الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة
ردة ولا أبا بكر لها
(1)
شهد التاريخ الاسلامي حوادث الاسلامي حوادث ردة عديدة، أبرزها وأعنفها ردة القبائل العربية على اثر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، الثورة الكبيرة التي وأدها أبو بكر الصديق في مهدها بايمانه وعزمه الذي ليس له مثيل في التاريخ، ومنها حركة التنصر التي انتشرت في اسبانيا على اثر جلاء المسلمين، والتي ظهرت في بعض الاقطار التي استولت عليها الدول الغربية المسيحية ونشط فيها القسس و "الارساليات" ومنها قضايا شاذة من ارتداد بعض ضعاف العقول وصغار النفوس من المسلمين عن دين الاسلام واعتناقهم للبرهمية أو الآرية في الهند، ولكنها حوادث نادرة جداً، وفي الحقيقة أن تاريخ المسلمين لا يعرف الردة العامة - اذا استثنينا اسبانيا البائسة اذا صح أن نسميها ردة - كما اعترف به مؤرخو الديانات.
(1) مقال كتب افتتاحية لمجلة "المسلمون" وطبع رسالة مفردة، ونقل الى عدة لغات.
وتتسم هذه الحوادث كلها بسمتين: أولاهما المقت الشديد من المسلمين، والثانية الانفصال عن المجتمع الاسلامي، فكان كل من يرتد عن دينه يستهدف لسخط المسلمين الشديد، وينفصل عن المجتمع الاسلامي الذي يعيش فيه بطبيعة الحال، وتنقطع بمجرد ارتداده بينه وبين ذوي قرابته الاواصر والارحام، وكانت الردة انتقالا من مجتمع الى مجتمع، ومن حياة الى حياة، وكانت الاسرة تقاطعه وتهجره وتقصيه، فلا مصاهرة، ولا زواج، ولا اخاء، ولا توارث، وكانت حركات الردة تثير روح المقاومة في المسلمين والمقارنة بين الديانات، والدفاع عن الاسلام، وكل قطر من أقطار المسلمين ظهرت فيه حوادث الردة تحمس علماء المسلمين ودعاة الاسلام وحملة الاقلام فيه للرد عليها وتتبع أسبابها، وعرض محاسن الاسلام ومزاياه، واجتاحت المجتمع الاسلامي موجة عنيفة من السخط والاستنكار والقلق، وكانت هذه الحوادث المقيمة المقعدة للمسلمين وكانت الحديث العام والشغل الشاغل للعامة فضلا عن الخاصة وأهل الغيرة الدينية، هذا ما اتسمت به حوادث الردة، على ندرتها وشذوذها وعلى عدم تأثيرها في الحياة.
ولكن جرب العالم الاسلامي في العهد الأخير ردة اكتسحت عالم الاسلام من أقصاه الى أقصاه، وبزت جميع
حركات الردة التي سبقتها في العنف وفي العموم، وفي العمق وفي القوة، ولم يخل منها قطر، وقلما خلت منها أسرة من أسر المسلمين، هي ردة تلت غزو أوربا للشرق الاسلامي، الغزو السياسي والثقافي، وهي أعظم ردة ظهرت في عالم الاسلام وفي تاريخ الاسلام، منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم الى يوم الناس هذا.
ماذا تعني الردة في عرف الاسلام وفي مصطلح الشريعة الاسلامية؟ هي ابدال دين بدين، وعقيدة بعقيدة، وانكار ما جاء به الرسول وتواتر عنه وثبت بالضرورة من دين الاسلام.
وماذا كان يعفل المرتد؟ ينكر الرسالة المحمدية - على صاحبها الصلاة والسلام - وينتقل الى المسيحية أو اليهودية أو البرهمية، أو يلحد في الدين وينكر الرسالات والوحي والمعاد، هذا ما كان يعرفه العالم القديم أو المجتمع القديم من معاني الردة، وكان كل من يرتد عن دينه يدخل الكنيسة اذا تنصر أو يدخل الهيكل أو معبد الاصنام اذا اعتنق البرهمية مثلا، فيعرف ذلك الجميع، ويصبح شامة بين الناس يشار اليه بالبنان، ويقطع منه المسلمون الأمل، ولا يكون ارتداده - في غالب الأحوال - سرا من الأسرار.
حملت أوروبا الى الشرق الفلسفات التي قامت على انكار أسس الدين وانكار القوة المصرفة لهذا العالم، القوة الواعية التي أخرجت هذا لعالم من العدم الى الوجود وبيدها زمام الكون {ألا له الخلق والأمر} وعلى انكار عالم الغيب والوحي والنبوءات، وانكار الشرائع السماوية، انكار القيم الروحية والخلقية، منها ما تبحث في علم الحياة والنشوء والارتقاء، ومنها ما تتصل بالأخلاق، ومنها ما تدور حول علم النفس، ومنها ما موضوعها الاقتصاد والسياسة، ومهما اختلفت هذه الفلسفات في ألوانها وأهدافها وأسسها، فإنها جميعا تلتقي على النظرية المادية المحضة الى الانسان والى الكون والتعليل المادي لظواهرهما وأفعالهما.
غزت هذه الفلسفات المجتمع الشرقي الاسلامي وتغلغلت في أحشائه وكانت أعظم ديانة ظهرت بعد الاسلام في التاريخ، أعظمها انتشارا وأعمقها جذورا وأقواها سيطرة على العقول والقلوب، وأقبل عليها زهرة البلاد الاسلامية وزبدتها عقلا وثقافة، وأساغتها وهضمتها ودانت بها كما يدين المسلم بالاسلام والمسيحي بالمسيحية بكل معنى الكلمة، فهي تستميت في سبيلها وتقدس شعارها وتجل قادتها ودعاتها، وتدعو اليها في أدبها ومؤلفاتها، وتحتقر كل ما يعارضها من الاديان
والنظم والعقليات وتؤاخي كل من يدين بها، فأفرادها أمة واحدة وأسرة واحدة ومعسكر واحد.
وما هي هذه الديانة - وان أبى أصحابها أن يسموها ديانة -؟ أانكار لفاطر الكون العليم الخبير الذي قدر فهدى، وانكار للمعاد وحشر الاجساد ووجود الجنة والنار والثواب والعقاب، وانكار النبوءات والرسالات وانكار الشرائع السماوية والحدود الشرعية، وانكار أن الرسول الأعظم هو الذي فرض الله طاعته على جميع الخلق وحصر الهداية والسعادة في اتباعه، وان الاسلام هو الرسالة الأخيرة الخالدة المتكفلة لجميع السعادات الدنيوية والاخروية ونظام الحياة الأمثل الأفضل، وهو الدين الذي لا يقبل الله غيره ولا يسعد العالم سواه، وانكار أن الدنيا خلقت للانسان وأن الانسان خُلق لله.
هذه ديانة الطبقة المثقفة التي تملك زمام الحياة في أكثر البلدان الاسلامية، وان لم تكن كلها طبقة واحدة في الايمان بها والتحمس لها، وفيها ولا شك مؤمنون بالله متدينون بالاسلام، ولكن سمة هذه الطبقة التي تغلب عليها مع الاسف وديانة أكثر أفرادها ورؤسائها هي الديانة المادية وفلسفة الحياة الغربية التي قامت على الالحاد.
انها ردة، أعود فأقول: اكتسحت العالم من أقصاه
الى أقصاه وغزت الاسر والبيوتات، والجامعات والكليات والثانويات والمؤسسات، فما من أسرة مثقفة - الا من عصم ربك - الا وفيها من يدين بها أو يحبها أو يجلها، واذا استنطقته أو خلوت به أو أثرته عرفت أنه لا يؤمن بالله، أو لا يؤمن بالآخرة، أو لا يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو لا يؤمن بالقرآن الكتاب المعجز الخالد ودستور الحياة، وأفضلهم من يقول أنه لا يفكر في مثل هذه المسائل ولا يهتم بها كبير اهتمام.
انها ردة ولكنها لم تلفت المسلمين، ولم تشغل خاطرهم، لان صاحبها لا يدخل كنيسة أو هيكلا ولا يعلن ردته وانتقاله من دين الى دين، ولا تنتبه لها الاسرة فلا تقاطعه ولا تقصيه بل يظل يعيش فيها ويتمتع بحقوقها وقد يسيطر عليها، ولا ينتبه لها المجتمع فلا يحاسبه ولا يعاتبه ولا يفصله، بل يظل يعيش فيه ويتمتع بحقوقه وقد يسيطر عليه.
إنها قضية العالم الاسلامي الكبرى، إنها مشكلة الأمة الإسلامية الكبرى، ردة تنتشر وتغزو المجتمع الاسلامي ثم لا ينتبه لها أحد، ولا يفزع لها العلماء ورجال الدين، لقد قالوا قديما:"قضية ولا أبا حسن لها" وأقول: قضية ولا أبا بكر لها.
إنها قضية لا تطلب حربا ولا تطلب تهييج الرأي العام، ولا تطلب ثورة، ولا تطلب عنفا، بل ان العنف يضرها ويهيجها، والاسلام
لا يعرف محاكم التفتيش ولا يعرف الاضطهاد، انها تطلب عزما وتطلب حكمة، وتطلب صبرا واحتمالا وتطلب دراسة.
لماذا انتشرت هذه الديانة في الشرق الاسلامي؟
لماذا استطاعت أن تغزو المسلمين في عقر دارهم؟
ولماذا استطاعت أن تسيطر على العقول والنفوس هذه السيطرة القوية؟ ان كل ذلك يطلب التفكير العميق الدقيق والدراسة الواسعة.
ضَعُف العالم الاسلامي في القرن التاسع عشر المسيحي في الدعوة والعقيدة والعقلية والعلم وبدا عليه الاعياء والشيخوخة. والاسلام لا يعرف الشيخوخة والهرم، انه جديد كالشمس وقديم كالشمس وشاب كالشمس، ولكن المسلمين هم الذين شاخوا وضعفوا، فلا سعة في العلم ولا ابتكار في التفكير والانتاج، ولا عبقرية في العقل، ولا حماسة في الدعوة، ولا عرضا جميلا ومؤثرا للاسلام ومزاياه ورسالته الا النادر القليل.
ولا صلة بالشباب المثقف والتأثير في عقليتهم وهم أمة الغد والجيل المرتجى، ولا محاولة لاقناعهم بأن الاسلام هو دين الانسانية والرسالة الخالدة، وأن القرآن هو الكتاب المعجز الخالد الذي لا تنقضي عجائبه ولا تنفد ذخائره ولا تبلى جدته، وأن الرسول هو العجزة الكبرى
ورسول الاجيال كلها وامام العهود كلها. وان الشريعة الاسلامية هي الآية في التشريع وهي الصالحة لمسايرة الحياة وقضاء مآربها الصالحة والاشراف عليها، وان الايمان والعقيدة والاخلاق والقيم الروحية هي أساس المدنية الفاضلة والمجتمع الكريم، وأن الحضارة الجديدة لا تملك الا الوسائل والآلات، وأن تعاليم الأنبياء هي مصدر العقيدة والخلق والغايات،
ولا مطمع في المدنية الصالحة المتزنة الا بالجمع بين الوسائل والغايات. وفي هذه الساعة هجمت أوروبا بفلسفاتها التي تعب في تدوينها وتهذيبها كبار الفلاسفة ونوابغ العصر، وصبغوها بصبغة علمية فلسفية يخيل الى الناظر أنها غاية ما يصل اليها التفكير الانساني، ومنتهى الدراسات والاختبارات ونتاج العقول البشرية وعصارة التأملات، وكان فيها ما يقوم على الاختبار والمشاهدة وتصدقه التجربة، وما يقوم على الافتراض والتحكم والتخييل والتوهم، وفيها الحق والباطل والعلم والجهل والحقائق الراهنة والتخيلات الشعرية، وليس الشعر محصورا في النظم والقوافي، هو في الفلسفة والعلم أيضا.
ووردت هذه الفلسفات مع الفاتحين الأوروبيين فخضعت لها العقول والنفوس البشرية، وأذعنت لها وقبلتها الطبقة المثقفة في الشرق وفيها من يفهمها وهم القلة
القليلة. وفيها من لا يفهمها وهم الكثرة الكاثرة، ولكن كل مؤمن بها مسحور بسحرها يرى الظرافة والكياسة في اعتقادها ويرى ذلك شعار المثقفين الاحرار.
وهكذا انتشر الالحاد والارتداد في الأوساط الاسلامية من غير أن ينتبه له الآباء والأساتذة المربون وأهل الغيرة لأن أهلها لم يقوموا في كنيسة، ولم يدخلوا في معبد ولم يسجدوا لصنم ويذبحوا لطاغوت، وكان ذلك دليل الارتداد والكفر والزندقة في العهد القديم.
وكان المارقون القدماء يخرجون من المجتمع الاسلامي وينضمون الى مجتمع الديانة التي يدينون بها جديدا، ويعلنون عقيدتهم وتحولهم بصراحة وشجاعة، ويحتملون كل ما يخسرونه في سبيل عقيدتهم الجديدة، ولا يلحون على البقاء في المجتمع القديم ليحافظوا على ما كانوا يتمتعون به من حقوق وحظوظ.
أما الذي يقطع صلته عن دين الاسلام اليوم فلا يريد أن يقطع صلته عن المجتمع الاسلامي، مع أن المجتمع الاسلامي هو المجتمع البشري الوحيد الذي يقوم على العقيدة ولا يتحقق هذا المجتمع من غير عقيدة، ويلحون على أن يعيشوا في مراكزهم متمتعين بثقة هذا المجتمع، متمتعين بالحقوق التي يخولها الاسلام، ان هذا وضع شاذ لم يعرفه التاريخ الاسلامي.
وهنالك نزعات جاهلية ومبادئ جاهلية حاربها الاسلام بكل وضوح، وحاربها الرسول بكل قوة، كالعصبية الجاهلية التي تقوم على وحدة الدم أوالوطن، أو الجنس، وتُمجَّد هذه العصبية ويبالغ في تقديسها والدفاع عنها والقتال تحت رايتها وتوزيع المجتمع الانساني على أساسها حتى تصبح ديانة وعقيدة، وتسيطر على العقول والنفوس والارواح والآداب، ولا شك أنها في عمقها ورسوخها وقوتها وشمولها تنافس الأديان وتستعبد الانسان، وتحبط مساعي الأنبياء وتحدد الدين - الذي جاء ليحكم على الحياة - في العبادات والطقوس، وتقسم العالم الانساني الى معسكرات متحاربة والأمة التي قال الله عنها:{وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} في أمم كثيرة.
لقد حارب الرسول هذه العصبية الجاهلية بكل قوة ومن غير هوادة وأنذر منها وسد منافذها، فلا بقاء للدين العالمي ولا بقاء للامة الواحدة مع هذه العصبيات، ومصادر الشريعة الاسلامية زاخرة بانكارها وتشنيعها، والنصوص في ذلك أكثر من أن تستقصى، وهذا الذ ي يعرف بداهة من الاسلام، والذي عرف طبيعة الاسلام بل عرف طبيعة الأديان عرف أنها لا تسيغ هذه العصبيات، ومن درس التاريخ متجردا عن الميول والمذاهب السياسية
عرف أنها لم تزل ولا تزال من أقوى عوامل الهدم والتخريب والافساد والتفريق بين الانسان والانسان، والمعقول المنتظر من الانسان الذي جاء ليوحد العالم ويجمع النوع الانساني تحت راية واحدة وعلى عقيدة واحدة، ويكوّن مجتمعا جديدا قائما على الدين وعلى الايمان برب العالمين، ويبسط الأمن والسلام وينشر الحب والوئام بين أعضاء الأسرة الانسانية، ويجعلها جسدا واحدا اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، من المعقول جدا من هذا الانسان أن يحارب هذه العصبيات بكل وضوح وصراحة ويجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون.
ولكن العالم الاسلامي أصبح بعد ما غزته أوروبا سياسيا وثقافيا يخضع لهذه العصبيات الدموية والجنسية والوطنية، ويؤمن بها كقضية علمية وحقيقة مقررة وواقع لا مفر منه، وأصبحت شعوبه تندفع اندفاعا غريبا الى احياء هذه العصبيات التي أماتها الاسلام والتغني بها واحياء شعائرها والافتخار بعهدها الذي تقدم على الاسلام، وهو الذي يلح الاسلام في تسميته بالجاهلية وليس في معجمه تعبير أهول وأفظع منها، ويمن القرآن على المسلمين بالخروج عنها وبحَثِّهم على شكر هذه النعمة التي لا نعمة أعظم منها: {واذكروا نعمة الله عليكم اذ
كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} {هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات الى النور وان الله بكم لرؤوف رحيم} .
والطبيعي من المؤمن أن لا يذكر الجاهلية مهما تقادم عهدها أو قارب الا بمقت وكراهية وامتعاض واقشعرار، وهل يذكر السجين المعذب الذي أطلق سراحه أيام اعتقاله وتعذيبه وامتهانه الا وعرته قشعريرة وثارت الذكريات الأليمة القاتمة! وهل يذكر البارئ من علة شديدة طويلة أشرف منها على الموت أيام سقمه الا وانكسف باله وامتقع لونه، وهل يذكر الانسان رؤيا فظيعة مفزعة رآها الا وشكر على أنها حلم زائل وهم راحل، والجاهلية التي تجمع معاني الجهل والضلالة والبعد عن الحقائق وأنواع الخطر والمضار في الدنيا والآخرة أعظم من كل ذلك، وجديرة بأن يثير ذكراها المقت الشديد وتحث على الشكر على التخلص منها وانقضاء أيامها، ولذلك جاء في الصحيح:"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان: أن يكون الله ورسوله أحب اليه مما سواهما، وان يحب المرء لا يحبه الا لله، وأن يكره أن يعود الى الكفر كما يكره أن يقذف في النار".
وقد ذم الله شعائر الجاهلية وأبطالها وعظماءها في غير رفق وتحفظ فقال: {وجعلناهم أئمة يدعون الى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين} يقول: {وما أمر فرعون برشيد، يقدُم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود، وأُتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود} .
ولكن كثيرا من الأقطار الاسلامية والشعوب الاسلامية - بتأثير الفلسفات الغربية والتفكير الغربي وحده - أصبحت تمجد عهدها العتيق الذي سبق الاسلام وحضارته وتقاليده، وتحن اليه، وتحرص على احياء شعائره وتخليد عظمائه وأبطاله وملوكه وأمجاده، كأنه عهدها الذهبي وكأنه نعمة حرمها الاسلام اياها، وفي ذلك من الجحود والنكران للجميل وقلة تقدير نعمة الاسلام وفضل محمد عليه الصلاة والسلام، وتهوين خطب الكفر والوثنية وما اشتملت عليه الجاهلية من خرافات وضلالات وسفاهات ومضحكات ومبكيات ما لا يعقل عن مسلم واع. وما يخاف معه الحرمان من نعمة الاسلام وسلب الايمان والتعرض لسخط الله الشديد وقد قال:
{ولا تركنوا الى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون} .
زد الى ذلك ما يوجد في العالم الاسلامي اليوم من التهور في الحصول على المادة وايثارها على كل مبدأ وعقيدة، وايثار الدنيا على الآخرة، والاخلاد الى الأرض وابتاع الهوى، وما تبع ذلك من التفسخ والاستهانة بمحارم الله وشيوع الخمر والفسوق في الطبقات الراقية، حتى تكاد تكون هذه الطبقة نسخة واحدة وصورة واحدة في كل بلد اسلامي الا من عصم ربك وقليل ما هم، والتحرر من قيود الاسلام وفرائضه تحررا تاما حتى كأنها لا صلة لها بالاسلام وشريعته، وكأنها شريعة منسوخة وأسطورة خيالية.
هذا تصوير العالم الاسلامي الديني والاعتقادي بالاجمال، وهي موجة جاهلية تكتسح العالم الاسلامي من أقصاه الى أقصاه، وهي أعظم موجة واجهها العالم الاسلامي في تاريخه الطويل، وهي تفوق كل موجة معارضة عرفها التاريخ الاسلامي سواءا في قوتها وفي شمولها وفي تأثيرها في المجتمع الاسلامي، وتمتاز عنها بأن المنتبهين لهذه الأخيرة قلائل، والذين ينقطعون الى محاربتها ويجندون لها قواهم ومواهبهم أقل، فقد حدث الالحاد وظهرت الزندقة بتأثير الفلسفة اليونانية في العهد القديم فوجد من يحاربها بعقله الكبير وذكائه النادر وعلمه الغزير ودراسته الواسعة وشخصيته القوية، وظهرت الباطنية والملاحدة فوجد من يحاربها بالعلم والحكمة والبرهان وبقي الاسلام محتفظا بنفوذه العقلي ومكانته العلمية ترتد عنه كل موجة عاتية، وينحسر عن طوده كل فيضان وكل سيل جارف.
ليست المسألة مسألة انحطاط في الأخلاق، وضعف في العبادات، وترك
للشعائر، وتقليد للأجانب، وان كانت مسائل تستحق العناية والجهاد، ولكن مسألة العالم الإسلامي اليوم أعظم وأضخم من كل ذلك، انها مسألة كفر وإيمان، إنها مسألة بقاء على الاسلام وخلع له، ان المعركة قائمة بين الفلسفة الغربية اللادينية وبين الاسلام آخر الرسالات، وبين المادية والشرائع السماوية، ولعلها آخر معركة تقوم بين الدين واللادينية وانها تحدد مصير العالم.
ان جهاد اليوم وان خلافة النبوة وان أعظم القربات وأفضل العبادات أن تقاوم هذه الموجة اللادينية التي تجتاح العالم الاسلامي وتغزو عقوله ومراكزه، وأن تعاد الثقة المفقودة الى نفوس الشباب والطبقات المثقفة بمبادئ الاسلام وعقائده وحقائقه ونظمه، وبالرسالة المحمدية، وأن يُزال القلق الفكري والاضطراب النفسي اللذان يساوران الشباب المثقف، وأن يُقنعوا بالاسلام عقليا وثقافيا، وأن تحارب المبادئ الجاهلية التي رسخت في النفوس وسيطرت على العقول علميا وعقليا، وأن يحل محلها المبادئ الاسلامية باقتناع وايمان وحماسة.
لقد مضى علينا قرن كامل وأوروبا تغتصب شبابنا وعقولنا، وتنبت في عقولنا الشك والالحاد والنفاق وعدم الثقة بالحقائق الايمانية والغيبية، والايمان بالفلسفات الجديدة الاقتصادية والسياسية، ونحن معرضون عن مقاومتها ومعتمدون على ما عندنا من تراث، مضربون عن الانتاج الجديد، معرضون عن فلسفاتها ونظمها ومحاسبتها محاسبة علمية، ونقدها وتشريحها كتشريح الاطباء الجراحين، متعللون بالبحوث السطحية المستعجلة وبالزيادة في ثروتنا العلمية القديمة، حتى فوجئنا في العصر الأخير بانهيار العالم الاسلامي في الايمان والعقيدة، وملك زمام الأمور في البلاد الاسلامية، جيل لا يؤمن بمبادئ الاسلام وعقيدته، ولا يتحمس لها ولا تربطه بالشعب المسلم المؤمن البريء الا "القومية الاسلامية" أوالمصالح السياسية.
وبدأت هذه العقلية أو النفسية اللادينية تتسرب عن طريق الأدب والثقافة والصحافة والسياسة الى الجماهير، حتى أصبحت الشعوب الاسلامية - وفيها كل خير وكل صلاح وكل استعداد وهي من أصلح الكتل البشرية في العالم - خاضعة لهذه الطبقة بحكم ثقافتها وذكائها ونفوذها، وإذا بقي هذا الوضع تسرب الالحاد والفساد الى هذه الشعوب والى الطبقات التي تعيش في البادية والقرى وتعمل في المصانع والمزارع وصارت في طريق اللادينية والزندقة، هذا ما وقع في أوروبا وهو واقع في الشرق اذا جرت الأمور مجراها الطبيعي ولم تحل ارادة الله القاهرة.
ان العالم الاسلامي في حاجة شديدة الى دعوة اسلامية جديدة وان هتاف الدعاة والعاملين فيه وهدفهم اليوم "الى الاسلام من جديد"، ولا يكفي الهتاف، انه لا بد من تصميم حكيم قبل العمل، لا بد من تفكير هادئ عميق كيف نرد الطبقة المثقفة اليت تحتكر الحياة وتملك الزمام الى الاسلام من جديد، وكيف نبعث فيها الايمان والثقة بالاسلام، وكيف نحررها من رق الفلسفات الغربية والحضارة العصرية ونظرياتها اللادينية.
إنه في حاجة الى رجال ينقطعون الى هذه الدعوة ويكرسون عليها علمهم ومواهبهم وكفايتهم، ولا يطمعون في منصب أو جاه أو وظيفة أو حكومة ولا يحملون لاحد حقدا، ينفعون ولا ينتفعون، ويعطون ولا يأخذون، ولا يزاحمون طبقة في شيء تحرص عليه وتتهالك، حتى لا تكون لها حجة عليهم ولا للشيطان سبيل اليهم، شعارهم الاخلاص والتجرد عن الشهوات والانانيات والعصبيات.
ان العالم الاسلامي في حاجة الى منظمات علمية تهدف الى انتاج الأدب الاسلامي القوي الجديد الذي يعيد الشباب المثقف الى الاسلام بمعناه الواسع من جديد، ويحررهم من رق الفلسفات الغربية التي آمن بها كثير منهم بوعي ودراسة وأكثرهم بتقليد وتسليم، ويقيم في
عقولهم أسس الإسلام من جديد، ويغذي عقولهم وقلوبهم، إنه في حاجة الى رجال في كل ناحية من نواحي عالم الاسلام عاكفين على هذا الجهاد.
إنني لم أكن في فترة من فترات حياتي ممن يقول بفصل الدين عن السياسة وممن يفسر الدين لا يتصادم مع وضع - مهما انحرف وشذ عن الاسلام - وينسجم مع كل مجتمع ولا ممن يعتبر السياسة "الشجرة الملعونة في القرآن" بل أنا في مقدمة من يدعو الى ايجاد الوعي السياسي الصحيح في الشعوب الاسلامية وايجاد القيادة الصالحة، وممن يعتقد أن المجتمع الديني لا يقوم الا بالملك الديني الصحيح والحكم الصالح المؤسس على أسس الاسلام، ولا أزال أدعو الى ذلك حتى ألقى الله، إنما المسألة مسألة ترتيب وتقديم وتأخير، وما تقتضيه حكمة الدين وفقهه، وما تفرضه الأوضاع.
إننا بذلنا جهودنا ومواهبنا وما أوتينا من فرص ووسائل في حركات سياسية وتنظيمية، وكان كل ذلك على أساس أن الشعب مؤمن وأن من يقوده ويملك زمامه - وهي الطبقة المثقفة لا محالة - مؤمن مقتنع بالاسلام وعقيدته ومبادئه، متحمس للاسلام وعلوه ونفاذ حدوده، واذا الأمر بالضد، واذا الشعب قد ضعف في ايمانه وانحط في أخلاقه من حيث لم نشعر، ولم يشعر، واذا الطبقة المثقفة ذابت في أكثر أفرادها العقيدة الاسلامية وتبخرت بتأثير فلسفات الغرب وسياسته ونفوذه، وكثير من أفرادها ثائر على العقيدة الاسلامية مؤمن بالفلسفات
الغربية وما جاءت به من عقائد وأفكار تصادم الدين وينتصر لها ويتحمس لها، ويحرص على نشرها وتنفيذها، ويريد أن ينظم الحياة على أساسها وفي ضوئها، ويصل بالشعب اليها، فمنهم مسرع متهور، ومنهم حكيم متدرج، ومنهم منفذ بالقوة يفرضها على الشعب فرضا، ومنهم هادئ يزينها للشعب، والهدف واحد والغاية واحدة.
ورجال الدين - ان صح هذا التعبير اذ ليس في الاسلام الكهنوت والطبقة الدينية الممتازة - في ذلك فريقان: فريق يحارب هذه الطبقة حربا شعواء ويكفرها ويبتعد عنها، ويعرض عن تتبع أسباب هذا الاتجاه اللاديني وعن ثقافتها، ولا يعنى باصلاح الاحوال وتغيير هذا الاتجاه المعارض والمحارب للاسلام، بالاختلاط بها وازالة الوحشة والنفور عن الدين وعن رجال الدين، وتشجيع ما عندها من خير وذرة ايمان وتغذيتها بالادب الاسلامي الصالح المؤثر، وبالزهد فيما عندها من حاية أو مال وقوة وسلطان، وتقديم النصح الخالص والتوجيه الحكيم.
وفريق يتعاون معها ويساهمها في المنافع والخيرات وينتفع بها في دنياه من غير أن ينفعها في دينها، فلا دعوة ولا عقيدة ولا غيرة على الدين، ولا حرص على الاصلاح ولا رسالة لها في هذا القرب والتعاون.
والفريق الثالث - الذي يتألم بهذا الوضع ويتوجع له، ويعترف بأن هذه الطبقة مريضة صالحة للتداوي مستعدة للشفاء، ويتقدم اليها بالدعوة الرفيقة والرسالة الحكيمة والنصيحة الخالصة - يكاد يكون مفقودا، فلا صلة لهذه الطبقة بالدين وبالجو الديني، تعيش في عزلة عنه وفي وحشة منه، ولا تزداد الا بعدا عن الدين وازدراءا بكل ما يتصل به، ويزيدها الفريق الذي يحاربها حربا شعواء لا هوادة فيها، والفريق الذي يتزعم الدين ويريد أن ينزع منها الحكم وينافسها في الجاه والمنصب، لا يزيدها الفريقان الا بغضا للدين واشفاقا منه، والانسان مفطور على بغض من ينافسه في دنياه، اذا كان لا يؤمن الا بالدنيا، وينتزع منه الحكم والسلطان اذا كان لا يعيش الا على الحكم والسلطان، ويساهمه في مادته وشهواته اذا كان لا يعرف الا المادة والشهوات.
والأقطار الاسلامية اليوم بحاجة الى فريق يتجرد عن المطامع ويخلص للدعوة، ويبتعد عن كل ما يوهم بأن همه الدنيا والمادة والتغلب على الحكومة لنفسه أو عشيرته أو حزبه، يحل العقد النفسية والعقلية التي أحدثتها الثقافة الغربية أو أخطاء "رجال الدين" أو سوء التفاهم أو قلة الدراسة والابتعاد عن الاسلام وجوّه، وذلك بالمقابلات والصداقات والمحادثات والمراسلات والرحلات، وبالأدب الاسلامي الصالح المؤثر وبالروابط الشخصية، وبالنزاهة وعلو الاخلاق وقوة الشخصية والزهد في حطام الدنيا والعزوف عن الشهوات وتمثيل أخلاق الأنبياء وخلفائهم.
هذا هو الفريق الذي خدم الاسلام في كل عصر، واليه يرجع الفضل في تغيير اتجاه دولة بني أمية وظهور خامس الخلفاء الراشدين "عمر بن عبد العزيز" ونجاحه، وقد أعيد هذا التاريخ في عصر الملك المغولي الأكبر جلال الدين أكبر الذي ثار على الاسلام وصمم على تحويل هذه القارة الاسلامية الواسعة (الهند) التي عاشت في الحكم الاسلامي أربعة قرون، جاهلية برهمية، ولكن بفضل هذه الدعوة الحكيمة وبظهور داعية اسلامي مجدد وشخصية اسلامية حكيمة (1) أخلصت للإسلام وأحسنت فقهه وفقه الدعوة، وبتأثير تلاميذه عادت الهند الى الاسلام أقوى وأفضل، وتوالى على عرش "أكبر" ملوك يتدرجون في الصلاح وحب الاسلام حتى جاء على العرش ملك يتجمل تاريخ الاسلام وتاريخ الاصلاح بذكره وحديثه (2).
إنها فريضة لا تحتمل التأخير ولا تأخير يوم واحد، فالعالم الاسلامي يواجه اليوم موجة ردة عنيفة منتشرة في أعز أبنائه وأقوى أجزائه، إنها ثورة على أعز ما يملك من عقيدة وخلق وقيم، ولا بقاء للعالم الاسلامي بعد ضياع هذه الثروة التي خلفها الرسول وتوارثتها الأجيال وجاهد في سبيلها أبطال الاسلام.
فليكن الموضوع موضع دراسة واهتمام لجميع من يهمهم أمر الإسلام.
(1) هو العالم الرباني المجدد الكبير الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي المتوفى عام 1034 هـ.
(2)
هو الملك الفاضل الصالح القوي الأمين "محيي الدين أورنك زيب" المشهور "بعالمكير" الذي تنسب اليه "الفتاوى الهندية" المتوفى عام 1118 هـ.