الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة: 48 [في المجهول وأنواع الجهالة وأحكامها]
من علوم الحديث "الكلام في المجهول" أي الراوي الذي جهل عينا أو حالا والآخر قسمان "قال تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} ".
قال في الكشاف أو لم يعرفوا محمدا وصحة نسبه وحلوله في سطة هاشم وأمانته وصدقه وشهادته عقله واتسامه بأنه خير فتيان قريش والخطبة التي خطبها أبو طالب في نكاحه خديجة بنت خويلد كفى برغائها مناديا انتهى.
"وفي هذا أشارة إلى ما في فطر العقول من الشك في خبر ما لا يعرف بما لا يوجب رجحان خبره" إذ الآية سيقت مساق الإنكار عليهم لا نكارهم له عليه والسلام لعدم معرفته ومعناه تقرير معرفتهم إياه وأنه لا وجه لا نكاره وليس المراد إنكار ذاته بل إنكارهم وسالته وإخباره عن الله سبحانه كما يرشد إليه العنوان بقوله رسولهم.
"وقد تكرر في كتاب الله تعالى ذم العمل بالظن" كما قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ} [الأنعام: 116]{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً} [يونس: 36]{إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس: 36]{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23] .
"والظن في اللغة: الشك المستوي الطرفين" في القاموس الظن خلاف اليقين وهي عبارة قاضية أنه يطلق على المستوى الطريفين وعلى الظن الراجح إذ الكل خلاف اليقين "ويجب حمل الآيات" الدالة على ذم الظن "عليه" أي على مستوى الطرفين "جمعا بينها وبين الآيات التي تدل على حسن العمل بالظن الراجح".
قلت: إلا أنه لا يخفى أنه لا يتم حمملها عليه إلا بعد ثبوت أن الظن الراجح أحد ما يطلق عليه الظن لغة كما نقلناه عن القاموس وأما عبارة المصنف فهي قاضية أن الظن لغة منحصر في مستوى الطرفين فلا بد من تقدير يطلق على الشك أيضا إذ الآيات الدالة على حسن العمل بالظن كقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]
فإنه لا يعلم الغائب عنه أنه شطره إلا بالظن ومثل قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] إذ ليس معهم إلا الظن أيمانهن وغيرها من الآيات "ويوضح ذلك" أي أن المذموم هو الظن بمعنى الشك "أنه وصف الذين ذمهم باتباع الظن بالأفك والخرص الذي هو تعمد الكذب" قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] فالوصف بالخرص دال على أنه ليس عندهم ظن راجح قلت: ويدل على استعماله لغة في الراجح قوله تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} فنفيهم اليقين دالى على أن عندهم ظنا راجحا ويحتمل الشك كما قدمناه عن القاموس.
"وأيضا فمن الظاهر الواضح" الراجح "أن اتباع الظن الراجح من أمارات الأنصاف" لأنه أخذ بالأرجح والأحوط "ومن اتبعه كان باتباع العلم أولى وأحرى ثم أن عبادة الحجارة ليست مظنونة ظنا رجحا فتأمل ذلك".
قلت: أما عند عبادها فالظاهر أنهم لم يعبدوها إلا وعندهم ظن راجح باستحقاقها العبادة وكأنه وجه أمره بالتأمل.
"وحكى الله عز وجل عن سليمان قوله في الهدهد: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} "[النمل: 27] فإنه عليه الصلاة والسلام توقف في خبر الهدهد ولم يجزم بصدقه ولا كذبه لكونه مجهول الحال عند سليمان ولا يقال هذا من أحكام خطاب الطير فلا يستدل به هنا لأنا نقول فأشار المصنف إلى جوابه بقوله "هذا مع قوله تعالى: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} "[الأنعام: 38] بعد قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} الآية فدلت على أن الأحكام واحدة للمماثلة فإنه ظاهر في أن المماثلة في التكليف لا في مجرد الحيوانية مثلا إذ هو معلوم ولأنه يشعر به قوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] ولا يقال سلمنا أنهم أمثالنا في التكليف فإنه يشتطر إيمان المخبر ومن أين لنا أن الهدهد مؤمن لأنا نقول من قوله "وفي قصة الهدهد ما يدل على إيمانه حيث أنكر عليهم عبادة الشمس من دون الله" وأثبت الإلهية له تعلى بقوله في صفته: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النمل: 25] وأثثبت له العلم بكل شيء حيث قال: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25] ووحدة وأثبت له العرش في قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] فإن السياق قاض أنه من كلامه وهذه معاقد الإيمان وأمهات قواعد التوحيد.
"وفي الآية أيضا دليل على إعلال الحديث بالريبة" وذلك لتوقفه عليه الصلاة والسلام حتى يبحث فيعلم صدقه أو كذبه.
"وقد تقدم في أول المسألة إشارة إلى مذهب أئمة الزيدية في هذه المسألة وهي معروفة في كتبهم الأصولية وإنما تذكر هنا كلام المحدثين لعدم وجوده في غير هذا الفن ولمعرفة عرفهم إذا قالوا في بعض الرواة أنه مجهول" ولهم فيه تقاسيم لا تعرف إلا في هذا الفن وقد ألم بها المصنف رحمه الله "فنقول" أي إذا عرفت ما سقنا فنقول:
"قال المحدثون في قبول رواية المجهول خلاف وهو" أي المجهول "على ثلاثة أقسام مجهول العين ومجهول الحال ظاهرا وباطنا ومجهول الحال باطنا" فهذه ثلاثة أقسام:
الأول: وهو "مجهول العين و" حقيقته "هو من لم يرو عنه إلا راو واحد وفيه" أي في الحكم فيه خمسة "أقوال":
الأول: أن "الصحيح الذي عليه أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم أنه لايقبل" ويأتي تحقيق الدليل عليه واختيار خلافه.
"والثاني: أنه يقبل مطلقا وهو قول من لم يشترط في الراوي غير الإسلام" زاد الزين واكتفى في التعديل بواحد ويأتي نصرة هذا القول.
"والثالث" التفصيل وهو "إن كان" الراوي "المنفرد بالرواية عنه لا يروى إلا عن عدول قبل مثل ابن مهدي ويحيى بن سعيد القطان ومالك ومن ذكر بذلك" أي بأنه لا يروى إلا عن عدل "معهم وإلا لم يقبل".
"والرابع" تفصيل أيضا إلا أنه على غير الطريقة الأولى وهو أن الراوي "إن كان مشهورا في غير العلم بالزهد" ومثلوه بمالك بن دينار "أو النجدة" أي الغلبة ومثلوه بعمرو بن معدي كرب "قبل وإلا" يشتهر بشيء من ذلك "فلا" يقبل "وهو" أي هذا التفصيل الآخر "قول ابن عبد البر كما سيأتي".
"والخامس" تفصيل على غير الطريقين الأولين وهو أنه "إن زكاه" أي الذي لم يرو عنه إلا راو واحد "أحد من أئمة الجرح والتعديل مع رواية واحد عنه قبل وإلا" يزيكه أحد "فلا" وإن روى عنه عدل "وهو اختيار أبي الحسن بن القطان في" كاتبه المسمى "بيان الوهم والإيهام قلت: و" القول:
"السادس: إن كان" مجهول العين "صحابيا قبل" لما يأتي من القول بأن الصحابة
كلهم عدول "وهو مذهب الفقهاء" أي الأربعة "وبعض المحدثين وشيوخ الاعتزال" كأنه عطف على المحدثين ال على بعض لما تقدم له من أن الجاحظ والنظام قدحا في جماعة من الصحابة وكذلك عمرو ابن عبيد كما ذكرناه "رواه عن المعتزلة ابن الحاجب في" مختصر "المنتهى واختاره الشيخ أبو الحسين" البصري المعتزلي "في" كتابه المسمى "المعتمد" في أصول الفقه بل يأتي أنه قائل بعدالة أهل ذلك العصر جميعا وإن لم يكن صحابيا "والحاكم" المعتزلي وهو المحسن بن كرامة "في" كتابه "شرح العيون وسوف يأتي بيان هذه المسألة على التفصيل عند ذكر الصحابة" سيأتي تحقيقها في أواخر هذا الكتاب وسيصرح المصنف أن عدالة المجهول من الصحابة إجماع أهل السنة والمعتزلة والزيدية.
"وقد عرفت أن حكاية المحدثين لهذا الخلاف" في قبول مجهول العين "يدل على أن مذهب جمهوهم أن من روى عنه عدل وعدله آخر غير الراوي فهو عندهم مجهول" فإن حقيقة المجهول حاصلة فيه وهي تفرد الراوي عنه بل ظاهر كلامهم في مجهول العين أنه لو زكاه جماعة وتفرد عنه راو لم يخرج عن جهالة العين لأنه جعل حقيقته من لم يرد عنه إلا راو واحد ولا حاجة إلى قوله "بل هو عندهم مجهول العين" إذا البحث في ذلك وإنما دل حكاية الخلاف على ذلك "لأنهم في علوم الحديث حكوا قبول من هذه صفته" وهي تفرد الراوي عنه والمزكي "اختيارا لأبي الحسن بن القطان فقط" كما سلف في القول الخامس.
"وهذا" أي الذي دل عليه كلام الجمهور "قول ضعيف فمن عرفه ثقة وعدله ثقة وروى عنه ثقة آخر" لا يخفى أن الكلام فيمن تفرد عنه ثقة ووثقه ثقة فزيادة المصنف وعرفه ثقة لم يتقدم شرطيته ولفظ المصنف في مختصره فإن سمى المجهول أو انفرد واحد عنه فمجهول العين والحق عند الأوصوليين أنه إلا وثقة ثقة الراوي أو غيره قبل خلافا لأكثر المحدثين والقول أي الصحيح قول الأصوليين انتهى "لا معنى لتسميته مجهولا" الذي في مختصره أيضا ووجه قول المحدثين أنهيتنزل أي المجهول العين الموثق منزلة التوثيق المبهم إذا كان اسم الرجل وعينه لم تثبت إلا من جهة من وثقة فكأنه قال حدثني الثقة وذلك غير مقبول عند أهل الحديث كما تقدم والمصنف قد جعل قبوله محل تردد هذا كلامه في توجيه ما ذهب إليه أئمة الحديث فكيف يقول هنا لا معنى لتسميته مجهولا.
وقوله "لأنهم" أي أئمة الحديث "لم يشترطوا العلم بعينه" أي الراوي "وبعدالته" قد طوى مقدمة الدليل وهي قوله لأنه أي التعديل من الثقة والرواية منه أو من غيره تفيد أن الظن بل التوثيق وحده يفيده وهو يجب العمل بالظن هنا لأنهم لم يشترطوا إلخ "ويوجبوا" عطف على لم يوجبوا "أن يبلغ المخبرون بها" أي العدالة "عدد التواتر" ليفيد العلم "ولو اشترطوا ذلك لم تساعدهم الأدلة عليه" فيكون شرطا بغير دليل فلا يلتفت إليه "فإن أخبار الآحاد ظنية" يحتمل أنه بريد أن أدلة العمل بها ظني أو أنها في دلالتها على الحكم الذي وردت فيه لا تفيد إلا ظن الحكم.
وقوله "واشتراط مقدمات علمية" وهي تواتر عدالة الراوي "في أمور ظنية" وهي أخبار الآحاد تفيد أنه يريد الوجه الأخير "غير مفيد" فلا يتم الاشتراط لأنها لا تحصل إلا الظن فأي فائدة لشرطية علمية المقدمات في ظني النتائج.
"بل الذي تقتضيه الأدلة أنه لو وثقه واحد ولم يرو عنه أحد أو روى عنه واحد ووثقه هو بنفسه لخرج عن حد الجهلة" وصار مظنون العدالة والعمل بالظن واجب "فقد نص أهل الحديث أن التعديل يثبت بخبر الواحد" كما تقدم إلا أنه يقال إن ذلك فيمن قد عرف اسمه وإسلامه من غير جهة المعدل والمفروض هنا أنهما لم يعرفا إلا من جهته في أحد التقادير وكلامهم هنا على تقدير انفراد الراوي عنه وأن يكون هو المعدل "هذا مع ما يعرض في التعديل من المصانعة والمحاباة" وقد قبلتموه مع هذا المعارض "فكيف" لا تقولون يرد إلى الجهالة العينية "بالأخبار" من العدل "بالوجود" لمن عدله أو روى عنه أو عدله وروى عنه فإن قول الثقة مثلا أخبرني زيد بن عمرو مثلا أو قال وهو ثقة أو وثقه غيره ولم تعلم رواية عن زيد هذا ولا عرف اسمه لوا توثيقه إلا من كلام الراوي هذا مثلا عنه فقد تضمن إخبارا بوجوده لكنه غير مراد للراوي وإنما هو لازم خبره وإخبارا بأنه ثقة فلم لا يقبل خبره بوجود ويقبل خبره بأنه ثقة فكيف هذا الصنيع هذا تقرير مراد المصنف.
ولعلهم يقولون إنا نقبل خبره بأنه ثقة إن عرفنا وجوده من غير طريق غيره لا أنا عرفناهما معا من طريقه فإنه بمثابة قوله أخبرني الثقة يكون تعديلا مبهما ولذا قال المصنف في مختصره عن الجماهير إذ لو اشتهر أي الذي تفرد بالرواية عنه والتوثيق واحد لأمكن القدح فيه انتهى فأن هذا مشعر بأن المانع عن قبول ما ذكر هو الإبهام المانع عن تنحقيق حاله لا إنكار وجوده وعدم قبول خبر العدل فيه فإنهم يقولون نحن
نقبل خبر العدل بانه موجود ونقبل خبره بأنه عدل عنده لكنا نريد معرفة عينه من طريق غيره وشهرته لتجويز وجود جارح فيه والحاصل أن هذه المسألة بعينها ملاقية لمسألة توثيق المبهم وبه تعرف ما في قوله "فلم يعهد من عدل أنه يحتاج إلى اختراص وجود معدوم" أي يكذب في خبره بأن المعدوم موجود "فإذا قبل واحد في توثيق الراوي وإسلامه فهو" أي الواحد "في القبول في وجوده أولى وأحرى" أي في قبولنا خبره بوجوده قد عرفت أنهم قابلون لخبره بوجوده كقبولهم لوجود الثقة إذا قال العدل أخبرني الثقة لكنهم يطالبون في غير ذلك كما عرفت.
واعلم أن المصنف أجاب عن الجمهور في مختصره بقوله والجواب أن الضرورة إذا ألجأت إلى التقليد جاز بناء الاجتهاد عليه كالتقليد في توثيق المعين وجرحه فإفاد كلامه أن جعل تفرد الراوي والموثق مزيلا للجهالة العينية ليس إلا من باب التقليد للضرورة وأن تعديل من ليس بمجهول العين وجرحه أيضا من باب التقليد والذي تقدم له أن قبول خبر العدل ليس من باب التقليد بل من باب الاجتهاد لقيام الدليل على وجوب قبول خبره والتزكية والجرح من باب الأخبار إذ مفاد قوله المزكي فلان عدل أي آت بالواجبات تارك للمقبحات محافظ المروءة وقوله جرحا هو فاسق لشربه الخمر مثلا الكل إخبار عدل يجب قبوله لقيام الأدلة على العمل بخبر العدل وليس تقليدا لو كما سلف للمصنف رحمه الله نظيره في قول العدل هذا الحديث صحيح فإنه قال إنه خبر عدل وإن قبوله ليس من التقليد وإن كان ناقض نفسه في محل آخر وقد قررنا الصحيح من كلاميه.
والحاصل أن الدليل قد قام على قبول خبر العدل إما عن فسه بأن يخبر بأنه ابن فلان أو أن هذه داره أو جاريته فهذا لا كلام في قبول خبره عنه بالضرورة الشرعية بل يقبل خبر الفاسق بذلك بل أبلغ من هذا أنه يجب قبول قول الكافر لا إله إلا الله ويحقن دمه وماله ونعامله معاملة أهل الإيمان لأخباره بالتوحيد وإن كان معتقدا لخلافه في نفس الأمر كالمنافق وإن كان خبره عن غيره كروايته للأخبار قبل أيضا وإن كان عن صفة غيره بأنه عدل أو فاسق قبل أيضا إذ الكل خبر عدل وقبول خبره ليس تقليدا له بل لما قام عليه من الدليل في قبول خبره هذا تقرير كلام أهل الأصول وغيرهم ولنا فيه بحث أشرنا إليه في أوائل حاشية ضوء النهار.
والمراد هنا معرفة ما في كلام المصنف من قوله إن الضرورة إذا ألجأت إلى التقليد
جاز بناء الاجتهاد عليه كالتقليد في توثيق المعين وجرحه فإنه قاض بأن كل من عمل بكلام العدول تزكية وجرحا فإنه مقلد ومعظم الاجتهاد على ذلك فهذا من المصنف كالرجوع إلى القول بانه قد انسد باب الاجتهاد في الأخبار لا نبنانه التقليد وهو خلاف ما ألف لأجله العواصم وغيرها من كتبه.
"وقد أشار ابن الصلاح إلى مثل ما ذكرته في أن ارتفاع الجهالة في التوثيق بالواحد تقتضي أن ترتفع جهالة العين بالواحد" قد عرفت ما فيه فإنهم يقولون مجهول العين من لم يعرفه العلماء ولم يعرف حديثه إلا من جهة واحدة وقبولهم توثيق الواحد إنما هو فيمن عرفت عينه وجهلت عدالته.
"ولم يردوا عليه ذلك بحجة وإنما ردوا عليه بكون ذلك عرف المحدثين وقد نص جماعة من كبار المحدثين على هذا العرف منهم" أبو بكر "الخطيب" سيأتي لفظه قريبا "ومحمد ابن يحيى الذهلي" كان لأحسن تقديمه على الخطيب كما فعله الزين لأنه السابق بهذه فإنه قال إذا روى عن المحدث رجلان ارتفع عنه اسم الجهالة.
"وحكاه الحاكم عن البخاري ومسلم" لكن رد ابن الصلاح ذلك فقال قد خرج البخاري في صحيحه عن مرداس الأسلمي ولم يرو عنه غير قيس بن أبي حازم ومسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي ولم يرو عنه غير أبي سلمة وذلك مصير منهما إلى خروجه عن هذه الجهالة برواية واحد انتهى فدل على خلاف ما حكاه الحاكم عن الشيخين.
وقد تعقب الشيخ محي الدين النووي كلام ابن الصلاح فقال الصواب ما ذكره الخطيب فهو لم يقله عن اجتهاده بل نقله عن أهل الحديث ورد الشيخ عليه بما ذكره عجب لأنه شرط في المجهول أن لا يعرفه العلماء وهذان معروفان عند أهل العلم بل مشهوران فمردس من أهل بيعة الرضوان وربيعة من أهل الصفة والصحابة كلهم عدول فلا تضر الجهالة بأعيانهم لو ثبت وأجيب عنه بأن هذا مسلم في حق الصاحبة والكلام أعم.
"وذكر الذهبي ما يقتضي ذلك" من عدم ارتفاع الجهالة في رواية الواحد "فقال زينب بنت كعب بن عجرة مجهولة لم يرو عنها غير واحد" وصف كاشف لقوله مجهولة إذا عرفت هذا "فعلى هذا لا يكون قولهم في الراوي إنه مجهول جرحا صحيحا" الأحسن صريحا "عند مخالفيهم" أن نقول بأن رواية لواحد تزيل الجهالة "بل
نقف حتى نبحث" فعلى هذا يكون من الجرح المطلق ولذا قلنا الأحسن أن يقول صريحا إلا أنه غير خاف عليك أن القدح بجهالة العين معناها أنه لم برو عن إلا واحد ممن يكتفي به في إزالة جهالة العين لتوقفه بل نقبله إذ قد ثبتت عدالته من جهة هذا الواحد الراوي عنه أو غيره وكأنه يرد أنه يقف حتى يعرف عدالته إذا لم يكن قد عرفها.
"ويكون هذا من جملة عبارات الجرح التي توجب الوقف وإن لم يكن جرحا في الرجل فهو قدح في قبول روايته" أي موجب للتوقف فيها.
"وقال" أبو بكر "الخطيب" في الكفاية في تعريف "المجهول عند أصحاب الحديث كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه ولا عرفه العلماء به ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد وقال الخطيب أقل ما ترفع به الجهالة أن يروي عنه اثنان فصاعدا من المشهورين بالعلم إلا أنه يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه" وإن انتفت عنه الجهالة "قلت: فزاد الخطيب في التعريف لعرفهم أمرين لا دليل عليهما أحدهما اشتهار المجهول بطلب العلم ومعرفة العلماء لذلك منه وثانيهما أن يكون الراويان عنه من المشهورين بالعلم" في قوله "في أقل ما ترتفع به الجهالة فهذا" أي ما زاده الخطيب "يزيدك بصيرة في عدم قبول حكمهم بجهالة الراوي" فلا يقبل قولهم هذا مجهول العين لأنهم تعنتوا في حقيقته وأتوا بشرائط غير صحيحة لعدم الدليل عليها.
"لأن العلم على الصحيح ليس من شروط الراوي" لأنه من قبل العلماء رواية من ليس من العلماء كأعراب الصحابة رضي الله عنهم "ولو كان" العلم "شرطا فيه لم يقبل كثير من الصحابة والأعراب" لا يقال الصحبة كافية في القبول لأنا نقول قد شرطتم العلم في الراوي "فلم تكن الصحبة لمجردها تفيد العلم وقد ثبت أن ذلك" أي العلم "لا يشترط في الشهادة وهي آكد من الرواية فإذا لم تشترط في الراوي فأولى أن لا تشترط فيمن روى عنه" أو من روى عنه راو أيضا.
"القسم الثاني" من أقسام المجهول "مجهول الحال في العدالة في الظاهر والباطن مع كونه معروف العين" برواية عدلين عنه "وفيه" أي في قبوله ثلاثة: "أقوال":
"الأول: أنه لا يقبل حكاه ابن الصلاح وزين الدين" ناسبا له إلى ابن الصلاح "عن الجماهير" وذلك لأن تحقق العدالة في الراوي شرط ومن جهلت عدالته لا تقبل روايته.
"والثاني: يقبل" مجهول عدالة الباطن والظاهر "مطلقا" من غير تفصيل "وإن لم تقبل رواية مجهول العين" لأن معرفة عينه هنا أغنت عن معرفة عدالته.
"والثالث" التفصيل وهو أنه "إن كان الراويان عنه" اللذان بهما عرفت عينه "لا يرويان إلا عن عدل قبل وإلا فلا" هكذا سرد هذه الأقوال ابن الصلاح ونقلها عنه زين الدين ولم يذكرا دليلا عنهم كما فعله المصنف.
"القسم الثالث" من أقسام المجهول "مجهول العدالة الباطنة" والعدالة الباطنة عندهم هي ما يرجع إلى تزكية المزكين كما يأتي "هو عدل في الظاهر فهذا يحتج به بعض من رد القسمين الأولين وبه قطع الإمام سليم بن أيوب الرازي قال" في دليل القطع به "لأن الأخبار مبنية على حسن الظن بالراوي ولأن رواية الأخبار قد تكون عند من يتعذر عليه معرفة العدالة في الباطن وتفارق" الرواية "الشهادة فإنهما تكون عند الحكام ولا يتعذر عليهم ذلك" أي معرفة العدالة الباطنة لأنهم يطلبون التزكية فإن وجدت عملوا "فاعتبرت فيها العدالة في الظاهر والباطن قال ابن الصلاح: يشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة عن غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم وتعذرت الخبرة الباطنة بهم".
اعلم أنهم شرطوا في الراوي كونه عدلا ثم رسموا العدالة بالتقوى وهي الإتيان بالواجبات واجتناب المقبحات مع عدم ملابسة بدعة ثم قالوا يكتفي تعديل الثقة لغيره بقوله عدل أو ثقة مثلا ومعناه إخباره أنه علم منه إتيانه بالواجبات واجتنابه المقبحات وعدم ملابسته لبدعة وهذا الخبر مستند إلى مشاهدته لفعله وتركه وهذه المشاهدة أمر ظاهر وأما معرفة باطنة فلا يعلمها إلا الله فالمزكي غايته كالمعدل بلا زيادة فشرط العدالة الباطنة شرط لا دليل عليه وإن أريد أن الخبرة تدل عليها فالخبرة لا بدمنها في المعدل أيضا ثم رأيت المصنف قد ثتبه لهذا آخرا ولله الحمد ولعلهم لما سموا العدالة عن غير تزكية عدالة ظاهرة سموا ما كان عن تزكية عدالة باطنة تسامحا وللتفرقة بين الأمرين والله أعلم.
"وأطلق الشافعي كلامه في اختلاف الحديث أنه لا يحتج بالمجهول وحكاه البيهقي عنه في المدخل" قلت ولفظ الشافعي في كتاب اختلاف الحديث والظاهر في المجهول هو من لا تعرف عدالته عن خبرة أو عينه كما يدل له قوله ونقل الروياني عن نص الشافعي في اليأم أنه لو حضر العقد رجلان مسلمان ولا يعرف حالهما من
الفسق والعدالة انعقد النكاح بهما أي بشهادتهما "في الظاهر" وليس الخطاب إلا في انعقاده فيه "لأن ظاهر المسلمين العدالة" فالمسلمون عدول وهي عدالة يشهد بها إسلامهم وهذا يوافق من يقول الأصل في المسلمين العدالة وقوله الأول يخالفه وكثيرا ما يأتي له في المسألة قولان وهذا منها.
"ذكره" الروياتي "في البحر نقل ذلك" عن الروياتي "زين الدين ولما ذكر اين الصلاح هذا القسم الأخير" وهو من عرفت عدالته ظاهرا لا باطنا "قال وهو المستور فقد قال بعض أئمتنا المستور من يكون عدلا في الظاهر ولا تعرف عدالته باطنا انتهى" كلام ابن الصلاح "قال الزين" بعد نقله لكلام ابن الصلاح "وهذا الذي نقل كلامه آخرا هو البغوي وتبعه عليه الرافعي وحكى الرافعي في الصوم وجهين في قبول رواية المستور من غير ترجيح وقال النووي في شرح المهذب إن الأصح قبول روايته قال الزين كلام الرافعي في الصوم أن العدالة الباطنة هي التي يرجع فيها إلى أقوال المزكين" قد قدمنا لك أن التعديل والتزكية إنما مدارهما على الخبرة الظاهرة.
"قلت: ظاهر المذهب" أي مذهب الزيدية "قبول هذا المسمى عندهم بالمستور بل قد نص على قبوله وسماه بهذه التسمية الشيخ أحمد في الجوهرة" كما تقدم "ولم أعلم أن أحدا من الشارحين اعترضه والأدلة" في قبول خبر الآحاد "تناوله سواء رجعنا إلى" دليل "العقل وهوالحكم بالراجح لأن صدقه راجح" من حيث عدالته الظاهرة "أو" رجعنا "إلى" دليل "السمع وهو قبول النبي صلى الله عليه وسلم لمن هو كذلك" أي معروف العدالة الظاهرة مجهول الباطنة "كالأعرابيين في الشهادة بالفطر من رمضان" يأتي تخريج حديثهما في آخر الكتاب وقد وسع المصنف الاستدلال للمسألة في الروض الباسم وساق ثمانية أخبار وتأتي المسألة آخر الكتاب "والأعرابي بالشهادة بالصوم في أوله وسيأتي طرق هذين الحديثين" في آخر الكتاب عند ذكر عدالة الصحابة وهذا أوسع دائرة مما اختاره سليم الراوي فإنه إنما اختار ذلك في الأخبار دون الشهادة كما عرفت.
"ومما يدل على ذلك إرساله صلى الله عليه وسلم رسله كمعاذ وأبي موسى إلى اليمن وهما عند أهل الين مستوران وإن كانا عند من يخصهما في أرضهما مخبورين" لا يخفى أنه يريد الاستدلال بقبول أهل اليمن لأخبارهما مستوران عندهم وبأنه قد عرف صلى الله عليه وسلم ذلك فكان تقريرا منه ولكنه يقال أهل اليمن الذين يقبلون أخبارهما أحد رجلين إما كافر فلا يعتبر قبوله ولا عدمه وإما مؤمن وهو يقبل أخبارهما عن الشرائع.
والمؤمن يعلم أنه لا يرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبعث بالشرائع من يبلغها عنه إلا وهو ثقة عدل فأحسن من هذا في الاستدلال قوله "أو رجعنا إلى إجماع الصحابة فقد حكى الشيخ أو الحسين وغيره قبولهم لأحاديث الأعراب" من المسلمينن "أو رجعت إلى أهل البيت عليهم السلام فقد روى المنصور بالله رضى الله عنه والسيد أبو طالب وأهل الحديث عن علي عليه السلام أنه كان إذا اتهم الراوي استحلفه فإذا حلف له قبله" وهذا يدل على أنه لم يعرف عدالته الباطنة قلت: ولا الظاهرة إذا لو علمها لما اتهمه كما يدل له قوله أنه حكى أبو الحسين إجماع الصحابة على قبول من عرفت عدالته الظاهرة وعلي عليه السلام رأس الصحابة.
"وهذا هو الغالب من مذاهب العترة والمعتزلة أهل الأصول" إلا أنه يقال إذا كان كذلك فلا وجه لاشتراط التزكية والتعديل للراوي عندهم "وذكر محمد بن منصور" المرادي "صاحب كتاب علوم آل محمد أنه يرى قبول المجاهيل ذكر ذلك في كتابه المسمى بالعلوم" قلت: هذا مذهب له ولا ينازع في مذهبه.
"وقول المحدثين إنه لا بد من معرفة العدالة الباطنة مشكل إما لفظا فقط أو لفظا ومعنى فإن أرادوا ما نص عليه الرافعي من أنهم عنوا بذلك من رجع في عدالته إلى أقوال المزكين أشكل عليهم ذلك لفظ لأن هذا المعنى صحيح ونحن نقول به ولكن هذه العبارة" أي قبولهم عدالته الباطنة "ركيكة موهمة أنه لا بد من معرفة باطن الراوي وتعديل المزكين لا يوصل إلى ذلك لأن المزكي إنما عرف الظاهر" كما قررناه آنفا "ثم أخبرنا به فقلدناه فيه فيه" ما تقدم "فكيف لا تحكم بالعدالة الباطنة إذا عرفنا ما عرف المزكي من غير واسطة خبره وتقليده" كما زعم القائل بذلك "وإذا عرف ذلك وجهلناه ثم أخبرنا به وقلدناه حصلت العدالة الباطنة" كما قالوه.
"فإن قالوا المراد بالعدالة الباطنة ما كان عن خبرة" وهي التي تحصل للعدل والمزكي "وبالظاهرة ما كان بمجرد الإسلام قلن من لم يعرف بغير مجرد الأسلام فقد تقدم في القسمين الأولين من أقسام المجاهيل وهذا قسم ثالث قد ارتفع عنهما ولا يرتفع عنهما إلا بخبرة" لا يتم أن المراد بالعدالة الظاهرة ما كان بمجرد الإسلام.
"فإن قالوا" ليست "العدالة الظاهرة" مما عرفت بمجرد الإسلام بل "ما تعرف بخبرة يسيرة توصل إلى مطلق الظن والباطنة ما عرف بخبرة كثيرة توصل إلى الظن المقارب" للعلم "وسموا الظن المقارب للعلم علما" لا أدري أي حاجة إلى زيادة هذا فإنهم لم
يشترطوا العلم بالعدالة الباطنة بل قالوا لا بد من معرفة العدالة الباطنة ومعرفتها أعم من أن تكون بعلم أو ظن "دون مطلق الظن تخصيصا له بما هو أولى به" فإن الظن المقارب هو الفرد الكامل من الظنون ويسمى علما "فإن مطلق الظن قد يسمى علما فكيف بأقواه قلنا الظن في القرة لا ينقسم إلى قسمين فقط" كما أفادة كلامكم بل ينتهي إلى شيء معين "ولا يقف على مقدار ولا يمكن التعبير عن جميع مراد به بالعبارة" وأيضا فإنهم يختلفون في الظنون اختلافا كثيرا.
"ومعرفة المزكي لكون ظنه مقاربا أو مطلقا أو وسطا بين المطلق والمقارب دقيقة عويصة" فإنها أمور وجدانيه "وأكثر المزكين لم يعرف معاني هذه العبارات بل ولا سمعها" فكيف يكلف بها "وهي مولدة اصطلاحية" لم تأت عن الشارع ولا عن أهل اللغة "ولو كلف كل مزك أن يزكي على هذا الوجه" أي تزكية صادرة عن الظن المقارب "لم يفعل أو لم يعرف ولم تزل التزكية مقبولة من قبل حدوث هذه الاصطلاحات" فكيف تناط أمور شرعية بهذه الاصطلاحات الحادثة العرفية "والعدالة حكم منضبط يضطر إليها العامة" أي عامة الناس "في الشهادة في الحقوق والنكاح ورواية الأخبار وقبول الفتوى من المفتي وصحة قصاء القاضي" ومعنى اضطرارهم إليها أنهم يحتاجون إلى العدول في هذه الأمور التي تعم بها البلوي ولا بد أهم عارفون بمعناها باعتبار ما يظهر لهم.
"قتعليقها بأمر خفي غير منضبط" وهوالظن المقارب "بغير نص يدل على ذلك" التعليق "ولا عقل يحكم به غير مرضى" فإنه لا يعلق حكم بأمر إلا بدليل يدل عليه وإلا كان تحكما "بل" نقول "مطلق الخبرة المفيدة للظن" مطلقا "كافية وتزكية المزكي لا تفيد غير ذلك" أي الظن المطلق "إلا أن يكون المزكي من أهل هذا العرف" فلا يزكي إلا عن ظن مقارب "فإن قلنا مثل ذلك شرطنا في المزكي أن يقول بمثل مقالتهم هذه وهذا" شرط "بعيد" غير معروف عند الأصليين وغيرهم هذا تقرير إشكال عباراتهم لفظا.
"وأما الوجه الثاني وهو اختلال عباراتهم لفظا ومعنى فذلك" أي بيان إشكالها "إن أرادوا أنها على ظاهرها ولم يتأولوها بالتجوز وذلك" أي حمل كلامهم على الحقيقة "أن يقولوا" في اسم "العدالة الظاهرة هي ماعرف بالخبرة الموجبة للظن و" أن يقولوا في اسم العدالة الباطنة "العدالة في الباطن والظاهر" زاده استطرادا "هي العدالة المعلومة بالقرائن الضرورية مثل عدلة المشاهير المتواترة عدالتهم مثل العشرة من الصحابة" الذين
جمعهم المصنف في قوله شعرا:
للمصطفى خبر صحب نص أنهم
…
في جنة الخلد نصا زادهم شرفا
هم طلحة وابن عوف والزبير مع
…
أبي عبيدة والسعدان والخلفا
"وعمار بن ياسر" الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه مليء إيمانا "وسلمان الفارسي" الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم "سلمان منا" 1 "وأبي ذر" الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه أصدق من بينهما "وأمثالهم من أهل ذلك الصدر" أي عصر الصحابة ولا يخفى أن المحدثين قائلون أن الصحابة مطلقا ليس فيهم مستور وقد تقدم الرد على ابن الصلاح من النووي حيث زعم أن مرداسا وربيعة بن كعب الأسلمي مجهولان ما عرفته قريبا نعم يتجه التمثيل بقوله "ومثل زين العابدين" وهو علي ابن الحسين "وسعيد بن المسيب من التابعين والحسن البصري وأمثالهم ومثل إبراهيم بن أدهم من المتعبدين ومثل القاسم" بن ابراهيم الرسي "و" يحيى بن الحسين "الهادي" حفيده "من الأئمه الهادين فلهم" أى شارطى العدالة الباطنة "أن يقولوا عدالة هؤلاء معلومة ظاهرا وباطنا وليس ذلك" أي معرفة الغدالة الباطنه "من قبيل علم الغيب بل من قبيل العلم الصادر عن القرائن فانا نعلم أن القاسم رضي الله عنه لم يكن في الباطن منافقا بل" نجد "اعتقادنا جازما بصحة إسلامه" الأولى إيمانه "وفضله" ولما كان الجزم بعلم ما في الاعنقاد باطنا مستعبدا إذ لا يحصل إلا بأخبار من الله تعالى كما قال تعالى في عمار {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} أشار المصنف بأنه "قد قال أهل العلم بمثل هذا في خبر الواحد إذا انضمت إليه القرائن مثل الخبر" الآحادي "بموت ولد رجل كبير مع بكاء ذلك الرجل بين الناس واستقامته لمن يعزيه وبكاء النسوان في بيته واجتماع الناس للتعزية إليه وظهور الجنازة ونحو ذلك" فإن هذا خبر آحادي وقد أفاد العلم بموت ولد الرجل للقرائن المحتفة به "وكبار الأئمة والعلماء قد أخبروا عن أنفسهم بالعدالة" كقول بعضهم إنه ما عصى الله منذ عرف يمينه من شماله "وظهر عليهم من القرائن" بصحة إخبارهم "ما يوجب علم ذلك" أي علمنا به هذا تقرير مراده إن أرادوه "فالجواب عليهم أن هذا يحتل عليهم من وجهين":
"أحدهما: أن الناس مختلفون في صحة هذا" فليست المسألة اتفاقية كما يعرف من
1 الطبراني 6/261، والحاكم 3/598، ودلائل النبوة 3/418.
أصول الفقه "وإن صح فهو علم ضروري غير مستمر لكل أحد" بل قد يحصل لناس دون ناس "ولذا وقع فيه الخلاف والتعبد بخبر الواحد يشمل الجميع" أي جميع المكلفين ممن يحصل له هذا العلم الضروري وهم الأقل وغيرهم وهم الأكثر "وهذا" القول "يؤدي إلى اشتراط أن يخلق الله العلم الضروري بعدالة الراوي في الباطنة وهذا خلاف الإجماع.
"وثانيهما" أي وجهي الجواب "أن العدالة في الراوي تشتمل على أمرين":
"أحدهما في الديانة التي تفيد مجرد صدقه وأنه لا يتعمد الكذب" أما هذا فمحل النزاع كما لا يخفى.
"وثانيهما في الحفظ ولئن سلم لهم ذلك في الديانة فلا يصح العلم الضروري أن الراوي لم يخط في روايته من غير عمد ولا قائل بذلك" يتأمل في هذا "على أن البالغين إلى هذه المرتبة الشريفة هم الأقلون عددا ولو اشترط ذلك أهل الحديث لم تتفق لهم سلامة إسناد غالبا" إذ ليس كل حديث يكون رجاله من ذلك الطبقة العالية.
"وقد نص مسلم" في أول صحيحه "على أنا لا تجد الحديث الصحيح عند مثل مالك وشعبة والنوري" الذي لا خلاف في إمامتهم ديانة وحفظا وإذا لم نجد مثلهم "فلا بد من النزول إلى مثل ليث ابن أبي سليم وعطاء بن السائب" وهم من طبقة غير تلك الطبقة في الأمرين إذا عرفت هذا "فكن على حذر من تضعيف من يرى رد أهل العدالة الظاهرة لكثير من الرواة وتفظن لذلك في كتب الجرح والتعديل" فإنهم يردون كثيرا بجهالة باطنة ويسمونه مستوارا "والله أعلم".
* * *