الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيضاح
(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) أي قسما بمخلوقاتى العظيمة وهى النجوم التي تسير فى مداراتها، ولا تعدو أفلاكها، والتي تهتدون بها فى الفيافي والقفار، فى حلكم وترحالكم، فى سفركم وحضركم، وفى البحار، ولها لديكم منزلة عظمى فى حياتكم المعيشية- إن محمدا نبى حقا، وما حاد عن سبيل الحق، ولا سلك سبيل الباطل.
وقد خاطب سبحانه بهذا القسم العرب الذين يعرفون ما للنجوم من جزيل الفضل عليهم، فى تعيين المواسم والفصول، ليستعدوا للنّجعة، ويرتادوا الكلأ بعد سقوط المطر، ويزرعوا ما يتسنى لهم أن يزرعوه، وهم يتيامنون ببعضها ويتشاءمون ببعض آخر.
إلى أن القسم بها ينبهنا إلى أن هناك عوالم وأجراما علويّة يجب علينا أن نتعرّف أمرها، لنستدل بها على عظيم قدرة مبدعها وبديع صنعه.
ولقد أثبت العلم حديثا ما يدعو إلى العجب من أحوال هذه الأجرام، وسرعة سيرها، وكبير حجمها، فقد علم أن سير نور الكوكب 300 ألف كيلوم فى الثانية، ومثله سير الأمواج اللاسلكية، وكلاهما يجرى حول الأرض فى سبع ثانية مرة واحدة، ويجرى حول الكون كله فى نحو مائة مليون سنه، فنسبة محيط الكرة الأرضية إلى محيط ما عرف من الكون كنسبة سبع ثانية إلى مائة مليون سنة.
والنظام الشمسى يشتمل على الشمس وتسعة سيارات تدور حول أكثرها أقمار، وهذه الشمس وعالمها جزء من عالم المجرّة، والمجرّة فيها نجوم تبلغ نحو 30 ألف مليون نجم كلهن شموس كشمسنا أو أكبر أو أصغر. ويقدرون عمر الشمس بنحو خمسة ملايين مليون سنة، وعمر الأرض بنحو ألفى مليون سنة، وعمر المياه عليها بنحو 300 مليون سنة، وعمر الإنسان بنحو 300 ألف سنة.
وإن شمسنا التي تزيد على أرضنا ألف ألف مرة وثلاثمائة ألف مرة هى كوكب له توابع وسيارات، وهذا الكواكب وتوابعه واحد من ثلاثين ألف مليون شمس، وهذه كلها تكوّن مجرتنا، وهذه المجرة لها نظائر، فسبحان الخلاق العليم الذي لا يعلم جنوده إلا هو.
والخلاصة- إن الرسول صلى الله عليه وسلم راشد مرشد تابع للحق، ليس بضالّ ولا هو بسالك للطريق بغير علم، ولا هو بغاو يعدل عن الحق قصدا إلى غيره، وبهذا نزه الله رسوله وشرعه عن مشايعة أهل الضلال من اليهود والنصارى الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه، فهو فى غاية الاستقامة والاعتدال والسّداد.
ثم بين السبب فى عدم ضلاله وغوايته فقال:
(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) أي كيف يضل ويغوى، وهو لا ينطق عن الهوى، وإنما يضل من كان كذلك، يرشد إلى ذلك قوله تعالى:«وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» .
ثم أكد هذا بقوله:
(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) أي إنما يقول ما أمر أن يبلغه إلى الناس كاملا موفورا بلا زيادة ولا نقصان.
روى أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: «كنت أكتب كل شىء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتنى قريش فقالوا: إنك تكتب كل شىء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله بشر يتكلم فى الغضب، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اكتب فو الذي نفسى بيده ما خرج منى إلا الحق» .
وعن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا أقول إلا حقا» قال بعض أصحابه فإنك تداعبنا يا رسول الله، قال:«إنى لا أقول إلا حقا» .
ويرى بعض المفسرين أن قوله: ما ضل صاحبكم- ردّ لقولهم: إنه مجنون،
وقوله: وما غوى- ردّ لقولهم إنه شاعر: أي ليس بينه وبين الغواية تعلق وارتباط، وقوله: والشعراء يتبعهم الغاوون، وقوله: وما ينطق عن الهوى- ردّ لقولهم كاهن، وقوله: إن هو إلا وحي يوحى تأكيد لما تقدم، أي فلا هو بقول كاهن، ولا هو بقول شاعر.
(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) أي علّم صاحبكم جبريل عليه السلام وهو شديد القوى العلمية والعملية، فيعلم ويعمل، ولا شك أن مدح المعلّم مدح للمتعلم.
وفى هذا رد عليهم فى قولهم: إن هو إلا أساطير الأولين، سمعها وقت سفره إلى الشام.
والخلاصة- إنه لم يعلمه أحد من الناس، بل علمه شديد القوى، والإنسان خلق ضعيفا لم يؤت من العلم إلا قليلا- إلى أنه موثوق بقوله، لأن قوة الإدراك شرط الوثوق بقول القائل، وكذلك هو موثوق بحفظه وأمانته، فلا ينسى ولا يحرّف.
(ذُو مِرَّةٍ) أي ذو حصافة فى العقل، فالوصف الأول إشارة إلى قوة الفعل، وهذا وصف بقوة النظر وظهور الآثار البديعة منه.
والخلاصة- إنه يجمع بين القوى النظرية والقوى الجسمية كما روى أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها على جناحيه ورفعها إلى السماء ثم قلبها، وصاح بثمود فأصبحوا جاثمين.
وإنا لنؤمن بهذا على أنه من عالم الغيب ونكتفى بما جاء فى كتابه تعالى ولا نزيد عليه.
وإن علماء الأرواح فى أوروبا الآن أصبحوا يؤمنون بقوى عالم الروح وبما لها من خوارق العادات بالنظر إلى عالمنا. قال أوليفر لودج: إنى أصبحت موقنا بأنا محوطون بعالم نحن بالنسبة إليه كالنمل بالنسبة لنا، وهم يساعدوننا ويحافظون علينا، ثم قال:
وقفت على هذا بطريق علمى (يريد تحضير الأرواح) ثم قال: فإذا ما قال القدّيسون إنهم رأوا الملائكة أو أنهم رأوا الله، فكل ذلك حق لا مرية فيه اه.
هذا ولا شك من عجائب القرآن، فإن ما جاء فيه مما يتعلق بعالم الأرواح أصبح علوما تدرس وتذاع بين الناس باعتبارها علوما روحية وكشفا حديثا، صدق ربنا «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» .
فالقوى الجسمية والعقلية للعالم الروحي ظهرت بطريق استحضار الأرواح والتنويم المغناطيسى، إذ فيه انخلاع للنفس عن البدن انخلاعا جزئيا أو كليا وهى مربوطة به ولها اتصال بالعوالم الروحية.
(فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) أي فاستقام جبريل على صورته التي خلقه الله عليها حين أحب رسوله صلى الله عليه وسلم أن يراه كذلك، فظهر له فى الأفق الأعلى وهو أفق الشمس، فملأه ثم أخذ يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتدلى: أي يزيد فى القرب والنزول حتى كان منه مقدار قوسين أو أقرب على تقديركم وعلى مقدار فهمكم، فأوحى إلى عبده ورسوله ما شاء أن يوحيه إليه من شئون الدين. ولا غرو فإن ظهور الأرواح فى صورة مرئية أصبح الآن معروفا، وقد قص علماء الروح عجائب وغرائب وأصبح فى طوقهم أن يظهروا الروح فى صور بشرية وصور نورية وتخاطبهم حين التنويم المغناطيسى، وإذا صح ذلك للعلة فليكن ذلك للقدّيسين والأنبياء بالأولى بطريق يشاكل مقامهم، ولا تتجلى الأرواح إلا بالمناسبة بين المتجلّى والمتجلّى عليه، وظهوره فى صورة مرئية يرجع إلى قوته وشدته، وقوله: فأوحى إلى عبده ما أوحى، يرجع إلى قوته العلمية.
ولما كان الإنسان كثيرا ما يظن أنه قد تخيل ما رآه ويكذب قلبه ما ظهر له، حتى قال علماء الأرواح: إنهم لما خاطبوا الأرواح قالت لهم، إنكم كثيرا ما يظهر لكم عجائب روحية فتظنونها من الوهم وتنسبونها إلى خداع الحواس- أعقب سبحانه هذا بما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقم بنفسه أن هذا تخيل ولا أنه وهم فقال:
(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) أي ما كذب فؤاده ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام: أي إن فؤاده صلى الله عليه وسلم ما قال لما رآه ببصره لم أعرفك، ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره.
والخلاصة- إنه لما قال: إن هو إلا وحي يوحى أكد هذا المعنى وفصله بقوله:
علّمه شديد القوى، ليبين أنه ليس من الشعر ولا من الكهانة فى شىء، ولما قال:
فاستوى وذكر قيامه بصورته الحقيقية أكد أن مجيئه بصورة دحية الكلبي لا يعمّى وصفه، إذ قد عرفه بشكله الحقيقي من قبل، فلا يشتبه عليه، وقوله: ثم دنا فتدلى تتميم لحديث نزوله عليه السلام وإتيانه بالمنزّل، وقوله: ما كذب الفؤاد ما رأى، بين به أنه لما عرفه وحققه لم يكذّبه فؤاده بعد ذلك فى أنه جبريل، ولو تصور بغير تلك الصورة.
(أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى؟) أي أفتكذبونه وتجادلونه فيما رآه بعينه من صورة جبريل عليه السلام له.
(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) أي ولقد رأى النبىّ صلى الله عليه وسلم جبريل فى صورته التي خلقه الله عليها عند شجرة النبق التي ينتهى إليها علم كل عالم وما وراءها لا يعلمه إلا الله قاله ابن عباس.
وقد يكون المراد بالمنتهى الله عز وجل أي سدرة الله الذي إليه المنتهى كما قال سبحانه «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» وعند هذه السدرة الجنة التي يأوى إليها المتقون يوم القيامة قاله الحسن البصري.
وعلينا أن نؤمن بهذه الشجرة كما وصفها الله، ولا نعين مكانها ولا نصفها بأوصاف أكثر مما وصفها به الكتاب الكريم، إلا إذا ورد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ما يبين ذلك ويثبت لدينا بالتواتر، لأن ذلك من علم الغيب الذي لم يؤذن لنا بعلمه.
روى أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم أنها فى السماء السابعة، نبتها كقلال هجر، وأوراقها مثل آذان الفيلة، يسير الراكب فى ظلها سبعين خريفا لا يقطعها.
والمشاهد فى الدنيا أن النبات يعيش إذا وجد التراب والماء والهواء، ولكن لاعجب فالله يخلقه فى أي مكان شاء، كما أخبر عن شجرة الزقوم أنها تنبت فى أصل الجحيم.
وقصارى ما سلف- إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل فى صورته الحقيقية مرتين: مرة وهو فى غار حراء فى بدء النبوة، والثانية فى ليلة المعراج ولم يكن ذلك فى الأرض بل كان عند شجرة نبق عن يمين العرش وهى فى منتهى الجنة: أي آخرها، وعلم الملائكة ينتهى إليها.
وقد تقدم أن الصحيح أن الصعود إلى الملإ الأعلى كان روحيا لا جسمانيا كما روى عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم.
(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) أي رآه حين غطى السدرة ما غطاها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله، ومن الإشراق والحسن، ومن الملائكة وقد أبهم ذلك الكتاب الكريم، فعلينا أن نكتفى بهذا الإبهام ولا نزيده إيضاحا بلا دليل قاطع، ولا حجة بينة، ولو علم الله الخير لنا فى البيان لفعل.
(ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) أي ما مال بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكّن منها، وما جاوزها إلى رؤية ما لم يؤمر برؤيته.
والخلاصة- إنه رأى رؤية المستيقن المحقق لما رأى.
(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) أي ولقد رأى الآيات الكبرى من آيات ربه وعجائبه الملكوتية.
روى البخاري وابن جرير وابن المنذر فى جماعة آخرين عن ابن مسعود أنه قال