الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ":
الإِيمَانُ
. وَهُوَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فَأَعْلاهَا قَوْلُ لا اله إِلا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإيمان.
ــ
تخرج من الملة وارد في لسان الشرع. فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، النياحة على الميت" 1، أي: هما من أعمال الكفر وأخلاق الجاهلية2.
قول المصنف رحمه الله "المرتبة الثانية"، يعني: من مراتب الدين "الإيمان" والإيمان هو التصديق الجازم بجميع ما أمر الله ورسوله بالتصديق به المتضمن للعمل الذي هو الإسلام. فالإيمان يجمع التصديق لجميع ما أمر الله سبحانه وتعالى به إضافة إلى الأعمال التي هي أركان الإسلام. سأذكر –إن شاء الله- الفرق بين الإسلام والإيمان عند الكلام على حديث جبريل عليه السلام لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "وهو بضع وسبعون شعبة" البضع بكسر الباء اسم من أسماء العدد، يطلق على العدد من الثلاثة إلى التسعة.
وقوله: "وَهُوَ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فَأَعْلاهَا قَوْلُ لا اله إِلا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" هذا لفظ
1 أخرجه مسلم: "رقم121".
2 قاله النووي في "شرحه على مسلم": "2/417". وانظر: "اقتضاء الصراط المستقيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية: "1/211" ففيه بيان الفرق بين ما ورد من لفظ الكفر. معرفاً بـ"أل" وبين ما جاء بدونها.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الحديث الذي رواه مسلم في "صحيحه"، ورواه البخاري بلفظ:"بضع وستون" وقد ورد عند مسلم برواية أخرى بالشك: "بضع وستون أو بضع وسبعون"1. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "إن المعول على المتيقن وهو الأقل وهو بضع وستون" ا. هـ2. فإن قيل: بضع وسبعون زيادة ثقة، والزيادة من الثقة مقبولة، قيل: لكنه لم يجزم بها، فنقول: إن رواية "بضع وستون" أرجح لكن قد يشكل على هذا أن مسلماً روى الحديث على روايتين، مرة ليس فيها شك "بضع وسبعون"، ومرة فيها شك "بضع وستون أو بضع وسبعون"؛ ولهذا رجح القاضي عياض والإمام أبو عبد الله الحليمي والنووي رواية: "بضع وسبعون"، وقوله "شعبة"، أي: خصلة، وأصله من الشُّعبة، بمعنى: القطعة.
وهذا الحديث يدل على أن شعب الإيمان متفاوتة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أعلاها وذكر أدناها، وترك ما بين ذلك، ولم يرد في السنة نص يحدد هذه الشعب، وقد اجتهد جمع من أهل العلم في عدها وفي حصرها. فمنهم من وصل إلى هذا العدد؛ فجمع أوامر الشريعة ومكارم الأخلاق وكل ما هو من باب البر؛ فوصل إلى هذا العدد. ومنهم من قارب هذا العدد. ويكفي أن نعلم أن كل خصلة من خصال الخير فهي من شعب الإيمان3.
1 أخرجه البخاري: "1/51-فتح"، ومسلم:"رقم58/35".
2 "فتح الباري": "1/52".
3 "فتح الباري": "1/52". وانظر: شرح النووي عند الرقم المذكور. وانظر: "فتح=
= الباري" للحافظ ابن حجر: "1/30". وقال ابن صلاح "في صيانة صحيح مسلم" "ص197": "ثم إن الكلام في تعيين هذه الشعب يتشعب ويطول. وقد صنف في ذلك مصنفات من أغزرها فوائد: كتاب "المنهاج" لأبي عبد الله الحليمي، إمام الشافعيين ببخارى، وكان من رفعاء أئمة المسلمين وحذا حذوه الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي في كتابه الجليل الحفيل:"شعب الإيمان" ا. هـ. وانظر: "صحيح ابن حبان" الإحسان: "1/387".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقوله: "فأعلاها قول لا إله إلا الله" هذه أعلى الشعب، وهي كلمة الإخلاص، وكلمة الإسلام، وهي كلمة التقوى، وهي أساس الملة، وفي هذا دليل لمن قال: إن هذه الكلمة أفضل الكلام مطلقاً، وإنها أفضل من كلمة "الحمد لله رب العالمين"، وفي المسألة خلاف بسطه وذكر أدلته الحافظ ابن عبد البر في "التمهيد"1. وقوله "أدناها"، يعني: أقل شعبة من شعب الإيمان "إماطة الأذى عن الطريق"، أي: تنحية الأذى عن الطريق من شعب الإيمان؛ فعدم وضع الأذى في الطريق –أيضاًَ- من شعب الإيمان. فلا يخرج الإنسان من بيته أشياء تؤذي المارة من رائحة أو حجر أو شوك يجرح أقدامهم إذا مشوا عليها أو تكون سبباً في أذيتهم أو نحو ذلك.
وقوله: "والحياء شعبة من الإيمان" الحياء -بالمد-: هو خلق رفيع يبعث على فعل الخير واجتناب القبيح، وهو أفضل الأخلاق وأعظمها
1 انظر: "فتح الباري" لابن حجر: "1/134"، و"التمهيد": 6/42.
وأركانه ستة: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخر وبالقدر خيره وشره.
ــ
قدراً، وإنما كان الحياء بعضاًَ من الإيمان؛ لأن الإيمان ائتمار وانتهاء، والمستحيي ينقطع بحياته عن المعاصي.
وقد دل على ذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأول إذا لم تستحي فاصنع ما شئت"1. وهذا أمر تهديد، ومعناه: الخبر، أي: من لم يستح صنع ما شاء، وقيل: إنه أمر إباحة، أي: انظر إلى الفعل الذي تريد أن تفعله، فإن كان مما لا يستحى منه فافعله، والأول أصح وهو قول الأكثرين2.
قوله: "وأركانه ستة" لا منافاة بين أركان الإيمان وشعب الإيمان؛ لأن المقصود أن الإيمان إذا كان بمعنى الاعتقاد فهو الأركان الستة؛ لأن كل الأركان الستة اعتقاد، وأما إذا قلنا: إن الإيمان يشتمل على الأعمال وأنواعها وأجناسها فهو بضع وسبعون. فحديث الأركان مراد به الأمور الاعتقادية، وهي الأساسيات في الإيمان، وأما حديث:"بضع وسبعون" فهذا مراد به: بيان خصال الخير التي هي الأعمال.
1 أخرجه البخاري: "6/515"، "10/527-فتح" من حديث أبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله عنه وقوله:"إذا لم تستحي" بإثبات الياء مكسورة الحاء ويكون الجازم حَذَفَ الياء الثانية؛ لأنه من استحيا. وقيل: "إذا لم تستح" بحذف الياء للجازم مع كسر الحاء مخففة من استحى. قاله الجرداني في "شرحه على الأربعين": "ص146".
2 "مدارج السالكين": "2/259".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قوله: "أن تؤمن بالله" فهذا الركن الأول. والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور:
الإيمان بوجود الله تعالى، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، وقد تقدم ذلك.
والرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته، ومعناه: إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على ما يليق بجلاله وعظمته من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1.
قوله: "وملائكته" هذا الركن الثاني، وهو الإيمان بالملائكة. والملائكة: عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، عابدون لله تعالى، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. ولا يعلم عددهم إلا الله سبحانه وتعالى، قال تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} 2، ومما يدل على كثرة عددهم وأنه لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى، وما ورد في الحديث الذي صح إسناده فيما يتعلق بالبيت المعمور أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"إن البيت المعمور في السماء السابعة حيال الكعبة يزوره كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه"3. وهذا دليل على أن عدد الملائكة لا يحصيهم إلا الله.
والإيمان بالملائكة لا يتم إلا إذا تحقق فيه أمور:
1 سورة الشورى، الآية:11.
2 سورة المدثر، الآية:31.
3 أخرجه البخاري: "3036"، ومسلم:"259/162".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الأول: الإيمان بوجودهم وأنهم مخلوقون عابدون لله قائمون بما أمروا به.
والأمر الثاني: الإيمان بمن علمنا اسمه باسمه ومن لم يعلم اسمه فالإيمان به إجمالاً، وقد علم من النصوص في الكتاب والسنة أسماء بعض الملائكة كجبريل: الموكل بالوحي، وميكائيل: الموكل بالقطر والنبات، وإسرافيل: الموكل بالنفخ في الصور، وملك الموت: الموكل بقبض الأرواح، فهؤلاء الملائكة نعرف أسماءهم فنؤمن بهم. أما بقية الذين لا نعرف أسماءهم فهؤلاء نؤمن بهم إجمالاً. وملك الموت يرد في بعض الآثار أنه "عزرائيل" وهذا لم يثبت، فاسمه الصحيح ملك الموت كما قال تعالى:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} 1.
الثالث: نؤمن بما علمنا من صفاتهم وهيئاتهم، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في "مسنده" عن عبد الله بن مسعود قال:"رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرئيل في صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم"2. والمراد بالتهاويل: الأشياء المختلفة الألوان.
فهذا يدل على قدرة الخالق جل وعلا ويدل على صفة جبرئيل عليه السلام وأن له ستمائة جناح، الجناح الواحد يسد الأفق. ولا يقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم
1 سورة السجدة، الآية:11.
2 "المسند": "5/282" قال الشيخ أحمد شاكر: إسناد صحيح. وقال ابن كثير في "البداية والنهاية""1/44": هذا إسناد جيد قوي.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
كيف يرى ستمائة جناح؟ وكيف عد الرسول صلى الله عليه وسلم الستمائة مع أن الجناح الواحد قد سد الأفق؟ قلنا: ما دام أنه قد ورد الحديث وصحح العلماء إسناده فلا نبحث في الكيفية؛ لأن الله جل وعلا قادر على أن يري نبيه صلى الله عليه وسلم ما لا نتصوره نحن ولا تتحمله عقولنا.
الأمر الرابع: الذي لابد منه في موضوع الإيمان الملائكة الإيمان بما علمنا من أعمالهم ووظائفهم التي دلت عليها النصوص. فجبريل عليه السلام موكل بالوحي، وملك الموت موكل بوظيفة قبض الأرواح، وهناك ملك موكل بالجنين في بطن أمه، يكتب رزقه وأجله، وهناك ملائكة موكلون ببني آدم {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} 1، وهناك ملائكة موكلون بكتب أسماء الناس يوم الجمعة قبل دخول الخطيب2 إلى غير ذلك مما تدل عليه النصوص.
قول المصنف رحمه الله: "وكتبه" هذا الركن الثالث، وهو الإيمان بالكتب، والمراد بالكتب هي: الكتب السماوية التي أنزلها الله تعالى على رسله هداية للبشرية ورحمة بهم ليصلوا إلى سعادة الدارين.
والإيمان بالكتب لا يتم إلا بأربعة أمور:
أولاً: الإيمان بأنها منزلة من عند الله حقاً.
والثاني: الإيمان بما علمنا اسمه منها كالقرآن والتوراة والإنجيل والزبور، وأما ما لا نعرفه منها فنؤمن به إجمالاً.
1 سورة الرعد، الآية:11.
2 أخرجه البخاري: "2/366"، "6/304-فتح".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والأمر الثالث: التصديق بما صح من أخبارها، كأخبار القرآن، وأخبار ما لم يحرف وما لم يبدل من أخبار الكتب السابقة، مثل الرجم فإنه من الأخبار التي لم تحرف فيما حرف من التوراة.
الرابع: العمل بأحكام ما لم ينسخ، وهذا بالنسبة لكتابنا وهو القرآن، وما لم ينسخ من أخبار الكتب السماوية السابقة مثل الرجم فإن الرجم ثبت في شريعتنا وهذا دليل على أنه لم ينسخ.
والكتب السابقة كلها نسخت بالقرآن العظيم الذي تكفل الله بحفظه؛ لأنه سيبقى حجة على الخلق أجمعين إلى يوم القيامة. ويترتب على ذلك أنه لا يجوز التحاكم إلى شيء منها بحال من الأحوال كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1.
قوله: "ورسله" هذا الركن الرابع، وهو الإيمان بالرسل، والرسل جمع رسول، وهو: من بعثه الله إلى قوم وأنزل عليه كتاباً، أو لم ينزل عليه كتاباً لكن أوحى إليه بحكم لم يكن في شريعة من قبله. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فهو: من أمره الله أن يدعو إلى شريعة سابقة دون أن ينزل عليه كتاباً، أو يوحي إليه بحكم جديد ناسخ أو غير ناسخ، وعلى ذلك فكل رسول نبي وليس كل العكس، وقيل هما مترادفان، والأول أصح2. بدليل قول الله
1 سورة النساء، الآية:59.
2 انظر: كتاب "النبوات" لشيخ الإسلام ابن تيمية: "ص172"، "وأضواء البيان":"5/735"، و"الإيمان" لشيخ الإسلام ابن تيمية:"ص6-7"، "ومذكرة التوحيد" للشيخ عبد الرزاق عفيفي:"ص45".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} 1 فذكر الله تعالى أن أنبياء بني إسرائيل يحكمون بالتوراة مع أن التوراة أنزلت على أول نبي منهم، وهو موسى عليه الصلاة والسلام. والإيمان بالرسل يتضمن أربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن رسالتهم حق من عند الله تعالى، وأنهم لا يأتون بشيء من عند أنفسهم كما قال تعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} 2.
الثاني: الإيمان بن علمنا اسمه منهم، وأن هناك رسلاً نؤمن بهم إجمالاً ولا نعرف أسمائهم؛ إلا القليل.
الثالث: تصديق ما صح عنهم من أخبارهم.
الرابع: العمل بشريعة من أرسل إلينا منهم وهو خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم3.
قوله: "واليوم الآخر" هذا الركن الخامس، وهو الإيمان باليوم الآخر، والمراد به يوم القيامة الذي يبعث الله فيه الخلق للحساب والجزاء وسمي باليوم الآخر لأنه لا يوم بعده حيث يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. والإيمان باليوم الآخر لا يتم إلا بثلاثة أمور:
1 سورة المائدة، الآية:44.
2 سورة النجم، الآية:3.
3 انظر: "نبذة في العقيدة الإسلامية": "ص27، وما بعدها".
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} الآية.
ــ
الثاني: الإيمان بالحساب والجزاء.
الثالث: الإيمان بالجنة والنار.
وسيأتي الكلام على البعث –إن شاء الله-.
قوله: "وبالقدر خيره وشره" هذا الركن السادس، والمراد بالقدر: تقدير الله تعالى لما سيكون حسب ما سبق به علمه واقتضته حكمته سبحانه وتعالى. والإيمان بالقدر لا يتم إلا بأربعة أمور:
الأول: الإيمان بعلم الله تعالى وأنه عالم بما كان وما يكون وكيف يكون.
الثاني: الإيمان بالكتابة وأن الله كتب ما علم أنه كائن إلى يوم القيامة.
والثالث: الإيمان بأنه لا يحصل في هذا الكون إلا ما شاء الله.
والرابع: الإيمان بأن الله جل وعلا خلق الخلق وأعمالهم وأفعالهم. قال الناظم في هذه الأمور:
علم كتابة مولانا مشيئته
وخلقه وهو إيجاد وتكوين
قوله: "وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} 1" فهذه الآية اشتملت على خمسة من
1 سورة البقرة، الآية:177.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أركان الإيمان. قال تَعَالَى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} يعني: ليس البر في التوجه إلى جهة المشرق أو المغرب، ولكن البر الحقيقي في الإيمان وتوابع الإيمان من الأعمال الصالحة، أما مجرد الاتجاه فهذا لا يدل على المقصود وإلا فقد ذكر العلماء أن اليهود يتجهون إلى المغرب والنصارى يتجهون إلى المشرق. ولكن الله نفى أن يكون هذا هو البر؛ لأنهم لم يحققوا الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبيين
…
إلخ؛ فلهذا نفى الله تعالى عن عملهم هذا وقال: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} ، و"البر" بالنصب خبر مقدم لـ"ليس"، و"أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر اسمها مؤخر، والتقدير:"ليس البر تولية وجوهكم"، والبر: اسم جامع لكل عمل من أعمال الخير من العقائد والأعمال. وقد نقل ابن كثير في "تفسيره" عن سفيان الثوري أنه قال: "هذه أنواع البر كلها". وقال ابن كثير: "من اتصف بهذه الآية فقد دخل في عرى الإسلام كلها وأخذ بمجامع الخير كله"1.
1 ورد في هذه الآية حديث أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ فتلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية. ولكن قال ابن كثير: إن هذا الحديث منقطع؛ لأنه من رواية مجاهد عن أبي ذر. ومجاهد لم يدرك أبا ذر فإنه مات قديماً. هكذا قال الحافظ ابن كثير. أما الحافظ ابن حجر فقد ذكر الحديث في "فتح الباري" وقال: "رجاله ثقات وإنما لم يخرج البخاري؛ لأنه ليس على شرطه". وقد أشكلت علي هذه العبارة "لأنه ليس على شرطه"؛ لأن ظاهرها أن الحديث صحيح إذ لو كان الحافظ يرى أن الحديث منقطع لم يقل لأنه ليس على شرطه. وكلمة رجاله ثقات ليست دليلاً على اتصال السند ولا على صحة الحديث كما هو معروف في علم المصطلح. ثم رأيت في إتحاف المهرة "14/183" للحافظ ابن حجر ما يوافق كلام ابن كثير. والله أعلم.
ودليل القدر قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} .
ــ
قوله: "ودليل القدر قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 1"، أي: إنا خلقنا كل شيء من المخلوقات العلوية والسفلية بتقدير سابق لخلقنا له. وذلك بكتابته في اللوح المحفوظ فهو يقع كما كتب بوقته وقدره، وجميع ما اشتمل عليه من الصفات. قال تعالى:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 2.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة"3.
وعن طاووس رحمه الله قال: أدركت ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر، قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز"4.
قال ابن كثير رحمه الله: "يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قل برئها، وردوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات، وما ورد في معناها من
1 سورة القمر، الآية:49.
2 "تفسير ابن السعدي": "5/145"، و"أيسر التفاسير":"4/370"، والآية من سورة الفرقان، رقم، 2.
3 أخرجه مسلم: "رقم2635".
4 أخرجه مسلم: "رقم2655"، والكيس: ضد العجز، وهو النشاط والحذق بالأمور. معناه: أن العاجز قد قدر عجزه. والكيس قد قدر كيسه. قاله النووي رحمه الله.