الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المحتويات
إلى ممثلي البلاد الإسلامية
عرجت الى المؤتمر الثقافي (1) العام، الذي قد اشترك فيه ممثلو البلاد وبعثات الامم ووفود النوادي، فرأيت معرضا للجنسيات والوطنيات والحضارات، ورأيتكم أيها السادة المسلمون شامة بين الناس، لا لأنكم تمتازون عن زملاءكم في الشارة واللباس، بل لأنكم تمثلون تلك الأمة العظيمة التي كانت ولا تزال شامة بين الأمم.
كان العالم قبل ثلاثة عشر قرنا سائرا سيره الطبيعي لا ينكر من أمره شيء، فكانت القرى والمدن عامرة بالسكان، وكانت العواصم الكبرى زاخرة العمران، شامخة البنيان، وكانت الحرف البشرية ووجوه المعاش في ازدهار وانتشار. كانت الزراعة وكانت التجارة وكانت الصناعة، فبينما كانت سكة الفلاح في شغل
(1) المؤتمر الثقافي الآسيوي الذي عقد في دهلي في أبريل 1947 م، واشترك فيه ممثلو: مصر، ولبنان، وأفغانستان، وإيران، وتركيا وأندونيسيا من الأقطار الإسلامية.
ونشاط كانت القوافل التجارية غادية رائحة بين الشرق والغرب، وكانت الأسواق مشحونة بالمتاجر والبضائع، وكان الصناعون مكبيِّن على أعمالهم. وكانت الحكومات والامارات والدول غنية بأموالها ورجالها، لكل وظيفة رجل كفؤ بل رجال أكفاء، وكان على وجه الأرض كل نوع من البشر، وكل لون من الحياة، وكل مظهر من مظاهر المدنية، لا يرى في الحياة الانسانية المادية عوز أو فراغ. ولم تكن في المدينة وظيفة شاغرة يترشح لها مترشح جديد، وكانت كأس الحياة مترعة لا تطلب المزيد.
في هذه الحال ظهرت أمة في جزيرة العرب ووجد نوع جديد من البشر، وكأني بالامم المعاصرة وهي تتسائل: أي داع الى ظهور أمة جديدة والامم على وجه الأرض كثيرة منتشرة، وما شغل هذه الأمة الحديثة، وما مهمتها في العالم؟
وكأني بها تقول: إذا كانت هذه الأمة إنما بعثت للزراعة وعمارة الأرض فقد كان في فلاحي الطائف، وأكَّاري مدينة يثرب، وزراع وادي الفرات والنيل وربوع الكنج وجمنا، غنى عن أمة زراعية جديدة، فقد أصبحت أراضي هؤلاء الفلاحين وبلادهم جنة تدر لبنا وعسلا، وإذا كان المسلمون إنما بعثوا ليشتغلوا بالزراعة فقط، فلماذا لم يبعثوا في العراق، وفي مصر،
والهند، وهي بلاد مخصبة زراعية، ولماذا كان مبعثهم في واد غير ذي زرع؟
وإذا كانت هذه الأمة إنما بعثت للتجارة، فقد كان في يهود يثرب وفي أنباط الشام وفي أقباط مصر وتجار السند كفاية، فقد أحكموا فن التجارة وانتشروا في العالم، وإذا كانوا قد بعثوا ليشتغلوا بالتجارة حقا فلماذا لم يبعثوا على طريق القوافل التجارية، وبقرب من أسواق التجارة الكبرى؟
وإذا كانت هذه الأمة إنما بعثت للصناعة وأعمال اليد، فقد كان في قيُون البلاد المتمدنة، وأصحاب الصنائع والحرف - وإنهم لكثير - غنى وكفاية!.
وإذا كانت هذه الأمة إنما بعثت لتنضم الى الحكومات الرومية والايرانية، وتشغل أفرادها وظائف هذه الحكومات ومناصبها، فقد كان في أهل الشام وفارس غنى وكفاية في الادارة، وإنهم يزاحمون الأجانب بالمناكب ويدفعونهم بالراح.
وإذا كانت هذه الأمة بعثت لعيش هنيء، ومطعم شهي، ومشرب مريء، وملبس وضيء، ومسكن بهي، لا لشيء آخر وإنما مناها وهمها أن تلقى لبوسا ومطعما، لم تكن بدعا من الأمم، وكانت منافسة لنا في ميدان الحياة، فحق
لنا أن نقاتلها ونذودها عن مناهلنا، وقد ضاقت بنا، فكيف تسع أمة جديدة؟
وإذا كانت هذه الأمة إنما تحاول ملكا، أو تريد أن تؤسس دولة، فيجب أن تصرح بذلك، وتتخذ له طريق الملوك والفاتحين، ولا تتظاهر بالدين.
وإن الطريق الى كل ذلك - من زراعة، وتجارة، وصناعة، ووظيفة، وحياة بذخ وترف، وملك وشرف - غير الطريق التي سلكتها هذه الأمة الجديدة، فقد سفَّهت أحلامنا، وعابت آلهتنا، ونعت على عقائدنا وأخلاقنا وأعمالنا، ودعت الى دين جديد، وسارت في سبيل ذلك في شوك وقتاد، وجاهدت في غير جهاد.
لقد كان الطريق الى الرفاهية أو الحكومة مسلوكة معبدة، قد سلكتها الأمم من قبل، ومشى عليها الملوك، وأصحاب الطموح في عصرهم، فمن حال بينها وبين هذه الطريق؟ وما الذي عدل بها عن جادة الحياة، وهي معلومة واضحة؟!
هذا ما أظنه تناجى به ضمير الإنسان العاقل في فجر الاسلام ولا ألومه ولا أستغرب هذا السؤال، فإن هذا السؤال طبعي ينبغي أن يهجس في قلب الإنسان، وينطق
به اللسان، عند كل ناشئة فلماذا لا ينشأ هذا السؤال عند ظهور أمة بأسرها؟
ما هو الجواب؟ إذا كان الجواب في الاثبات، وإذا كان مبعث هذه الأمة في الحقيقة بشيء مما ذكرناه ولم تكن لهذه الأمة مهمة جديدة في العالم ورسالة خاصة الى الأمم، كانت هذه الأمة حقا من فضول الأمم، ومن المتطفلين على مائدة العالم.
ولكن الله لم يبعثها لهذا أو لذاك، والأمة والأشخاص لا يبعثون لشيء من هذا، وإنما هي من طبائع البشر، لا تحتاج الى نبوة نبي، ولا بعثة أمة، وجهاد طويل وزلزال عالمي لم يُسبق في التاريخ، زلزال في المعتقد والاخلاق والميول والنزعات، وفي نظام الفكر ومنهاج الحياة.
لقد كان مبعثها لغرض سام جداً، لمهمة غريبة طال عهد الانسانية بها، وتشاغلت أمم الأنبياء عنها حتى نسيتها، وذلك ما خاطب به الله سبحانه وتعالى هذه الأمة:{كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110]! فنبه على أن هذه الأمة ليست نابتة نبتت في الأرض كأشجار برية أو حشائش شيطانية، بل إنها أمة أخرجت ولامر ما أخرجت! وإنها لم تظهر لمصلحتها فحسب كسائر الأمم، بل إنها أخرجت للناس، وذلك ما تمتاز به الأمة في
التاريخ، فما من أمة إلا وهي وليد أغراضها، ورهين بطنها وشهواتها، تعيش لأجلها وتموت في سبيلها. أما الامة الإسلامية فهي أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وتجاهد في سبيل الله.
ظهرت نواة هذه الأمة في مكة - قلب جزيرة العرب - فقام العقلاء من قريش - وهم الآخذون بزمام الحياة في البلاد - ونثروا كنانة فكرهم، وقاسوا الناشئة الجديدة بمقاييسهم التي عرفوها وألفوها، ووزنوها في ميزان الانسانية الذي طالما وزنوا فيه أصحاب الطموح، فوجدوهم خفاف الوزن، طائشي الكفة، وذهبوا الى امام الدعوة الاسلامية، وأول المسلمين في العالم صلى الله عليه وسلم فقال قائلهم:
"إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقت به جماعتهم، وسفَّهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها، لعلك تقبل مناه بعضها".
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد أسمع".
قال: "يا بن أخي، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا. وإن كنت تريد شرفا، سودناك علينا
حتى لا نقطع أمرا دونك. وإن كنت إنما تريد ملكا ملكناك علينا (1).
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك في هدوء وتأن، ثم رفضه في غير شك وتأخير، ولم يكن هذا العرض من قريش على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، بل كان على هذه الأمة التي يمثلها ويقودها. ولم يكن رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرضت قريش، رفضا عن نفسه الكريمة فقط، بل كان رفضا عن أمته الى آخر الأبد.
اقتنعت قريش بهذه المحاورة، ويئست من مساومة هذه الأمة، ولم تعد تعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة وعلى هذه الأمة بواسطة ما عرضته من قبل، وقطعت منها أملها.
وكان بعد ذلك صراع مستمر، ونزاع طويل، ولم يكن نزاعا في أغراض المادة وشهوات البطن، والاستئثار بموارد الرزق، والتغلب على الأسواق، بل كان نزاعا بين الإسلام والجاهلية بمعنى الكلمتين، نزاعا بين حياة العبودية والانقياد لله تعالى ورسوله، وبين الحياة الحرة المطلقة التي لا تعرف قيدا أو لا تخشى معادا ولا حسابا.
(1) البداية والنهاية لابن كثير.
وكان من نتيجة ذلك معركة بدر الحاسمة، وقد قاد النبي صلى الله عليه وسلم الى ساحة القتال جيشا لا يزيد عدد المقاتلين فيه على ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، والجيش المنافس فيه ألف محارب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم يقينا أن لو وكل المسلمون إلى أنفسهم وقوتهم المادية، فالنتيجة معلومة واضحة، نتيجة كل قليل ضعيف أمام قوي كثير العدد.
فزع الرسول الى الله تعالى في إنابة نبي، والحاح عبد، ودعاء مضطر، وشفع لهذه العصابة في كلمات صريحة واضحة، نيرة خالدة، هي خير تعريف لهذه الأمة، وبيان لمهمتها وغرضها الذي خلقت له.
لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو هلكت هذه العصابة، وكانت فريسة للعدو، أقفرت المدينة، وأوحشت أسواقها، وكسدت التجارة، وبطلت الزراعة، أو تعطل شغل من أشغال الحياة، أو وقفت ادارة الحكومات. لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من ذلك، لأن شيئا منها لم يتوقف على المسلمين ولم يقم بهم، بل كان قبل وجود المسلمين ولا يزال في غنى عنهم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر شيئا بعث المسلمون لأجله، وقام بالمسلمين وحدهم، فقال:"اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تُعبد".
أجاب الله دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وقضى بانتصار المسلمين على عدوهم، وبقائهم، فكأنما كان بقاء المسلمين مشروطا بقيام حياة العبودية بهم، وقيامهم بها، فلو انقطعت الصلة بينهم وبين العبادة ورواجها وازدهارها في العالم، انقطعت الصلة بينهم وبين الحياة ولم يبق على الله لهم حق وذمة، وأصبحوا كسائر الأمم خاضعين لنواميس الحياة وسنن الكون، بل كانوا أشد جريمة، وأقل قيمة من الأمم الأخرى، إذ لم يشترط لبقائها وحياتها مثل ما اشترط لهم، وكان كما أخبر الله تعالى:{قل ما يعبؤ بكم ربي لولا دعائكم، فقد كذبتم فسوف يكون لزاما} [الفرقان: 77].
وقد حافظ المسلمون على هذا الشرط، وبروا بهذا العهد، وتذكروا أنهم إنما نُصروا على عدوهم - وقد كان يأتي عليهم ويستأصلهم في ساحة بدر - وتركوا على ظهر الأرض لأن عبادة الله منوطة بهم على أرض الله.
…
بهذه الرسالة انبثوا في العالم، وحملوها الى الملوك والسوقة والأمم، وفي سبيل ذلك هاجروا وجاهدوا، ولأجل ذلك حاربوا وعاهدوا، ولم يزالوا يعتقدون أنهم مبعثون من الله إلى الأمم، وحاملو راية الاسلام في العالم.
أرسل سعد قبل القادسية ربعي بن عامر الى رستم - قائد
الجيوش الفارسية وأميرهم - فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة، والزرابي، وأظهروا اليواقيت واللآلي الثمينة، والزينة العظيمة، وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة، وسيف وترس، وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، وبيضته على رأسه، فقالوا له:
"ضع سلاحك" فقال: "إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا، وإلا رجعت"، فقال رستم:"ائذنوا له" فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرّق عامتها، فقالوا له:"ما جاء بكم؟ " فقال: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد الى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا الى سعتها، ومن جور الأديان الى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه الى خلقه لندعوهم، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا، حتى نفضي الى موعود الله" قالوا: "وما موعود الله"؟ قال: "الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي (1) ".
أباح الله للمسلمين الطيبات، وفسح لهم في طرق الكسب ووجوه المعاش، ولم يضيق عليهم في ذلك، فقال: "قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، قل: {هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم
(1) البداية والنهاية لابن كثير.
القيامة} [الأعراف: 32].
وقال: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} [الجمعة: 10].
ولكن الله لم يبعثهم لذلك أمة، ولم يرضه لهم غاية ومهمة، بل خلقهم للسعي للآخرة، وخلق أسباب الحياة لهم، "إن الدنيا خلقت لكم، وإنكم خلقتم للآخرة" وجعل الحياة وأسبابها خاضعة لمهمتهم التي بعثوا لأجلها، فإذا زاحمتهم في سبيل مهمتهم أو غلبتهم عليها، رفضوها وإذا تلكأ المسلمون في ذلك عاتبهم الله عتابا شديدا وقال:
أراد الأنصار رضي الله عنهم أن يتفرغوا لإصلاح أموالهم، لأيام، اكتفاء بأنصار الإسلام، فعاتبهم الله على ذلك وأنزل:{ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195].
…
قال سيدنا أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: "إنما نزلت فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قلنا في ما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها، فأنزل هذه الآية (1) ".
(1) رواه أبو داود في سننه.
ولكن مع الأسف الشديد، قد تشاغل المسلمون اليوم بالدنيا كالأمم الجاهلية وسَعَوا وراءها، وعقدوا حياتهم بها، فإذا أشرفتم على مدنهم وبلادهم من مرقب عال لم تميزوا بينهم وبين أفراد أمة جاهلية، سعي وراء المادة في غير اقتصاد، واكتساب من غير احتساب، سهر في غير طاعة، وعمل في غير نية، وتجارة في لهو عن ذكر الله، وحرقة في جهل عن دين الله، ووظيفة في الاخلاص لغير الله، وحكومة في مشاقة الله، شغل في ضلالة، وقعود في بطالة، وحياة في غفلة وجهالة.
هل اذا اطلعتم - يا سادتي - على بلاد اسلامية، ورأيتم هذه الأمة في غداوتها وروحاتها الى الأسواق والإدارات، ومصالح الحكومة، عرفتم أنها أمة خلقت لشيء آخر، وبعثت لغرض آخر، أسمى من هذه الأغراض التي يسعى لها الكافر والمؤمن.
إن هذا الأسلوب من الحياة لحجة ظاهرة لأهل الجاهلية على المسلمين، فلو نطقوا لقالوا: "ما ذنبنا، أيها المسلمون! إذ عرضنا على نبيكم المال، والسيادة، والملك، فأبى ورفض كل ذلك؟! ألا نراكم تسعون اليوم وراء الذي رفضه نبيكم بالأمس، كأنما خلقتم لأجله؟ فأي الفريقين أشد ذنبا، أمن عرض على محمد صلى الله عليه وسلم المال والسيادة والملك، تفاديا من الخلاف والنزاع، فأبى ورفض، أو من تهافت على ما رفضه سيده تهافت الظمآن على الماء، والفراش على النور؟. وإذا كنتم اليوم لا يهمكم إلا المال، أو الحياة، أو
الشرف، أو حكم على قطعة أرض، فلماذا تظاهرتم بالأمس بالدين، وأقمتم الدنيا وأقعدتموها لأجله، وكدرتم علينا صفو العيش، لقد كنتم وكنا في غنى عن هذه الحروب الطاحنة التي أيتمت البنين، وأيئمت النساء، وأجلت الناس عن الأوطان!.
أعيدوا إلينا إذا تلك الدماء التي أريقت في ساحة بدر وأحد، وخيبر وحنين، واليرموك والقادسية، وأعيدوا إلينا تلك النفوس التي قتلت باسم الدين، وأعيدوا إلينا تلك الأيام التي كنا نعيش فيها في وئام وهدوء، لا نعرف فيها إلا الأكل والشرب وقضاء مآرب النفس!.
وماذا يكون جوابنا لو تعرض أحد من أخلافهم الأحياء وقال: "ما غَناؤكم أيها المسلمون؟! لقد ساهمتمونا في أسباب الحياة، وخلقتم لنا فوق ذلك مشكلات كثيرة في الحياة السياسية والاجتماعية، ولا نراكم تسدون عوزا، أو تصلحون خللا، وتلمون شعثا، أو تقيمون زيفا في الحياة".
عفوا أيها القراء، وسماحا أيها الكرام، فقد طال العتاب، وقديما قال الشاعر العربي:
وفي العتاب حياة بين أقوام
من المعلوم أن حياة الأمم بالرسالة والدعوة، وإن الأمة التي لا تحمل رسالة ولا تستصحب دعوة، حياتها مصطنعة غير طبعية، وإنها
كورقة انفصلت من شجرتها، فلا يمكن أن تحيا بسقي أو ري:{فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} [الرعد: 17].
إننا - أيها الفقراء - أمة الحاضر وأمة المستقبل، قد كتب لنا الخلود والنصر، لأننا أصحاب دعوة ورسالة نبوية، وهي الرسالة الأبدية التي قضى الله بخلودها وظهورها. فلسنا تحت سيطرة المادة وحكم الزمان، بشرط أن نقوم بدعوتنا، ولنستقبل برسالتنا، ونعود أمة دعوة نبوية كما بدأنا، دعوة في ما بيننا معشر المسلمين، ودعوة في غيرنا من الأجانب في الدين.
لقد تخلفنا عن الأمم المعاصرة في العلوم الطبيعية، والأسباب الحربية، وفي الأخذ بأسباب الرقي المادي بعدة قرون، وقد كانت المسابقة بيننا وبينهم كمسابقة الأرنب والسلحفاة، إلا أن الأرنب كان ساهرا مع خفته وسرعته، والسلحفاة نائمة رغم بطئها وثقلها، فلو حاربنا هذه الأمم اليوم لاستغرق ذلك قرونا، ثم كانت المقارنة بحساب دقيق، فإذا أفاق العدو وسبقنا بشعرة في القوة المادية والعدد الحربية رجحت كفته، لأن المادة عمياء وهي من القساوة والحياد التام بمكان لا تفرق فيه بين المحق والمبطل والشريف والوضيع.
ولكن الدعوة والرسالة - وهي الروح التي تقهر المادة وتسخِّر الأسباب وتستنزل النصر - تأتي بخوارق ومعجزات، وطالما قهرت القاهر وفتحت الغالب، وطالما خضعت الحكومات القاهرة، ودانت الملوك الجبابرة بقوة الدعوة والرسالة للمماليك والصعاليك، وقد جربت ذلك هذه الأمة مرتين بوضوح في التاريخ:
مرة: لما خرج العرب من جزيرتهم الى البلاد الرومية والفارسية في ثياب صفيقة مرقعة، وفي نعال وضيعة مخصوفة، يحملون سيوفا بالية الأجفان، رثة المحامل، على خيل قصيرة، متقطعة الغرز، وسرعان ما
قهرت دعوتهم ورسالتهم وحياتهم الأمم الرومية والفارسية، التي كانت كدمى كُسيت حللا فاخرة، وأعوادا أسندت الى الجدار، لحرمانها من رسالة، وقعودها عن دعوة، وكان الانتصار في الآخر للرسالة على النظام، وللروح على المادة، وللمعنى على الظاهر.
ومرة ثانية: لما قهر التتر - ذلك الجراد المنتشر - العالم الاسلامي من أقصاه الى أقصاه، وخضدوا شوكة المسلمين، فلم تقم لهم قائمة، ولم يقف في وجههم واقف، وكاد المسلمون يصبحون أثرا بعد عين، واستولى اليأس على قلوبهم حتى كان من الأمثال السائرة:"إذا قيل لك أن التتر انهزموا، فلا تصدق" هنالك فعلت الدعوة الإسلامية فعلها، ونفذت فيهم. فإذا القاهر يصبح مقهورا، وإذا الفاتح مفتوح لدين المفتوحين، وإذا التتر يتلفظون بكلمة الإسلام، ويدينون برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، ويصبحون أمة إسلامية.
وإن الرسالة الإسلامية لتأتي بالمعجزات اليوم، وتقهر الأمم طوعا - لا كرها - بسلطانها الروحي ونفوذها العجيب.
إن آباءكم - أيها السادة المسلمون - قد انتشروا في عواصم الجاهلية الأولى، ومراكزها الكبرى، يقولون:"الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد الى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا الى سعتها، ومن جور الأديان الى عدل الإسلام" وخلصوا الأمة الرومية من عبادة المسيح والصليب والأحبار والرهبان والملوك، وخلصوا الأمة الفارسية من عبادة النار وعبودية البيت الكياني، والأمة الطورانية من عبادة الذئب الأبيض، والأمة الهندية من عبادة البقر، وأخرجوها الى عبادة الله وحده، وأخرجوها فعلا من ضيق الدنيا الى سعتها، ومن جور الأديان الى عدل الإسلام، والعالم ينتظر منذ زمان، رسل المسلمين ينتشرون في عواصم الجاهلية الثانية، يهتفون: "الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة المادة والبطن، الى عبادة الله وحده، ومن ضيق عالم التنافس والأثرة والجشع المادي الى سعة عالم القناعة والإيثار والزهد، ونعيم
الروح وطمأنينة القلب، ومن جور النظم السياسية والاجتماعية، الى عدل الإسلام".
هذه هي الدعوة التي تهيب بكم يا رجال العالم الإسلام، وهذه الإنسانية البائسة تستصرخكم وتستغيثكم على أعداءها. وليس العالم اليوم بأقل ظمأ وأقل فاقة الى الدعوة الإسلامية الصحيحة منه بالأمس، وإنه لا يختلف عما كان عليه في القرن السادس المسيحي، فهو غني اليوم في كل ناحية من نواحي الحياة، وفي جميع الحرف والصناعات، وقد ضاق بالأمم والحكومات، وطفح بالاعلام والرايات، وفاض بالحركات والدعوات، وضجر بطغيان الأهواء والنزعات، وثورة الأغراض والشهوات، فهو في ذلك لا يقبل علاوة، ولا يسمح بزيادة، فإذا لم يكن المسلمون إلا أمة من الأمم ليست لهم دعوة الى الله، ولا رسالة للإنسانية المحتضرة، ولم يكن لهم هم إلا أنفسهم وبطونهم، لم يكن هنالك ما يبرر تاريخهم الماضي الذي افتتح بالدعوة الدينية والجهاد في سبيلها، ولا يبرر وجودهم في هذا العصر، فإنما نُصِرُوا واستبقوا بشريطة القيام بالعبادة والدعوة إليها.
والدعوة الى الله هي الناحية الوحيدة التي لا تزال فارغة في خارطة العالم، لا تشغلها أمة ولا دعوة، فإذا عمرها المسلمون أحسنوا الى الإنسانية وإلى أنفسهم، وأمسكوا هذا العالم المتمدن الذي قد كاد يهوي في الهاوية.
…