المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

المحتويات   ‌ ‌مَعْقِل الإنسانية كان وجود الأمة الإسلامية في كل ناحية من نواحي - إلى الإسلام من جديد

[أبو الحسن الندوي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌إلى ممثلي البلاد الإسلامية

- ‌مَعْقِل الإنسانية

- ‌المد والجزر في تاريخ الاسلام

- ‌حال العرب قبل الاسلام

- ‌آراء رجال ذلك العصر في العرب

- ‌تغير حال العرب بالاسلام

- ‌اللغز الذي أدهش المؤرخين

- ‌قول المؤرخ جبون:

- ‌قول المؤرخ ستودارد

- ‌قول المؤرخ فيشر

- ‌ويقول مؤلف شيوعي:

- ‌نظرة تحليلية في هذا اللغز

- ‌مسألة العدد

- ‌مسألة العتاد والسلاح

- ‌مسألة تفوق العرب في النظام الحربي

- ‌منبع القوة الحقيقي عند العرب المسلمين

- ‌تفطن عقلاء الناس لسر قوة العرب

- ‌قول هرقل في هذا الأمر

- ‌قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

- ‌قول علي رضي الله عنه

- ‌قول سعد وسلمان رضي الله عنهما

- ‌قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه

- ‌قول أبي عبيدة رضي الله عنه

- ‌قول خالد رضي الله عنه

- ‌ربعي بن عامر في مجلس يزدجرد

- ‌المغيرة بن شعبة يجلس على سرير رستم

- ‌أخلاق الصحابة وسيرتهم التي انتصروا بها

- ‌ما جرى للمسلمين حين نسوا دينهم

- ‌حال المسلمين في القرون الأخيرة:

- ‌إبتلاء المسلمين بالشك والذل النفسي

- ‌ابتلاء المسلمين بعبادة المادة وحب الدنيا

- ‌أسوأ جيل عرفه تاريخ الإسلام

- ‌خاتمة

- ‌بين الصُورة والحقيقة

- ‌ثورة في التفكير

- ‌بين الجباية والهداية

- ‌دعوتان مُتنافستان

- ‌مصرع الجاهلية

- ‌أزمة إيمان وأخلاق

- ‌ردة ولا أبا بكر لها

الفصل: المحتويات   ‌ ‌مَعْقِل الإنسانية كان وجود الأمة الإسلامية في كل ناحية من نواحي

المحتويات

‌مَعْقِل الإنسانية

كان وجود الأمة الإسلامية في كل ناحية من نواحي العالم رمزا لحقيقة غير الحقائق المادية واللذات الجسدية، وكان كل فرد من أفراد هذه الأمة يعلن للعالم - وليدا أو ميتا - أن وراء القوى المادية قوة سماوية ووراء الحياة الفانية حياة خالدة، فإذا ولد وليد صرخ في أذنه بهذه الحقيقة، وإذا مات فارق الدنيا بهذه الشهادة.

إذا ساد على هذا العالم جمود أشبه بالموت، وغاص الناس في بحر الحياة إلى أذقانهم، واختفت كل حقيقة وراء الحقائق المادية، إذا بصوت يدوي "حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح" فينكسر طلسم العالم المادي، وتتجلى الحقيقة الروحية، ويجري الناس وراء هذا الصوت، وقد نفضوا أيديهم من أشغالهم وخروا أمام ربهم. وإذا ضرب الليل رواقه، ومد النوم أطنابه على هذا العالم الحي الصاخب، فإذا هو مقبرة واسعة ليس بها داع ولا مجيب، إذا بمعين الحياة ينصب في وادي

ص: 23

الموت، فينبلج الصبح الصادق في الليل الغاسق، وتتلقى الانسانية الناعسة من مؤذن الفجر درسا في الحياة والنشاط والكدح والكفاح، والشكر والعبادة، وإذا اعتز أحد بقوته وسلطانه، وزها بكثرة ملئِه واعوانه، وقال بلسان المقال أو بلسان الحال:"أنا ربكم الأعلى" أو "ما لكم من إله غيري" قام رجل متواضع على منصة عالية في كل بقعة من بقاع مملكته، أو نفوذه، ونادى "الله أكبر الله أكبر" فينادي بحكم الله في مملكته ويرغم أنف الاله الكاذب في سلطانه.

إذا هاجرت جالية مسلمة من رقعة من رقاع هذه الأرض، أو أجليت منها، لم يصب نظام المعيشة بشلل أو خلل، وظل الناس يتكسبون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وظلت رحى الحياة تدور دورها الطبيعي، ولكن روح ذلك المجتمع الانساني تفارق جسده فيصير جثة هامدة لا حياة فيها ولا روح، كذلك كان في أسبانيا، وكذلك كان في كل بقعة انسحب منها المسلمون أو أجلاهم عنها أهلها، وهل اسبانيا الحاضرة إلا مدنية بلا روح، وحياة بلا مبدأ، وأمة بغير رسالة للعالم!.

إن المؤمن وحده هو صاحب عاطفة في هيكل العقل والمادة الذي لا يعبد فيه الا النفس والبطن، وهل الحياة الا بالعاطفة؟ وهل الدنيا إذا ماتت العاطفة، وغلب العقل، وحكمت المادة، الا سوق تجارة أو

ص: 24

ميدان حرب؟ فإذا ثار المؤمن للحق كسر طلاسم العقل، وفك سلاسل الكون، وحطم أصنام المادة، وأملى على العالم ارادة الله، فإذا هو مطيع خاضع وإذا هو متواضع خاشع، قلب تيار الحياة وغير وجه التاريخ، وأرغم الكون على أن يسير سيرته.

حالت دجلة في سبيل المسلمين دون المدائن، وكانت السنة كثيرة المدود، ودجلة تقذف بالزبد، فجمع سعد الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال:"ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر اليهم" فقالوا جميعا: "عزم الله لنا ولك على الرشد، فافعل" فندب الناس الى العبور، واذن لهم في الاقتحام، وقال:"قولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه، حسبنا الله ونعم الوكيل، والله لينصرن الله وليه، وليظهرن دينه، وليهزمن عدوه، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"، وتلاحق الناس في دجلة، وهم يتحدثون كما يتحدثون في البر، وطبقوا دجلة حتى ما يرى من الشاطئ شيء (1).

نزل طارق بالأندلس، والبحر وراءه والعدو أمامه، والمستقبل رهيب، والطريق مظلم، والأرض كفة حابل، والعدد زهيد والمدد بعيد، فهزئ بأشباح المادة المخيفة، وعاند العقل، وأمر باحراق السفن التي ترجع به الى بلاده (2)، وعزم على الفتح وأيقن بالنصر، فهزم العدو، وملك الجزيرة الخضراء للمسلمين.

أراد عقبة بن نافع أن يتخذ مدينة في افريقية، يكون بها عسكر المسلمين وأهلهم وأموالهم ليأمنوا من ثورة

(1) الكامل لابن الاثير (ج 3 ص 198).

(2)

نفح الطيب (ج 1 ص 131).

ص: 25

تكون من أهل البلاد، فقصد موضع القيروان، وكانت وحلة مشتبكة، بها من أنواع الحيوان من السباع والحيات وغير ذلك، فدعا الله وكان مستجاب الدعوة ثم نادى: أيتها الحيات والسباع، إنّا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارحلوا عنا، فإنا نازلون، ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه، فنظر الناس ذلك اليوم الى الدواب تحمل أولادها، وتنتقل فرآه قبيل كثير من البربر فأسلموا (1).

خرج محمد بن القاسم - وهو ابن سبع عشرة سنة - لغزو الهند، ومعه حفنة من الناس، والبحار حائلة، وبلاد العدو واسعة الأطراف وعرة المسالك لم يجربها العرب، فهزئ بالمعوقين والمرهبين، وغلب الإيمان القوة وغلب الروح المادة، وإذا بالهند - من السند الى الملتان - خاضعة للمسلمين.

إن العالم كله مدينة الأوهام، والمؤمن وحده هو صاحب يقين لا يزول، وعقيدة لا تتحول، وهو في يقينه في عالم الأوهام، كمصباح الراهب في الغابة المظلمة، ومنارة النور في بحر الظلمات، والجزيرة التي يأوي إليها اليائسون، والطود الذي لا تزحزحه السيول، ولا تزلزله العواصف وقد يتمسك بيقينه، ولا يوافقه على ذلك أحد، ولا يصدقه أحد، فلا تخور عزيمته، ولا تلين عريكته، ولا يرتاب ولا يتلدد، والناس بين معارض ومنتقد، ومطيع كاره، أو مخالف معتزل،

(1) الكامل لابن الاثير (ج 3 ص 334).

ص: 26

وهو لا يحفل بذلك، ويمضي كالسيف، حتى يهزم يقينه ألف جند من الشك، وينقشع سحاب الأوهام، ويظهر يقينه مثل فلق الصبح.

استعمل النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على جيش وأمره بالتوجه إلى الشام، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسر الجيش، وارتدت العرب اما عامة أو خاصة من كل قبيلة، وظهر النفاق واشرأبت يهود والنصرانية، وبقي المسلمون كالغنم في الليلة المطيرة، لفقد نبيهم وقلتهم وكثرة عدوهم، فقال الناس لأبي بكر: ان هؤلاء - يعنون جيش أسامة - جند المسلمين، والعرب على ما ترى فقد انتقضت بك، فلا ينبغي أن تفرق جماعة المسلمين عنك، فقال أبو بكر:"والذي نفسي بيده، لو ظننت أن السباع تختطفني، لانفذت جيش أسامة، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم" فخاطب الناس وأمرهم بالتجهز للغزو، وأن يخرج كل من هو من جيش أسامة إلى معسكره بالجرف، فخرجوا كما أمرهم، وحبس أبو بكر من بقي من تلك القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم، فصاروا مسالح حول قبائلهم وهم قليل، فلما خرج الجيش الى معسكرهم بالجرف وتكاملوا، أرسل أسامة عمر بن الخطاب وكان معه في جيشه الى أبي بكر، يستأذنه أن يرجع بالناس، وقال: إن معي وجوه الناس وجلدتهم، ولا آمن على خليفة رسول الله وحرم رسول الله

ص: 27

والمسلمين أن يتخطفهم المشركون، وقال من مع أسامة من الأنصار لعمر بن الخطاب: إن أبا بكر خليفة رسول الله، ألا فامض فأبلغه عنا، واطلب اليه أن يولي أمرنا أقدم سنا من أسامة، فخرج عمر بأمر أسامة الى أبي بكر، فأخبره بما قال أسامة، فقال: لو خطفتني الكلاب والذئاب لانفذته كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أرد قضاء قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لانفذته، قال عمر: فان الأنصار تطلب رجلا أقدم سنا من أسامة، فوثب أبو بكر - وكان جالسا - وأخذ بلحية عمر وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أعزله؟!

وسار أسامة، وأوقع بناس من قبائل قضاعة التي ارتدت، وغنم وعاد، وكانت غيبته أربعين يوماً، وقيل سبعين، وكان انفاذ جيش أسامة أعظم الأمور نفعا للمسلمين، فان العرب قالوا: لو لم يكن بهم قوة لما أرسلوا هذا الجيش، فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه (1). إن العالم سوق لا رحمة فيها ولا شفقة، ولا مسامحة فيها ولا

(1) الكامل لابن الاثير (ج 3 ص 137 - 138).

ص: 28

كرم، والمؤمن وحده هو الذي يؤثر على نفسه، ولو كان به خصاصة، ويسامح مدينه وعدوه، ويتنازل عن ملك واسع وعرض قريب، طمعا في الأجر، ومحافظة على الكرم.

تغلب ملك كافر على دولة إسلامية في بلاد مالوه بالهند سنة ثلاث وعشرين وتسع مئة، وخرج محمود شاه الخلجي صاحب مالوه من بلاده هاربا عنه الى كجرات، فنهض السلطان مظفر الحليم - وكان الخلجي لا يزال على القلعة - وشرع في المحاصرة وجد في أسباب الفتح، ودخل القلعة عنوة، ووضع السيف فيهم، وكان آخر أمرهم أنهم دخلوا مساكنهم، وغلقوا الأبواب، وأشعلوها نارا واحترقوا وأهليهم، وبلغ عدد القتلى من الكفرة تسعة عشر الفا، سوى من أغلق بابه واحترق، وسوى أتباعهم، فلما وصل السلطان الى دار سلطنة الخلجي التفت اليه، وهنأه بالفتح، ودعا بالبركة في ملكه، وقال له: بسم الله ادخلوها بسلام آمنين، وعطف عنانه خارجا من القلعة الى القباب، وهيأ الخلجي الضيافة، ونزل الى مظفر شاه السلطان وسأله التشريف بالطلوع، فأجابه، فلما فرغ من الضيافة دخل به في الابنية التي هي من آثار أبيه وجده، فأعجب بها وترحم عليهم، ثم جلسا في جانب منه، وشكره الخلجي، وقال: الحمد لله الذي أراني بهمتك ما كنت أتمناه بأعدائي، ولم يبق لي الآن أرب

ص: 29

في شيء من الدنيا، والسلطان أولى بالملك مني، وما كان له فهو لي، فأسألك قبول ذلك، وللسلطان أن يقيم به من شاء، فالتفت السلطان اليه، وقال له: ان أول خطوة خطوتها الى الجهة كانت لله تعالى، والثانية كانت لنصرتك، وقد نلتها فالله يبارك لك فيه، ويعينك عليه، وسأله أركان دولته، أن يستأثر بدولة الخلجي، فالتفت الى محمود، وقال له: احفظ باب القلعة برجال لا يَدَعو أحدا يدخلها بعد نزولي، حتى من ينتسب إلي، وانصرف الى بلاده (1).

العالم بلاد لا يعيش فيها الا من يحمل في جنبه قلبا كأنما قُد من حجر، لا يعرف الحنان والرحمة، ولا يعرف معنى الحب والايثار، والمؤمن وحده هو الذي يحمل في جنبه قلبا يفيض حنانا ورحمة للبشر، ويجمع بين الرحمة والشدة، والصلابة والرقة، وشكيمة الاسد وحنان الام، تخلق بأخلاق الله فجمع بين الرأفة والعزة، والجمال والجلال، وتخلق بأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يغضب لنفسه، حتى اذا تُعدي الحق لم يقم لغضبه شيء، فبينما تراه في ساحة الجهاد كأنه نار في حطب، أو منجل في حقل، ليس له عاطفة ولا قلب، اذا به تراه في الصلاة تهمل عيناه، ويغلي صدره كالمرجل، وتراه يرق للضعيف، ويحنو على الأرملة واليتيم، قد جمع بين حلاوة العسل ومرارة الحنظل، الا أن الأولى له سجية وطبيعة، والثانية له وسيلة وذريعة، فهو ينشد بلسان الحال: واني لحلو تعتريني مرارة (2)، لا يدع السماحة والكرم

(1) نزهة الخواطر للعلامة عبد الحي الحسني ج 4.

(2)

شطر بيت لسيدنا حسان بن ثابت.

ص: 30

حتى مع العدو، ولا يترك التمسك بالأخلاق العالية حتى في ساحة القتال.

هذا صلاح الدين الذي سار مثلا في شدته وجلادته، تستغيث به امرأة اختطف ولدها، فهي تبكي بكاء الثكلى، فيرق لها بطل حطين، ويطوف بها على القبائل والمنازل، حتى تعرف ابنها، وتضمه الى صدرها (1)، ويهدي الى قِرنِه، وأعدى عدوه في العالم "رتشارد" الثلج، والفواكه في مرضه (2).

الناس من خوف الموت في الموت، وأشد من الموت، يعدون هذه الحياة رأس مالهم ومنتهى آمالهم، فليس من الغريب أن يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، حتى إذا جاءه الموت، خرج من الدنيا حزينا متلهفا على ما يفارقه، كارها مستبشعا لما يستقبله. أما المؤمن فهو دائم الحنين الى ربه، شديد الشوق الى جنته، لا يبالي أوقع عليه الموت أم على الموت وقع، يستقبل الموت باسم الثغر جذل القلب، فرحا مستبشرا كأنما هو خارج من السجن، أو عائد الى الوطن.

لما طعن جبار بن سلمى عامر بن فهيرة يوم بئر معونة، فأنفذه، قال عامر:"فزت ورب الكعبة"(3) ولما ضرب ابن ملجم علي بن أبي طالب، قال:"فزت ورب الكعبة"(4).

(1) الفتح القسي في الفتح القدسي: لعماد الدين الكاتب.

(2)

الفتح القسي في الفتح القدسي: لعماد الدين الكاتب.

(3)

طبقات ابن سعد.

(4)

كتاب المتفجعين لمحمود بن محمد بن الفضل.

ص: 31

قام أبو عبيدة في الناس في طاعون عمواس، فقال: أيها الناس، ان هذا الوجع رحمة بكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وان أبا عبيدة سأل الله أن يقسم له منه حظه، فطعت فمات، واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيبا بعده، فقال: أيها الناس، ان هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وان معاذا يسأل الله أن يقيم لآل معاذ حظهم، فطعن ابنه عبد الرحمن فمات، ثم قام فدعا به لنفسه، فطعن في راحته، فلقد كان يقبلها، ثم يقول، ما أحب أن لي بما فيك شيئا من الدنيا (1).

وحضر بلالا الوفاة، فقالت امرأته: واحزناه، قال:"بل واطرباه، غدا نلقى الأحبة محمدا وحزبه"(2)، وكذلك روي عن عمار، أنه كان قال ذلك عند وفاته (3).

المؤمن هو الذي يستطيع أن يفضل الفقر على الغنى، والآخرة على الدنيا، والنسيئة على النقد الحاضر، والغيب على الشهود، والدين على الحياة في كل دور من أدوار التاريخ، مهما بلغت المادة أوجها. ليس لقطر من الأقطار أن يمن على الإسلام بأنه فسح له في أرضه، وإنما الفضل والمنة للإسلام على كل قطر، فقد ألقى عليه درسا في

(1) الكامل لابن الاثير (ج 3 ص 316).

(2)

الغزالي في الاحياء عن ابن أبي الدنيا.

(3)

الطبراني.

ص: 32

التوحيد الذي لا يشوبه شرك، وحب الانسانية العامة واحترامها، ووسع أفق خياله فصار يرى للحياة معنى غير معنى، وللانسانية مستوى أرفع من مستواها القديم، وعالما أفسح من وكره الذي يعيش فيه، إنه وضع عن كل أمة اصرها، والاغلال التي كانت عليها، وأنقذها من العنصرية والجنسية والوطنية، وعبادة المال والبيوتات، والأشجار والأحجار، والحيوانات والأنهار، والأرواح والأجرام السماوية، ومن الرهبنة الفاتكة بالمدينة، والعزبة القاطعة للنسل، وهو الذي طلسم الأوهام التي مضى عليها قرون، ودرج عليها أجيال، أطلق العقل من أساره، ورفع الحجر عن العلم، ونسخ احتكار البيوتات للدين، ورسم في الذهن منزلة العمل الفردي، والسعي الشخصي، واستقلال كل انسان بعمله ومسئوليته، ومن الذي يستطيع أن ينكر أن الفضل في تقدم العالم، وقطع مراحل المدنية والعلم، إنما يعود الى الإسلام. ومن الذي يجهل اليوم أن الفضل في تقدم أوربا وتخلصها من رق الأحبار والرهبان، وسلاسل الكنيسة والحكم المطلق، وفي العكوف على العلوم الطبيعية والتجريبية، والخروج من الهمجية الى الحضارة، إنما يعود الى الأندلس الاسلامية التي ظلت قرونا طوالا مشعل الثقافة، ومنبع العلم، ومدرسة الفن والتهذيب في العصور المظلمة! إن كلمات العدل والمساواة، والانسانية منتشرة ذائعة اليوم في كل ناحية من نواحي الهند، وبارزة على كل صفحة من صفحات أدبائها وكتابها، وخفيفة على لسان كل خطيب ومتكلم، ومن ذا يكابر في أن الاسلام هو الذي عرّف هذه الكلمات الى أهل هذه البلاد، وسعى في رواجها وذيوعها في بلاد لم تكن تعرف هذه الكلمات ومعانيها.

إن المسلمين ليسوا نسلا أو شعبا فحسب، وليس الاسلام عادات وتقاليد وتراثا يتوارثه ولد عن أبيه، انه دعوة ورسالة، وحياة وعقيدة، تقتضي بالطبع، أن يكون نظر المسلم أوسع من الماديات المحسوسات، ومن عالم النفوس والبطون، ووطنه أوسع من المنطقة

ص: 33

الصغيرة التي ولد فيها، وأن يكون قلبه عامرا بحب كل انسان كائنا من كان، وأن لا تكون الاوطان والانساب عائقا، في سبيل حبه وعطفه، وأن لا يكون سعيه منحصرا في نطاق الحياة الضيق، ويلزم لكل من يدين بهذا الدين أن يحمل للبشرية رسالة للروح والقلب، والعاطفة والسياسة والاجتماع، ويملك قوة أخلاقية تراقبها في النور والظلام، والوحدة والاجتماع، والعجز والمقدرة، عنده أساس متين من العلم، وبينات ومحكمات في المدنية، وحياة نبي كان ولا يزال المثل الكامل للبشرية في مختلف ظروفه وأحواله، ومختلف عصوره وأجياله، وكل عصر وقطر، ومفزع الانسانية في كل ساعة عصيبة، وكلما حلت بها أزمة عجزت عن حلها العقول البشرية، والنظم الاجتماعية والسياسية.

إذا حجب الليل النهار، وهجمت جنود الهوى من كل جانب، وهزمت الفضيلة والاخلاق، وإذا أصبح الانسان ينحر أخاه لاجل فلس أو لأجل قرص، وإذا أصبحت الشعوب الكبيرة تزدرد الشعوب الصغيرة في سبيل الجشع أو الخيلاء، وإذا صار وثن المال يعبد على قارعة الطريق، وإذا ضحي بألوف من الناس على أنصاب الجنسية والوطنية، وإذا حال الانسان بين الانسان ورزقه، اذا التهبت نار الشهوات، وانطفأ نور القلب، اذا نسي الانسان الموت، وعكف على الحياة يعبدها، اذا غلا الجماد والمعادن، ورخص الانسان في سوق العالم، فصارت المدن العامرة تسوى بها الارض، وألوف من البشر يقتلون في دقائق وثوان بالقنبلة الذرية. اذا تغلبت الامم الاوربية على العالم، وجعلته بيت المقامرين، أو سوق الجزارين، وعبثت بالانسانية عبث الوليد بجانب القرطاس، وتلاعبت بالامم كالكرة، اذا ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، هنالك يستصرخ هذا الكون المؤمن، ويستغيث به، وهنالك تناديه الانسانية باسم الاسلام الذي طلع كالصبح الصادق في ظلام الليل الحالك، وباسم

ص: 34

محمد صلى الله عليه وسلم الذي أغاث الله به الانسانية في احتضارها وانتحارها، وحفظ به مهجة الانسانية، وأدال به من الجاهلية الجهلاء.

فهل يسمع المؤمن في جزيرة العرب التي أشرقت منها شمس الاسلام، وفي حواضر البلاد العربية في آسيا وافريقيا، وفي الأقطار الاسلامية عامة، صراخ الانسانية وعويلها، فيهب من نومه العميق الطويل الذي مله العالم، ويثب كالاسد، وينقض كالصقر على اعداء الانسانية، إنه بذلك لجدير وبحول الله على ذلك قدير، فهو معقل الانسانية، ومنتهى الرجاء، وأمين الله في الأرض وخليفة الأنبياء.

يدعون سيارا اذا احمر القنا

ولكل يوم كريهة سيار

ص: 35