا قدره الشريف عن ذلك، وهؤلاء أرجو لهم الجنة إذا لم يسمعوا ما يرغبهم فى الإيمان به اه.
يريد الغزالي بهذا أنهم سمعوا عنه أخبارا مكذوبة، وعن دينه أخبارا لا تنطبق على حقيقته، كما يفعل رجال الكنائس فى تشويه أخبار الرسول بأنه مزواج مطلاق، وأنه كان متهالكا فى حب النساء، وأن دينه دين وثنية، لأنه كان يسجد للكعبة، وأنه خالف جميع الأنبياء واتجه إليها ولم يتجه لبيت المقدس، وأن القرآن كثير المتناقضات كثير التكرار للقصص وفيه كذب، إلى نحو أولئك مما يقولون وهم لا يقولون إلا ترّهات وأباطيل.
ثم بين كيف يقع العذاب بعد بعثة الرسل فقال:
(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً)
أي إذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك أي قرية بعذاب الاستئصال لما ظهر منها من المعاصي ودنست به أنفسها من الآثام- لم نعاجلها بالعقوبة، بل نأمر مترفيها بالطاعة فإذا فسقوا عن أمرنا وتمردوا حق عليهم العذاب جزاء وفاقا لاجتراحهم
السيئات وارتكابهم كبائر الإثم والفواحش، فدمرنا تلك القرية تدميرا ولم نبق منها ديّارا ولا نافخ نار.
وخص المترفين بالذكر لما جرت به العادة أن من سواهم يكون تبعا لهم، وأن العامة والدهماء يقلدونهم فيما يفعلون، ولأنهم أسرع إلى الفجور وأقدر على الوصول إلى سبله.
وقد يكون المراد من الأمر- أن الله يفيض عليهم نعمه التي تبطرهم وتجعلهم يقعون فى المعاصي، فكأنه تعالى يأمرهم بها، إذ مهد لهم الأسباب الموصلة إليها.
وحكى بعض أئمة اللغة أن المراد (بأمرنا) أكثرنا واستدل بما أخرجه أحمد والطبراني من
قوله صلى الله عليه وسلم «خير المال مهرة مأمورة وسكة مأبورة»
أي مهرة كثر نسلها وطريق مصطفة من النخل مأبورة (كثر فيها اللقاح) لتثمر الثمر الجنى.
ثم ذكر أن كثيرا من الأمم قد حق عليها العذاب بذنوبها فقال:
(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) أي وقد أهلكنا أمما كثيرة قبلكم من بعد نوح حتى زمانكم حين جحدوا آيات الله وكذبوا رسله وكانوا على مثل ما أنتم عليه من الشرور والآثام، ولستم بأكرم على الله منهم، فاحذروا أن يحل بكم من العقاب مثل ما حل بهم وينزل بكم سخطه مثل ما نزل بهم.
وفى هذا من الوعيد لمكذبى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشركى قريش وتهديدهم بشديد العقاب إن لم ينتهوا عما هم عليه من تكذيب رسوله- ما لا يخفى.
(وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) أي وحسبك أيها الرسول بالله خبيرا بذنوب خلقه، فلا يخفى عليه شىء من أفعال مشركى قومك ولا أفعال غيرهم، بل هو عليم بجميع أعمالهم لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض، وسيجازيهم على ذلك بما يستحقون.
ثم قسم سبحانه عباده قسمين محب للعاجلة ومحب لأعمال الآخرة:
(1)
(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ
يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً)
أي من كان طلبه الدنيا العاجلة، ولها يعمل ويسعى وإياها يبتغى، لا يوقن بمعاد ولا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا من ربه على ما يعمل، يعجل الله له فى الدنيا ما يشاء من بسط الرزق وسعة العيش ثم يصليه حين مقدمه عليه فى الآخرة جهنم مذموما على قلة شكره وسوء صنيعه فيما سلف، مبعدا من رحمته مطرودا من إنعامه.
وقد اشتمل هذا العقاب على أمور ثلاثة:
(ا) الدوام والخلود وإلى ذلك الإشارة بقوله: ثم جعلنا له جهنم يصلاها أي يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه.
(ب) الإهانة والاحتقار وإلى ذلك أشار بقوله مذموما.
(ح) البعد والطرد من رحمة الله دائما فلا يتخلل ذلك راحة ولا يعقبه خلاص وإلى هذا أشار بقوله: مدحورا، وفى قوله: لمن نريد، إشارة إلى أن الفوز بالدنيا لا يحصل لكل من يريدها، فكثير من الكفار الضلال يعرضون عن الدين فى طلب الدنيا ثم هم يبقون محرومين من الدين والدنيا.
وفى هذا تهديد وزجر عظيم لهؤلاء الكفار، فإنهم قد يتركون الدين لطلب الدنيا، وربما فاتتهم أيضا.
(2)
(وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) أي ومن أراد الآخرة ولها عمل وإياها طلب، فأطاع الله وطلب ما يرضيه، وهو مصدق بثوابه وعظيم جزائه على سعيه لها- شكر الله له جزيل سعيه وآتاه حسن المثوبة كفاء ما قدم من صالح العمل، وتجاوز عن سيئاته، وأدخله فراديس جناته.
وقد اشترط لهذا الجزاء أمورا ثلاثة:
(ا) أن يريد بعمله ثواب الآخرة ونعيمها، فإن لم تحصل هذه النية لم ينتفع بذلك العمل كما قال:«وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى»
وجاء فى الحديث:
إلى أن استنارة القلب بمعرفة الله ومحبته لا تحصل إلا إذا نوى العامل بعمله طاعة ربه والإخبات والخشوع له.
(ب) أن يعمل العمل الذي يتوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة، ولا يكون ذلك إلا إذا كان من القرب والطاعات، لا من الأعمال الباطلة كعبادة الأوثان والكواكب والملائكة.
(ح) أن يكون ذلك وهو مؤمن، فإن أعمال البر لا توجب الثواب إلا إذا وجد الإيمان.
ثم بين سبحانه أن عطاءه ورزقه الدنيوي لا يحظر على كل من الفريقين فقال:
(كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) أي إن كلا من الفريقين مريدى العاجلة ومريدى الآجلة الساعي لها سعيها وهو مؤمن يمده ربه بعطائه ويوسع عليه الرزق ويكثر الأولاد وغيرهما من زينة الدنيا، فإن عطاءه ليس بالممنوع من أحد من خلقه مؤمنا كان أو كافرا، فكلهم مخلوق فى دار العمل، فوجب إزالة العذر ورفع العلة وإيصال متاع الدنيا إليهم على القدر الذي يقتضيه صلاحهم، ثم تختلف أحوال الفريقين، ففريق العاجلة إلى جهنم وبئس المهاد، وفريق الآجلة إلى جنات تجرى من تحتها الأنهار، ونعم عقبى الدار.
ثم وضح مامر من الإمداد وعدم محظورية العطاء على أحد فقال:
(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي انظر إلى عطائنا للفريقين فى الدنيا، كيف فضلنا بعضهم على بعض، فأوصلنا رزقنا إلى مؤمن وقبضناه عن آخر، وأوصلناه إلى كافر ومنعناه من كافر آخر، ولهذا حكم وأسباب بيّنها سبحانه بقوله:«وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ» وقوله «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا» .