الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة (44) : في الموضوع وحكمه
…
مسأل:44 [في الموضوع وحكمه]
من أنواع علوم الحديث "الموضوع" قال ابن دحية إنه في اللغة الملصق يقال وضع فلان على فلان كذا أي ألصق به وهو أيضا الحط والإسقاط قال الحافظ والأول اليق بهذه الحيثية "هو شر الأحاديث الضعيفة" هذه العبارة لابن الصلاح1 وسبقه إليها الخطابي واستنكرت لأن الموضوع ليس من الحديث النبوي إذ أفعل لاتفضيل إنما يضاف إلى بعضه وقد يجاب بأنه لم يرد بالأحاديث الأحاديث النبوية بل أعم وهو ما يتحدث به.
"وهو المكذوب ويقال له المختلق2" إذ الاختلاف الكذب ومنه قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص: 7]"و" يقاله له أيضا "المصنوع" بصاد مهملة من الصنعة "أي واضعه اختلقه وصنعه قال زين الدين ومطلق وجود كذاب في السند لا يلزم منه أن يكون الحديث مكذوبا لجواز أنه ثابت منغيرر طريقه إلا أن يعترف بأنه وضع ذلك الحديث بعينه أو ما يقوم مقام اعترافه على ما ستقف عليه" ويأتي ما فيه من الإشكال وجوابه.
"وحكم الموضوع أنه لا يجوز لمن عرفه" أي عرف أنه موضوع "أن يرويه من غير بيان لوضعه سواء كان في الحلال أو الحرام أو الترغيب أوالترهيب أو غير ذلك" يدل لذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه3 من حديث سمرة بن جندب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين" انتهى ضبط يرى
1 علوم الحديث ص 130.
2 المختلق: بفتح اللام بعدها قاف أي المبتكر الذي لاينسب إليه صلى الله عليه وسلم أصلا حاشية الأجهوري ص 81.
3 في: المقدمة: ب 1. والترمذي 2662. وابن ماجة 39، 41.
بضم الياء أي يظن وفي الكذابين روايتان بصيغة التثنية وبصيغة الجمع وكفى بهذا الوعيد في حق من روى حديث يظن أنه كذب فضلا عن أن يروى ما يعلم كذبه ولا ييينه لأنه صلى الله عليه وسلم جعل المحدث بذلك مشاركا للكاذب في وصفه.
قال زين الدين بعد هذا الذي ذكره المصنف من حكم الموضوع ما لفظه بخلاف غيره من الضعيف المحتمل للصدق حيث جوز روايته في الترغيب والترهيب انتهى لكن بقي هل يشترط في هذا الاحتمال أن يكون قربا بحيث يفوق احتمال كذبه أو يساويه أولا يشترط هذا محل نظر ولاذي يظهر من كلام مسلم وربما دل عليه الحديث المتقدم بأنه إذا كان احتمال الصدق احتمالا ضعيفا أنه لا يعتد به.
وقال الترمذي سألت أبا محمد يعني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن هذا الحديث يعني حديث سمرة المذكور فقلت: له من روى حديثا وهو يعلم أن إسناده خطأ أيخاف أن يكون دخل في هذا الحديث أو إذا روى الناس حديثا مرسلا فأسنده بعضهم أو قلب إسناده فقال لا إنما معنى هذا الحديث إذا روى الرجل حديثا ولا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الحديث أصلا فأخاف أن يكون دخل في هذا الحديث.
"قال ابن الصلاح1: ولقد أكثر الذي جمع في هذا العصر الموضوعات في نحو مجلدين فأودع فيها كثيرا مما لا دليل على وضعه وإنما حقه أن يذكر في الأحاديث الضعيفة قال زين الدين وأراد ابن الصلاح أبا الفرج بن الجوزي".
قال زين الدين في شرح ألفيته قال العلائي دخلت على ابن الجوزي الآفة من التوسع في الحكم بالوضع لأن مستنده في غالب ذلك ضعف رواته.
قال الحافظ ابن حجر: وقد يعتمد على غيره من الأئمة في الحكم على بعض الأحاديث بتفرد بعض الرواة الساقطين بها ويكون كلامهم محمولا على قيد أن تفرده إنما هو من ذلك الوجه ويكون المتن قد روى من أوجه أخر لم يطلع هو عليها أو لم يستحضره حال التضعيف فدخل عليه الدخيل من هذه الجهة وغيرها فذكر في كتابه الحديث المنكر والضعيف الذي يحتمل في باب الترغيب والترهيب قليل من الأحاديث الحسان كحديث صلاة التسبيح وحديث قراءة آية الكرسي عقيب الصلاة فإنه رواه النسائي وصححه ابن حبان وليس في كتاب ابن الجوزي من هذا الضرب
1 علوم الحديث ص 131.
سوى أحاديث قليلة جدا فأما مطلق الضعيف ففيه كثير من الأحاديث نعم أكثر الكتاب موضوع وقد أفردت لذلك تصنيفا أشير على مقاصده انتهى.
"والواضعون للحديث على أصناف بحسب الأمر الحامل لهم على ذلك فضرب من الزنادقة" في القاموس الزنديق من الثنوية أو القائل بالنور والظلمة أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان أو هو معرب زن دين أي دين المرأة "يفعلون ذلك ليضلوا به الناس كعبد الكريم ابن أبي العوجاء خال معن" بفتح الميم وسكون العين المهملة "ابن زائدة" أي الشيباني الأمير المعروف "الذي أمر بضرب عنقه محمد بن سليمان بن علي أمير مكة" قال الذهبي في الميزان أمير البصرة وقال في ترجمة عبد الكريم زنديق مبين قال أحمد بن عدي لما أخذ ليضرب عنقه قال لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحل فيها الحرام.
"ومثل بيان" بفتح الموحدة فمثناة تحتية فألف فنون قال الذهبي هو ابن سمعان النهدي من بني تميم ظهر بالعراق بعد المائة وقال بالهيية علي رضي الله عنه وأن فيه جزءا إلهيا متحدا بناسوتيته ثم بعده في ابنه محمد بن الحنفية ثم في ابنه أبي هاشم ثم في بيان هذا وكتب إلى أبي جعفر الباقر يدعوه إلى نفسه وأنه نبي انتهى "الذي قتله خالد القسري" بالقاف وسين مهملة فراء فياء نسبه "وحرقه بالنار" وقال ابن نمير: قتله خالد بن عبد الله القسري وحرقه بالنار.
"وقد روى العقيلي بسنده إلى حماد بن زيد قال وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث" قلت: ومعرفة قدر عددها دليل على تتبع الحفاظ من الأئمة لها ومعرفتهم إياها.
"وضرب يفعلونه انتصارا لمذاهبهم كالخطابية" بالخاء المعجمة وهم قوم من الرافضة ينسبون إلى أبي الخطاب كان يأمرهم بشهادة الزور على مخاليفهم كما في القاموس فقوله "وبعض الروافض" من عطف العام على الخاص وهم فرقة من الشيعة بايعوا زيد بن علي عليه السلام ثم قالوا له تبرأ من الشيخين فأبى وقال أنا مع وزيري جدي فتركوه ورفضوه وأرفضوا عنه قاله في القاموس "وبعض السالمية قلت: ورواه" أي وضع الأحاديث لنصرة المذهب "المنصور بالله عبد الله بن حمزة عن المطرفية" نسبة إلى مطرف بن شهاب وهم فرقة من الزيدية لهم أقوال ردية ومذاهب غير مرضية قاتلهم المنصور بالله وخرب ديارهم ومساجدهم وأخبارهم معروفة وله أشعار فيهم وفي
حربهم في ديوانه وقد ألف عبد الله بن زيد العنسي العلامة كتابا في أخبارهم وبين فيه حقائق أحوال المطرفية "وذكر" أي المنصور "أنهم صرحوا له بذلك في مناظراتهم نقلته من بعض رسائله" وجادة "من غير سماع" عنه "والظاهر بل المقطوع أن المصرح له بذلك بعضهم" إذ من المعلوم يقينا أنهم لا يجمعون كلهم عند المناظرة "فلا ينسب إلى الجميع منهم والله أعلم".
"قال زين الدين 1 وضرب يتقربون به إلى الأمراء والخلفاء بوضع ما يوافق فعلهم كما فعله غياث" بكسر الغين المعجمة فمثناة تحتية آخره مثلثة "ابن ابراهيم" النخعي "حيث وضع للمهدي" وهو محمد بن عبد الله المنصور العباسي والدهرون الرشيد وقد دخل عليه فوجده يلعب بالحمام فساق في الحال إسنادا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "في حديث: "لا سبق" بفتح المهملة وسكون الموحدة مصدر سبقت أسبق وبفتح الموحدة ما يجعل من المال رهنا على المسابقة والمعنى لا يحل أخذ المال على المسابقة "إلا في نصل" بفتح النون وسكون الصاد المهملة حديدة السهم " أو خف" وهو الأبل "أو حافر" وهو للخيل رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة2 مقتصرين على هذا اللفظ "فزاد فيه" غياث ابن ابراهيم "أو جناح" بفتح الجيم وهو للطائر "وكان المهدي إذ ذاك يلعب بالحمام فتركها وأمر بذبحها وقال" المهدي "أنا حملته على ذلك" أي على الزيادة المكذوبة وقال السخاوي فأمر له ببدرة يعني عشرة آلاف فلما فقى قال أشهد علي قفاك أنه قفا كذاب.
"وضرب" من الوضاعين "كانوا يتكسبون بذلك ويرتزقون به في قصصهم كأبي سعيد المدايني" وكما ذكر الطيبي في خلاصته قال جعفر بن محمد الطيالسي صلى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين في مسجد الرصافة فقام بين أيديهما قاص فقال حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله يخلق من كل كلمة منها طائر منقاره من ذهب وريشه من مرجان وأخذ في قصة من نحو عشرين ورقة فجعل أحمد ينظر إلى يحيى ويحيى ينظر إلى أحمد فقال أنت حدثته بهذا؟
1 فتح المغيث 1/128.
2 أحمد 2/256، 358، وأبو داود 2574. والترمذي 22. والنسائي 6/227، وابن ماجة 44، 2878.
فقال: لا والله ما سمعت به إلا هذه الساعة قال: فسكتا جميعا حتى فرغ فقال: أي أشار يحيى بيده إليه أن تعال فجاءهما متوهما لنوال الخير فقال يحيى: من حدثك بهذا؟ قال: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فقال: أنا ابن معين وهذا أحمد بن حنبل ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان ولا بد من الكذب فعلى غيرنا فقال: أنت ابن معين؟ قال: نعم، قال: لم أزل أسمع أن ابن معين أحمق وما علمته إلا هذه الساعة، قال يحيى: وكيف علمت أني أحمق؟ فقال: كأنه ليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما، كتبت عن سبعة عشرة أحمد بن حنبل غير هذا، قال: فوضع أحمد بن حنبل كفه على وجهه وقال: دعه فقام كالمستهزئ بهما1 انتهى من شرح شرح النخبة لعلى قاري.
"وضرب امتحنوا بأولادهم أو وراقين" كتاب "لهم فوضعوا" لهم "أحاديث ودسوها عليهم فحدثوا بها من غير أن يشعروا كعبد الله بن محمد بن ربيعة بن قدامة القدامي" هكذا في شرح ألفية زين الدين وفي الميزان عبد الله بن محمد بن ربيعة بن قدامة القدامي المصيصي أحد الضعفاء له عن مالك مصائب وساق منها ويذكر أنه ابتلى بأولاد وورافين وضعوا عليه وليس في الميزان من يقال له القدامى سوى هذا.
"وضرب يلجؤون إلى إقامة دليل على ما أفتوا به بأرائهم فيضعون كما نقل عن أبي الخطاب ابن دحية إن ثبت عنه" كذا في شرح الزين وابن دحية هو عمر بن الحسن بن علي المديني الأندلسي قال في لسان الميزان متهم في نقله مع أنه كان من أوعية العلم دخل فيما لا يعنيه قال الحافظ الضياء لم يعجبني حاله كان كثير الوقيعة في الأئمة قال ابن نقطه كان موصوفا بالمعرفة والفصل إلا أنه كان يدعى أشياء لا حقيقة لها وقال ابن النجار رأيت الناس مجمعين على كذبه وضعفه وادعائه بسماع مالم يسمعه ولقاء من لم يلقه.
"وضرب يقلبون سند الحديث ليستغرب" أي من يسمع منهم "ويرغب في سماعه منهم وسيأتي هذا في المقلوب".
"وضرب يتدينون بذلك الترغيبب الناس في الخير يزعمهم وهم منسوبون إلى الزهد يحتسبون بذلك" أي الأجر والمثوبة "ويرونه قربة وهم أعظم الناس" ممن يضع الحديث.
1 تذكرة الموضوعات 54.
"ضررا لثقة الناس بهم لزهدهم وقبوله منهم ولذا قال يحيى بن سعيد القطان ما رأيت الصالحين أكذب منهم في الحديث" ويحيى إمام شهير متفق على إمامته ومراده أنه لم يرأ كذب من الصالحين وإن رأى غيرهم كذابين ولما كان الكذب في الحديث النبوي ينافي الصلاح فضلا على الأكذبية قال زين الدين "يريد" يحيى بن سعيد "بذلك والله أعلم" أي بقوله الصالحين "المنسوبين إلى الصلاح بغير علم يفرقون به بين ما يجوز لهم من الرواية وما لا يجوز".
وعبارة زين الدين يفرقون به بين ما يجوز لهم ويمتنع عليهم فهو صلاح بغير علم وفي الحقيقة إنه ليس بصلاح فإنه لا صلاح إلا عن علم وإنما مراده أنه يعدهم الناس صالحين لما يرونه من تقشفهم وزهدهم مع أنهم من أهل الغباوة والجهل وهكذا العامة يعدون أهل الصلاح أهل هذا القسم ولذا قيل:
من عذيري من معشر هجروا العقـ
…
ـل وحادوا عن الطريق القويمة
لا يرون الإنسان قد نال حظا
…
من صلاح حتى يكون بهيمه
"ويدل على ذلك" أي على تأويل كلام يحيى بن سعيد "ما رواه ابن عدي والعقيلي بسندهما الصحيح إليه أنه قال" أي يحيى بن سعيد "ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير قلت: فهذا صرح بإضافة ذلك" أي الأكثر منه "إلى من ينسب إلى الخير يعني وليس من أهله" فعليه تحمل العبارة المطلقة.
"قال زين الدين" بيانا منه لاحتمال آخر تحتمله عبارة يحيى بن سعيد "أو يريد أن الصالحين" حقيقة لا من لهم مجرد النسبة إلى الصلاح "عندهم حسن ظن وسلامة صدر فيحملون ما سمعوه على الصدق" فيكون نسبة الكذب أو الأكذبية إليهم مجازا أنهم يروون ما هو كذب في نفس الأمر وإن لم يكونوا كاذبين قلت: ولكن هذا التأويل يخرجهم عن أهل الضرب الذي هو بصدده إذ ليسوا بوضاعين.
"قال" أي زين الدين "ولكن الوضاعين ممن ينسب إلى الصلاح" بناء على عدم صحة التأويل الآخر وتقييد العبارة الأولى "وإن خفى حالهم على كثير من الناس" فقبلوا عنهم ما رووه "فإنه لم يخف على جهابذة الحديث" جمع جهبذ بكسر الجيم وهو النقاد الخبير كما في القاموس فعطف "ونقاده" من عطف التفسير "فقاموا بأعباء" جمع عبء بالكسر الحمل الثقيل من أي شيء "ما حملوا فتحملوه" من الكشف عن صحيح الأحاديث "فكشفوا عوارها" بتثليث العين المهملة العيب "ومحوا عارها" هو
أيضا العيب.
"حتى لقد روينا عن سفيان أنه قال ما ستر الله أحدا ليكذب في الحديث وروينا عن القاسم بن محمد أنه قال إن الله أعاننا على الكذابين بالنسيان" وبنسيانهم يعرف كذبهم وروينا عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال لو أن رجلاهم أن يكذب في الحديث لأسقطه الله أي أظهر سقوط روايته.
"وروينا عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قيل له هذه الأحاديث المصنوعة قال يعيش لها الجهابذة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فجعل الأحاديث النبوية داخلة تحت لفظ الذكر وأيده المصنف بقوله.
"قلت: قد احتج بعض أهل الحديث النبوي بأن الحديث النبوي داخل فيما ضمن عز وجل يحفظه من الذكر" الدال عليه {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وفي شرح شرح النخبة لعلي قاري أراد أن من جملة حفظ لفظ القرآن حفظ معناه ومن جملة معانيه الأحاديث النبوية الدالة على توضيح معانيه كما قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فقي الحقيقة تكفل الله تعالى بحفظ الكتاب والسنة بأن يوجد من عباده من يجدد لهم أمر دينهم في كل أوان انتهى "بقوله تعالى في وصف رسوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] وإن كان قد يناقش في الاستدلال بأن الآية في وحي خاص هو القرآن كما يشعر به: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} إلى قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} .
"وقد أحسن القاسم بن محمد في قوله أن شاء الله تعلى أعاننا على الكذابين بالنسيان فإنهم يخلطون ويناقضون ويظهر عليهم بسبب النسيان ما يحمل على تأمل أحوالهم حتى يتبين أمرهم" فهذا معنى إعانة الله عليهم بالنسيان.
"قلت: و" أعاننا الله عليهم "بسبب النسيان أيضا من تصريح" الكذاب "بالسماع في حتق راويين لا يمكن أنهما اجتمعا" فينسب إليهما السماع فيعلم بإتيانه بما لا يمكن أنه كاذب "أو نسبة حديث إلى وقت يعلم أنه لم يكن فيه أو طرح كذب معلوم على ثقة لا يحتمله أو سبق لسان" الكذاب "إلى إقرار بما يدل على التهمة".
وأما حكم الرواة والتعبد في العمل بروايتهم فقد أبانه المصنف بقوله "على أنا غير متعبدين" بالباطن أي مما في نفس الأمر مما لا نفعله من أحوال بواطن العباد "ومتى صلح الظاهر حكمنا به ولا جرح ولله الحمد" قلت: إلا أن هذا ينبني على أن إالأصل
العدالة أو على أن المراد أن العدل بعد ثبوت عدالته لا يبحث عن حاله "ولنا صفوه" أى الحديث "وثوابه وعلى الكاذب كيده" للإسلام بالكذب في أشرف علومه "وعقابه".
ثم إستدل على التعبد بما في الباطن بقوله "وقد فعل نحو هذا سيد المرسلين وقال: "إن أحدكم يكون ألحن بججته" 1 في النهاية2 المراد أن أحدكم يكون أعرف بالحجة وأفطن لها من غيره "وإنما أقضى بنحو ما أسمع فمن حكمت له بشىء من مال أخيه فانما أقطع له قطعة من نار" فإنه صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مكلفا إلا بالظاهر وأدلته كثير كحديث: "إننى لم أومر أن أفتش على قلوب الناس" 3 وحديث: "حتى يقولون لا إله إلا الله" 4 "فهذا والوحى ينزل عليه وجبريل يهبط إليه وكذلك فعل أمير المؤمنين على عليه السلام من بعده وقد أمر بقطعيد السارق ثم بأن له لم يسرق" فدل أنه حكم يخلاف ما في نفس الأمر وهذا مبني على أن فعل على عليه السلام حجة "وقد كان يحلف من أتهمه في الرواية ثم يقبله والله أعلم" مع أنه يحلفه لا ترتفع إلا التهمه ولا يعلم به ما في نفس الأمر.
"قال زين الدين فمن أولئك الذين كانوا يكذون حسبة وتقربا إلى الله أبو عصمة نوح بن أبي مريم المروزى قاضي مرو" وعالمها قال الذهبي يقال له الجامع لأنه أخذ الفقه عن أبي حنيفة وإبن أبي ليلى والحديث عن ولى قضاء مرو في خلافة النصور وامتدت حياته سءل عنه 'بن المبارك فقال هو يفول لا إله إلا الله وقال أحمد يكن بذلك في الحديث وقال مسلم وغيره متروك الحديث.
"وروى الحاكم بسنده إلى أبي عمار المروزى أنه قيل لأبي عصمة من أين لك عن عكرمة عنإبن عباس في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا فقال إني رأيت الناس قد أغرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازى ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة" فيه أن أنفراد الراوى مظنة تهمة فلذا سألوه وهذا مثال تصريح الواضح بالوضع.
1 البخاري 9/32، 86. وأبو داود 3583. والموطأ 719، والبيهقي 10/149.
2 4/241.
3 البخاري في: المغازي: ب 61، ومسلم في: الزكاة: حديث 144، وأحمد 3/4.
4 البخاري 1/13، ومسلم في: الإيمان: حديث 34. وأحمد 2/345.
"وكان يقال لأبي عصمة هذا نوح الجامع" لجمعه الكمالات كما عرفت مما سقناه "فقال أبو حاتم جمع كل شيء إلا الصدق" قال البخاري منكر الحديث وقال إبن عدى عامة ماروى عنه لايتابع عليه قال الذهبى ومع ضعفه فهو ممن يكتب حديه ذكر ذلك في الميزان.
"وقال الحاكم وضع حديث فضائل القرآن وروى إبن حبان في مقدمة كتاب تاريخ الضعفاء عن إبن مهدى قال قلت: لمسيرة من عبد ربه" ومسيرة بفتح الميم ومثناة تحتيه ساكنهة هو الفارسي وهو ميسرة بن عبد ربه البصرى الأ كال كان يأكل كثيرا روى عن ليث إبن أبي سليم وإبن جريح وموسى بن عبيده والأرزاعى وعنه جماعة "من أين جئت بهذه الأحاديث من قرأ كذا فله كذا قال وضعتها أرغب الناس بها" وفي الميزان أنه قال لميسرة محمد بن عيسى بن الطباع بهذا الكلام في السؤال والجواب بلفظه إلا أنه قال وضعته لا يبعد أن كل واحد من ابن مهدي ومحمد بن عيسى سأله قال وكان ميسرة ممن يروي الموضوعات من الأثبات وقال أبو داود أقر بوضع الحديث وقال الدارقطني متروك وقال أبو حاتم كان يفتعل الحديث روى من فضائل قزوين أربعين حديثا وكان يقول إني أحتسب في ذلك قال البخاري ميسرة بن عبد ربه رمى بالكذب.
"وهكذا حديث أبي" ابن كعب "الطويل في فضائل القرآن سورة سورة" أي موضع "فروينا عن المؤمل" بزنة اسم المفعول أو الفاعل وهو أبو عبد الرحمن البصري مولى آل عمر بن الخطاب حافظ عالم يخطيء وثقة ابن معين وقال أبو حاتم صدوق شديد في السنة كثير الخطأ وقال البخاري منكر الحديث قاله في الميزان "ابن إسماعيل أنه قال حدثني به شيخ فقلت: للشيخ من حدثك فقال حدثني ردل بالمدائن وهو حي فصرت إليه فقلت: من حدثك فقال حدثني شيخ بالبصرة فصرت إليه فقال حدثني شيخ بعبادان" هي جزيرة أحاط بها شعبنا دجلة ساكبتين في بحر فارس "فصرت أليه فأخذ بيدي فأدخلني بيتا فإذا فيه قوة من المتصوفة ومعهم شيخ فقال هذا الشيخ حدثني فقلت: ياشيخ من حدثك قال لم يحدثني أحد ولكنا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن" هكذا ساق الققصة زين الدين في شرحه وساقها الحافظ ابن حجر في نكته بزيادة فزاد بعد قوله حدثني رجل بالمدائن وهو حي فصرت إليه فقلت: من حدثك فقال حدثني
شيخ بواسط فصرت أليه إلى أن قال حدثني شيخ بالبصرة1.
"قال" أي زين الدين "وكل من أودع حديث أبي المذكور في تفسيره كالواحدي2 والثعلبي والزمخشري" قلت: والبيضاوي وأبي سعيد "مخطئ في ذلك" لأنه روى ما هو كذب بإقرار واضعه "لكن من أبرز إسناده منهم فهو أبسط لعذره إذ قد أحال ناظره على الكشف عن سنده" تمام كلام زين الدين وأما من لم يذكر سنده فأورده بصيغة الجزم فخطاؤه أشد كالزمخشري.
قال الحافظ ابن حجر: والإكتفاء عن الحوالة على الإكتفاء بالنظر في السند طريقة معروفة لكثير من المحدثين وعليها يحمل ما صدر عن كثير منهم من إيراد الأحاديث الساقطة معرضين عن بيانها تصريحا وقد وقع هذا لجماعة من كبار الأئمة وكان ذكر الإسناد عندهم من جملة البيان انتهى.
قلت: ولا يتوهم الناظر أنه لم يثبت حديث في فضائل سور من القرآن فقد ثبتت أحاديث في سور معينة كالصمد وغيرها منها ما هو صحيح ومنها ما هو حسن وقد أودعها الجلال السيوطي في كتابه الدر المنشور.
"قلت: بل من لم يعتقد وضعه أعذر عن ذلك إذ كل ناظر إلى الإسناد لا يعرف أنه أسنده لهذه العلة بل ولايتهم ذلك ويقل في أهل المعارف من يتمكن من البحث في الإسناد فكيف بغيرهم" لا يخفى قوة كلام المصنف هذا على منصف.
"قال زين الدين وذكر الإمام أبو بكر محمد بن منصور السمعاني أن بعض الكرامية" بتشديد الراء نسبة إلى أبي عبد الله محمد بن كرام السجستاني وكان عابدا زاهدا إلا أنه خذل كما قال ابن حبان فالتقط من المذاهب أردأها من الأحاديث أوهاها وأطال الذهبي في الميزان وفي ترجمته وبيان فساد أحواله وقيل كرام بالتخفيف وأنشد عليه ابن الوكيل قول الشاعر:
الفقه فقه أبي حنيفة وحده
…
والدين دين محمد بن كرام
1 فتح المغيث 1/131، والنكت 2/637. والكفاية ص 401. والموضوعات 1/41، 2/242.
2 الواحدي هو: علي بن أحمد بن محمد أبو الحسن النيسابوري كان أوحد عصره في التفسير لازم الثعلبي صنف التفاسير الثلاثة البسيط والوسيط والوجيز مات سنة 468. له ترجمة في: البداية والنهاية 12/114. وشذرات الذهب 3/330، والعبر 3/267.
وقبله:
إن الذين لجهلهم لم يقتدوا
…
في الدين بابن كرام غير كرام
وهما لأبي الفتح البستي.
"ذهب إلى جواز وضع الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما لا يتعلق به حكم من الثواب والعقاب ترغيبا للناس في الطاعة وزجرا لهو عن المعصية" يقال: هذا أيضا يتعلق به ثواب وعقاب.
"واستدلوا" لما أجاروه بأدلة:
أحدهما: قوله: "بما روى في بعض طريق الحديث: "من كذب علي متعمدا ليضل به الناس فليتبوأ مقعده من النار" أخرجه الطبراني عن عمرو بن حريث وأبو نعيم في الحلية1 عن ابن مسعود قالوا فتحل الروايات المطلقة على الروايات المقيدة كما بتعين حمل الروايات المطلقة عن التعمد على المقيدة به.
وأجيب بأن قوله ليضل به الناس مما اتفق الحفاظ على أنها زيادة ضعيفة وأقوى طرقها ما رواه الحاكم وضعفه من طريقق يونس بن بكر عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود قال الحاكم وهم يونس في موضعين أحدهما أنه أسقط بين طلحة وعمرو رجلا وهو أبو عمار.
الثاني: أنه وصله بذكر ابن مسعود وإنما هو مرسل وعلى تقدير قبول هذه الزيادة فلا تعلق لهم بها لأن لها وجهين صحيحين:
أحدهما: أن اللام في قوله ليضل لام العاقبة من باب: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] قلت: فيه تأمل لأن معنى لام العاقبة هنا ليكون عاقبة كذبه إضلال الناس وهم لا يضلون بكذبه لأن كذب الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم إما أن يعلمه الناس أو يجهلونه إن علموا أنه كذب فضلا لهم من حيث إنهم عملوا بالحديث الكاذب ولو كان من غير تعمد لإضلالهم وإن عملوا به مع جهلهم كونه كذبا فلا ضلال بل هم مأجورون لما عرفت قريبا من أنهم غير مخاطبين بما في نفس الأمر على أن حمل اللام على ذلك لا يجدي نفعا لأن مراد المستدل بمفهوم ليضل الناس أنه إن وضع ما لا إضلال فيه للناس فإنه غير داخل في الوعيد فكيف يصح عليه بأنها تحمل اللام
1 الموضوعات 1/97، وابن عدي 1/20. والمجمع 1/144، 146.
للعاقبة وكأنه يقول من حملها على ذلك إنه لا مفهوم لها ولا نسلم فإنه باطل بالوجه الأول فتأمل.
وثانيهما: أنها للتأكيد ولا مفهوم لها من باب: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ} الآية لأن الافتراء على الله محرم سواء قصد به إضلال الناس أولا.
"وحمل بعضهم حديث: "من كذب علي متعمدا" على من قال أنه ساحر أو مجنون" واستدلوا لذلك بحديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده بين عيني جهنم" قالوا: يا رسول الله تحدث عنك بالحديث فتزيد وتنقص؟ قال: "ليس ذلك أعنيكم إنما أعنى الذي كذب علي متحدثا بطلب به شين الإسلام" الحديث أخرجه الطبراني في الكبير وابن مردويه1 وجوابه ما قاله الحاكم إنه حديث باطل فيه محمد بن الفضل بن عطية العوفي اتفقوا على تكذيبه وقال صالح جزره كان يضع الحديث.
"وقال بعض المخذولين" ممن أجاز الكذب عليه صلى الله عليه وسلم ترغيبا وترهيبا "إنما قال من كذب علي ونحن نكذب له ونقوي شرعه" وجوابه أن هذا جهل منهم باللغة لأنه كذب عليه في وضع الأحكام فإن المندوب قسم منها ولأنه يتضمن الأخبار عن الله في الوعد على ذلك العمل بالاثابة والاخبار بالعقوبة المعينة ولأنه تعالى قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الآية فلا يحتاج إلى زيادة لنقويته كما قالوه "نسأل الله السلامة من الخذلان وروى العقيلي باسناده إلى محمد بن سعيد كأنه المصلوب" كذا في شرح الزين لألفيته بالأتيان بكلمهة الشك وفي الميزان في ترجمة محمد بن سعيد المصلوب قال أبو زرعة الدمشقي حديثا محمود بن خالد عن أبيه سمعت محمد بن سعيد يقول "لا بأس إذا كان كلاما حسنا أن يضع له إسنادا" قال الذهبي إتهم بالزندقة فصلب وفي نكت البقاعي قال عن عبد الله إبن أحمد أبيه أنه قتله أبو جعفر على الزندقة حديثه حديث موضوع.
"قلت: مثل هذا لايخفي جوابه فإن الكذب على الله وعلى رسوله بالجملة معلوم تحريمه من الدين ضرورة" فإن القرآن مملوء بذلك ففي حقه تعالى والسنة في حق رسوله
1 الموضوعات 1/95، وابن كثير 1/211. والقرطبي 13/7. والدر 5/64.
صلى الله عليه وسلم ولأن الافتراء على الرسل إفتراء على الله هذا بالنسبة إلى الجملة.
"وبالنسبة إغلى الترغيب والترهيب معلوم تحريمه بالاستدلال بمجموع الكتاب والسنة والاجماع المعلوم قبل حدوث هؤلاء" الزاعمين جوازه "فإن تكرر تلك العمومات" القرآنية مثل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الأنعام: 21] ونحو من كذب على متعمدا "والظواهر" عطف عام على خاص أو تفسيرى "من غير التفات" من أحد من العلماء "إلى تخصيص على طول الأزمان يؤثر في نفس المتأمل القطع على عدم هذا التخصيص ومستند القطع بعد النظر التام والتأمل ضرورى حاصل من مجموع تلك الأمور مع القرائن وقد ذكر" الامام فخر الدين "الرازى1" المعروف بابن الخطيب صاحب مفاتيح الغيب وغيره "في المحصول" كتابه الذي ألفه في أصول الفقه "أن العلم بمقصود المتكلم" من ألفاظه "إنما يحصل بالقرائن" التي تحفه "وذلك لأن أصرح الألفاظ النص وهو محتمل" إن ورد "في أمور التحريم للنسخ" وإن كان إحتمالا مرجوجا "وفيها" أى ألفاظ النص محتمل "وفي غيرها لأمور كثيرة من التجوز والأشتراك والإضمار والتخصيص وغير ذلك" حتى إن الأسم العلم الذي هو أبلغ نص في مسماه يحتمل التجوز فإنك إذا قلت: جاء زيد إحتمل أنك تريد غلام. زيد.
"وغاية ما يقول المستدل" بالنصوص "أن هذه الأمور" المذكورة بالإحتمال "منتفية عن النص لكن دليله على ذلك" الإنتقاء "عدم الوجدان وهو ظنى" وحينئذ فلا يحصل علم ضرورى عن النصوص "فأجاب عن هذا" الإيراد بالتزامه وأن النص من حيث هو نص لا يفيد إلا الظن ولكن قد يحصل العلم منه "بأنا قد نعلم بعض المقاصد" من الألفا ظ "بالضروة الصادرة عن القرائن التى لا ترفع بالشك" فيتم حينئذ ما ادعاه الصنف من أنه قد يحصل القطع من تلك الأمور مع القرائن.
"قلت: وما نزل عن مرتبة العلم" من المطالب "فليس علينا تكليف في رفعه إليها" إلى مرتبة العلم "بل نقف حيث وقف الدليل" من إفادة علم أو ظن "ومثال ذلك" أي مثال ما يحتمل غير المراد وتبين المراد فيه القرائن وتصيره قطعيا "قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} فإنا نعلم" مع احتماله للإباحة "بالقرآئن أن هذا تمهيد لا إباحة وإن كان لفظه يحتمل الإباحة".
1 الإمام فخر الدين الرازي توفي سنة 606. له ترجمة في: شذرات الذهب 5/21.
"ثم" أخذ في الرد على بعض الكرامية ورد دليلهم بقله "نقول للكرامية لو جاز لنا أن نكذب في الترغيب والترهيب نصرة للدين" كما قلتم "لجاز للنبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وتجويز مثل ذلك عليه كفر بالإجماع القطعي" قلت: لعله يقال أما على رأي من يجيز التفويض إليه صلى الله عليه وسلم فلا يتصور الكذب في حقه فلا يتم الإيراد "فما أدى فهو كفر باطل قطعا وقد أدى إليه مذهبهم وذلك يؤدي إلى الشك في الجنة والنار أيضا" لجواز الكذب في الأخبار بهما وإنما ذكرهما ترغيبا وترهيبا إلا أنه قد يقال فد ثبت الأخبار بهما بالنصوص القرآنية والكلام في الأخبار النبوية إذ لا نزاع أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى إلا أنه يقال تجويز الكذب عليه صلى الله عليه وسلم يلزم منه جواز أن القرآن من كلامه وهذا خروج عن الإسلام "وليس هذا موضع بسط للرد عليهم لكن هذه فائدة على قدر هذا المختصر".
"قال زين الدين وحكى القرطبي" بضم القاف نسبة إلى قرطبة مدينة بالأندلس في المفهم بزنة اسم الفاعل شرح على مسلم "عن بعض أهل الرأي" هم عند الإطلاق مراد بهم الحنفية "إن ما وافق القياس الجلي جاز أن يعزي" ينسب "إلى النبي صلى الله عليه وسلم وروى ابن حبان في مقدمة تاريخ الضعفاء بإسناده إلى عبد الله بن يزيد المقري أن رجلا من أهل البدع رجع عن بدعته وتاب عنها فجعل يقول انظروا إلى هذا الحديث عمن تأخذونه فإناكنا إذا رأينا رأيا جعلنا له حديثا قلت: لعل من جملة بدعة هذا الرجل يقول بجواز الكذب في نصرة ما اعتقده حقا إذ ليس كل صاحب بدعة كذلك" أي يقول بجواز الكذب لنصرة مذهبه.
"وأما الكذب فيشترك في ارتكابه المبتدع ولامحق وكذلك الصدق" مشترك في وقوعه منهما "فكم من صحيح العقيدة فاسق كذاب" إذ لا ملازمة بين صحة العقيدة وعدم الفسق والكذب "ومن مبتدع ناسك أواب" لعدم التلازم أيضا بين الأمرين "نسأل الله التوفيق للسلامة من كلاهاتين المعصيتين".
فائدة: في حكم تعمد الكذب عليه صلى الله عليه وسلم "والجمهور على أن تعمد الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كبيرة" لأنه قد صدق عليها رسم الكبيرة بأنه ما توعد عليه بالعقاب "وقال الجويني إنها" أي هذه الكبيرة "كفر ويدل على قوله قول الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [الأنعام: 21] فسوى" في الآية "بين الكذب على الله وتكذيبه" ولا شك أتكذيبه كفر وأن الكذب على الرسول
صلى الله عليه وسلم كالكذب على الله تعالى "واستنكر" الرب تعالى حيث أتى بالاستفهام الأنكاري "أن يكون ذنب" أي ظلم "أعظم من ذلك قال" الجويني "ولأنه قد يكذب" من يكذب على الله أو رسوله "ما يرفع" الحكم "الضروري" وذلك "على الصحيح" من القولين "في نسخ المتواتر" الذي أفاد الضرورة "بالآحاد" الذي فرض وضع الراوي له "ورفع الضروري كفر" لأنه تكذيب للشارع وهو كفر و "لأن الكذب في الشريعة يدل على الإستهانة بها" ضرورة "والله أعلم" وهذا من المصنف تقوية لكلام الجويني.
"قال زين الدين ومن أقسام الموضوع ما لم يقصده وضعه وإنما وهم فيه بعض الرواة" فسماه موضوعا "قال ابن الصلاح: إنه شبه الوضع" من حيث إنه ليس بحديث في إرادة قائله ولا واضعه.
"مثل حديث من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار رواه ابن ماجه1 من حديث" إسماعيل بن محمد الطلحي كما في شرح الزين عن "ثابت بن موسى الزاهد عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا قال الحاكم" أبو عبد الله محمد بن عبد الله "دخل ثابت على شريك والمستملي بين يديه" بين يدي شريك "وشريك يقول حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر" شريك "المتن" أي متن السنذ الذي ساقه "فلما نظر" شريك "إلى ثابت بن موسى" عند دخوله عليه وفراغه من إملاء السند "قال" شريك يخاطب ثابتا "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار وإنما أراد" شريك بقوله من كثرت صلاته ألخ "ثابتا لزهده وورعه" فأعرض عن ذكر متن ما ساق سنده إلى وصف ثابت بكثرة صلاته بالليل وحسن وجهه بالنهار "فظن ثابت أنه" أي شريكا "روى هذا الحديث" إلى آخر الكلام "مرفوعا بهذا الإسناد" ولا عجب من ظن ثابت لأن شبهته في ظنه قوية فإن شريك عقب قوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله من كثرت صلاته إلخ "فكان ثابت يحدث عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر" قال ابن حبان وهذا قول شريك قاله عقب حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم فأدرجه ثابت في الخبر ثم سرقه منه جماعة ضعفاء فحدثوا به عن شريك فعلى هذا هو من أقسام المدرج قاله زين الدين.
1 رقم 1333، والخطيب 1/341. وتنزيه الشريعة 2/106.
"ونحو هذه القصة ما قاله محمد بن عبد الله بن نمير" لفظ الزين قال أبو حاتم الرازي كتبته عن ثابت فذكرته لابن نمير فقال الشيخ يعنى ثابتا لا بأس به والحديث منكر قال ابن عدي بلغنا عن محمد ابن عبد الله بن نمير أنه ذكر له هذا الحديث عن ثابت فقال باطل شبه على ثابت وذكر أن شريكا كان مزاحا وكان ثابت رجلا صالحا فيشبه أن يكون ثابت دخل على شريك وكان شريك يقول حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم فالتفت فرأي ثابتا فقال يمازحه من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار فظن ثابت لغفلته أن هذا الكلام حديث ذكر هذا الذهبي في الميزان.
"وقال ابن عدي إنه" أي من كثرت صلاته إلخ "حديث منكر لا يعرف إلا بثابت وسرقه منه من الضعفاء عبد الحميد بن بحر" في الميزان أنه بصري روى عن مالك قال ابن حبان كان يسرق الحديث وكذا قال ابن عدي.
"وعبد الله بن شبرمة الشريكي" وليس هوابن شبرمة الفقيه فقد غلط من اعترض وقال ابن شبرمة ثقة فقيه وقال البقاعي لم أر له ذكرا أي لعبد الله بن شبرمة مع الفحص عنه وأظنه عبد الله بن شبيب الربعي تصحف على النقلة وكنيته أبو سعيد وهو أخباري علامة قال شيخنا في لسان الميزان يروى عن أصحاب مالك وآخر من حدث عنه المحاملي وأبو روق الهزاهزي لكنه واه بمرة.
"واسحق بن بشر الكاهلي" في الميزان إنه كذبه على بن المديني وقال ابن حبان لا يحل كتب حديثه إلا للتعجب.
"وموسى بن محمد أبو الطاهر المقدسي" في لسان الميزان إنه ابن عطاء الدمياطي البلقاوي الرملي المقدسي أبو طاهر روى عن مالك وشريك قال ابن حبان لا تحل الرواية عنه كان يضع الحديث.
"قال" أي ابن عدي: "وحدثنا به بعض الضعفاء عن رحمويه" بالراء والحاء المهملتين في نسخ التنقيح وفي شرح الزين حمويه بدون راء ولم أجده في الميزان وإنما وجدنا فيه حمويه بن حسين وفي نكت البقاعي أن رحمويه اسمه زكرياء بن صبيح بالفتح الواسطي أحد الثقات ورحمويه لقب "وكذب" أي بعض الضعفاء "فإن رحمويه ثقة" لا يحدث بمثل ذلك.
"وقال العقيلي إنه حديث باطل ليس له أصل ولا يتابعه" أي ثابتا "عليه ثقة وقال
عبد الغني بن سعيد كل من حدث به عن شريك فهو غير ثقة وقال ابن معين في ثابت إنه كذاب" وقال أبو حاتم وغيره ضعيف وقال أبو حاتم لا يجوز الاحتجاج بأخباره.
"قلت: وبمثل هذا حذرتك فيما مضى من اعتقاد تعمد الكذب فيمن أطلق عليه بعض المحدثين أنه كذاب فهذا يحيى بن معين على جلالته يطلق ذلك على ثابت الورع الزاهد ولم يتعمد ثابت شيئا من ذلك" أي من الكذب "بل ولم يظهر منه كثرة الخطأ".
قلت: أخرج له النسائي لا غيره قال في الميزان عن ابن عدي إنه تفرد ثابت عن شريك بخبرين منكرين ثم ذكرهما أحدهما هذا الحديث الذي نحن بصدده ثم ذكر الثاني ثم قال ولثابت ثلاثة أحاديث معروفة وساقها في الميزان فهذا مراد المصنف من عدم كثرة الخطأة "ولذلك وثقة مطين" بضم الميم فطاء مهملة فمثناة تحتية فنون هو الحافظ الكبير أبو جعفر محمد بن عبد الله بن سليمان الخضرمي الكوفي قال الذهبي في التذكرة كان من أوعية العلم وذكر له مؤلفات وقال الدارقطني ثقة جبل انتهى قلت: لكن إذا تعارض كلامه وكلام يحيى بن معين فيرجح كلام يحيى لأنه أفقه بمعرفة الرجال باتفاق الحافظ ولمرجح آخر هو تقديم الجرح.
"والصورة التي حكاها الحاكم محمد بن عبد الله بن نمير مما يوضح أن ثابتا رحمه الله معذور في الوهم فإنه سمع شريكا يسند حتى انتهى إلى جابر فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم الحديث" تمامه: "إذا نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشطا طيب النفس إلا أصبح خبيث النفس كسلان" رواه مالك والشيخان وأبو داود وابن ماجه1 وقوله قافية رأس أحدكم المراد مؤخره ومنه سمي آخر بيت الشعر قافية.
واعلم أن الحاكم جزم بأنه دخل ثابت على شريك فسمعه يذكر السند إلى آخر ما تقدم وأما ابن نمير فلم يجزم بذلك بل قال كما نقله الذهبي في الميزان فيشبه أن يكون ثابت دخل على شريك إلى آخر ما قدمناه عنه.
"قال ابن حبان فمن أين لثابت أن أوله من قول شريك لا سيما وقوله: "بعده يقعد
1 مالك 176، والبخاري 2/65، ومسلم في: صلاة المسافرين: حديث 209، وأبو داود 1306. وابن ماجة 1329.
الشيطان على قافية رأس أحدكم" ملائم لأول الحديث" أي الكلام الذي ظنه ثابت حديثا "فإنه يتعلق بتخذيل الشيطان للإنسان عن قيام الليل الذي ذكر ما فيه من الفضيلة في أول الحديث" وهي حسن وجه من كثرت صلاته بالليل.
"فعلى هذا" أي يتفرع على إطلاق يحيى على ثابت أنه كذاب مع ما عرف من حال ثابت "قول المحدثين فلان كذاب من قبيل الجرح المطلق الذي لم يفسر سببه" هو وصف كاشف للمطلق "فيتوقف" عند أطلاقه من إمام من أئمة الحديث "فيمن هذه حاله" أي حكال ثابت وزهده وورعه "حتى يعرف السبب" في إطلاق ذلك اللفظ عليه "إن كان" من أطلق عليه "ضعيفا" عمل بإطلاق ذلك اللفظ "ويوثق" من أطلق عليه الكذب "إن كان" من أطلق عليه "شهيرا بالعدالة" فإطلاق الكذب عليه لا يضره بل يوجب البحث عنه حتى يتبيل حاله.
"كعمرو بن عبيد" هو أبو عثمان المعتزلي البصري كان زاهدا ورعا متألها قال ابن معين لا يكتبت حديثه وقال النسائي متروك وقال أيوب ويونس يكذب وقال ابن حبان كان من أهل الورع والعبادة إلى أن أحدث ما أحدث فاعتزل مجلس الحسن هو وجماعة معه قسموا المعتزلة قال وكان يشئم الصحابة ويكذب في الحديث وهما لا تعمدا قاله الذهبي في الميزان وأطال في ترجمته.
"إن لم يصح أنه كان سيء الحفظ" استثناء منقطع فإن سوء الحفظ لا ينافي عدالته ولذا قال "وإن صح ذلك ضعف ولم يكذب" فإن الكذب ينافي العدالة ولا ينافيها الضعف "حتى لا يترك المعلوم من عدالته إلا بجرح مثلها في الصحة والظهور" حاصله أنها إذا ثبتت فلا يرفعها إلا جرح ثابت لا محتمل ووصفهم بالكذب للمشاهير بالعدالة لا يريدون به حقيقة بل مطلق التضعيف مجازا ولذا قال ابن حبان في عمرو يكذب في الحديث وهما لا تعمدا فإن الحقيقة في الكذب الذي يقدح ما كان عن عمد "أو" يخرج عن العدالة "أمر بين السبب متعذر التأويل وإن كان أخفى منها" من العدالة شهرة وظهورا.
"وإنما ذكرت هذا هنا" وإن كان محله ما سيأتي "حرصا على إظهار هذه الفائدة الجليلة" وهي أن رمي الرجل الشهير بالعدالة بالكذب لا يوجب القدح فيه بل يوجب توقفا في قبوله حتى يبين سبب ضعفه وإن كان القدح بالكذب فيمن لم تعرف عدالته كان جرحا مبين السبب بأنه الكذب كما يدل له قوله "فقد جرح بمثل هذا كثير من
الثقات وما على الجارح إثم لأنه عمل بالظاهر ولم يعلم الباطن" ولا على الغافل أيضا إثم لأنه قبل قول الثقة ولا يخفى أن هذا تخصيص للقاعدة المعروفة بأن الجارح أولى وقد صرحوا بتخصيصها ويأتي الكلام في هذا كله.
"وقد اعترض على صاحبي الصحيحين" البخاري ومسلم "بروايتهما عن جماعة الثقات الرفعاء لشيء خفيف صدر عنهم من هذا القبيل فتجاسر من لا يلتفت إلى كلامه فتكلم عليهم" على الرفعاء وعلى الشيخين في الإخراج عنهم وقد تقدم كلام أبي محمد بن حزم وغيره "والعدالة غير العصمة ولله الحمد" فلا ينافيها صدور شيء من المعاصي وفيه تأمل.
* * *