المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أنواع العبادة التي أمر الله بها - حصول المأمول بشرح ثلاثة الأصول

[عبد الله بن صالح الفوزان]

الفصل: ‌أنواع العبادة التي أمر الله بها

وَ‌

‌أَنْوَاعُ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا

، مِثْلُ الإِسْلامِ وَالإِيمَانِ وَالإِحْسَانِ، وَمِنْهُ الدُّعَاءُ، وَالْخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالْخُشُوعُ، وَالْخَشْيَةُ، وَالإِنَابَةُ، وَالاسْتِعَانَةُ، وَالاسْتِعَاذَةُ، وَالاسْتِغَاثَةُ، وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ ذَلَكَ مِنْ العبادة التي أمر الله بها،

ــ

لما بين المؤلف رحمه الله وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة. وذكر الأدلة على ذلك شرع في بيان أنواع العبادة التي شرع الله لعباده القيام بها. وسياق الأدلة عليها وقد تقدم معنى العبادة.

قوله: "وَأَنْوَاعُ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا، مِثْلُ الإسلام والإيمان والإحسان" هذه الأنواع هي أعظم مراتب الدين وأعظم أنواع العبادة كما ورد في حديث عمر رضي الله عنه الآتي إن شاء الله. وقد ذكرها المصنف إجمالاً ولما بدأ بالتفصيل لم يشر إليها؛ لأنه سيذكرها فيما بعد.

قوله: "وَمِنْهُ الدُّعَاءُ، وَالْخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالْخُشُوعُ، وَالْخَشْيَةُ، وَالإِنَابَةُ، وَالاسْتِعَانَةُ، وَالاسْتِعَاذَةُ، وَالاسْتِغَاثَةُ، وَالذَّبْحُ، والنذر، وغير ذلك من العبادة التي أمر الله بها"، أي: ومما أمر الله به الدعاء والخوف

إلخ. وقوله: "وغير ذلك من أنواع العبادة" إشارة إلى أن أنواع العبادة غير محصورة بهذه الأنواع بل هي كثيرة جداً؛ لأن كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة فهو عبادة. فالعبادة تشمل الدين كله. والحياة كلها بهذا المعنى.

ص: 71

كلها لله، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، فَمَنْ صَرَفَ مِنْهَا شَيْئًا لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مشرك كافر.

ــ

وقوله: "كلها لله، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1"، أي: كل أنواع العبادة مما ذكر وغيره لله وحده لا شريك له. ثم ذكر الدليل، وقد ذكرنا فيما مضى تفسير هذه الآية، وقلنا: إن المراد بالمساجد أماكن الطاعة والعبادة، أي: المساجد المعروفة، وروي عن بعض السلف أنها أعضاء السجود التي خلقها الله تعالى ليسجد عليها العبد، وعلى أي حال فالآية دليل على وجوب إفراد الله تعالى بالعبادة لقوله سبحانه:{فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} .

قوله: "فَمَنْ صَرَفَ مِنْهَا شَيْئًا لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مشرك كافر"، أي: فمن صرف شيئاً من أنواع العبادة التي ذكر المصنف رحمه الله مثل أن دعاء غير الله تعالى من الأموات والغائبين أو رجاهم أو خافهم أو سألهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات أو غير ذلك فهو مشرك الشرك الأكبر؛ لأنه أشرك مع الله غيره. وكافر؛ لأنه جحد حقاً لله تعالى فصرفه لغيره. فالشرك والكفر قد يجتمعان فيمن لا إيمان له، فيقال: إنه مشرك كافر. وقد ينفرد الشرك بقصد الأوثان من قبور وغيرها. وإن كان يعترف بالله تعالى فلا يطلق عليه كافراً؛ لأن الكفر معناه الجحد والإنكار، لكنه مشرك كافر إذا صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله منكراً أن الله سبحانه وتعالى مستحق لهذه الأنواع ولهذا قال الشيخ رحمه الله "فَمَنْ صَرَفَ مِنْهَا شَيْئًا لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مشرك كافر".

1 سورة الجن، الآية:18.

ص: 72

وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} .

ــ

قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 1"، أي: والدليل على أن من دعا مع الله غيره فهو مشرك كافر هذه الآية فإن الله تعالى سماهم كافرين لدعائهم مع الله غيره. والبرهان هو الدليل الذي لا يترك في الحق لبساً وهو أقوى الأدلة؛ لأنه لا يترك التباساً عند السامع، ولهذا يطلق عليه برهان، فهو أقوى من الحجة وأقوى من الدليل؛ لأن الدليل قد يكون ظنياً لا قطعياً، أما البرهان فهو أمر قطعي. فقوله سبحانه:{لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} ، يعني: ليس له دليل ولا حجة على هذا. ولا يمكن لأحد أن يدعو مع الله غيره ويكون له برهان بحيث يكون الذم متوجهاً إلى من دعا مع الله غيره وليس معه برهان؛ لأنه يستحيل وجود برهان على عبادة إله آخر مع الله تعالى. فهذا الوصف {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} جاء –والله أعلم- لموافقة الواقع، لا لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق بحيث يقال: من عبد مع الله غيره وله برهان فلا مانع، ومعنى "موافقة الواقع" أنه وصف مطابق للواقع لأنهم يدعون مع الله غيره بلا برهان.

وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} ، يعني: حساب هذا الذي دعا مع الله غيره عند ربه. وهو حساب لا فلاح معه لقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ، ونفي الفلاح يدل على هلاكه وأنه من أهل النار.

1 سورة المؤمنون، الآية:117.

ص: 73

في الحديث: "الدعاء مخ العبادة".

ــ

والشاهد من الآية هو أن الله جل وعلا سمى من دعا معه غيره كافراً وهذا لا منازعة فيه مهما كان هذا المدعو سواء كان ملكاً أو نبياً أو من هو دون ذلك.

قوله: "في الحديث: "الدعاء مخ العبادة" بدأ المصنف رحمه الله بالاستدلال على كل نوع من أنواع العبادة التي ذكرها. والمصنف رحمه الله سرد أنواع العبادة كما تقدم. وسنتكلم إن شاء الله على كل نوع منها بما بيسر من تعريف أو تقسيم أو سياق لبعض الأدلة زيادة على ما ذكر الشيخ رحمه الله من الأدلة. فبدأ بالنوع الأول وهو الدعاء؛ لأنه أهم أنواع العبادة لما ورد في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء هو العبادة" 1، فدل على أن الدعاء أهم أنواع العبادات من وجهين:

الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بضمير الفصل "هو" وضمير الفصل يفيد التوكيد.

الثاني: أنه أتى باللام في قوله "العبادة" فكأنه قال: "الدعاء هو العبادة لا غيرها".

والدعاء في القرآن الكريم يتناول معنيين:

الأول: دعاء العبادة هو دعاء الله امتثالاً لأمره فإنه سبحانه أمر عباده بالدعاء. فمتى دعوت الله سبحانه وتعالى ممتثلاً أمره فإن دعاءك عبادة قال

1 أخرجه الترمذي: "5/426"، وأبو داود:"رقم1479"، وابن ماجه:"رقم3828"، وأحمد:"4/267"، والبخاري في "الأدب المفرد":"رقم714"، والحاكم:"1/491"، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

ص: 74

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 1 فإذا دعوته امتثلت أمره وإذا امتثلت أمره تكون عبدته.

الثاني: دعاء المسألة وهو دعاؤه سبحانه وتعالى بجلب المنفعة ودفع المضرة، فكلا النوعين عبادة لله سبحانه وتعالى فمن دعا الله سبحانه وتعالى طالباً جلب النفع ودفع الضر وهو في حال دعائه ممتثلاً أمره سبحانه وتعالى فإنه يكون قد اجتمع في حقه دعاء العبادة ودعاء المسألة.

أما الحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله "الدعاء مخ العبادة" فمخ الشيء لبه وخلاصته وما يقوم به ومعناه: أن العبادة لا تقوم إلا بالدعاء كما أن الإنسان لا يقوم إلا بالمخ؛ لدلاته على الإقبال على الله تعالى والإعراض عما سواه. وهذا الحديث يدل على منزلة الدعاء من بين أنواع العبادة وهو حديث ضعيف2 لكن معناه صحيح. ويشهد له الحديث الذي ذكرته آنفاً وهو حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

1 سورة غافر، الآية:60.

2 أخرجه الترمذي: "5/425" عن أنس رضي الله عنه وقال: هذا حديث غريب من هذا لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة. اهـ.

قال في "التقريب": "خلط بعد احتراق كتبه ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما وله في مسلم بعض شيء مقرون".

وذكره الحافظ في "طبقات المدلسين"، وقال ابن حبان في "المجروحين": كان صالحاً ولكنه كان يدلس عن الضعفاء. اهـ. وفيه عنعنة الوليد بن مسلم وهو قبيح التدليس.

والحديث ضعفه المنذري في "الترغيب": "2/482" حيث صدره بـ"روي" كما هو اصطلاحه كما في المقدمة. وانظر: "النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد": "ص83".

ص: 75

وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .

وَدَلِيلُ الْخَوْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .

ــ

قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} " وجه الدلالة من الآية أن الله جل وعلا سمى الدعاء عبادة فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ، أي: حقيرين ذليلين صاغرين جزاء لهم على استكبارهم. فهذه الآية فيها أن الله تعالى أمر بالدعاء ووعد بالإجابة فدل على أن الدعاء عبادة بل هو من أجل العبادات.

قوله: "وَدَلِيلُ الْخَوْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1 الخوف هو انفعال يحصل بتوقع ما فيه ضرر أو هلاك، والخوف أنواع:

الأول: الخوف الطبيعي، كالخوف من عدو أو سبع أو حية فهذا ليس بعبادة، ولا ينافي الإيمان؛ لأنه قد يوجد في المؤمن كما قال تعالى عن موسى عليه السلام {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} 2 هذا الخوف لا يلام عليه الإنسان إذا انعقدت أسبابه أما إذا كان وهمياً أوله سبب ضعيف فهو مذموم لأن صاحبه جبان.

النوع الثاني: خوف "السر"، وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو

1 سورة آل عمران، الآية:175.

2 سورة القصص، الآية:18.

ص: 76

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ولي من الأولياء بعيداً عنه أن يصيب بمكروه وهذا الخوف هو الواقع بين عباد القبور والمتعلقين بالأولياء، قال تعالى عن قوم هود:{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} فهم يتصورون أن الآلهة يخاف منها لأنها قد تعتري الإنسان بسوء، ومعنى هذا في نظرهم أنها إذا كانت تنفع فإنه يتصور أنها تضر فهذا يطلق عليه خوف السر.

النوع الثالث: أن يترك الإنسان ما يجب خوفاً من الناس كأن يترك الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر خوفاً من الناس فهذا خوف محرم ومذموم.

النوع الرابع: خوف تعبد وتعلق هو أن يخاف أحداً يتعبد بالخوف له فيدعوه الخوف لطاعته، وهذا النوع هو خوف التعبد والتأله الذي يحمل على الطاعة والبعد عن المعصية وهذا خاص بالله تعالى. وتعلقه به من أعظم واجبات الدين ومقتضيات الإيمان، وتعلقه بغير الله تعالى من الشرك الأكبر؛ لأن الخوف من أعظم واجبات القلب1.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الإنسان إذا لم يخف من الله اتبع هواه ولاسيما إذا كان طالباً ما لم يحصل له، فإن نفسه تبقى طالبة لما تستريح به، وتدفع به الغم والحزن عنها، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح إليه وبه، فيستريح إلى المحرمات من فعل الفواحش وشرب المحرمات وقول الزور

"2.

1 انظر: "التيسير العزيز الحميد" للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: "ص484".

2 "مجموع الفتاوى": "1/54، 55".

ص: 77

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والآية التي ساقها المؤلف دليل على أن الخوف عبادة لله تعالى بدليل أن الله جعل الخوف شرطاً لصحة الإيمان فقال تَعَالَى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وهذه الآية أولها قوله تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} ، ومعنى "يخوف أولياءه"، أي: يخوفكم أولياءه ويعظمهم في صدوركم؛ لأجل أن تموت معنوياتكم فتخافوهم فتحصل الهزيمة. قال الأنباري: "والذي نختاره في الآية: يخوفكم أولياءه. تقول العرب: أعطيت الأموال، أي: أعطيت القوم الأموال. فيحذفون المفعول الأول"1. وقوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ} فيه بيان أنه لا يجوز للمؤمن أن يخاف أولياء الشيطان، ولا يخاف الناس كما قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 2، فخوف الله أمر به. وخوف أولياء الشيطان نهى عنه3. والشاهد في الآية أن الإنسان إذا خاف غير الله سبحانه خوف تعبد وتأله مستقر بالقلب يحمل على الطاعة والبعد عن المعصية فإن هذا الخوف من أنواع الشرك؛ لأن الله جل وعلا جعله من مقتضيات الإيمان، فمن صرف هذا لغير الله تعالى فليس بمؤمن. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معنى بديعاً من معاني الخوف كما نقله عنه ابن القيم رحمه الله في "مدارج السالكين"4. يقول شيخ الإسلام: "الخوف

1 "مجموع الفتاوى": "1/56".

2 سورة المائدة، الآية:44.

3 "مجموع الفتاوى": "1/57".

4 "1/514".

ص: 78

ودليل الرجاء قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} .

ــ

المحمود ما حجزك عن محارم الله". وقال بعض السلف: "لا يعد خائفاً من لم يكن للذنوب تاركاً"1.

والخشية بمعنى الخوف، لكن الخشية أخص من الخوف؛ لأن الخشية مقرونة بمعرفة الله تعالى، قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 2، فالخشية خوف مقرون بمعرفة الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أما والله، إني لأخشاكم لله وأتقاكم له"3.

قوله: "ودليل الرجاء قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 4" أصل الرجاء هو الطمع أو انتظار الشيء المحبوب، والرجاء يتضمن التذلل والخضوع، فلا يكون إلا لله سبحانه وتعالى، وتعليق الرجاء بغير الله شرك، وإن كان الله تعالى قد جعل لها أسباباً، فالسبب لا يستقل بنفسه بل لابد له من معاون، ولابد من انتفاء الموانع، وهو لا يحصل ولا يبقى إلا بمشيئة الله تعالى5.

1 "المفردات في غريب القرآن": "ص162".

2 سورة فاطر، الآية:28.

3 "مدارج السالكين": "1/512"، والحديث أخرجه البخاري:"رقم5063"، "ومسلم":"1108".

4 سورة الكهف، الآية:110.

5 "مجموع الفتاوى": "10/256".

ص: 79

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والرجاء نوعان:

1-

رجاء محمود: وهو رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راج لثوابه، ورجل أذنب ذنوباً ثم تاب منها، فهو راج لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه.

2-

رجاء مذموم: وهو رجاء رجل متمادٍ في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب.

والفرق بين الرجاء والتمني: أن الرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل. والتمني يكون مع الكسل. قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} وابتغاء الوسيلة إليه: طلب القرب بالمحبة والعبودية بالطاعة وأنواع القربات1.

ومعنى قول تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا} ، أي: يعمل ويطلب وينتظر. وقوله {لِقَاءَ رَبِّهِ} المراد باللقاء أو اللقى هنا المعاينة، والمراد بها الملاقاة الخاصة؛ لأن اللقاء يوم القيامة نوعان:

1-

نوع خاص: وهذا للمؤمنين، وهو لقاء الرضا والنعيم من الله سبحانه وتعالى.

2-

لقاء عام: لجميع الناس، وقد دل على اللقاء العام قوله تعالى في سورة الانشقاق {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ

1 راجع "مدارج السالكين": "2/35-36".

ص: 80

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً.. الآية} 1، فدل قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ

} ، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ

} على أن اللقاء في قوله: {فَمُلَاقِيهِ} لقاء عام، أما في هذه الآية التي معنا فمعناها: فمن كان ينتظر ويطلب ويترقب لقاء الله سبحانه وتعالى الذي هو لقاء رضا ونعيم، فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بربه أحدا؛ لأن الذي يرجو ثواب الله ويخاف من عقابه يعمل عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً، والعمل الصالح كما فسره أهل هو الخالص من الياء الموافق لشرع الله من واجب أو مستحب. وقوله:{وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ، يعني: لا يشرك في العبادة مع الله غيره كائناً من كان، لا ملكاً مقرباً ولا نبياً ولا ولياً ولا أحداً من الصالحين. وفي قوله سبحانه:{بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} إشارة إلى علة النهي عن الشرك، أي: فكما أنه ربك الذي خلقك ورباك ولم يشاركه أحد في خلقك فيجب أن تكون العبادة له وحده لا شريك له2.

فالواجب على العبد أن يتحقق رجاءه فلا يعلقه إلا بالله تعالى، لا يعلقه بقوته ولا بعمله ولا يعلقه بمخلوق. ومن المأثور عن علي رضي الله عنه أنه قال:"لا يرجو عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه"3.

عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في

1 سورة الانشقاق، الآيات: 6-11.

2 "القول المفيد": "2/230".

3 حلية الأولياء "1/75-76".

ص: 81

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الموت فقال: "كيف تجدك؟ " قال: أرجو الله يا رسول الله، وأخاف ذنوبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف"1.

وعلى الإنسان أنه كلما قوي رجاؤه، وطمعه في فضل الله تعالى ورحمته وتيسير أموره، ودفع ضرورته؛ قويت عبوديته لربه، وحريته مما سواه. وإن رجا مخلوقاً، أو تعلق به؛ انصرف قلبه عن العبودية لله تعالى، وصار عبداً لغيره بقدر ما قام في قلبه من التعلق والرجاء؛ فذل لغير الله وخضع2.

ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام نفيس في هذا الموضوع أنقله ليستفيد منه القارئ، يقول رحمه الله: "اعلم أن محركات القلوب إلى الله عز وجل ثلاثة: المحبة، والخوف، والرجاء. وأقواها المحبة، وهي مقصودة تراد لذاتها؛ لأنها تراد في الدنيا والآخرة، بخلاف الخوف فإنه يزول في الآخرة. قال تعالى:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 3، والخوف المقصود منه: الزجر والمنع من الخروج عن الطريق. فالمحبة تلقي العبد في السير إلى محبوبه، وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه، والخوف يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب،

1 أخرجه الترمذي: "رقم 983"، وابن ماجه:"رقم4261".، وحسنه الألباني: في صحيح ابن ماجه "2/420".

2 انظر: "مجموع الفتاوى": "10/256-257".

3 سورة يونس، الآية:62.

ص: 82

َودَلِيلُ التَّوَكُلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .

ــ

والرجاء يقوده. فهذا أصل عظيم، يجب على كل عبد أن ينتبه له، فإنه لا تحصل له العبودية بدونه، وكل أحد يجب أن يكون عبداً لله لا لغيره.

فإن قيل: فالعبد في بعض الأحيان قد لا يكون عنده محبة تبعثه على طلب محبوبه. فأي شيء يحرك القلوب. قلنا: يحركها شيئان:

أحدهما: كثرة الذكر للمحبوب؛ لأن كثرة ذكره تعلق القلوب به.

الثاني: مطالعة آلائه ونعمائه

فإذا ذكر العبد ما أنعم الله به عليه من تسخير السماء والأرض وما فيها من الأشجار والحيوان وما أسبغ عليه من النعم الباطنة من الإيمان وغيره فلا بد أن يثير عنده باعثاً. وكذلك الخوف تحركه مطالعة آيات الوعيد والزجر والعرض والحساب ونحوه.

وكذلك الرجاء يحركه مطالعة الكرم والحلم والعفو"1.

قوله: "َودَلِيلُ التَّوَكُلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} " أصل التوكل: الاعتماد. تقول: توكلت على الله توكلاً، أي: اعتمدت عليه، هذا معنى التوكل. وحقيقة التوكل: أن يعتمد العبد على الله سبحانه وتعالى اعتماداً صادقاً في مصالح دينه ودنياه مع فعل الأسباب المأذون فيها. فالتوكل: اعتقاد، واعتماد، وعمل. أما الاعتقاد فهو: أن يعلم العبد أن الأمر كله لله، فإن ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن. والله جل وعلا هو: النافع، الضار، المعطي، المانع. ثم بعد هذا

1 "مجموع الفتاوى": "1/95-96".

ص: 83

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الاعتقاد يعتقد بقلبه على ربه سبحانه، ويثق به غاية الوثوق، ثم بعد هذا يأتي الأمر الثالث وهو: أن يفعل الأسباب المأذون فيها شرعاً.

والتوكل على الله تعالى نوعان:

أحدهما: توكل عليه في تحصيل حظ العبد من الرزق والعافية وغيرهما.

وثانيهما: توكل عليه في تحصيل مرضاته.

فأما النوع الأول فغايته المطلوبة وإن لم تكن عبادة؛ لأنها محض حظ العبد، فالتوكل على الله في حصوله عبادة، فهو منشأ لمصلحة دينه ودنياه.

وأما النوع الثاني: فغايته عبادة، وهو في نفسه عبادة، فلا علة فيه بوجه فإنه استعانة بالله على ما يرضيه. فصاحبه متحقق بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1.

وأما التوكل على غير الله تعالى فأنواع:

النوع الأول: التوكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله من جلب المنافع ودفع المضار، وهذا شرك أكبر لأنه إذا كان التوكل على الله من تمام الإيمان، فالتوكل على غير الله فيما لا يقدر عليه غير الله من الشرك الأكبر، وهذا النوع هو المراد بقوله تَعَالَى:{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وقال تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 2، وقال تعالى:

1 "طريق الهجرتين": "ص336"، والآية من سورة الفاتحة، رقم:5.

2 سورة هود، الآية:123.

ص: 84

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 1.

النوع الثاني: أن يتوكل على حي حاضر من ملك أو وزير أو مسؤول فيما أقدره الله عليه من زرق أو دفع أذى، وهذا شرك أصغر، بسبب قوة تعلق القلب بهذا الإنسان واعتماده عليه. أما إذا اعتقد أن هذا الإنسان سبب، وأن الله تعالى هو الذي أقدره على هذا الشيء وأجراه على يديه فهذا لا بأس به إذا كان لهذا الإنسان أثر صحيح في حصول المراد. لكن كثيراً من الناس قد لا يمر على باله هذا المعنى، ويكاد يعتمد على هذا الإنسان في حصول مراده.

النوع الثالث: الاعتماد على الغير في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه فهذا جائز دل عليه الكتاب والسنة والإجماع. لكن لا يعتمد عليه في حصول ما وكل فيه بل يتوكل على الله سبحانه وتعالى في تيسير أمره الذي يطلبه إما بنفسه أو بنائبه ولهذا لا تقول: توكلت على فلان إنما تقول: وكلت فلاناً،

وقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم علياً في ذبح بقية بدنه في حجة الوداع2، ووكل أبا هريرة رضي الله عنه على الصدقة3، ووكل عروة بن الجعد أن

1 سورة الأنفال، الآيات: 2-4.

2 انظر: "تيسير العزيز الحميد": "ص497".، وتوكيله صلى الله عليه وسلم علياً أخرجه مسلم من حديث جابر صلى الله عليه وسلم:"رقم1218".

3 أخرجه البخاري: "4/487-فتح".

ص: 85

{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} .

ــ

يشتري له أضحية1.

أما الآية وهي قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، فقوله:{وَعَلَى اللَّهِ} ، أي: لا على غيره، وهذا يفيد الحصر؛ لأن من طرق القصر عند البلاغيين تقدم ما حقه التأخير، والأصل: توكلوا على الله، وقوله:{فَتَوَكَّلُوا} هذا أمر يدل على وجوب التوكل، أي: اعتمدوا على الله جل وعلا، وفوضوا أموركم إليه. فدلت الآية على وجوب التوكل، وأنه من العبادات. وقوله:{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، أي: إن كنتم مؤمنين بالله جل وعلا فعليه توكلوا. قال ابن القيم: "فجعل التوكل على الله شرطاً في الإيمان فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه فمن لا توكل له لا إيمان له"2.

وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 3 ساق المؤلف آيتين في التوكل، والغالب أنه لا يسوق إلا دليلاً واحداً وكأنه أراد –والله أعلم- أن الدليل الأول فيه وجوب التوكل والأمر بالتوكل، والدليل الثاني فيه جزاء من توكل على الله، هذا الذي يظهر، والله أعلم.

وقوله: {فَهُوَ حَسْبُهُ} ، أي: كافيه. ومن كان الله جل وعلا كافيه تيسرت أموره، ولا مطمع لأحد فيه، وهو يدل على عظم شأن التوكل

1 أخرجه البخاري: "6/632"

2 انظر: "مدارج السالكين": "2/129".

3 سورة الطلاق، الآية:3.

ص: 86

ودليل الرغبة والرهبة والخشوع وقوله تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} .

ــ

وفضله، حتى إنه لم يأت في أي عبادة من العبادات أن الله قال:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} إلا في مقام التوكل.

ومن فضيلة التوكل –أيضاً-: أن الله تعالى جعله سبباً لنيل محبته، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} 1. ومن فضيلة أنه دليل على صحة إسلام المتوكل، قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 2.

قوله: "ودليل الرغبة والرهبة والخشوع وقوله تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} 3"

هذه ثلاثة أنواع من العبادة دلت عليها آية واحدة.

الأول الرهبة. والرهبة بمعنى الخوف المثمر للهرب من المخوف. فهي خوف مقرون بعمل. قال الراغب: الرهبة والرهب: مخافة مع تحرز واضطراب4.

والثاني: الرغبة. ومعناها السؤال والتضرع والابتهال مع محبة الوصول إلى الشيء المحبوب فإذا كان يدعو وعنده قوة لحصول مطلوبه فهذه رغبة.

1 سورة آل عمران، الآية:159.

2 سورة يونس، الآية:84.

3 سورة الأنبياء، الآية:90.

4 "المفردات في غريب القران": "ص204".

ص: 87

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والثالث: الخشوع وهو التذلل والتطامن، وهو بمعنى الخضوع إلا أن الخضوع يغلب أن يكون في البدن، والخشوع في القلب أو البصر أو الصوت. قال تعالى:{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} 1، وقال تعالى:{وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ} 2، وقال تعالى:{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} 3، وقال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} 4.

والدليل على أن هذه الثلاثة عبادات: أن الله جل وعلا أثنى على الأنبياء الذين تقدم ذكرهم في هذه السورة –سورة الأنبياء- أو على زكريا عليه الصلاة والسلام وأهل بيته فقال عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} ، يعني: يبادرون في الطاعات، ويسارعون في الخيرات، ويسابقون إلى نيل القربات، وهذا يدل على أن المسلم ينبغي له المبادرة بطاعة الله جل وعلا، كما قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ

} 5.

وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} الرغب والرهب مصدران لرغب يرغب رغباً، ورغبة بمعنى: الضراعة والمسألة، ورهب يرهب رهباً، ورهبة، أي: خاف. والمعنى: يدعوننا رغباً في رحمتنا ورهباً من عقوبتنا {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ،

1 سورة المؤمنون، الآية:2.

2 سورة طه، الآية:108.

3 سورة المعارج، الآية:44.

4 سورة الحديد، الآية:16.

5 سورة آل عمران، الآية:133.

ص: 88

ودليل الخشية قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} الآية.

ــ

أي: خاضعين متذللين، فأثنى الله تعالى عليهم ومدحهم بهذه الصفات ولا يمدح إلا من كان عابداً لله تعالى.

وفي الآية دليل على أنه ينبغي للداعي أن يجمع بين الرغبة في رحمة الله تعالى والرهبة من عذابه. وعلى فضل الخشوع في العبادات لاسيما الصلاة والدعاء.

قوله: "ودليل الخشية قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} الآية1" تقدم أن الخشية بمعنى الخوف، ولكن الخشية أخص؛ لأنها مبنية على علم بعظمة من يخشاه. قال الراغب: "الخشية: خوف يشوبه تعظيم. وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه. ولذلك خص العلماء بها في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 2.

ووجه الدلالة من الآية على أن الخشية من أجل العبادات أن الله تعالى نهي المسلمين عن خشية الكفار وأمر بخشية وحده لا شريك له. ومثلها قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} .

يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "الخوف والخشية والخشوع والإخبات والوجل معانيها متقاربة، فالخوف يمنع العبد عن محارم الله، وتشاركه الخشية في ذلك، وتزيد أن الخوف مقرون بمعرفة الله. وأما الخشوع والإخبات والوجل فإنها تنشأ عن الخوف والخشية لله، فيخضع

1 سورة المائدة، الآية:3.

2 المفردات: "ص149"، والآية من سورة فاطر، رقم:28.

ص: 89

وَدَلِيلُ الإِنَابَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} الآية.

ــ

العبد لله ويخبت إلى ربه منيباً إليه بقلبه ويحدث له له الوجل. وأما الخشوع فهو حضور القلب وقت تلبسه بطاعة الله وسكون ظاهرة وباطنة فهذا خشوع خاص. وأما الخشوع الدائم الذي هو وصف خواص المؤمنين فينشأ من كمال معرفة العبد بربه ومراقبته فيستولي ذلك على القلب كما تستولي المحبة"1.

قوله: "وَدَلِيلُ الإِنَابَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} 2". الإنابة بمعنى التوبة، ولكن قال العلماء: إنها أعلى من التوبة؛ لأن التوبة إقلاع وندم وعزم على ألا يعود، أما الإنابة ففيها المعاني الثلاثة، وتزيد معنى آخر وهو الإقبال على الله تعالى بالعبادات، فإذا أقلع الإنسان من معصية، وعزم ألا يعود، وندم على ما مضى، واستمر على ما هو عليه من عباداته، يقال: هذا تائب، لكن من معصية، وعزم ألا يعود، وندم على ما مضى، واستمر على ما هو عليه من عباداته، يقال: هذا تائب، لكن إذا تجدد له الإقبال بعد موته فهذا منيب إلى الله تعالى، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن الإنابة إنابتان:

1-

إنابة لربوبيته: وهي إنابة المخلوقات كلها يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر، قال الله تعالى:{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} 3، فهذا عام في حق كل داع أصابه ضر كما هو الواقع. وهذه الإنابة لا تستلزم الإسلام بل تجامع الشرك والكفر، كما قال تعالى في

1 "فوائد قرآنية": "ص96".

2 سورة الزمر، الآية:54.

3 سورة الروم، الآية:33.

ص: 90

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

حق هؤلاء: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} 1.

2-

إنابة لإلهيته: وهي إنابة أوليائه، إنابة عبودية ومحبة، وتتضمن أربعة أمور: محبته، والخضوع له، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه.

فالمنيب إلى الله: المسرع إلى مرضاته الراجع إليه كل وقت المتقدم إلى محابه؛ لأن لفظ "الإنابة" فيه معنى الإسراع والرجوع والتقدم2.

وفي الآية الكريمة ما يدل على أن الإنابة من العبادات، وأن الله جل وعلا أمر بها. ولهذا لم يذكر المصنف التوبة من أنواع العبادة، إنما اقتصر على ذكر الإنابة؛ لأن صورة العبادة بالنسبة للإنابة أوضح من صورتها بالنسبة إلى التوبة بسبب زيادة الإقبال على العبادة.

وقوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} ، أي: ارجعوا إليه بالطاعة، {وَأَسْلِمُوا لَهُ} ، المراد بالإسلام في الآية الكريمة هو الإسلام الشرعي، ومعناه: الاستسلام والانقياد لأحكام الشريعة، وهذا لا يكون إلا للطائعين، فالطائع مسلم إسلاماً شرعياً؛ لأنه انقاد لأحكام الشرع، أما بالنسبة إلى الإسلام الكوني، وهو المعنى الثاني، فهذا هو الاستسلام لحكم الله الكوني، وهذا ليس خاصاً بالطائعين بدليل قوله تعالى:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} 3، ففيه من يسلم طائعاً،

1 سورة الروم، الآيتان: 33-34.

2 "مدارج السالكين": "1/434".

3 سورة آل عمران، الآية:83.

ص: 91

ودليل الاستعانة وقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .

ــ

وفيه من يسلم وهو كاره. ومعنى هذه الآية أن جميع من في السموات ومن في الأرض منقادون لحكم الله الكوني بمعنى أنهم منقادون لما يجريه الله تعالى ويقدره عليهم شاءوا أم أبوا فهذا إسلام كوني. أما الإسلام الشرعي الذي يمدح فاعله وهو من أنواع العبادة فهو المعنى الأول.

قوله: "ودليل الاستعانة وقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} " الاستعانة طلب العون؛ لأن الألف والسين والتاء في اللغة للطلب، فإذا قيل: استعان فمعناه طلب الإعانة، وإذا قيل: استغاث، أي: طلب الغوث. وإذا قيل: استخبر، أي: طلب الخبر.

والاستعانة أنواع:

النوع الأول: الاستعانة بالله، وهي الاستعانة المتضمنة كمال الذل من العبد لربه مع الثقة به والاعتماد عليه، وهذه لا تكون إلا لله فهي تتضمن ثلاثة أشياء:

الأول: الخضوع والتذلل لله تعالى.

الثاني: الثقة بالله جل وعلا.

الثالث: الاعتماد على الله سبحانه وتعالى، وهذه لا تكون إلا لله، فمن استعان بغير الله محققاً هذه المعاني الثلاثة فقد أشرك مع الله غيره1.

والعبد عاجز عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل. وهذا تحقيق معنى قول:

1 انظر: "مدارج السالكين": "1/74، 75".

ص: 92

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

"لا حول ولا قوة إلا بالله"، فإن المعنى: لا تحول للعبد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بالله تعالى. وهذه كلمة عظيمة، وهي كنز من كنوز الجنة، فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور. وهذه في الدنيا. وكذا عند الموت وبعده من أحوال البرزخ ويوم القيامة ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عز وجل. فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه1.

النوع الثاني: الاستعانة بالمخلوق على أمر قادر عليه. ومعنى الاستعانة بالمخلوق: أن تطلب منه أن يعينك ويساعدك، وشرط ذلك أن يكون في أمر يقدر عليه، فهذه إن كانت على بر وخير فهي جائزة والمعين مثاب على لأنه إحسان، قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} 2، وإن كانت على إثم فهي حرام، قال تعالى:{وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .

النوع الثالث: الاستعانة بالأموات أو بالأحياء على أمر غائب لا يقدرون عليه فهذا شرك؛ لأنه إذا استعان بالميت أو بحي على أمر بعيد غائب عنه لا يقدر عليه؛ فهذا يدل على أنه يعتقد أن لهؤلاء تصرفاً في الكون وأن مع الله مدبراً.

النوع الرابع: الاستعانة بأعمال وأحوال محبوبة شرعاً، فهذا النوع مشروع بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ

1 انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب: شرح الحديث "19".

2 سورة المائدة، الآية:2.

ص: 93

وفي الحديث: "إذا استعنت فاستعن بالله".

ــ

مَعَ الصَّابِرِينَ} 1، فكونك تستعين بالصبر وتستعين بالصلاة على أمورك هذا أمر محبوب2.

وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} في هذه الآية اجتمع أمران عظيمان عليهما مدار العبودية. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تبرؤ من الشرك. {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تبرؤ من الحول والقوة، وتقديم المعمول هنا يفيد الحصر –كما مر-؛ لأن المعنى لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك.

يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "وتقديم العبادة على الاستعانة بمن باب تقديم العام على الخاص. واهتماماً بقديم حقه الله تعالى على حق عبده

وذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى. فإنه إن لم يعنه الله، لم يحصل له ما يريد من فعل الأوامر واجتناب النواهي"3.

قوله: وفي الحديث: "إذا استعنت فاستعن بالله" هذا جزء من حديث ابن عباس، وهو حديث عظيم جليل القدر4، أوله:"احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك"، أي: احفظ حدوده وأوامر يحفظك

1 سورة البقرة، الآية:153.

2 انظر: "شرح الأصول الثلاثة" للشيخ محمد العثيمين: "ص58".

3 "تفسير ابن سعدي": "1/28،29".

4 "جامع الترمذي": "7/219-تحفة". وأخرجه أحمد: "1/293"

وللحافظ ابن رجب شرح وافٍ لهذا الحديث مطبوع في جزء لطيف.

ص: 94

وَدَلِيلُ الاسْتِعَاذَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} .

ــ

حيث توجهت، "وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله". والمعنى: عليك أن تحصر استعانتك وطلبك العون في الله سبحانه وتعالى، فمن استعان بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك.

قوله: "وَدَلِيلُ الاسْتِعَاذَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} 1" و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} 2. الاستعاذة: هي الاعتصام والالتجاء إلى من تعتقد أنه يعيذك ويلجئك. والاستعاذة بالله تعالى هي التي تتضمن كمال الافتقار إليه سبحانه، والاعتصام به، واعتقاد كفايته وتمام حمايته من كل شر. ولا ريب أن هذه المعاني لا تكون إلا سبحانه وتعالى. ويدخل في الاستعاذة بالله جل وعلا: الاستعاذة بصفاته، والاستعاذة بكلماته وبعزته، ونحو هذا، كما في بعض الأوراد الصحيحة الثابتة:"أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" 3، و"أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر"4، فهذا استعاذة بالله سبحانه وتعالى.

أما الاستعاذة بالأموات أو بالأحياء غير الحاضرين القادرين فهذا شرك كما تقدم في الاستعانة. أما الاستعانة بمخلوق يمكن العوذ به لأنه قادر، فهذا يجوز كما لو هربت من سبع والتجأت إلى شخص آخر

1 سورة الناس، الآية:1.

2 سورة الفلق: الآية: 1.

3 أخرجه مسلم: "رقم2708".

4 أخرجه مسلم: "رقم2202".

ص: 95

وَدَلِيلُ الاسْتِغَاثَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} الآية.

ــ

يحميك أو هربت من عدو والتجأت إلى شخص آخر يمنعك منه. وقد يكون الالتجاء إلى أمكنة، كأن شجرة أو يدخل في مكان، فمثل هذا لا بأس به.

وقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} هذا أمر من الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم والأمة تبع له في هذا، ومعنى {أَعُوذُ} ، أي التجئ وأتحصن {بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، الفلق: هو الصبح والمعنى –والله أعلم-: أن القادر على إزالة هذه الظلمة من العالم قادر على أن يدفع عن هذا المستعيذ ما يخافه ويخشاه. وقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، أي: خالقهم ومصلح أحوالهم.

وفي الآيتين دليل على وجوب الاستعاذة بالله تعالى من جميع شرور خلقه، وأنه سبحانه وتعالى القادر على إعاذة عبده ودفع الشرور عنه. وقد ورد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط؟ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} 1".

وقوله: "وَدَلِيلُ الاسْتِغَاثَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} 2" الاستغاثة أن تطلب الغوث ممن يستطيع أن ينقذك من ضيق أو شدة.

1 أخرجه مسلم: "رقم814"، والترمذي:"5/453".

2 سورة الأنفال، الآية:9.

ص: 96

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

والفرق بين الاستغاثة والاستعاذة تطلب منه أن يعصمك وأن يمنعك وأن يحصنك، والاستغاثة تطلب منه أن يزيل ما فيك من شدة، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى القادر على كل شيء. والاستغاثة كالاستعاذة تتضمن كمال الافتقار إلى الله سبحانه وتعالى واعتقاد كفايته. قال تعالى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} ، أي: تستجيرون ربكم وتطلبون منه الغوث فاستجاب لكم. وهذه الآية نزلت في عزوة بدر الكبرى. وكان المشركون أكثر من المسلمين ثلاث مرات، فالمسلمون بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم توجهوا إلى الله سبحانه وتعالى بأن يمدهم بالنصر وأن يخلصهم من هذا الموقف الذي هم فيه. وقد ورد عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة –وفي روايات أخرى: أنهم بين الألف والتسعمائة- فاستقل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثم قال: "اللهم أنجز لي ما عدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً، قال: فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده ثم التزامه من ورائه ثم قال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله عز وجل:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} 1.

1 أخرجه مسلم: "رقم 1762"، وأحمد:"1/30، 31".

ص: 97

ودليل الذبح قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} .

ــ

قوله: "ودليل الذبح قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 1" المراد بالذبح هنا: ذبح القربان والضحايا والهدايا والذبح يقع على وجوه:

النوع الأول: يقع عبادة لله يقصد بها الذابح تعظيم المذبوح له، والتقرب إليه، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى، فلو تقرب بالذبح لشخص من سلطان أو غيره لوقع في المشرك. وعلامة ذلك أنه يذبح في وجهه، أي: يريق الدم ساعة حضوره. فهذا معناه التعظيم، ودليل على أنه قصد بهذا التقرب إليه. وكذا لو ذبح للأولياء أو للجن كما يفعله كثير من الجهلة في بعض الجهات فهذا من الشرك الأكبر الذي يخرج صاحبه من الملة والعياذة بالله2.

النوع الثاني: وهو الذبح إكراماً للضيف أو لوليمة عرس، فهذا مأمور به في الشرع إما وجوباً أو استحساناً. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه:"أولم ولو بشاة"، وفي قصة الأنصاري الذي جاء إليه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فإنه لما ذهب يذبح لهم قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"إياك والحلوب" فذبح لهم.. فأقره النبي عليه الصلاة والسلام على ذبحه لهم3.

1 سورة الأنعام، الآية:162.

2 انظر: "فتح المجيد": "ص146".

3 أخرجه مسلم: "رقم2038". وانظر: "جامع الأصول": "4/691".

ص: 98

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

النوع الثالث: أن يكون الذبح للتمتع بالأكل من المذبوح أو الاتجار به فهذا على الأصل في المنافع وهو الإباحة. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} 1فامتن الله علينا بالأكل من هذه الأنعام2.

وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي} ، أي: جميع صلواتي {وَنُسُكِي} ، أي: جميع أنساكي وهي العبادات أو الذبائح التي يتقرب بها إلى تعالى من الهدي والأضحية والعقيقة، وفي هذا إثبات توحيد العبادة. {وَمَحْيَايَ} ، أي: أمر حياتي وما أعمله فيها. {وَمَمَاتِي} ، أي: أمر موتي وما ألقاه بعد، وفي هذا إثبات لتوحيد الربوبية {لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، أي: خالص ومختص بالله خالق ومالك ومدبر العالمين. وهم كل من سوى الله تعالى. {لَا شَرِيكَ لَهُ} ، أي: لا مشارك له في العبادة كما أنه لا شريك له في الملك والتدبير. {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} ، أي: وبذلك الإخلاص والتوحيد أمرني الله تعالى أمراً حتماً لا أخرج من التبعة إلا بامتثاله. {وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ، أي: أسبقهم انقياداً إلى الإسلام لكمال علمه بالله تعالى، إن كان المراد بالأولية أولية الانقياد أو أسبقهم زمناً ويكون المراد بـ:

1 سورة يس، الآيتان: 71، 72.

2 انظر: "تيسير العزيز الحميد": "ص190-191"، "وشرح الأصول الثلاثة" لابن عثيمين:"ص62".

ص: 99

وَمِنَ السُنَّةِ: "لعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ الله".

ــ

{الْمُسْلِمِينَ} مسلمي أمته. وإن كان المراد أولية الزمن. والله أعلم بمراده في كتابه1.

قال في "قرة عيون الموحدين": "والمقصود أن هذه الآية دلت على أن أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة لا يجوز أن يصرف منها شيئاً لغير الله كائناً من كان، فمن صرف شيئاً لغير الله؛ فقد وقع فيما نفاه تعالى من الشرك بقوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} والقرآن كله في تقرير هذا التوحيد في عبادته وبيانه، ونفي الشرك والبراء منه"2.

قوله: "وَمِنَ السُنَّةِ: "لعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ الله" هذا الحديث جزء من حديث علي رضي الله عنه قال: "حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله، لعن من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض" 3. واللعن: هو الطرد والإبعاد من رحمة الله. وقوله: "لعن الله" هذا يحتمل أنه خبر، ويحتمل أنه إنشاء، فإن كان خبراً فمعناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن الله جل وعلا لعن من ذبح لغير الله. وإن كان إنشا فمعناه: الدعاء، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو على من ذبح لغير الله أن يطرده من رحمته. والخبر أبلغ لأنه يفيد وقوع اللعن بخلاف الدعاء فقد يستجاب وقد لا يستجاب4.

1 انظر: "فتح القدير" للشوكاني: "2/185"، "وتفسير ابن سعدي":"2/92"، "الإلمام ببعض الآيات الأحكام" للشيخ محمد بن عثيمين:[تفسير ثالث متوسط: ص76] .

2 "قرة عيون الموحدين": ص85.

3 أخرجه مسلم: "رقم1978".

4 "القول المفيد": "1/223".

ص: 100

وَدَلِيلُ النَّذْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} .

ــ

والذبح لغير الله عام سواء كان لملك أو لنبي أو لولي أو سلطان أو جني أو غير ذلك. وسواء كان المذبوح بعيراً أو بقرة أو شاة أو دجاجة أو غيرها.

والذبح لله من أجل الطاعات وأعظم القربات، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عشر سنين يضحي1. وأهدى إلى البيت مائة بدنة في حجة الوداع2.

قوله: "وَدَلِيلُ النَّذْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 3" النذر: أن يلزم الإنسان نفسه شيئاً غير لازم بأصل بالشرع، فيلزم نفسه بصدقة أو صيام أو صلاة أو غير ذلك، إما بتعليقة على شيء نحو: إن شفى الله مريضي لأصومن ثلاثة أيام أو أتصدق بكذا، أو يكون ابتداء نحو: لله علي أن أتصدق بكذا. والجمهور على أنه مكروه. وقالت طائفة بتحريمة؛ لإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال:"إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل" 4، ولكنه إذا وقع وجب الوفاء به في الجملة.

ووجه الدلالة من الآية على أن النذر عبادة: أن الله مدح الموفين بالنذر، وكل أمر مدحه الشارع، أو أثنى على من قام به فهو عبادة؛ ولهذا أمر الله تعالى بالوفاء به قوله تعالى:{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} 5، أي:

1 أخرجه أحمد: "13/65- الفتح الرباني"، والترمذي:"5/96- تحفة" وسنده حسن.

2 أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه: "رقم1218"، كما تقدم.

3 سورة الإنسان، الآية:07.

4 أخرجه البخاري: "11/499"، ومسلم برقم:"1639" واللفظ له.

5 سورة الحج، الاية:29.

ص: 101

أعمال حجهم وسميت نذوراً؛ لأن من أحرم بالحج فقد ألزم نفسه إتمامه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه"1.

فالنذر عبادة لا يجوز للإنسان أن ينذر لغير الله تعالى. فمن نذر لصنم أو لنبي ونحوهما فهو نذر باطل يحرم الوفاء به الإجماع وعليه أن يستغفر الله من هذا العمل2.

وقوله تعالى: {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} ، أي: منتشراً عاماً بين الناس إلا من أدركه رحمة الله عز وجل.

ــ

1 أخرجه البخاري: "رقم6696".

2 انظر: "تيسير العزيز الحميد": "ص204".

ص: 102