المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب في الاعتكاف - حاشية الصاوي على الشرح الصغير ط الحلبي - جـ ١

[أحمد الصاوي]

الفصل: ‌باب في الاعتكاف

‌باب في الاعتكاف

(الاعتكاف نافلة) من نوافل الخير، (مرغب فيه) شرعاً (وهو) في الأصل: مطلق اللزوم لشيء، وشرعاً:(لزوم مسلم مميز) من إضافة المصدر لفاعله؛ فلا يصح من كافر ولا من غير مميز. (مسجداً) مفعول المصدر فلا يصح في غيره من بيت أو خلوة، (مباحاً) للناس فلا يصح في مسجد البيوت المحجورة (بصوم): أي صوم كان فرضاً أو نفلاً، رمضان أو غيره (كافاً) حال من مسلم (عن الجماع ومقدماته) ليله ونهاره وإلا فسد.

(يوماً بليلته) أي ليلة اليوم وهي السابقة عليه كليلة الخميس ويومه، وهذا إشارة إلى أقله، (فأكثر) فيه إشارة إلى أنه لا حد لأكثره، وأحبه عشرة أيام، وقوله:"يوماً" ظرف "للزوم". (للعبادة) متعلق بلزوم، وسيأتي بيان أفضلها (بنية): الباء للملابسة أو بمعنى مع، متعلقة بـ (لزوم) إذ هو عبادة، وكل عبادة تفتقر لنية.

(ومن فرضه الجمعة): وهو الذكر الحر البالغ المقيم، (و) نذر أو أراد اعتكافاً (تجب) الجمعة (به) أي فيه -أي في زمنه- كسبعة أيام فأكثر أو أقل والجمعة في أثنائه كثلاثة أيام أولها الخميس، (فالجامع) متعين في حقه.

(وإلا) يعتكف في الجامع، بل اعتكف في مسجد غيره (خرج) للجمعة وجوباً (وبطل) اعتكافه بمجرد خروجه برجليه معاً (ويقضيه) وجوباً وشبه في وجوب الخروج والبطلان والقضاء قوله:

ــ

خاتمة: من أفطر متعمداً في قضاء رمضان فإنه يؤدب، ومثله من أفطر متعمداً في كل واجب. ولو كان فطره بما يوجب الحد كفاه الحد وقيل يجمع بينهما والأول أوجه. واختلف: هل يلزمه قضاء القضاء فيقضي يومين: يوماً عن الأصل، ويوماً عن القضاء؟ أو لا يلزمه إلا الأصل؟ وهو الأرجح، وأما إن أفطر سهواً أو لعذر فلا يقضي اتفاقاً. واختلف: هل يؤدب المفطر عمداً في النفل لغير وجه أو لا يؤدب للخلاف فيه وهو الذي جزم به في المجموع تبعاً للبناني، وترك المصنف هنا مسائل النذر اتكالاً على ما يأتي في بابه، وذكرها هنا خليل استطراداً والله أعلم.

باب في الاعتكاف [1]

لما أنهى الكلام على ما أراده من فروع الصوم، وكان من حكمة مشروعيته تصفية مرآة العقل والتشبه بالملائكة الكرام في وقته، أتبعه بالكلام على الاعتكاف التام الشبه بهم في استغراق الأوقات في العبادات، وحبس النفس عن الشهوات، وكف اللسان عما لا ينبغي. ويقال: عكف يعكف -بالضم والكسر- عكفاً وعكوفاً: أقبل على الشيء مواظباً، واعتكف وانعكف بمعنى واحد، وقيل اعتكف على الخير وانعكف على الشر اهـ. خرشي.

قوله: [نافلة]: صادق بالندب والسنية؛ وهما قولان.

قوله: [مطلق اللزوم]: أي لخير أو شر، ومنه قوله تعالى:{فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم} [الأعراف: 138] قوله: مميز: هو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب ولا ينضبط بسن بل يختلف باختلاف الناس، ويخاطب المميز غير البالغ بالصوم تبعاً للاعتكاف لأنه من شروط صحته، وتقدم كراهة الصوم له استقلالاً.

قوله: [فلا يصح في مسجد البيوت]: أي ولو للنساء، ولا في الكعبة، ولا في مقام ولي حيث كان محجوراً، وأما لو كان غير محجور وجعل مسجداً كمقام الحسين والشافعي والسيد البدوي فيصح الاعتكاف فيه، ولا يصح في رحبته ولا في الطرق المتصلة به، إذ لا يقال لواحد منهما مسجد، ولا يصح في بيت القناديل والسقاية والسطح.

قوله: [وهذا إشارة إلى أقله]: أي الذي يلزم بالنذر المطلق كقوله: نذرت الاعتكاف أو اعتكافاً.

قوله: [أنه لا حد لأكثره]: أي من جهة الصحة بدليل ما بعده.

قوله: [وأحبه عشرة أيام]: أي ومنتهى المندوب شهر، قال في المجموع: وهذا زبدة خلاف كثير، وكره الأقل عن العشرة والزائد عن الشهر.

قوله: [للعبادة]: أي لأجل العبادة فيه بأي نوع منها.

قوله: [وسيأتي بيان أفضلها]: أي وهو اشتغاله بذكر نحو لا إله إلا الله، واستغفار وتلاوة القرآن، والصلاة التي هي مجمع الذكر والقرآن.

قوله: [خرج للجمعة وجوباً]: أي ما لم يكن يجهل أن الخروج منه مبطل كحديث عهد بالإسلام فيعذر ولا يبطل اعتكافه بخروجه كما في الخرشي وقيده أيضاً بما إذا نذر أو نوى أياماً تأخذه فيها الجمعة كما قال الشارح، وأما لو نذر أياماً لا تأخذه فيها الجمعة فمرض فيها بعد أن شرع، ثم خرج ثم رجع يتم وصادف الجمعة، قال فلا خلاف، أن هذا يخرج إليها ولا يبطل اعتكافه، ولكن قال في التوضيح هذا التفصيل لابن الماجشون وهو خلاف المشهور ومثله لابن عرفة.

وحاصل ما في المسألة: أن من اعتكف في غير الجامع، وهو ممن تلزمه الجمعة، ووجبت عليه الجمعة وهو في معتكفه، وجب عليه أن يخرج لها وقت وجوب السعي لها، وفي بطلان اعتكافه بذلك الخروج وعدم بطلانه أقوال ثلاثة: البطلان مطلقاً وهو المشهور، وعدمه مطلقاً وهو رواية ابن الجهم عن مالك، والتفصيل الذي تقدم ذكره في حاشيه الأصل نقلاً عن (بن).

ومفهوم قوله: "خرج" أنه إن ارتكب النهي ولم يخرج لم يبطل على الظاهر إذا لم يرتكب كبيرة، وإنما ارتكب صغيرة لأن ترك الجمعة لا يكون

[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة]

[1]

قوله: (في الاعتكاف) ليس في ط المعارف.

ص: 255

(كمرض أحد أبويه): دنية، فإنه يجب عليه أن يخرج لبره بعيادته (أو جنازته) أي أحد أبويه، (والآخر) منهما (حي) فإنه يجب عليه أن يخرج لها جبراً للحي منهما، فإن لم يكن الثاني حياً لم يجب عليه الخروج، والواو في كلامه للحال.

(وكخروجه): عطف على كمرض إلا أن التشبيه فيه في البطلان، والقضاء فقط دون وجوب الخروج أي أن خروج المعتكف من المسجد (لغير ضرورته) مبطل لاعتكافه، بخلاف خروجه لضرورته من اشتراء مأكول أو مشروب، أو لطهارة أو لقضاء حاجة.

(أو تعمد فطر) من إضافة المصدر للمفعول، فإنه مبطل للاعتكاف، بخلاف السهو والإكراه، ولا يكون ذلك إلا نهاراً.

(أو) تعمد شرب (مسكر ليلاً) فأولى نهاراً وهو داخل فيما قبله.

(و) بطل (بوطء وقبلة بشهوة) ليلاً، (ولمس) كذلك (وإن) وقع ما ذكر (لحائض معتكفة)، وخرجت من المسجد لنذرها فوقع منها ذلك (سهواً) عن كونها معتكفة فيبطل اعتكافها، وتبتديه، فأولى من غيرها أو منها عمداً.

(ولزم) المعتكف (يوم بليلته) المنذورة (وإن نذر ليلة) فقط فإن نذر ليلة الخميس لزمه ليلته وصبيحتها: ومن نذر اعتكاف ليلة لزمه ليلة مع صبيحتها؛ أي ليلة كانت لأن أقله يوم وليلة، ولا يتحقق الصوم الذي هو من أركانه إلا باليوم وأولى إذا نذر يوماً (لا) إن نذر (بعض يوم) فلا يلزمه شيء إذ لا يصام بعض يوم.

(و) لزم (تتابعه) أي الاعتكاف (في) نذر (مطلقه) أي الذي لم يقيده بتتابع ولا عدمه، فإن قيد بشيء عمل به؛ وهذا في المنذور.

(و) أما غيره فيلزمه (ما نواه) قل أو كثر (بدخوله) معتكفه.

(و) لزم (دخوله قبل الغروب أو معه) ليتحقق له كمال الليلة.

(و) لزم (خروجه) من معتكفه (بعده)، أي بعد الغروب ليتحقق له كمال النهار.

(وندب مكثه) أي المعتكف (ليلة العيد)

ــ

كبيرة إلا إذا كان ثلاثاً متوالية، فإذا حصل الترك في ثلاث جرى -على الخلاف في الكبائر- هل تبطل الاعتكاف أم لا؟

قوله: [كمرض أحد أبويه]: أي مسلمين أو كافرين.

وقوله: [دنية]: خرج الأجداد والجدات فلا يجب الخروج من المعتكف لعيادتهم، فإن لم يخرج جرى في اعتكافه التأويلان في البطلان بالكبائر، لأن العقوق من جملتها، وحيث وجب الخروج لعيادة أحد أبويه فأحرى عيادتهما معاً.

قوله: [فإن لم يكن الثاني حياً لم يجب]: بل لا يجوز له الخروج خلافاً للجزولي القائل بوجوب خروجه لجنازتهما، كما يجب خروجه لعيادتهما وقيد ما قاله المصنف بما إذا لم يتوقف التجهيز على خروجه، وإلا وجب اتفاقاً وبطل اعتكافه.

قوله: [والواو في كلامه للحال]: أي بالنسبة للجنازة لأن عدم الخروج مظنة العقوق للحي، بخلاف ما لو انتقلا جميعا للدار الآخرة فيرضيان بطاعته لربه على أي حال لزوال الحظوظ النفسانية.

قوله: [بخلاف خروجه لضروراته]: أي من غير زيادة على قدر الضرورة وإلا بطل.

قوله: [مسكر]: مثله كل مغيب كالحشيشة حيث غيبت عقله، ومفهوم تعمد أنه إذا لم يتعمد المسكر فلا يكون كذلك، بل يجري على تفصيل الجنون والإغماء المتقدمين في الصوم.

1 -

تنبيه: اختلف في فعله الكبائر غير المسكر كالغيبة والنميمة والقذف والسرقة والعقوق، فقيل: يبطل [1] اعتكافه بذلك وقيل لا يبطل.

قوله: [وبطل بوطء]: أي فإن وطئ عمداً أو سهواً بطل اعتكافه واستأنفه من أوله، ويفسد على الموطوء ولو نائماً، والوطء المذكور مفسد وإن لغير مطيقة، لأن أدناه أن يكون كلمس الشهوة، بخلاف الاحتلام ومحل اشتراط الشهوة في اللمس في غير القبلة في الفم، وأما هي فلا يشترط، وبالجملة فاللمس هنا يجري على الوضوء.

قوله: [وإن وقع ما ذكر لحائض]: حاصله أن المعتكفة إذا حاضت وخرجت وعليها حرمة الاعتكاف، فحصل منها ما ذكر ناسية لاعتكافها فإنه يبطل، وتستأنفه من أوله، ومثل الحائض غيرها من بقية أرباب الأعذار المانعة من الصوم كالعيد، أو من الصوم والمسجد، فلو قال المصنف: وإن من كحائض، كان أولى.

قوله: [وأولى إذا نذر يوماً]: فمن نذر يوماً ما لزمه ليلة زيادة على اليوم الذي نذره، والليلة التي تلزمه هي ليلة اليوم الذي نذره لا الليلة التي بعده كما هو ظاهر ما لابن يونس وغيره، وحينئذ يلزمه في هذه الصورة دخوله المعتكف قبل الغروب أو معه، وكذا في مسألة المصنف.

قوله: [فلا يلزمه شيء]: أي عندنا خلافاً للشافعية، ومحل عدم اللزوم ما لم ينو الجواز، وإلا لزمه ما نذره. واعلم أن ما ذكره من عدم لزوم شيء هو محل اتفاق بين ابن القاسم وسحنون. واختلفا فيمن نذر طاعة ناقصة غير اعتكاف؛ كصلاة ركعة وصوم بعض يوم، فعند ابن القاسم النذر صحيح، ويلزمه كماله، وعند سحنون لا يلزمه شيء، والفرق بين الاعتكاف وغيره ضعف أمر الاعتكاف، بخلاف الصوم والصلاة فإنهما من دعائم الإسلام.

قوله: [ولزم تتابعه] إلخ: أي فإن نذر اعتكاف عشرة أيام من غير تقييد بمتابعة ولا تفرق فإنه يلزمه تتابعها، لأن طريقة الاعتكاف وشأنه التتابع.

قوله: [بدخوله معتكفه]: أي لأن النفل يلزم كماله بالشروع فيه، فإن لم يدخل معتكفه فلا يلزمه ما نواه.

قوله: [ولزم دخوله قبل الغروب]:

[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة]

[1]

قوله: (فقيل: يبطل) في ط المعارف: (فيبطل).

ص: 256

إذا اتصل اعتكافه بها، ليخرج منه إلى المصلى فيوصل عبادة بعبادة.

(و) ندب مكثه (بآخر المسجد) لأنه أبعد عن الناس.

(و) ندب اعتكافه (برمضان) لأنه من أفضل الشهور، وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.

(و) ندب كونه (بالعشر الأواخر منه) لأن ليلة القدر فيه أرجى.

(و) ندب (إعداده ثوباً آخر) غير الذي هو عليه لئلا يصيب ما عليه نجاسة أو وسخ أو قمل، فيلبس ما أعده.

(و) ندب (اشتغاله) حال اعتكافه (بذكر) نحو: "لا إله إلا الله" ومنه الاستغفار، (وتلاوة) القرآن (وصلاة) وهي مجمع الذكر والخير.

(وكره أكله بفناء المسجد أو رحبته): التي زيدت لتوسعته، فإن أكل خارج ذلك بطل اعتكافه، والمطلوب أن يأكل فيه على حدة.

(و) كره لقادر على الكفاية (اعتكافه غير مكفي) بفتح الميم وسكون الكاف اسم مفعول كمرمي أصله مرموي، لأنه ذريعة لخروجه إلى شراء ما يحتاج إليه، فيندب أن يعتكف محصلاً ما يحتاج إليه من مأكل ومشرب وملبس،

ــ

قال ابن الحاجب: ومن دخل قبل الغروب اعتد بيومه، وبعد الفجر لا يعتد به، وفيما بينهما قولان: المشهور الاعتداد، وقال سحنون: لا يعتد، وحمل بعضهم قول سحنون على النذر، والقولين بالاعتداد على النفل، ولكن المعتمد الاعتداد مطلقاً نفلاً أو نذراً. واعلم أن مبنى القولين الخلاف في أقل ما يتحقق به الاعتكاف، فعلى القول بأنه يوم وليلة إذا دخل قبل الفجر أو معه لا يجزئ ما لم يضم له ليلة في المستقبل، سواء كان منوياً أو منذوراً، وعلى القول بأن أقله يوم فقط إذا دخل قبل الفجر أو معه، أجزأ ذلك اليوم ولو كان نذراً.

قوله: [إذا اتصل اعتكافه بها]: أشعر كلامه أنه لو كان اعتكافه في العشر الأول أو الأوسط لم يندب له مبيت الليلة التي تلي ذلك، وهو كذلك.

قوله: [بآخر المسجد]: أي عجزه المقابل لصدره.

قوله: [وفيه ليلة القدر]: أي غالباً على أحد القولين هل هي دائرة بالعام، وهو ما صححه في المقدمات حيث قال: وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأكثر أهل العلم وهو أولى الأقاويل، أو في رمضان وهو الذي شهره ابن غلاب، وعلى كل فالغالب كونها في العشر الأواخر من رمضان، والعمل فيها خير من ألف شهر، سواء علم القائم لها بأنها ليلة القدر أو لا. ولها علامات ذكرها العلماء منها: طلوع الشمس صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها، وليلتها تكون السماء صحواً لا غيم فيها، والوقت لا حار ولا بارد، قال شيخنا المؤلف ومن أطلعه الله عليها يرى كل شيء ساجدا لله، يسمع منه الذكر بلسان المقال، ويشاهد أموراً لا تحيط بها العبارة، ويندب لمن رآها أن يكتمها فلا يحدث بها، لأن الاطلاع عليها من السر المكتوم، ومن باح بالسر ضيعه؛ ولمحيي الدين بن العربي قاعدة لإدراكها حاصلها: أنه إن كان مبدأ الشهر الجمعة كانت ليلة تسع وعشرين، وإن كان السبت كانت ليلة إحدى وعشرين، وإن كان الأحد كانت ليلة سبع وعشرين، وإن كان الاثنين كانت ليلة تاسع عشرة، وإن كان الثلاثاء كانت ليلة خمس وعشرين، وإن كان الأربعاء كانت ليلة سابع عشرة، وإن كان الخميس كانت ليلة عشريه فاحفظ تلك القاعدة. وسميت بذلك إما لتقدير البركات والخيرات فيها لأن جميع مكونات العالم تقدر فيها، أي تظهر للملائكة، أو لعظم قدرها. وقيل غير ذلك.

تنبيه: المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: «التمسوها في التاسعة أو السابعة أو الخامسة من العشر الأواخر من رمضان» ما بقي من العشر لا ما مضى، فالتاسعة ليلة إحدى وعشرين، والسابعة ليلة ثلاث وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين، إن كان الشهر ناقصاً وإلا فالتاسعة ليلة اثنين وعشرين، والسابعة ليلة أربع وعشرين، والخامسة ليلة ست وعشرين فتأمل، وقيل العدد من أول العشر، فالتاسعة ليلة تسع وعشرين، والسابعة ليلة سبع وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين، وعلى كل حال فيحتاط في العشر كما قالوا لاحتمال كمال الشهر ونقصانه.

قوله: [التي هي خير من ألف شهر]: أي كما نطقت به الآية الكريمة.

وسببها أنه «ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله تعالى ألف شهر، وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر، فتعجب لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عجباً شديداً، وتمنى أن يكون ذلك في أمته، فقال يا رب جعلت أمتي أقصر الأمم أعماراً وأقلها أعمالاً، فأعطاه الله ليلة القدر فقال: {ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 3]» ، أي التي حمل فيها الإسرائيلي السلاح في سبيل الله تعالى، لك ولأمتك من بعدك إلى يوم القيامة في كل رمضان.

قوله: [وندب اشتغاله]: أي فالأفضل في عبادته أنه لا يخرج عن هذه الأنواع، لأن اشتغاله بغيرها مكروه وإن كان علماً، كما يأتي، لأن المقصود ما يسرع بهضم النفس.

قوله: [أصله مرموي]: اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء، وقلبت الضمة كسرة ومكفي يقال

ص: 257

فإن اعتكف غير مكفي، جاز له الخروج لشراء ما يحتاج إليه، ولا يتجاوز أقرب مكان أمكن منه ذلك، وإلا فسد اعتكافه.

(و) كره له إذا خرج لقضاء حاجة (دخوله بمنزل به أهله) أي زوجته أو سريته لئلا يطرأ عليه منهما ما يفسد اعتكافه.

(و) كره (اشتغاله) أي المعتكف (بعلم) ولو شرعياً تعليماً أو تعلماً؛ لأن المقصود من الاعتكاف صفاء القلب بمراقبة الرب، وهو إنما يحصل غالباً بالذكر وعدم الاشتغال بالناس، (وكتابة، وإن) كان المكتوب (مصحفاً) لما فيها من نوع اشتغال عن ملاحظة الرب تعالى وليس المقصود من الاعتكاف كثرة الثواب، بل صفاء مرآة القلب الذي به سعادة الدارين ومحل كراهة ما ذكر من الاشتغال بالعلم والكتابة، (إن كثر) لا إن قل وعطف عاماً على خاص بقوله:(و) كره اشتغاله بكل (فعل غير ذكر وتلاوة وصلاة) وأما فعل هذه الثلاثة فمندوب كما تقدم ومن الذكر: الفكر القلبي في ملكوت السموات والأرض، ودقائق الحكم، والاستغفار، والصلاة والسلام على النبي المختار ومثل لفعل غير الثلاثة بقوله:

(كعيادة مريض): بالمسجد إن انتقل له فيه، لا إن كان بلصقه.

(وصلاة جنازة ولو لاصقت) المعتكف، بأن وضعت بقربه وانتهى زحامها إليه.

(وصعوده لأذان بمنار أو سطح) للمسجد لا بمكانه أو صحنه (وإقامته) للصلاة والسلام على الغير إن بعد.

(وجاز سلامه على من بقربه).

(و) جاز (تطيبه) بأنواع الطيب وإن كره للصائم غير المعتكف؛ لأن المعتكف معه مانع يمنعه مما يفسد اعتكافه وهو بالمسجد بخلاف الصائم.

(و) جاز له (أن ينكح) بفتح الياء أي يعقد لنفسه، (و) أن (ينكح) بضمها أي يزوج من له عليها ولاية إذا لم ينتقل من مجلسه ولم يطل الزمن، وإلا كره.

(و) جاز (أخذه إذا خرج) من المسجد (لكغسل) لجنابة أو جمعة أو عيد (ظفراً أو شارباً أو عانة).

(و) وكره حلق الرأس.

(و) جاز إذا خرج لغسل ثوبه من نجاسة (انتظار غسل ثوبه وتجفيفه) إذا لم يكن له غيره وإلا كره.

(ومطلق الجوار) مبتدأ (اعتكاف) خبره يعني أن من نذر جواراً

ــ

فيه هكذا.

قوله: [فإن اعتكف غير مكفي]: أي مرتكباً للكراهة.

قوله: [دخوله بمنزل به أهله] إلخ: أشار الشارح إلى أن الكراهة مقيدة بكون المنزل فيه أهله، مخافة أن يشتغل بهم عن اعتكافه. ولا يرد على هذا التعليل جواز مجيء زوجته إليه في المسجد؛ لأن المسجد مانع من الجماع ومقدماته، ولا بد أن يكون المنزل قريباً فلو كان بعيداً وذهب إليه بطل اعتكافه، وإن لم يكن بالمنزل أهله فلا كراهة، أو بأن دخل في أسفل البيت وأهله بأعلاه.

قوله: [وكره اشتغاله بعلم] إلخ: أي غير عيني وإلا لم يكره، وكراهة الاشتغال بالعلم الغير العيني مذهب ابن القاسم، وروايته عن مالك من أن الاعتكاف يختص من أعمال البر بذكر الله، وقراءة القرآن، والصلاة وأما على مذهب ابن وهب من أنه يباح للمعتكف جميع أعمال البر فيجوز له مدارسة العلم وكتابته.

قوله: [وليس المقصود من الاعتكاف] إلخ: فيه رد على ابن وهب.

قوله: [الذي به]: أي بالصفاء ولهذا المعنى اعتنت الصوفية بالخلوة المشهورة بشروطها، فإن فيه تشديداً أكثر من الاعتكاف، ولذلك لا يحسنها إلا من سبقت لهم العناية.

قوله: [الفكر القلبي]: بل هو أعظم الذكر لقول أبي الحسن الشاذلي: ذرة من عمل القلوب خير من مثاقيل الجبال من عمل الأبدان، وقال العارفون: إن تفجير ينابع الحكم من القلب لا يكون إلا بالفكر، ولذلك كانت عبادة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة الفكر عند أهل التحقيق.

قوله: [والصلاة والسلام على النبي]: أي لأن فيهما ذكر وزيادة، وهو القيام ببعض حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قالوا: هي شيخ من لا شيخ له.

قوله: [لا إن كان بلصقه]: أي فلا كراهة بل هو جائز لا بأس به وفيه الثواب.

قوله: [وصلاة جنازة]: أي ولو كان المصلى عليه جاراً أو صالحاً ما لم تتعين عليه.

قوله: [وإقامته للصلاة]: أي وإن لم يترتب، وأما إمامته فلا بأس بها بل مستحبة ولو مرتباً، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف ويصلي إماماً خلافاً لعد خليل لها في المكروهات.

قوله: [وجاز سلامه على من بقربه]: المراد سؤاله عن حاله كقوله: كيف حالك، كيف أصبحت مثلاً، من غير انتقال عن مجلسه، وأما قوله: السلام عليكم فهو داخل في الذكر، كذا في الأصل.

قوله: [وجاز تطيبه]: أي في ليل أو نهار وهذا هو المشهور، خلافاً لحمديس القائل بكراهته للصائم ولو معتكفاً.

قوله: [وإلا كره]: أي حيث حصل انتقال أو طول، وكان في المسجد، وأما لو خرج من المسجد لبطل اعتكافه.

قوله: [لكغسل لجنابة] إلخ: ولو لحر أصابه، ومثله لو خرج لضرورة أخرى غير الغسل.

قوله: [وكره حلق الرأس]: أي سواء كان في المسجد أو خارجه، خلافاً لما في الخرشي من أنه إذا خرج لكغسل الجمعة جاز له حلق الرأس، ولا يخرج لحلقه استقلالاً، لكن وافقه في المجموع على ذلك، ومحل كراهة حلقه خارج المسجد على القول بما لم يتضرر لذلك وإلا فلا.

قوله: [إذا لم يكن له غيره]: أي ولم يجد من يستنيبه فالجواز مقيد بقيدين.

ص: 258

بمسجد مباح أو نواه، وأطلق بأن لم يقيد بليل ولا نهار، ولا فطر كأن قال: لله علي مجاورة هذا المسجد، أو نويت الجوار به، فهو اعتكاف بلفظ جوار، فيجري فيه جميع أحكامه المتقدمة من صحة بطلان [1] وجواز وندب وكراهة ويلزمه في النذر يوم وليلة كما لو قال: لله علي اعتكاف. وإذا لم ينذره يلزمه بالدخول ما ذكر، وأما إذا [2] قيد بشيء فإن قيد بيوم وليلة فأكثر ولم يقيده بفطر، فظاهر أنه اعتكاف ويلزمه ما نذر وبالدخول ما نواه.

(فإن قيده بنهار) فقط كهذا النهار أو نهار الخميس، (أو ليل) فقط (لزم ما نذره لا ما نواه) فله الخروج متى شاء، (ولا صوم) عليه فيهما (كأن قيد بالفطر) فلا يلزمه ما نواه بالدخول ولا الصوم، (فله الخروج) من المسجد (إن نوى شيئاً) من اليوم أو الأيام (متى شاء ولو أول يوم) فيما إذا نوى أياماً أو أول ساعة من اليوم، فيما إذا نوى يوماً أو بعضه بخلاف ما لو نذر فيلزمه ما نذره ولا صوم لالتزامه الفطر واعلم أن في الجوار المقيد بزمن ولو قل -كيوم أو بعضه- ولو ساعة لطيفة أو بفطر فضلاً كثيراً؛ فمن دخل مسجداً لأمر ما، ونوى الجوار به أثابه الله على ذلك ما دام ماكثاً به.

ولما كانت مبطلات الاعتكاف قسمين.

الأول: ما يبطل ما فعل منه، ويوجب استئنافه وقد تقدم في قوله:"وإلا خرج وبطل" إلخ.

والثاني: ما يخص زمنه ولا يبطل ما تقدم منه إذا لم يأت بمناف للاعتكاف؛ وهو ثلاثة أقسام: ما يمنع الصوم فقط، وما يمنع المكث بالمسجد فقط، وما يمنعهما [3] معاً، أشار لأولها بقوله:(ولا يخرج) المعتكف: أي لا يجوز له الخروج من المسجد (لمانع من الصوم فقط) دون المسجد، (كالعيد ومرض خفيف) يستطيع المكث معه في المسجد دون الصوم، كمن نذر شهر ذي الحجة، أو نواه عند دخوله فلا يخرج يوم الأضحى، وإلا بطل اعتكافه من أصله، وكذا المرض الخفيف، نقله ابن عرفة عن عبد الوهاب، وقال في التوضيح والخروج –أي: جوازه- مذهب المدونة.

وأشار للثاني والثالث بقوله: (بخلاف المانع من المسجد) سواء منع الصوم أيضاً (كالحيض) والنفاس أو لا؛ كسلس بول وإسالة جرح أو دمل يخشى معه تلوث المسجد (فيخرج) منه وجوباً (وعليه حرمته) أي الاعتكاف، والواو للحال، فلا يفعل ما لا يفعله المعتكف من جماع ومقدماته. وتعاطي مسكر وإلا بطل اعتكافه من أصله.

(وبنى) وجوباً (فوراً بزواله) أي بمجرد زوال عذره المانع من المسجد كالحيض والإغماء والجنون والمرض الشديد والسلس، بأن يرجع للمسجد لقضاء ما حصل فيه المانع، وتكميل ما نذره ولو انقضى زمنه إذا كان معيناً كالعشرة الأخيرة من رمضان، فيقضي ما فاته أيام العذر ويأتي بما أدركه منها ولو بعد العيد وأما غير المعين فيأتي بما بقي عليه، وأما ما نواه بدخوله تطوعاً فإن بقي منه شيء أتى به وإلا فلا، ولا قضاء لما فاته بالعذر.

(فإن أخره): أي الرجوع للمسجد ولو لنسيان أو إكراه

ــ

قوله: [بمسجد مباح]: أي وأما لو نذر جواراً بغير مسجد، أو مسجد غير مباح كمساجد البيوت المحجورة، فلا يلزمه شيء.

قوله: [فإن قيده بنهار] إلخ: الحاصل أن الجواز [4] إما مطلق أو مقيد بليل أو نهار، فإن كان مطلقاً ولم ينو فيه فطراً لزم بالنذر إذا نذره، وبالدخول إذا نواه، وإن قيده بالفطر لفظاً أو نية فلا يلزم إلا بالنذر ولا يلزم بالدخول إذا نواه، وأما المقيد بليل أو نهار فلا يلزم إلا بالنذر، ولا يلزم بالدخول كالمقيد بالفطر.

قوله: [كأن قيد بالفطر]: أي لفظاً أو نية.

قوله: [ولو أول يوم]: أي وهو الأرجح من تأويلين ذكرهما خليل.

قوله: [فضلاً كثيراً]: أي ولذلك يلزم بالنذر.

قوله: [ما دام ماكثاً به]: لما ورد: «إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه، تقول اللهم اغفر له اللهم ارحمه» ، وورد أيضاً:«إنه في صلاة ما دام في المسجد ينتظر الصلاة» ، وورد أيضاً:«إنه في ضمان الله حتى يعود لمنزله» ، وكفانا قوله تعالى:{إنما يعمر مساجد الله} [التوبة: 18] الآية.

قوله: [فلا يخرج يوم الأضحى] إلخ: أي فلا يجوز له الخروج من المسجد كما في الرجراجي والمواق، وقيل إنه يجوز الخروج ومثل يوم الأضحى تالياه لأنهما من محل الخلاف.

والحاصل: أنهم ذكروا في جواز الخروج للعذر المانع من الصوم فقط وعدم جوازه قولين، فروي في المجموعة: يخرج، وقال عبد الوهاب: لا يخرج، هكذا في ابن عرفة وابن ناجي وغيرهما، وقال في التوضيح: والخروج مذهب المدونة، وكذا عزاه اللخمي أيضاً لظاهر المدونة كما نقله (ح) وأما ما قرر الأجهوري من وجوب البقاء في المسجد فهو الذي شهره ابن الحاجب وصوبه اللخمي كما في (ح) انظر (بن) كذا في حاشية الأصل. وما مشى عليه الأجهوري الذي هو المعتمد لا ينافيه قول المصنف الآتي:"إلا ليلة العيد ويومه"، لأنه كلام على عدم بطلانه بعد خروجه الواجب لعذر مانع له من الصوم والمسجد، فلا ينافي وجوب بقائه هنا لاختلاف الموضوع.

قوله: [وإلا بطل اعتكافه من أصله]: أي ويبتدئه في جميع الصور.

قوله: [وبنى وجوباً فوراً بزواله]: قد أجمل المصنف في هذا المقام. وحاصل إيضاحه أن تقول: العذر: إما إغماء، أو جنون، أو حيض، أو نفاس، أو مرض، والاعتكاف: إما نذر معين من رمضان، أو من غيره، أو نذر غير معين، أو تطوع معين بالملاحظة، أو غيره؛ فهذه خمسة وعشرون من ضرب خمسة في مثلها. وفي كل: إما أن يطرأ العذر قبل الاعتكاف، أو مقارناً له، أو بعد الدخول فيه؛ فصار خمساً وسبعين. فإن كانت تلك الموانع في الاعتكاف المنذور المطلق أو المعين من رمضان فلا بد من البناء بعد زوالها، سواء طرأت قبل الاعتكاف وقارنت،

[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة]

[1]

كذا في ط الحلبية وط المعارف، ولعل الصواب:(وبطلان).

[2]

في ط المعارف: (إذ).

[3]

في ط المعارف: (يمنعها).

[4]

في ط المعارف: (الجوار).

ص: 259