الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه جاءهم من الأخبار ما فيه زاجر لهم لو تذكروا لكن لم تغنهم تلك الزواجر شيئا- أردف هذا ذكر قصص من قبلهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود، ليبين لرسوله أنهم ليسوا ببدع فى الأمم، بل كثير منهم فعلوا فعلهم بل كانوا أشد منهم عتوا واستكبارا، وأن الأنبياء قبله قد لاقوا منهم من البلاء ما لا قيت، فلا تأس على ما فرط منهم، ولا تبتئس بما كانوا يفعلون كما جاء فى قوله سبحانه:
«فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» .
وفى هذا وعيد للمشركين من أهل مكة وغيرهم على تكذيبهم رسولهم، وأنهم إن لم ينيبوا إلى ربهم فسيحل بهم من العذاب مثل ما حل بمن قبلهم، وينجّى نبيه والمؤمنين كما نجّى من قبله من الرسل وأتباعهم من نقمه التي أحلها بأممهم.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) أي كذب قبل قومك قوم نوح فكانوا أسوة لمن بعدهم من المكذبين للرسل.
ثم فصّل هذا التكذيب بقوله:
(فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) أي فكذبوا عبدنا نوحا ونسبوه إلى الجنون، وزجروه وتوعدوه، لئن لم ينته ليكونن من المرجومين.
وأضاف العبد إليه فى قوله «عبدنا» للاشارة إلى أنه لم يعبد سواه، فهو فى جميع أفعاله لله وإلى أنه صادق فى دعواه النبوة، فهو لا ينطق عن الهوى، فتكذيبهم له قبيح غاية القبح، بالغ نهاية العتوّ والإنكار.
ثم بين أنه عيل بهم صبرا، وضاق بهم ذرعا فدعا عليهم فقال:
(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) أي فدعا نوح ربه قائلا إن قومى قد غلبونى لتمردهم وعتوهم، ولا طاقة لى بهم، فانتصر منهم بعقاب من عندك على كفرهم بك.
وقصارى ذلك- انتصر لك ولدينك، فإنى قد غلبت وعجزت عن الانتصار لهما.
ثم أخبر سبحانه أنه قد أجاب دعاءه فقال:
(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) أي فصببنا عليهم ماء ثجاجا من السماء، وتقول العرب فى المطر الوابل: جرت ميازيب السماء. روى أنهم طلبوا المطر سنين فأهلكهم الله بما طلبوا.
وفى الآية إيماء إلى أن الله انتصر منهم، وانتقم بماء لا بجند أنزله.
(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أي وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة.
(فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي فالتقى الماء أي ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدره الله وهو هلاكهم بالطوفان.
والخلاصة- إن الله أرسل ماء السحاب مدرارا، وأخرج من الأرض ماء ثجاجا فالتقى الماءان فأحدثا طوفانا على وجه الأرض، فأغرق به قوم نوح، ونجا نوح بركوب سفينته التي بناها كما أشار إلى ذلك فى هود بالتفصيل وأشار إليه هنا بقوله:
(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) أي وأنقذناه من الطوفان، فحملناه على سفينة ذات خشب ومسامير.
وجاء فى سورة العنكبوت «فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ» .
وفى هذا إيماء إلى أنه تعالى يوجد الأسباب لتحقيق ما يريد من المسببات، بحسب السنن التي وضعها فى الخليقة، وأنه يمهل الظالمين، ولا يهملهم كما
جاء فى الحديث «إن ربك لا يهمل ولكن يمهل» .
ثم أشار إلى أنه كان محروسا بعناية الله وكلاءته فقال:
(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي تجرى محفوظة بحراستنا، فقد كانت بمرأى منافنحن نكلؤها ونرعاها، كما يرعى المرء ما يراه بعينه، ويقع تحت سمعه وبصره، ويقول القائل إذا وصّى آخر بأمر وشدد عليه: اجعله نصب عينيك أي اهتمّ به، ولا تهمله.
ثم بين أن هذا هو الجزاء العادل على سوء صنيعهم، وكفرهم بربهم فقال:
(جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أي فعلنا ذلك بهم جزاء كفرهم بآياتنا، وجحودهم بنعمائنا، وتكذيبهم برسولنا.
ثم ذكر أنه أبقى السفينة عبرة لمن بعدهم على كر الدهور والأعوام فقال:
(وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) أي ولقد جعلنا السفينة التي حملنا فيها نوحا ومن معه- عبرة لمن بعده من الأمم، ليدبروا ويتعظوا، ويرعووا أن يسلكوا مسلكهم وينهجوا نهجهم فى الكفر بالله وتكذيب رسله، فيصيبهم مثل ما أصابهم من العقوبة وقد رووا أن الله حفظها آمادا طويلة بأرض الجزيرة على جبل الجودىّ. وقال قتادة: أبقاها الله بباقر دى من أرض الجزيرة حتى أدركتها أوائل هذه الأمة.
ونحو الآية قوله تعالى: «إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ. لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» .
(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) أي فهل من معتبر بتلك الآية الحريّة بالاعتبار، الجديرة بطويل التفكير والتأمل فى عواقب المكذبين برسل الله، الجاحدين بوحدانيته، المتخذين له الأنداد والأوثان.
ثم بين سبحانه شديد نكاله وعقابه فقال:
(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟) أي ما أشد ما أنزلته بهم من البوار والهلاك، وما أفظع إنذارى لهم بما أحللته بهم من النقمة بعد النعمة، وهكذا عاقبة كل مكذب جبار.
ولا يخفى ما فى هذا من شديد الوعيد، وعظيم التهديد، لكل باغ عنيد، ساخط على الرسل، مكذب بربه.
والخلاصة- انظر كيف كان عذابى لمن كفر بي، وكذب رسلى، وكيف انتصرت لهم، وأخذت أعداءهم بما يستحقون؟.