الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيضاح
(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) أي كما أرقدنا هؤلاء الفتية فى الكهف، وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان، وثيابهم من العفن على مرّ الأيام بقدرتنا- بعثناهم من رقدتهم، وأيقظناهم من نومهم، لنعرّفهم عظيم سلطاننا، وعجيب فعلنا فى خلقنا.
وليزدادوا بصيرة فى أمرهم الذي هم عليه، من براءتهم من عبادة الآلهة، وإخلاصهم العبادة لله الواحد القهار، إذا تبينوا طول الزمان عليهم وهم بهيئتهم حين رقدوا.
(لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ؟) أي ولتكون عاقبة أمرهم أن يسأل بعضهم بعضا، فيقول قائل منهم لأصحابه: كم لبثتم؟ ذاك أنهم استنكروا من أنفسهم طول رقدتهم.
(قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) أي فأجابه الآخرون، فقالوا لبثنا يوما أو بعض يوم ظنا منهم أن ذلك كذلك كان.
وإيضاح هذا أنهم لم يتحققوا مقدار لبثهم، فهم لا يدرون مقدار ذلك اللّبث، أيوم هو أو بعض يوم، لأن لوثة النوم وظواهره لم تذهب من بصرهم وبصيرتهم، فلم ينظروا إلى الأمارات التي تدل على ذلك المقدار الذي يظنّ، أنه قد كان.
وأكثر المفسرين على أن دخولهم فى الكهف كان أول النهار واستيقاظهم كان آخر النهار.
(قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) أي وقال آخرون: ربكم أعلم بما لبثتم أي أنتم لا تعلمون مدة لبثكم، بل الله هو الذي يعلمها، وهذا من الأدب البارع فى الرد على الأولين بأحسن أسلوب وأجمل تعبير.
وحين علموا أن الأمر ملتبس عليهم عدلوا إلى الأهم فى أمرهم وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب فقالوا:
(فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) أي فابعثوا بدراهمكم هذه إلى المدينة وهى طرسوس كما جزم بذلك فخر الدين الرازي.
وفى قولهم (هذه) إشارة إلى أن القائل كان قد أحضرها ليناولها بعض أصحابه، وإلى أن التأهب لأسباب المعاش بحمل الدراهم ونحوها لمن خرج من منزله، لا ينافى التوكل على الله كما
جاء فى الحديث «اعقلها وتوكل» .
(فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) أي فليبصر أىّ الأطعمة أجود وألذّ فليأتكم بمقدار منه.
(وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) أي وليترفق فى دخول المدينة، وفى شرائه، وفى إيابه منها، ولا يخبرنّ بمكانكم أحدا من أهلها.
ثم ذكروا تعليل الأمر والنهى السالفين بقولهم:
(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) أي إن الكفار إن علموا بمكانكم ولم تفعلوا ما يريدون منكم، بل ثبتم على إيمانكم، إما أن يقتلوكم رميا بالحجارة، وكان ذلك هو المتبع فى الأزمنة الغابرة فيمن يعلن خلاف ما عليه الجماهير فى الأمور الدينية والسياسية التي لها شأن فى الدولة، وإما أن يعيدوكم إلى ملة آبائكم التي هم مستمسكون بها.
(وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) أي وإن دخلتم فى ملتهم ولو بالإكراه والقسر لن تفوزوا بخير لا فى دنياكم ولا فى آخرتكم، إذ ربما استدرجكم الشيطان إلى أن تستحسنوا ما ستعتنقونه من ذلك الدين الجديد، وتستمرئوه فتستمروا عليه فيكون قد كتب عليكم الشقاء عند ربكم، والخذلان الذي لا خذلان بعده.
(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) أي وكما بعثناهم بعد طول رقدتهم كهيئتهم حين رقدوا، ليتساءلوا بينهم فيزدادوا بصيرة بعظيم سلطانه تعالى، ومعرفة حسن دفاع الله عن أوليائه- أعثرنا الفريق الآخر الذين كانوا فى شك من قدرة الله على إحياء الموتى، وفى مرية من إنشاء أجسام خلقه كهيئتهم يوم قبضهم بعد البلى، ليعلموا أن وعد الله حق، ويوقنوا أن الساعة آتيا لا ريب فيها، إذ لا حجة لمن أنكرها إلا الاستبعاد، ولكن وقوع ذلك الأمر العظيم
وعلمهم به، مما يخفف من غلوائهم، ويكبح جماح إنكارهم ويردهم إلى رشدهم.
ذاك أن حال هؤلاء الفتية فى تلك الحقبة الطويلة، وقد حبست عن التصرف نفوسهم، وعطّلت مشاعرهم وحواسهم، وحفظت من التحلل والتفتّت أبدانهم، وبقيت على ما كانت عليه من الطراوة والشباب، ثم رجعت بعدئذ تلك المشاعر والحواس إلى حالها، وأطلقت النفوس من عقالها، وأرسلت إلى تدبير أبدانها، فرأت الأمور كما كانت، والأعوان هم الأعوان، ولم تنكر شيئا عهدته فى مدينتها، ولم تتذكر حبسها المدى الطويل عن التصرف فى شؤونها- وحال الذين يقومون من قبورهم بعد ما تعطلت مشاعرهم وحبست نفوسهم- من واد واحد فى الغرابة، ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو معاند، ووقوع الأول يزيل الارتياب فى إمكان وقوع الثاني، ولا يبقى بعد ذلك شك فى أن وعد الله حق، وأن الله سيبعث من فى القبور، فيردّ عليهم أرواحهم، ويجازيهم جزاء وفاقا بحسب أعمالهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهو الحكم العدل، اللطيف الخبير.
(إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أي وكذلك أطلعنا عليهم بيدروس وقومه حين ينازع بعضهم بعضا فى أمر البعث، فمن مقرّ به، وجاحد له، وقائل تبعث الأرواح دون الأجساد- ففرح الملك وفرحوا بآية الله على البعث، وزال ما بينهم من الخلاف فى أمر القيامة، وحمدوا الله إذا رأوا ما رأوا مما يثبتها، ويزيل كل ريب فيها.
ثم حكى آراء القوم فى شأنهم بعد اطلاعهم عليهم فقال:
(فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) أي إنهم انقسموا فى شأنهم فريقين، فريق يقول: نسد عليهم باب الكهف ونذرهم حيث هم، وفريق يقول: نبنى عليهم مسجدا يصلى فيه الناس، وقد غلب هذا الفريق الفريق الأول فى الرأى.
وقوله (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) جملة معترضة من كلامه تعالى ردا للخائضين فى أمرهم
ممن أعثروا عليهم، أو ممن كان فى عهده صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، فى بيان أنسابهم وأسمائهم وأحوالهم ومدة لبثهم.
وقد ذكر العلماء أن اتخاذ القبور مساجد منهىّ عنه أشد النهى حتى ذكر ابن حجر فى كتابه الزواجر أنه من الكبائر، لما روى فى صحيح الأخبار من النهى عن ذلك،
روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله تعالى زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسّرج» وزاد مسلم «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، فإنى أنها كم عن ذلك»
وروى الشيخان والنسائي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله تعالى اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .
وروى أحمد والشيخان والنسائي قوله صلى الله عليه وسلم: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق يوم القيامة» .
وروى أحمد والطبراني: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد» .
إلى نحو ذلك من الآثار الصحيحة، فليعتبر المسلمون اليوم بهذه الأخبار التي لا مرية فى صحتها، وليقلعوا عما هم عليه من اتخاذ المساجد فى أضرحة الأولياء والصالحين والتبرك بها، والتمسح بأعتابها، وليعلموا أن هذه وثنية مقنّعة، وعود إلى عبادة الأوثان والأصنام على صور مختلفة، والعبرة بالجوهر واللب، لا بالعرض الظاهر، فذلك إشراك بالله فى ربوبيته وعبادته، وقد حاربه الدين أشد المحاربة، ونعى على المشركين ما كانوا يفعلون.
اللهم ألهم المسلمين رشدهم، وثبتهم فى أمر دينهم، ولا تجعلهم يحذون حذو من قبلهم حذو القذّة بالقذة، وأرجعهم إلى مثل ما كان يفعله المسلمون فى الصدر الأول
وما بعده، فرجاله هم الأسوة، وقد صح أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما وجد قبر دانيال فى عهده بالعراق أمر أن يسوّى بالأرض، وأن تدفن تلك الرّقعة التي وجدوها عنده وفيها شىء من الملاحم وغيرها من الأخبار.
ولما ذكر سبحانه القصة ونزاع المتخاصمين فيما بينهم- شرع يقص علينا ما دار فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الخلاف فى عدد أصحاب الكهف فقال:
(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) أي سيقول بعض الخائضين من أهل الكتاب ذلك، فقد روى أن نصارى نجران تناظروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عدد أهل الكهف، فقالت الملكانية (أصحاب الملك) : هم ثلاثة رابعهم كلبهم، وقالت اليعقوبية: هم خمسة سادسهم كلبهم، وقالت النسطورية: هم سبعة وثامنهم كلبهم، وروى هذا عن ابن عباس، وهو الحق بدليل أنه تعالى حكم على القولين السابقين بأنهما رجم بالغيب، فأرشد ذلك إلى أن الحال فى الأخير بخلافه، وأنهم إنما قالوه عن ثبات علم، وطمأنينة نفس.
(قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) فى هذا إرشاد لنا إلى أن الأحسن فى مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى، إذ لا احتياج إلى الخوض فى مثل ذلك بلا علم، فإن اطلعنا على أمر قلنا به، وإلا توقّفنا ولم نجزم بشىء.
(ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) أي ما يعلم عددهم إلا قليل من الناس. روى قتادة عن ابن عباس أنه قال: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل، كانوا سبعة سوى الكلب، ولم يرد فى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم شىء فى ذلك.
وفى هذا دلالة على أن المهمّ ليس هو معرفة العدد، بل المهمّ الاعتبار بذلك القصص، وبما يكون نافعا لعقولنا وتطهير أخلاقنا ورقينا فى حياتينا الدنيوية والأخروية.