المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

خاتمة   ‌ ‌مصرع الجاهلية من الأساطير التي سمعنا في الصغر، وبقيت في غضون - إلى الإسلام من جديد

[أبو الحسن الندوي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌إلى ممثلي البلاد الإسلامية

- ‌مَعْقِل الإنسانية

- ‌المد والجزر في تاريخ الاسلام

- ‌حال العرب قبل الاسلام

- ‌آراء رجال ذلك العصر في العرب

- ‌تغير حال العرب بالاسلام

- ‌اللغز الذي أدهش المؤرخين

- ‌قول المؤرخ جبون:

- ‌قول المؤرخ ستودارد

- ‌قول المؤرخ فيشر

- ‌ويقول مؤلف شيوعي:

- ‌نظرة تحليلية في هذا اللغز

- ‌مسألة العدد

- ‌مسألة العتاد والسلاح

- ‌مسألة تفوق العرب في النظام الحربي

- ‌منبع القوة الحقيقي عند العرب المسلمين

- ‌تفطن عقلاء الناس لسر قوة العرب

- ‌قول هرقل في هذا الأمر

- ‌قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

- ‌قول علي رضي الله عنه

- ‌قول سعد وسلمان رضي الله عنهما

- ‌قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه

- ‌قول أبي عبيدة رضي الله عنه

- ‌قول خالد رضي الله عنه

- ‌ربعي بن عامر في مجلس يزدجرد

- ‌المغيرة بن شعبة يجلس على سرير رستم

- ‌أخلاق الصحابة وسيرتهم التي انتصروا بها

- ‌ما جرى للمسلمين حين نسوا دينهم

- ‌حال المسلمين في القرون الأخيرة:

- ‌إبتلاء المسلمين بالشك والذل النفسي

- ‌ابتلاء المسلمين بعبادة المادة وحب الدنيا

- ‌أسوأ جيل عرفه تاريخ الإسلام

- ‌خاتمة

- ‌بين الصُورة والحقيقة

- ‌ثورة في التفكير

- ‌بين الجباية والهداية

- ‌دعوتان مُتنافستان

- ‌مصرع الجاهلية

- ‌أزمة إيمان وأخلاق

- ‌ردة ولا أبا بكر لها

الفصل: خاتمة   ‌ ‌مصرع الجاهلية من الأساطير التي سمعنا في الصغر، وبقيت في غضون

خاتمة

‌مصرع الجاهلية

من الأساطير التي سمعنا في الصغر، وبقيت في غضون الذاكرة وبعض ثناياها، أن رجلا اعتدى عليه عفريت من الجن بمثل ما كان يعتدي به الجن على البشر، فبرز الرجل بكل ما أوتي من حول وطول، وبكل ما قدر عليه من سلاح وشكّة ليقتله.

هجم الرجل على العفريت بكل سلاح ماض، وسيف باتر، وسهم مصيب، ونثر كنانته، ولم يدع في القوس منزعا، ولكنه لم ينكأ عدوه ولم يصب منه مقتلا، وما زال الرجل يعيد الكرة بعد الكرة، ويجرب سلاحا بعد سلاح، والعفريت ساخر منه غير محتفل به كأنه من نفسه على أمان، ومن سهام الرجل وهجماته في حصن حصين.

حار الرجل في أمره وأعياه أمر العفريت، وكاد يقطع من قتله الرجاء اذ أخبره العقلاء أن روح هذا العفريت في حوصلة ببغاء، وهذه الببغاء في قفص من حديد، وهذا القفص معلق في غصن شجرة، وهذه

ص: 141

الشجرة في غابة كثيفة يسكنها سباع ضارية، وحيات فتاكة، وعقارب سامة، ودونها خرط القتاد وحولها شُمّ الجبال.

وما زال الرجل يطلع جبلا بعد جبل، ويقطع واديا بعد واد، ويقتل وحشيا بعد وحشي، حتى خلص الى هذا القفص، وخنق هذه الببغاء ولم يكد يقتلها حتى حدثت رجة عظيمة دارت بها الأرض الفضاء، وأظلمت بها آفاق السماء، وصاح العفريت صيحته الأخيرة، وكان جثة هامدة لا حراك بها، وهكذا قتل الرجل عدوه بعدما لقي منه عرق القربة.

لعلك سمعت هذه الأسطورة من عجوز في بيت تحكيها لاحفادها أو أسباطها فمررت بها مستهزئا وقلت:

حديث خرافة يا أم عمرو.

نعم إنها لحديث خرافة، وأسطورة من أساطير الأولين، ولكنها تفيدنا بأن كل حي له مقتل ووريد، ولا يؤثر فيه عدو، حتى يصيبه في مقتله ويقطع منه الوريد، وأن دون ذلك المقتل وحول هذا الوريد حواجز وحصونا.

قد تسلط على الأمة الإسلامية عفريت من الحياة الجاهلية، واعتدى عليها بصنوف من الخبال، وضروب من الأذى والوبال، ظهرت في كثير من أخلاقها وأفعالها،

ص: 142

كاستخفاف بأحكام الشرع، وتجرؤ على المعاصي، ووقوع في محارم الله، واستعباد لعباد الله، وامعان في الشهوات، واسراف في سبيل المتع واللذات، وتهافت على الخسائس والرذائل، وفرار عن مكارم الأخلاق والفضائل، {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا} [الأعراف: 146].

والناس طبقات: عامة، وأوساط، وعظماء.

فأما العامة فمساكين تدور حولهم رحى الحياة بسرعة، لا يرفعون فيها الى الدين والسعادة الأخروية والاستعداد للموت رأسا، وإنما همهم أن يؤدوا ضرائبهم، ويجمعوا لأيام فراغهم ويكسبوا قوت يومهم، ويكسوا عيالهم، فهم يكدحون في الحياة كدح الحمير والثيران، لا يتعبون الا للراحة الموهومة، ولا يستريحون الا للتعب الواقع، فهم من البيت الى الدكان، ومن الفراش الى المصنع أو السوق أو الإدارة، ومن نصب الى نصب، ومن هم الى هم، لا تنتهي همومهم ولا تنقضي متاعبهم، حتى اذا جاءتهم الساعة بغتة، قالوا: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها.

وأما الأوساط فهم أسوأ منهم حالا وأكدر منهم بالا، عذبهم الله بالحرص والجشع، ينظرون دائما الى من

ص: 143

فوقهم ولا ينظرون أبدا الى من دونهم، فهم في هم متواصل، وأحزان متسلسلة، وشقاء مستمر، وتذمر جار، وشكوى قائمة، وأنين باق، يجرون في رهان لا تنتهي، ويسابقون جيادا لا تكل ولا تسبق، ولا يزال قصب السبق بعيدا، كلما انتهوا الى غاية راوا غاية أخرى، فجروا وراءها وهي تبتعد عنهم، كما يبتعد الأفق من الطفل الذي يحاول مسكه، وشعاع الشمس الذي يجتهد لقبضه، وهكذا يتفلت منهم "المثل الأعلى" في الغناء والثروة، والرخاء والجاه، فيموت الواحد منهم كثيبا منكسرا، ولم يتسعد ليوم الجد ولم يأخذ لنفسه عدتها ويأتيه الموت فيقول:{رب لولا أخرتني الى أجل قريب، فأصدّق وأكن من الصالحين} [المنافقون: 10].

وأما العظماء - من الملوك وأبناء الملوك والأمراء - فإنهم يريدون أن يتلهموا الدنيا طولا وعرضا، وينتهبوا المسرات جريا وركضا، لا يشفى عليلهم ولا يروى غليلهم، وهم من دقائق الراحة الى دقائق، من بدائع الى بدائع، ومن ابتكار الى ابتكار، ومن لذيذ في الطعام والشراب الى ألذ، ومن حديث من مستحدثات المراكب والقصور والأزياء الى أحدث، لا تكفيهم في ذلك موارد

ص: 144

قطر بأسره ومنابع ثروة أمة بطولها، حتى يلجأوا الى استقراض وتجارات وضرائب جديدة وأتاوات، ولا يبالون في سبيل ذلك أن يرهنوا بأيدي عدوهم رداء الزهراء، أو كساء أبي ذر، أوشملة أُوَيس، أو مصحف عثمان، أو صمصامة عمرو بن معدي كرب، أو رمح الزبير، أو بردة كعب بن زهير، ويهيئوا صبوحا أو غبوقا.

وقد هجم على عفريت الجاهلية جيش من المصلحين فصاحوا به من كل جانب، ورموه عن قوس واحدة، ولكن لم ينكأوا عدوهم ولم يصيبوا منه مقتلا.

ألقى الوعاظ والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر دروسا في الأخلاق، وأحاديث في الترغيب والترهيب، طمعوا الناس في الجنة، وحذروهم من النار، بشروهم بالوعد، وخوفوهم من الوعيد، فسمع الناس كل ذلك في هدوء ولم يحرك منهم ساكنا ولم يغير منهم خلقا.

ألف المؤلفون كتبا جاءوا فيها بكل رقيق مرقِّق، أوردوا فيها حكايات زهد العُمَرين، وتقشف علي بن أبي طالب، ومواعظ الحسن البصري، وكلمات ذي النون المصري، ورقائق الفضيل بن عياض، وزهديات أبي العتاهية، وفصاحة الواعظ ابن الجوزي، وتحليل الامام الغزالي.

ص: 145

قوارع تبري العظم من كلم مض.

فقام الأغنياء والأمراء وأبناء الملوك فاقتنوا هذه الكتب، وزينوا بها مكاتبهم، وتحدثوا عنها الى ندمائهم وزائريهم في لباقة ورشاقة، ولكن لم تنفذ سهامها من العيون الى القلوب، ولم تجاوز أحاديثها تراقيهم.

قام الخطباء البارعون فألقوا خطبا أسمعت الصم واستنزلت العصم، فسمعها هؤلاء وأثنوا على براعتهم وفصاحتهم، ومضوا لسبيلهم لم يبكوا على زلة ولم يقلعوا عن سيئة، ولم يحدثوا لله عهدا.

لقد كان - والله - أقل من هذا يهز القلوب في الجوانح. ويستفرغ الدموع من العيون، ويرجف القصور، ويقلب عروش الملوك، ويجعل من أبناء السلاطين والأمراء مثبل ابن أدهم وشقيق البلخي، يسمع أحدهم وهو خارج من قصر أو رائح الى لهو قارئا يقرأ:{ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} [الحديد: 16]، فيقول: والله لقد آن، والله لقد آن، ويرمي آلات اللهو، ويخرج من أبهة الملوك وحشمة السلاطين الى تبذل الفقراء وتقشف الزهاد.

ص: 146

فهل فقدت الألفاظ على تعاقب الأيام معانيها، أم اعتلت الأذواق، أم استعجمت اللغات، أم ماذا؟

إن شيئا من ذلك لم يقع، ولكن نفسية الانسان تغيرت تغيرا عظيما. كان أمر الدين في الزمان الماضي - برغم جميع أدوائه وعيوبه الخلقية والاجتماعية - جدا غير هزل، وكان أمر الدين يعني كل واحد ويهمه كما تهم الحقائق والأمور الواقعة، وكان في بعض الأحيان حجب من الترف والطبع والرسم وسوء المعرفة وقلة العلم، فاذا ارتفعت هذه الحجب وتطرقت دعوة الدين الى القلوب لم يحل دون التوبة واصلاح الحال شيء.

أما الآن فقد أصبح الدين موضوعا تاريخيا أو حديثا علميا بحتا، وأصبح الحديث عنه في المجتمع العصري كالحديث عن كوكب المريخ وعجائبه وعن القطب الشمالي وأخباره، لا يعود على المتحدث والمستمعين بضرر أو نفع، ولا يطالبهم بعمل أو ترك، ولا يمسهم في صميم مسائلهم، ولا يعني الانسان لا يهمه في حياته الا بمقدار ما يتظرف بمعرفته ودراسته في بعض المجالس، أو ما يحادث به أهله عند الحاجة، أو ما يجلب به نفعا ويدفع به ضرا في مجتمع لا يزال يدين بالدين أو يحترمه، فليس له الا قيمته المادية المؤقتة.

ص: 147

وأصبحت الحياة وتكاليفها جد الجد ولب اللباب، وأصبحت مسائلهم همّ الشيخ ودرس الصبي وشغل الشاب، وأصبح الجهاد في سبيلها والنجاح في ميدانها مقياس الفطنة والذكاء ومعيار الظرافة، واللباقة، ورمز المروءة والشهامة.

وهنا يقف الداعي الديني حائرا في أمره كيف يواجه هذه العقلية الهامدة والنفسية الباردة في سبيل الدين، أنه واجه العقول الثائرة على الدين فأخضعها ببراهينه، ووجد شكوكا وريبا تمكنت من النفوس، فسلَّها بحكمته وملأ القلب ايمانا وطمأنينة، ولكن ههنا يجد نفسه في موقف غريب لم يعهده، فلا انكار ولا جحود، ولا اباء ولا استكبار، ولا عناد ولا اعتراض، ولا دليل ولا فلسفة، ولكن حياد تام في مسألة الدين، واستغناء عن كل ما يتصل بالآخرة، واخلاد الى الأرض ورضى بالحياة الدنيا واطمئنان بها.

هنا يقف الداعي حائرا في أمره كيف يواجه هذه النفسية ومن أي باب يدخلها، انه يجد حولها غشاء من حب الدنيا والمال فلا سبيل اليها ولا نفوذ فيها الا بطريق الدنيا والمال، وأن سبيل الدين غير سبيل المال، وأن طريق الغيب غير طريق الحس والشهود، فماذا يصنع ومن أين يبدأ؟

ص: 148

ان ألقى القوم نصائحه ووجه اليهم خطابه وحكمته، ونثر كنانته في الدين وأجلب عليهم بخيل العلم والبراهين، ذهب كل ذلك فيهم سدى، وأجابه لسان الحال قائلا:{قلوبنا في أكنة مما تدعونا اليه، وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب، فاعمل إننا عاملون} [فصلت: 05].

قرأنا في حكايات "ألف ليلة وليلة" أن سندباد البحري وجد بيضة عنقاء، فظنها لكبرها وضخامتها وملاستها قصرا من الرخام، فدار حولها لعله يجد بابا يدخل منه في داخل القصر، ودار مرارا عديدة ولكنه لم يجد بابا، وعرف بعد ذلك أنها بيضة عنقاء، لا قصرا من القصور.

كذلك يدور الداعي حول هذه النفسية المستديرة التي استهوتها الدنيا وغشى عليها حب المال أو الجاه، فلا يجد فيها منفذا ينفذ منه الى النفسية وينزل في أعماقها، فيقطع منها الرجاء، وينقلب منها خاسئا وهو حسير.

اذن روح هذا العفريت الجاهلي، هو الاخلاد الى الأرض، الرضى بالحياة الدنيا والاطمئنان بها، وعبادة المال والمادة.

هذا مقتل هذا العفريت وهذا أبهره ووريده.

ص: 149

وإنما ضاعت فصاحة الفصحاء، وخطابة الخطباء، وبلاغة المؤلفين وأصحاب اليراع، واخلاص المخلصين وحكمة الحكماء، لأنهم لم يضربوا على الوتر الحساس ولم يصيبوا العدو في مقتله.

بلغت المادية أوجها في عهد الاستيلاء الأوربي، وأصبحت فلسفة وفنا وحياة ودنيا، وليس من مظهر من مظاهر حياتها ولا مركز من مراز نشاطها اليوم الا والفضل فيه يرجع الى أوربا وسيطرتها السياسية والاقتصادية مباشرة أو بواسطة، والى غزوها التجاري العالمي.

نافس تجار الغرب بدافع من حب الغنى والثروة، واحتكار الأموال في الصناعة والانتاج، وغزوا ببضائعهم الشرق وامتصوا بها دماءه، ولم يقض ذلك لبانتهم لأن نطاق الضرورة ضيق، والجشع ما له نطاق، فنافسوا في انتاج دقائق المدنية وفضول الصنائع وكماليات الحياة وصبوها على الشرق صبا، واستهلكوا في ترويجها كل ذكاء وأدب وفلسفة وسياسة، واستغلوا سذاجة الشرق وحبه للدعاية والفخر، فما لبثت هذه الدقائق والكماليات أن دخلت في أصول المعاش ولوازم الحياة في الشرق، وأصبح الذي لا يتحلى بها لا يعد من الاحياء ولا يعامل في المجتمع معاملة سواء، وأخذت بتلابيب الشرقي وأذهلته عن

ص: 150

الدين والآخرة وعن كل شيء غيرها في الدنيا، وأهاجت عليه هموما لا أرجاء لها، وبعثت فيه شرها للمال لا نهاية له، وأصبحت عليه الحياة جحيما لا يسمع فيها الا: هل من مزيد.

وما يكاد الشرقي يصل الى هذه المنتجات وشروط الحياة الا على جسر من المتاعب والمصائب، وعلى طريق من شوك وقتاد، ولا يكاد يتحلى بها الا وتصبح هذه المستحدثات آثارا عتيقة وأطمارا بالية، ويهجم عليه الغرب بطراز حديث من المنتجات والمصنوعات، فينكص على عقبيه ويتزود لاقتنائها بالمال اللازم - بوجه مشروع أو غير مشروع - ولا يكاد يطلع بها على مجتمعه الا ويرحل المنسوخ ويحل الناسخ، وهكذا لا يزال من حياته في جهاد مضن شاق ومع المصانع الغربية والتصدير الغربي في رهان دائم، يسبقه فيلحقه ويلحقه فيسبقه، ولا يزال من عيشه في مضض وغصص يتجرعه ولا يكاد يسيغه، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت.

أفسدت المدنية الغربية والتجارة الغربية طبائع أهل الشرق وأذواقهم، على اختلاف أجناسهم وأوطانهم، ألانت منهم القناة وأطفأت فيهم جمرة الحياة، أذهبت منهم التمعدد العربي والتجلد العجمي، وأحدثت فيهم التخنث والتأنث الأوربي، وأصبحت الفروسية العربية،

ص: 151

والنخوة التركية، والفتوة الفارسية، والبطولة الهندية، والغيرة الافغانية حديثا من أحاديث التاريخ، وأصبحت الحياة في حواضر الشرق، بل وفي بواديه نسخة قاصرة ممسوخة من الحياة الغربية المصطنعة، لها ضراؤها، وليست لها سراؤها، ولها الغرم دون الغنم.

أصبح الناس في كل البلاد في تيار الحضارة الغربية يسيل بهم سيلها الجارف ولا يملكون من أمرهم شيئا وأصبح الوالد لا يملك ولده، والعاهل لا يملك أهل بيته، بل وأصبح الانسان لا يملك نفسه أمام الهوى، وانتقاد المجتمع اللاذع، ووخز الضمير، وغاص الناس في بحر المدنية الى آذانهم، فترى الصعاليك من العجم يغدون في حلة، ويروحون في أخرى، وترى الحفاة العراة العالة من العرب رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، ويتفاخرون باقتناء السيارات الأميركية من أحدث الطراز، وأفخر الأنواع، حتى يُخاف أن تنقرض الخيل العتاق من أرض الجزيرة التي ملأت التاريخ والأدب بحديثها وأخبارها.

شحنت البضائع الغربية أسواق الشرق الاسلامي، وأنبتت شرايين التجارة الغربية وعروقها - وهي طلائع السيادة الغربية، وسيطرتها السياسية وسهامها التي لا

ص: 152

تطيش - في جوف أقدس البلاد الاسلامية وأحشائها، وجاست خلال الديار، وأصبح أهلها عالة على البضائع الأجنبية، حتىعادوا لا يتصورون الحياة والمعيشة بغيرها، ولا يقضون حقوق الأعياد والأفراح الا بها، وامتصت هذه البضائع أموالهم بل دماءهم كالاسفنج، يتشربها في بلادهم ويصبها في بلاده، وهكذا أصبح ما يكسبه المسلم بعرق جبينه وكدّ يمينه، وبرزيئة في أخلاقه، وعلى حساب دينه ينتقل الى البلاد الأجنبية.

التجأت الحكومات الاسلامية لتحقيق مشاريعها العمرانية كما تقول، أو لقضاء مآرب رجالها كما يقول الناس، الى الاستدانة من الدول الأجنبية، فخفت لذلك ورحبت به ورصدت لها بعض المال بشروط تجارية وامتيازات سياسية، وأقبلت البلاد الاسلامية تحلب ضروعها وتستخرج الذهب الوهاج، وماء حياة الصناعة والتجارة (البترول) من بطونها، ويتهافت الفقراء الذين أجهدتهم الضرائب وتكاليف الحياة على أجورها وخدمتها تهافت الفراش على الضوء، والجياع على المائدة، وهكذا تصبح بلاد الاسلام بين أخطار من الالحاد والاحتلال الأجنبي.

ثم هنالك "الطابور الخامس" وهو ذلك الأدب المسلول المسموم الذي ولدته الثورة الفرنسية، وأرضعته الفوضى الخلقية والاباحة في

ص: 153

أوربا، وغذته الشيوعية، ذلك الأدب الخليع المستهتر، الذي ينبت في القلوب النفاق ويسقي غرس الشهوات، ويقوّض دعائم العمران، ويفسد نظام الأسرة، ويسخر من كل فضيلة، ويستهين بكل أدب ونظام، ويزّين للقارئ مذهب اللذة والانتفاع، وانتهاز الفرص، يلخص التاريخ ويوجز الفلسفة والعلم في حب المال والميل الجنسي، ويصور العالم كله، كأنه ليس الا ظهور هاتين العاطفتين، وليس وراء ذلك حقيقة علمية، ومبدأ سام أو غرض شريف.

وقد انتشر هذا الطابور في أنحاء العالم عن طريق الأدب والروايات والمجلات "والراديو" و "السينما" وتأثر به الحاضر والباد، وتحدثت به العوائق في خدورها، وصار ينخر الحضارة الدينية والأدب الاسلامي حتى تسرب العطب اليوم الى لبابه.

وهكذا أصبح العالم كله شعوبا وحكومات وأفرادا تحت سلطان المادية والقوة والجاه والشهوات، قد شغلت منه كل موضع ومنفذ، وملكت عليه جميع مشاعره، واستهلكت في سبيلها جميع مواهبه وقواه وتفكيره وذكاءه، وخلقت في الانسان نفسية لا تؤمن الا بالمحسوس، ولا تفكر الا في اللذة والهناءة والسعادة الدنيوية، ولا تهتم الا بهذه الحياة ومطالبها الكاذبة التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي إنما فرضتها على الانسان الحياة المزورة، والمجتمع الفاسد، والتجارة الجشعة.

كيف يحل في هذه النفس المادية الدين الذي أساسه الايمان بالغيب، وإيثار الآخرة على العاجلة، الذي يقول:{وما هذه الحياة الدنيا الا لهو ولعب وان الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} [العنكبوت: 64]، والذي يقول: {فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى،

ص: 154

فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 41].

والذي يقول نبيه صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا عيش الا عيش الآخرة" ويقول: "حُفّت الجنة بالمكاره".

اذن فالمادية في هذا العصر هي علة العلل وعدو الدين الألد، ومنافسة الأكبر، وان الغرب هو زعيمها الذي تولى كبرها، ووكرها الذي تطير منه وتأوي اليه، وفيه تبيض وتفرخ.

فأين ذلك البطل الذي يمثل قصة الآدمي مع الجني على مسرح التاريخ والواقع؟

وأين تلك الأمة التي تعارض هذا التيار الجارف وتأبى أن تفقد شخصيتها، ومقومات حياتها، وتغلب على أمرها، فتحول هذا التيار وتقلبه رأسا على عقب، أو تقف فيه كجبل رأس، أو صخرة صماء، فيحول التيار مجراه، ويتخذ طريقا آخر.

ان البطل الذي يمثل قصة الآدمي مع الجني ويفتك به، هو رجل الساعة، وبطل الأبطال وفتى الفتيان.

وان الأمة التي تعارض هذا التيار وتغير مجراه هي إمام الأمم المبعوثة الى العالم، فأين ذلك البطل؟ وأين تلك الأمة؟؟ هل تجيب الأمة الاسلامية وهل يجيب العالم العربي على هذا السؤال؟!.

ص: 155