المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثورة في التفكير - إلى الإسلام من جديد

[أبو الحسن الندوي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌إلى ممثلي البلاد الإسلامية

- ‌مَعْقِل الإنسانية

- ‌المد والجزر في تاريخ الاسلام

- ‌حال العرب قبل الاسلام

- ‌آراء رجال ذلك العصر في العرب

- ‌تغير حال العرب بالاسلام

- ‌اللغز الذي أدهش المؤرخين

- ‌قول المؤرخ جبون:

- ‌قول المؤرخ ستودارد

- ‌قول المؤرخ فيشر

- ‌ويقول مؤلف شيوعي:

- ‌نظرة تحليلية في هذا اللغز

- ‌مسألة العدد

- ‌مسألة العتاد والسلاح

- ‌مسألة تفوق العرب في النظام الحربي

- ‌منبع القوة الحقيقي عند العرب المسلمين

- ‌تفطن عقلاء الناس لسر قوة العرب

- ‌قول هرقل في هذا الأمر

- ‌قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

- ‌قول علي رضي الله عنه

- ‌قول سعد وسلمان رضي الله عنهما

- ‌قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه

- ‌قول أبي عبيدة رضي الله عنه

- ‌قول خالد رضي الله عنه

- ‌ربعي بن عامر في مجلس يزدجرد

- ‌المغيرة بن شعبة يجلس على سرير رستم

- ‌أخلاق الصحابة وسيرتهم التي انتصروا بها

- ‌ما جرى للمسلمين حين نسوا دينهم

- ‌حال المسلمين في القرون الأخيرة:

- ‌إبتلاء المسلمين بالشك والذل النفسي

- ‌ابتلاء المسلمين بعبادة المادة وحب الدنيا

- ‌أسوأ جيل عرفه تاريخ الإسلام

- ‌خاتمة

- ‌بين الصُورة والحقيقة

- ‌ثورة في التفكير

- ‌بين الجباية والهداية

- ‌دعوتان مُتنافستان

- ‌مصرع الجاهلية

- ‌أزمة إيمان وأخلاق

- ‌ردة ولا أبا بكر لها

الفصل: ‌ثورة في التفكير

خاتمة

‌ثورة في التفكير

(1)

إننا - معشر المسلمين - في حاجة الى ثورة، ثورة في التفكير.

منذ قرون طويلة بدأنا ننظر الى أنفسنا كمجموعة بشرية موزعة في العالم، منتشرة في البلاد، ذات قوميات مختلفة، ولغات متنوعة، وثقافات محلية، محاطة بظروف، وأجواء خاصة، "وامكانات" محدودة، تجمع بين فروعها المختلفة، وأسرها المتشتتة "وحدتان" اثنتان لا ثالثة لهما، "العقيدة""والخضوع للغرب، والانحصار عليه في المعيشة والسياسة".

ومنذ مدة طويلة بدأنا نزن أنفسنا، وقيمتنا ومكانتنا في خارطة العالم بهذه الطاقات "والامكانات" وبما نملكه من الوسائل، والمواد الخام، وحواصل البلاد ومنتجاتها، وعدد النفوس والقوة الحربية، فنرى كفتنا

(1) مقال كتبه المؤلف افتتاحية لمجلة "المسلمون" الصادرة في جنيف.

ص: 93

راجحة في اقليم، طائشة في آخر، راجحة في حين، طائشة في حين آخر.

ومنذ مدة طويلة آمنا بسيادة الغرب وقيادته، وأنه أمر مقرر وواقع ليس منه مفر، وآمنا بأنه وضع لا يقبل التحول ولا التطور، وتجدد المثل القديم، وأصبح عقيدة شائعة:"إذا قيل لك أن التتر انهزموا فلا تصدق (1) ".

وأصبحنا لا نفكر في معارضة الغرب، ومناقشة سيادته وجدارته للسيادة، وإذا فكرنا في ذلك - على حين غفلة من العلم، والدراسة والكياسة - استعرضنا طاقاتنا، ووسائلنا والقوة الحربية في بلادنا، وسهمنا من المخترعات الحربية، والطاقات الذرية، فاستولى علينا اليأس والتشاؤم، وآمنا بأننا لم نخلق الا للخضوع والخنوع، ولنعيش على هامش الحياة، وعيالا على الغرب، مرتبطين ومعقودي النواصي بأحد المعسكرين المتنافسين.

هكذا يفكر العرب، وهكذا يفكر المسلمون في باكستان، وفي اندونيسيا وفي تركيا.

وهكذا يفكر الناس في اليابان، وفي الصين، وفي الهند، وفي سيام، وفي بورما.

(1) كذلك الجملة المأثورة الشائعة في المجتمع الاسلامي في القرن السابع عند غزو التتار للعالم الاسلامي، واخضاعه من أقصاه الى أقصاه.

ص: 94

هذا هو التفكير "السليم" وهذا هو المنطق "السديد" - كما يسميه الناس - وهذا هو الاستنتاج العلمي المبني على الدراسة، والايمان بقوة الاسباب، وطبيعة الأشياء.

ولكن هناك جماعة لا تقبل هذا التفكير، ولا تؤمن بهذا المنطق، بل تثور على هذا المنهج الفكري ثورة قوية عارمة، ان لها منهجا - في العمل - مختصا بها، والى هذا المنهج يرجع الفضل في أفضل الثورات، وأصلحها وأقواها في التاريخ، وفي تغير الأوضاع في العالم تغيرا مدهشا، وفي سعادة البشرية بعد الشقاء الطويل، وصلاح المجتمع البشري بعد الفساد الشامل.

ولا أمل للأمم الضعيفة الا في هذا المنهج، ولا مستقبل للأمم - التي تؤمن بالمبادئ، وتحتضن الدعوات - الا في هذا المنهج.

ولنفهم هذا المنهج، وقوته، وفضله، ونتائجه الباهرة للعقول، نرجع قليلا الى الماضي، ونستوحي "الصحف الصادقة"، يولد موسى في مصر في بيئة قاتمة خانقة، قد انطبقت على بني اسرائيل كل الانطباق، وسدت في وجوههم المنافذ والأبواب، حاضر شقي، ومستقبل مظلم، وقلة عدد، وفقر وسائل، وذلة نفوس، عدو قاهر، وسخرة ظالمة،

ص: 95

لا قوة تدافع ولا دولة تحمي، أمة مصيرها معلوم محتوم، قد خلقت للشقاء والفناء.

ويولد موسى، وولادته وحياته كلها تحد لفلسفة الأسباب، ومنطق الأشياء، أراد فرعون أن لا يولد فولد، وأراد أن لا يعيش فعاش، يعيش في صندوق خشبي مسدود، وفي ماء النيل الفائض، وينشأ في حضانة العدو ورعاية القاتل، ويجد به الطلب القوي الساهر، فيفلت وينجو، ويأوي الى ظل شجرة كئيبا غريبا فيجد الضيافة الكريمة، والزواج الحبيب، ويرجع بأهله فيلفه الليل المظلم والطريق الموحش، وتتمخض زوجه فيطلب لها نارا تصطلي بها، فيجد نورا يسعد به بنو اسرائيل، ويهتدي به العالم، يطلب النجدة والمدد لامرأة واحدة، فيجد النجدة والمدد للانسانية كلها، ويُكرم بالنبوة والرسالة.

ويدخل على فرعون في أبهته وسلطانه، وفي ملأه وأعوانه، وهوالمطلوب بالأمس قد تحققت عليه الجناية، وتوجهت اليه الدعوى، وفي لسانه حبسة، وفي موقفه ضعف، فيقهر فرعون وملأه بدعوته وايمانه، وحجته وبيانه، ويلجأ فرعون الى سحرة مصبر ليقهر بفنهم معجزة موسى التي ظنها فنا وسحرا، فاذا بالسحرة خاضعون

ص: 96

خاشعون، يقولون:{آمنا برب العالمين رب موسى وهارون} .

ويؤمر بالخروج ببني اسرائيل والاسراء في الليل من أرض الظلم الى أرض النجاة، ويتبعه فرعون بجنوده، ويصبح موسى والبحر أمامه والعدو من ورائه، ويخوض البحر فينفلق ويكون كل فرق كالطود العظيم، ويعبر موسى وقومه، ويتبعهم فرعون بجنوده فيلتهمهم البحر الهائج.

وهكذا يهلك فرعون وقومه الأقوياء الأغنياء، ويملك بنو اسرائيل الضعفاء الفقراء:{وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها، وتمت كلمة ربك الحسنى على بني اسرائيل بما صبروا، ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون} [الأعراف: 137].

ما هي القوة التي قهر بها موسى أعظم قوة في عصره ومصره، وما سر انتصار بني اسرائيل على أعدائهم، وما سلاحهم الذي واجهوا به العدو القاهر الكاسر، وأخضعوا به المحيط الخانق الثائر؟.

ص: 97

اقرأ قصة موسى - في القرآن - من جديد، تر أن السلاح الذي واجه به موسى فرعون وقومه، وانتصر به بنو اسرائيل وتبوأوا الإمامة والزعامة في مصر وحولها، هو "الايمان""والطاعة""والدعوة الى الله" ويتجلى هذا الايمان وهذه الطاعة والدعوة في ثنايا القصة ومطاويها، وقد تجلى هذا الايمان النبوي في دعوة فرعون وقومه، وبه تغلب موسى على حجاج فرعون ودهائه، هو يريد أن يشغله عن موضوعه ويثير عليه الملأ وهو ثابت على دعوته، ثابت في ايمانه لا يتزعزع ولا يتزلزل، ولا يتحول ولا يتغير، قال فرعون:{وما رب العالمين؟ قال: رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين. قال لمن حوله: ألا تستمعون؟ قال: ربكم ورب آبائكم الأولين، قال: إن رسولكم الذي أرسل اليكم لمجنون. قال: رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون} [الشعراء: 23 .. 28].

ويسأله فرعون عن الأجيال التي مضت، وهو موضوع شائك وسؤال محرج، ولكن موسى يتغلب على دقة الموقف بايمانه الراسخ وحكمته النبوية، فيقول:{علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} [طه: 52]. ويفيض في

ص: 98

الحديث عن الاله الواحد - الذي يفر منه فرعون - فيقول: {الذي جعل لكم الأرض مهدا، وسلك لكم فيها سبلا، وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزوجا من من نبات شتى} [طه: 53].

ويتجلى هذا الايمان في أبرز مظاهره، لما رأى موسى أمامه البحر المائج، ومن ورائه العدو الهائج، فلا متقدم ولا متأخر، وهو وقومه بين طبقتي الرحى، ويناديه بنو اسرائيل في جزع وفي فزع:{قال أصحاب موسى: إنا لمدركون} [الشعراء: 61] ولكنه ثابت الجأش، قوي الإيمان، يعرف أن الله ناصر عبده، منجز وعده، يقول في صراحة وثقة:{كلا، إن معي ربي سيهدين} [الشعراء: 63].

ويعيش بنو اسرائيل في مصر حياة ذل وشقاء، وبؤس وفقر، يعانون أفظع أنواع الظلم والاضطهاد، وأقسى أساليب الحكم والاستبداد، فيؤمرون بالانابة الى الله وتقوية الايمان وتحسين الصلة بالله، ليستحقوا نصره ويوجد في أنفسهم صلاحية الوراثة والخلافة في الأرض: {وأوحينا الى موسى وأخيه أن تبوأا لقومكما بمصر

ص: 99

بيوتا، واجعلوا بيوتكم قبلة، وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين} [يونس: 78].

ولا طاعة أعظم من طاعة موسى، وانقياده واستسلامه للأمر الالهي، يؤمر بالتوجه الى أعظم ملوك عصره - وهو الثائر الموتور، شديد البطش، عظيم السلطان - فيقال:{اذهب الى فرعون إنه طغى} [النازعات: 17] ويتوجه الى بلاط جبار يدعي الربوبية، فيدعوه الى الله الواحد القهار، ويستمر في دعوته وجهاده، وفي وعظه وارشاده، حتى يفتح الله بينه وبين قومه بالحق وهو خير الفاتحين.

لقد كان الايمان والطاعة والدعوة الى الله القوة التي واجه بها موسى "مشكلات عصره" وقهر بها أعظم امبراطورية على وجه الأرض، أرقاها مدنية، وأوسعها رقعة، وأغناها أسبابا، وأعظمها جبروتا.

لو كان موسى - كزعيم لبني اسرائيل - يفكر تفكير الزعماء السياسيين، ويستعرض "الامكانيات" والوسائل التي يملكها قومه، ويزن كل شيء في ميزان الواقع، والحكمة العملية، ولو نظر - وهو الذي نشأ في البلاط الملكي - الى العدد والعدة، والعزة والمنعة، والجنود

ص: 100

والبنود، والثروة والذخائر التي كان يملكها فرعون، وقارن في ذلك بين قومه وقوم فرعون، لما جاز له - في شريعة العقل - أن يواجه فرعون بما يسوءه، ولتحتم عليه أن يقنع بحظه وحظ قومه، ويرضى بالوضع السائد، فلا إيمان ولا صلاح، ولا عدل ولا أخلاق، ولا تقوى، ولا إنسانية.

ولكنه نبي يرشده الوحي، ولكنه مؤمن بقوة الله ويؤمن بنصر الله، ولكنه داعية يفكر تفكير الدعاة، وان هذا المنهج من التفكير والعمل هو الذي غير مجرى التاريخ، وأتى بالمعجزات، وأدهش العقول، وحير الألباب.

ولو كان الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يفكر تفكير الزعماء، ويستعرض الامكانيات والوسائل، التي كانت تملكها قريش، ولو أنه نظر الى الامبراطوريتين العظيمتين اللتين توزعتا العالم المتمدن المعمور: الامبراطورية الرومية، والامبراطورية الفارسية، وما تتمتعان به من حول وطول، وقد عرف قوتهما وسعة مملكتهما - وهو الفقيه الواعي - لما جاز له - في شريعة العقل - أن يتوجه بدعوته الى الانسانية جميعا، ويكتب الى سيِّدَي العالم المعاصر ورئيسي الامبراطوريتين الغربية والشرقية، يدعوهما الى الاسلام، ولبقي الوضع الذي كان يسود من قرون، فمتى تملك

ص: 101

هذه الحفنة البشرية التي آمنت به، القوة التي تضارع قوة الامبراطوريتين بل تفوقها حتى تهزمها وتدحرها؟ والى متى كان يجب عليه أن ينتظر؟ وماذا كان مصير العالم ومصير الانسانية لو اتجه هذا الاتجاه وفكر هذا التفكير؟

لقد شقيت الانسانية اذن شقاء طويلا، وتأخر أو توقف طلوع الصبح الصادق، ولكان للانسانية تاريخ غير هذا التاريخ.

ولكنه صلى الله عليه وسلم نبي يؤمر فيعمل، ويتلقى التوجيه والارشاد من السماء فينفذ، ولكنه مؤمن يؤمن بقوة الله ويؤمن بنصره، ويؤمن بأن الضعيف مع نصره قوي، والقوي يخذل لأنه ضعيف، ويؤمن بقول الله تعالى:{إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده، وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [آل عمران: 160] ويؤمن بقوله: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين} [البقرة: 149] ويؤمن بأن الله قد تكفل بنصر من ينصر دينه، وينهض لاعلاء كلمته، فقال: {يا أيها الذين آمنوا ان تنصروا الله ينصركم ويثبت

ص: 102

أقدامكم} [محمد: 07] وقال: {لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين: إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون} [الصف: 173]، ويؤمن بأن الله قد وعد بالانتصار والغلبة، والعلو والسيادة، لعباده الذين قد تحققت فيهم صفة الايمان، وتجلت فيهم حقيقته، فقال:{ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 139] ولم يعد بشيء من ذلك - من النصر والفتح، والظفر والغلبة، والعلو والسيادة - على الاهواء والنزعات، والطموح والكبرياء وحب المجد - الفردي أو القومي - وشرف الدماء والانساب والبلاد، والعصبيات والقوميات، فلم يتقدم بشيء من ذلك الى العالم ولم يطلب به النصر، مع أنه صلى الله عليه وسلم من أشرف الأمم، وأفضل البيوتات، وأقدس البلاد، إنما تقدم بدعوة دينية، ومنهج خاص للحياة لا غنى للأمم وطوائف البشر عنه على اختلاف أوطانها وألوانها ولغاتها، فخضعت له هذه الأمم وهذه الطوائف من البشر ولم تعقها عن ذلك عصبية أو قومية، لأنه لم يكن من دعاة عصبية أو جاهلية وإنما كان دين عام للإنسانية، وداعي عقيدة ومبدأ ومنهج

ص: 103

فاضل للحياة، ونصره الله على قلة وضعف وفقر، ونصر كل من قام بهذه الدعوة الدينية وبهذا المنهج الخاص للحياة، وتكفل بنصرهم الى آخر الدهر، فقال:{أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون} [المجادلة: 33].

إنني لست ممن يدعو الى رفض الاسباب والتوكل السلبي، ولست ممن يعيش في عالم الخيال والاحلام، ولست ممن ينكر الحاجة الى الاستعداد، وممن لم يقرأ قوله تعالى:{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [الأنفال: 60] وقد لمت العالم الاسلامي ومن تزعمه من الشعوب والدول لوما شديدا في كتابي "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" على التقصير في الاستعداد الحربي والصناعي، والتخلف عن أوربا في ذلك، واعتبرت ذلك سببا من أسباب شقاء الانسانية واتجاه العالم من الرشاد الى الضلال، ومن البناء والازدهار الى الهدم والدمار.

ولكني أعارض هذا التفكير الذي تسلط على عقلية العالم الاسلامي في العهد الأخير، وهو النظر الى الأمم الإسلامية - في مختلف أنحاء العالم - ككتل بشرية شأنها شأن القطعان البشرية الأخرى التي لا رسالة لها في العالم، ولا دعوة لها للأمم، توزن في ميزان الامكانيات والوسائل والاستعداد المادي، وتقوم بما تملكه، من ثروة وذخائر، والتناسي أو الاعراض عن قوتها الكبرى "الايمان، والطاعة، والدعوة الى الله".

ص: 104

إننا يا قوم فقراء ضعفاء متخلفون في العلم والصناعة، وفي الاقتصاد والسياسة، المسافة بيننا وبين الأمم الأوربية مسافة قرون وعهود، فليكن ذلك موضع اهتمام الزعماء والقادة، ولينل ذلك كل عناية ورعاية.

ولكننا في وقت واحد القوة الكبرى في العالم، فعندنا دين هو حاجة البشرية كلها، وعندنا دعوة تنقذ العالم من نهايته الأليمة التي تنتظره وتدنو اليه، وعندنا الايمان الذي يخلق الامانة والشعور بالمسئولية في النفوس ويخلق الدوافع القوية الى عمل الخير وخدمة الانسانية، وقد حرمتها الامم الزعيمة للعالم بعد ما ملكت كل الاسباب والوسائل لعمل الخير، وخدمة الانسانية، فأصبحت هذه الوسائل ضائعة بل متجهة الى القضاء على المدنية والانسانية، وحاجة أوربا في اقتباس هذا الايمان منا أشد وأعظم من حاجتنا الى الاقتباس من صنائعها وعلومها، لأن هذا الايمان هو الاساس، وهو الموجه وهو الضابط؟ وعندنا شريعة تحل جميع المشكلات والازمات التي يواجهها المجتمع البشري في القرن العشرين، وعندنا - أولا وآخرا - نبي أرسل رحمة للعالمين {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور ويهديهم الى صراط مستقيم} [المائدة: 16].

ألا فلنتجه بهذه الدعوة الى أوربا الحائرة التائهة باخلاص ونزاهة، وتوجع وشفقة، وبقوة وثقة وايمان، ولننظر الى أنفسنا كدعاة ومنقذين، مبشرين ومنذرين، ونستخدم هذه القوة الجبارة في تغيير مصيرنا ومصير العالم، ولنحتل بفضلها مكانة الزعامة والقيادة في ركب الانسانية ومصاف الأمم، بعدما عشنا زمنا طويلا في مؤخر الركب

ص: 105

وفي صف التلاميذ والحاشية، ولنتجه بهذه الدعوة المقدسة المنصورة التي اما تقبل فترفع وتؤمن، واما ترفض فتهلك وتقهر، بهذه الدعوة التي أوجب الله على نفسه نصرها ونصر رجالها.

ولنتجه بهذه الدعوة الى مجالات مهجورة، وكنوز مطمورة في آسيا وفي افريقية، الى الشعوب التي ملكت الوسائل والعلم والصناعة، والبلاد الواسعة، والعقول الخصبة، والسواعد القوية، وجهلت الدين والغايات الصالحة، والمبادئ الفاضلة، وهي مستعدة لقبول هذه الدعوة، واذا قبلت هذه الدعوة وفقهتها وأخلصت لها تغير مجرى التاريخ من جديد، كما تغير في العهد الأول باسلام الفرس والترك والديلم، وفي العهد الأوسط باسلام التتار والمغول.

إلا انا في حاجة الى ثورة، الى ثورة في التفكير والمنهج.

***

ص: 106