الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير المفردات
الرشد: هو الاهتداء إلى وجوه الصلاح فى الدين والدنيا، والاسترشاد بالنواميس الإلهية، التماثيل: واحدها تمثال وهو الصورة المصنوعة على شبه مخلوق من صنع الله كطير أو شجر أو إنسان والمراد بها هنا الأصنام، سماها بذلك تحقيرا لشأنها، والعكوف على الشيء: ملازمته والإقبال عليه، بالحق: أي بالشيء الثابت فى الواقع، اللاعبين: أي الهازلين، فطرهن: أي أنشأهن، من الشاهدين: أي المتحققين صحته، المثبتة بالبرهان، والكيد: الاحتيال فى إيجاد ما يضر مع إظهار خلافه، والمراد المبالغة فى إلحاق الأذى بها، جذاذا: أي قطعا، من الجذ، وهو القطع.
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي ولقد آتينا إبراهيم ما فيه صلاحه وهداه من قبل موسى وهرون، ووفقناه للحق، وأضأنا له سبيل الرشاد، وأنقذناه من بين قومه من عبادة الأصنام، وكنا عالمين بأنه ذو يقين وإيمان بالله وتوحيد له، لا يشرك به شيئا، فهو جامع لأحاسن الفضائل ومكارم الأخلاق وجميل الصفات، وقال الفراء: أعطيناه هداه من قبل النبوة والبلوغ اهـ. أي وفقناه للنظر والاستدلال لما جنّ عليه الليل فرأى الشمس والقمر والنجم، وعلى هذا جرى كثير من المفسرين.
(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ؟) أي آتيناه الرشد حين قال لأبيه آزر ولقومه وهم مجتمعون: ما هذه الأصنام التي تقيمون على عبادتها وتعظيمها؟.
وقد أراد عليه السلام بهذا السؤال تنبيه أذهانهم إلى التأمل فى شأنها، وتحقير أمرها، متجاهلا حقيقتها، وكأنه يومىء بذلك إلى أنهم لو تأملوا قليلا لأدركوا أن مثل هذه الأحجار والخشب لا تغنى عنهم قلّا ولا كثرا.
ولما لم يجدوا ما يعوّل عليه فى تعرف حقيقتها لجئوا إلى التشبث بالتقليد دون إقامة الحجة والبرهان.
(قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) أي قال آزر وقومه له: إنا وجدنا آباءنا يعبدون هذه الأوثان فسرنا على نهجهم واقتفينا أثرهم ولا حجة لنا غير ذلك.
وخلاصة مقالهم: ليس لنا برهان على صحة ما نفعل، وإنما نحن مقلدون للآباء والأجداد، وكفى بهذا سبّة لهم، فإن الشيطان قد استدرجهم وكاد لهم حتى عفّروا لها جباههم وجدّوا فى نصرتها، وجادلوا أهل الحق فيها- وما كان أجدرهم أن يتواروا خجلا وحياء ولا يقولوا مثل هذا.
والتقليد هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز، والحبل الذي يتشبث به كل غريق وهكذا يجيب المقلّدة من أهل الملة الإسلامية إذا أنكر عليهم العالم بالكتاب والسنة العمل بالرأى الذي يدفعه الدليل- بهذا قال إمامنا الذي وجدنا آباءنا له مقلدين، وبرأيه آخذين وكأنه يقول:
وهل أنا إلا من غزيّة إن غوت
…
غويت وإن ترشد غزيّة أرشد
وقد أجابهم إبراهيم ببيان قبح ما يصنعون، وبكّتهم على سوء ما يفعلون.
(قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي قال لهم: لقد كنتم أيها القوم أنتم وآباؤكم بعبادتكم إياها فى ضلال بيّن، وجور واضح عن سبيل الحق لمن تأمله بلبه، وفكّر فيه بعقله.
وخلاصة هذا- إن المقلدين ومن قلّدوا فى ضلال ظاهر لا يخفى على من لديه أدنى مسكة من عقل، فالفريقان لا يستندان إلا إلى هوى متبع، وشيطان مطاع وقد أحسن من قال:
يأبى الفتى إلا اتّباع الهوى
…
ومنهج الحق له واضح
وفى ذلك إيماء إلى أن الباطل لا يصير حقا بكثرة المستمسكين به.
وقد أجابوه إجابة مستفهم متعجب مما يسمع ويرى.
(قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ؟) أي قالوا له حين سمعوا مقالته، مستبعدين أنهم فى ضلال، ومتعجبين من تضليله إياهم: أجادّ أنت فيما تقول أم أنت لاعب مازح؟ فإنا لم نسمع بمثله من قبل.
وخلاصة هذا- إنهم لما سمعوا منه ما يدل على تحقير آلهتهم، وتضليله إياهم، وشاهدوا منه الجد فى القول والغلظة فيه، طلبوا منه الدليل على صدق ما يقول إن كان جادا، ثم ارتقوا من هذا إلى بيان أنه هازل لاعب، كما هو دأبه وعادته من قبل، ولا يقصد بذلك إظهار حق البتة.
فردّ عليهم منتقلا من تضليلهم فى عبادة الأوثان، إلى بيان الحق، وذكر المستحق للعبادة.
(قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ) أي قال لهم: بل جئتكم بالحق لا اللعب- إن الذي يستحق العبادة من أنشأ السموات والأرض على غير مثال يحتذى، وأنتم مغمورون بجميل عطفه، وعظيم جوده وبرّه.
وصفوة هذا- إن الجدير بالعبادة هو من ربّاكم تحت ظلال عطفه، وأنعم عليكم بجزيل برّه ولطفه، وأوجدكم وأوجد السموات والأرض من العدم، لا من كان بمعزل عن كل ذلك.
وفى هذا إرشاد إلى أنه ينبغى لهم أن يرعووا عن غيهم، ويعلموا من يستحق العبادة، فيعبدونه ويخضعون له، وبذلك يهتدون إلى الطريق السوىّ.
ثم ختم مقاله بنفي اللعب والهزل عن نفسه فقال:
(وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي وأنا أدلى على ما أقول بالحجة كما تصحح الدعوى بالشهادة، وأبرهن عليه كما تبين القضايا بالبينات، فلست مثلكم أقول ما لا أقدر على إثباته، فإنكم لم تقدروا على الاحتجاج على مذهبكم، ولم تزيدوا على أن تقولوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.
وقصارى ما أقول: لست من اللاعبين الهازلين، بل من العالمين بذلك
بالبراهين القاطعة، والحجج الساطعة، كالشاهد الذي يكون قوله الفصل فى إثبات الدعوى، وإحقاق الحق.
وبعد أن أقام البرهان على إثبات الحق أتبعه بالتهديد لهدم الباطل ومحو آثاره، وأنه سينتقل من المحاجة القولية إلى تغيير المنكر بالفعل ثقة بالله، ومخاماة عن دينه، جمعا بين القول والفعل (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) أي وتالله القوى العظيم لأجتهدنّ فى كسر أصنامكم وإلحاق الأذى بها بعد أن تذهبوا إلى عيدكم، وقد فعل ذلك عليه السلام، ليرشدهم إلى ما هم فيه من الضلال، ويبين لهم خطأهم على ألطف أسلوب، وأتم وجه.
وفى التعبير بالكيد إيذان بصعوبة انتهاز الفرصة، وتوقفها على استعمال الحيلة فى كل زمان، ولا سيما زمن نمرود، على عتوه واستكباره، وقوة سلطانه وتهالكه على نصرة دينه.
قال مجاهد وقتادة: قال إبراهيم هذه المقالة سرا من قومه ولم يسمع ذلك إلا رجل واحد، فأفشاه عليه وقال: إنا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم.
وقال السّدّى: كان لهم فى كل سنة مجمع عيد، وكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان ذلك العيد قال آزر:
يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا، فخرج معهم، ولما كان ببعض الطريق ألقى بنفسه وقال إنى سقيم أشتكى برجلي، فلما مضوا نادى فى آخرهم وقد بقي فيهم ضعفاء الناس: تالله لأكيدنّ أصنامكم، فسمعوها منه، ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة وهى فى بهو عظيم، وكان مستقبل هذا البهو صنم عظيم إلى جنبيه أصغر منه والأصنام بعضها إلى جنب بعض، كل صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو، وإذا هم قد جعلوا طعاما فوضعوه بين يدى الآلهة وقالوا إذا رجعنا وباركت الآلهة عليه أكلنا منه، فلما نظر إبراهيم إليهم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم مستهزئا: