الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفاته صلى الله عليه وسلم
…
أخذ على هذا عشر سنين. وتوفي، صلاة اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، وَدِينُهُ باقٍ، وَهَذَا دِينُهُ: لا خَيْرَ إِلا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلا شَرَّ إِلا حَذَّرَهَا مِنْهُ. وَالْخَيْرُ الَّذِي دَلَّهَا عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ وَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ، والشر الذي حذرها عنه الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه.
ــ
حسنه، والمنكر ما ينكر بهما"1. قال الشوكاني:"والدليل على كون ذلك الشيء معروفاً أو منكراً هو الكتاب والسنة"2.
وإنما خصه الشيخ –والله أعلم- دون غيره من بقية الشرائع؛ لأنه باب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وهو وظيفة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام. وسمة من سمات الإيمان. وحق من حقوق المسلم على أخيه والأدلة على ذلك معلومة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "أخذ على هذا عشر سنين"، يعني: أخذا على تبليغ الشريعة وبيانها في المدينة وغيرها عشر سنين.
قوله: "وبعدها توفي صلوات الله وسلامه عليه" قال ابن كثير رحمه الله: "لا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين، والمشهور أنه الثاني عشر من ربيع الأول"3ا. هـ.
قوله: "ودينه باق"، أي: لأنه دين عام إلى يوم القيامة للبشرية كلها. بينما الأديان السابقة كانت مؤقتة بأوقات معينة انتهت بنهايتها. ولما كان
1 "المفردات في غريب القرآن": "ص331". وانظر: "النهاية" لابن الأثير: "3/216".
2 "إرشاد الفحول": "ص71".
3 انظر: "السيرة النبوية" لابن كثير: "4/505".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الإسلام ديناً عاماً لجميع البشرية وجب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم على جميع الثقلين الجن والإنس من اليهود والنصارى وغيرهم –كما سيأتي-؛ ولهذا تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه وحفظ القرآن الكريم، وقد دخل التحريف التوراة والإنجيل، والكتب الأخرى لا وجود لها. أما القرآن فإنه منذ أنزل إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة وهو باق لن تمتد إليه يد بتحريف ولا عبث؛ لأن الله تعالى تكفل بحفظه. قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1.
قوله رحمه الله: "وَهَذَا دِينُهُ لا خَيْرَ إِلا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلا شَرَّ إِلا حَذَّرَهَا مِنْهُ وَالْخَيْرُ الذي دلهما عَلَيْهِ "التَّوْحِيدُ" وَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ، والشر الذي حذر منه "الشرك" وجميع ما يكرهه الله ويأباه" هذا كلام رصين ودقيق قل أن تجده في مكان آخر.
وقد ورد على أبي ذر رضي الله عنه قال: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علماً. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم"2.
وعن المطلب بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت شيئاً مما أمركم
1 سورة الحجر، الآية:9.
2 أخرجه الطبراني في "الكبير": "2/155، رقم1647"، وصححه الألباني ي "الصحيحة":"رقم1803". وانظر: العلل للدارقطني "6/290".
بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ، الْجِنِّ وَالإِنْسِ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} . وَكَمَّلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} .
ــ
الله به وقد أمرتكم به، ولا تركت مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه
…
" 1.
قوله: "بعثه الله إلى الناس كافة وافترض الله طَاعَتَهُ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} 2".
هذه الآية دليل على عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الخطاب فيها للناس وهو لفظ شامل للعرب والعجم، وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"3. فهذا دليل –أيضاً- على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم وعلى وجوب الإيمان به.
قوله: "وأكمل اللهُ بِهِ الدِّينَ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
1 أخرجه الشافعي: "1/13- بدائع المنن"، قال الألباني: وهذا إسناد مرسل حسن فهو شاهد لما قبله
…
2 سورة الأعراف، الآية:158.
3 أخرجه مسلم: "رقم240/153".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} 1" إكمال الدين حصل بتمام النصر وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة العلمية والعملية. فليس في هذا الدين –ولله الحمد- زيادة لمستزيد، فلا نقص يستدعي الإكمال ولا قصور يستدعي الإضافة.
وقد ورد عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة2.
وهذا الرجل الذي سأل عمر رضي الله عنه هو كعب الأحبار كما جاء في رواية الطبراني، وفيها أيضاً:"نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيد"3.
وقوله تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} ، أي: بهذا الدين. وبهذا المنهج الشامل الكامل تمت نعمة الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} هذا حث من الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة لتدرك قيمة هذا الدين ثم تحرص على الاستقامة عليه، فمن
1 سورة المائدة، الآية:3.
2 أخرجه البخاري
3 انظر: "تفسير الطبري": "9/526" تحقيق شاكر.
وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} .
ــ
لا يرتضي هذا الدين منهجاً لحياته يسير عليه في كل صغيرة وكبيرة، فإنه يرفض ما اختاره الله تعالى وكفى بهذا قبحاً وشناعة أن يرفض هذا العبد الضعيف ما اختاره الله تعالى ورضيه. وهذه الآية دليل واضح على رعاية الله وعنايته بهذه الأمة حيث اختار لها ديناً وارتضاه وأحبه سبحانه وتعالى.
ومن الأدلة على إكمال الدين حديث العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك"1.
قوله: "وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} 2".
أي: والدليل من النقل المطابق للحس عَلَى مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلُهُ تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} ، أي: إنك يا محمد ستموت وتنقل من هذه الدار لا محالة قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} 3،
1 أخرجه ابن ماجه: "43"، وأحمد:"4/126"، والحاكم:"1/96"، قال الألباني:"هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات معروفون غير عبد الرحمن بن عمرو. وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وروى عن جماعة من الثقات، وصحح له الترمذي وابن حبان والحاكم كما في "التهريب" الصحيحة: "رقم937"، وانظر: "كتاب السنة" لابن أبي العاصم: "1/19".
2 سورة الزمر، الآيتان: 30، 31.
3 سورة الأنبياء، الآية:34.
وَالنَّاسُ إِذَا مَاتُواْ يُبْعَثُونَ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} . وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} .
ــ
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} ، أي: سيموتون. وينقلون من هذه الدار لا محالة كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} 1، وقوله تعالى:{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} ، أي: يوم القيامة في ساحة فصل القضاء تختصمون إلى الله تعالى، وتحتكمون إليه فيما تنازعتم فيه؛ فيفصل بينكم بحكمه العادل. والآية شاملة لكل متنازعين في الدنيا من المؤمنين والكافرين فإنها تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة. دل على ذلك حديث الزبير رضي الله عنه قال: لما نزلت {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} قال الزبير: يا رسول الله، أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا؟ قال نعم، فقال: إن الأمر إذاً لشديد2.
وهذه الآية التي ساقها الشيخ رحمه الله هي أحدى الآيات التي استشهد بها الصديق رضي الله عنه عند موت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تحقق الناس موته مع قوله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} 3.
قوله: "والناس إذا ماتوا يبعثون" قصد بهذا رحمه الله بيان وجوب
1 سورة آل عمران، الآية:185.
2 أخرجه الترمذي: "5/344"، وحسنه الألباني في "صحيح الترمذي":"3/99". وانظر: "تفسير ابن كثير": "7/87".
3 "تفسير ابن كثير": "7/87"، و"فتح الباري":"8/146"، و"السيرة" لابن كثير:"4/478". والآية من سورة آل عمران، رقم:144.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الإيمان بالبعث، وأن الإيمان به من جملة الإيمان باليوم الآخر وما فيه، والبعث معناه: إحياء الموتى حين ينفخ في الصورة النفخة الثانية.
فيقوم الناس لرب العالمين لا نعال عليهم. عراة لا كسوة عليهم، غرلاً لا ختان فيهم؛ لقوله تعالى:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} 1.
والبعث حق ثابت دل عليه الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وهو مقتضى الحكمة، حيث تقتضي أن يجعل الله تعالى لهذه الخليقة ميعاداً يجازيهم فيه على ما شرعه لهم، قال تعالى:{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 2.
قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 3" هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يخرج الموتى من هذه الأرض، وذلك في قوله:{وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} . ومن الأدلة أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً"4. والحشر معناه: الجمع، يعني: جمع الخلائق يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم.
قوله: "وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً} 5"، أي: مبدأ
1 سورة الأنبياء، الآية:104.
2 "نبذة في العقيدة الإسلامية" للشيخ محمد العثيمين: "ص40"، والآية من سورة المؤمنون، رقم:115.
3 سورة طه، الآية:55.
4 أخرجه البخاري: "11/334"، ومسلم:"رقم2859".
5 سورة نوح، الآية:17.
وَبَعْدَ الْبَعْثِ مُحَاسَبُونَ وَمَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} .
ــ
الخلق خلق آدم عليه الصلاة والسلام من الأرض والناس ولد لآدم. وقوله: {نَبَاتاً} اسم مصدر نائب مناب المصدر، أي: إنباتاً. {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} ، يعني: يعيدكم في الأرض إذا متم ودفنتم بها {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} للحساب والجزاء.
قوله: "وبعد البعث محاسبون" ذكر المصنف أمراً آخر يجب الإيمان به يتعلق باليوم الآخر وهو الإيمان بالحساب والجزاء. والمراد بالحساب: إيقاف الله تعالى العباد على أعمالهم التي عملوها وما كانوا عليه في الدنيا. ومشهد الحساب مشهد عظيم ينبغي لكل مسلم أن يستحضره، قال تعالى عنه:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} 1، وحسبنا أن نعلم أن القاضي والمحاسب في هذا اليوم العظيم هو الحكم العدل قيوم السموات والأرضين.
وهل الحساب عام للمؤمن والكافر أو أنه خاص بالمؤمن. والكافر لا فائدة من محاسبته؟
أرجح الأقوال في هذه المسألة أن الحساب عام للمسلم والكافر، وفائدة الحساب للكافر مع أن مآله إلى النار ولا حسنات تنفعه في مقابل
1 سورة الزمر، الآيتان: 69،70.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ما له من السيئات التي أعظمها سيئة الكفر. أقول: محاسبة الكافر وراءها حكم عظيمة، منها:
أولاً: إقامة الحجة على الكفار وإظهار عدل الله سبحانه وتعالى فيهم.
ثانياً: محاسبة الكفار فيها توبيخ وتقريع لهم.
ثالثاً: لأن الكفار على أرجح الأقوال مخاطبون بالأوامر والنواهي كما دلت على ذلك النصوص الشرعية.
رابعاً: لأن الكفار يتفاوتون في الكفر، والنار دركات.
ومما يدل على أن الكفار محاسبون قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} 1، فهذا يدل على أنهم محاسبون ومسئولون، وقال تعالى:{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} 2، فقوله:{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} دليل على أن الكفار يحاسبون3.
وقوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} 4"، أي: أن الله تعالى لا يظلم أحداً فيجزي الذين
1 سورة القصص، الآية:62.
2 سورة المؤمنون، الآيات: 103، 105.
3 انظر: "شرح النووي على صحيح مسلم" عند الحديث "رقم 2808"، "مجموع الفتاوى":"4/305"، "فتح الباري""9/145".
4 سورة النجم، الآية:31.
وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ كَفَرَ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .
ــ
أساءوا بإساءتهم، وأما عملوا الحسنى فهؤلاء جزاؤهم الحسنى، فلما أحسنوا العمل أحسن الله مثوبتهم وجزاءهم. فهذه الآية من الآيات الدالة على ثبوت الحساب، والآيات التي بمعناها كثيرة كقوله تعالى:{لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} 1. ومن النصوص أيضاً ما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: "اللهم حاسبني حساباً يسيراً" فقالت عائشة رضي الله عنها: وما الحساب اليسير؟ قال: "أن ينظر في كتابه فيتجاوز عنه" 2.
قوله: "ومن كذب بالبعث كفر"، أي: لأنه مكذب لله ورسوله حيث إن القرآن دل في آيات كثيرة على ثبوت البعث، فالذي يكذب بالبعث مكذب للقرآن، من كذب القرآن فهو مكذب لله تعالى؛ فيحكم بكفره، ومكذب أيضاً للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النصوص ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بوقوع البعث وهو مخالف لإجماع المسلمين.
قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} 3" أي: الدليل على أن التكذيب بالبعث كفر قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا
…
} ووجه الدلالة أن الله تعالى كفرهم بإنكارهم البعث وسمى مقالتهم زعماً؛
1 سورة طه، الآية:15.
2 أخرجه أحمد: "6/48"، قال ابن كثير في تفسيره" 8/379""صحيح على شرط المسلم".
3 سورة التغابن، الآية:7.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فدل ذلك على من أنكره فهو كافر، وإنما زعموا أنهم لن يبعثوا؛ لأنهم قالوا: إن البعث غير ممكن كما قال الله عنهم: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} 1، ومعنى:{ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} ، أي: ضاعت أجسامنا وعظامنا واختلطت بالأرض وصارت رفاتاً.
وهم يزعمون أن الله تعالى لا يقدر على بعثهم بعد هذا كما قال تعالى عن بعض كفار قريش: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} 2، وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم وفته في وجهه ونفخه. وقال: أتزعم يا محمد أن الله يحي هذا بعد ما أرم –يعني: بعدما فني فصار تراباً- قال: "نعم ويدخلك النار" 3 فهذه هي شبهة الكفار، فإنهم يقولون: إن الله تعالى غير قادر على أن يحييها ويعيدها مرة أخرى وهي على هذه الحال. وقد أكثر القرآن الكريم من ذكر البعث في آيات كثيرة وتنوعت الأساليب في القرآن في موضوع الإقناع بالبعث. وقد جاء في القرآن براهين عقلية تدل على وقوع البعث وخلاصة الأدلة على وقوع البعث كما يلي:
الدليل الأول: إخبار العليم الخبير بوقوع يوم القيامة، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وجاء هذا الإخبار في القرآن الكريم بأساليب متنوعة ليكون أوقع في النفوس وأقرب إلى القبول.
الدليل الثاني: أن القادر على الخلق الأول قادر على الخلق الثاني كما
1 سورة السجدة، الآية:10.
2 سورة يس، الآية:78.
3 انظر "تفسير ابن كثير": "6/579".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قال تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} 1، وقد استقر في أفهام الناس وتصورهم أن الإعادة أهون من البدء فإذا كنتم تعترفون أن الله قد خلقكم ابتداء فلماذا تنكرون الإعادة مع أن الإعادة في نظركم أهون، والبدء والإعادة عند الله تعالى سواء وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى فقال:{وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2، يعني: أهون عليه في نظركم فلماذا تنكرونه؟ والحاصل أن القادر على الخلق الأول قادر على الخلق الثاني.
الدليل الثالث: أن القادر على خلق الأعظم قادر على خلق ما دونه قال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} 3.
الدليل الرابع: قدرة الله جل وعلا على تحويل الخلق من حال إلى حال فهو يميت ويحي ويخلق ويفني وهذه الأرض تكون هامدة لا نبات فيها فينزل الله المطر هي خضراء تهتز قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4، {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ
1 سورة مريم، الآيتان: 66، 67.
2 سورة الروم، الآية:27.
3 سورة يس، الآية:81.
4 سورة فصلت، الآية:39.
وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين.
ــ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} 1 فتجد أن القرآن يشير إلى هذا المعنى في كثير من الآيات وهو القادر على تحويل الشيء من حال إلى حال قادر على بعث الناس.
وفي الآية التي ذكر المصنف رحمه الله وهي قَوْلُهُ تَعَالَى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} دليل على وقوع البعث كما تقد. ودليل على الحساب في قوله: {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، والمعنى: أن بعث الخليقة من قبورهم ومحاسبتهم سهل هين عليه سبحانه وتعالى. وهذه الآية هي إحدى الآيات الثلاث في القرآن التي أمر الله فيه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقسم للمشركين بربه جل وعلا على وقوع البعث، وليس بعد قسم النبي صلى الله عليه وسلم بربه توكيد، والآية الثانية في سورة يونس:{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} 2، والآية الثالثة في سورة سبأ:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} 3.
قوله: "وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين" هذه حكمة من الحكم العظيمة لإرسال الرسل إلى البشر "مبشرين ومنذرين" والتبشير معناه: ذكر الجزاء والثواب لمن أطاع. والإنذار: تخويف العاصي والكافر من سخط الله تعالى وعقابه، وقد يأتي التبشير أحياناً في العذاب
1 سورة فاطر، الآية:9.
2 سورة يونس، الآية:53.
3 سورة سبأ، الآية:3.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . َوَأَّولُهُمْ نُوحٌ عليه السلام، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُمْ نُوحٌ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} .
ــ
كما في قول الله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 1 والأصل أنه يطلق على ما فيه من خير والإنذار على ما فيه من شر.
قوله رحمه الله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 2 هذه الآية دليل على وظيفة من وظائف الرسل وهي: أنهم يبشرون من أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات، وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب.
وفيها دليل على أنه لم يبق للخلق على الله حجة بعد الرسل؛ لأنهم بينوا للناس أمر دينهم، ومراضي ربهم ومساخطه، وطرق الجنة وطرق النار، فلم يبق لمعتذر عذر، كما قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} 3.
قوله: "َوَأَّولُهُمْ نُوحٌ عليه السلام، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُمْ نُوحٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} 4" استدل العلماء بهذه الآية على أن أول الرسل نوح
1 سورة آل عمران، الآية: 21، والتوبة، الآية: 34، والانشقاق، الآية:24.
2 سورة النساء، الآية:165.
3 سورة طه، الآية:134.
4 سورة النساء، الآية:163.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عليه الصلاة والسلام ووجه الاستدلال من البعدية في قوله تعالى: {وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} ، ولو كان هناك رسول قبل نوح لذكر. أما في السنة فهو ما ورد في الحديث الصحيح في حديث الشفاعة أن الناس يأتون إلى آدم يطلبون منه الشفاعة؛ فيقول لهم:"ائتوا نوحاً فإنه أول رسول إلى الأرض فيأتون نوحاً فيقولون له: أنت أول رسول أرسلك الله إلى أهل الأرض"1. وهذا من أقوى الأدلة على أ، نوحاً عليه الصلاة والسلام أول الرسل. فإن آدم عليه الصلاة والسلام وصفه بأنه أول رسول إلى الأرض. وأما آدم عليه الصلاة والسلام فقد جرى الخلاف في رسالته، هل هو رسول أو ليس برسول. ومن قال إنه رسول يقول: لا منافاة بين رسالته ورسالة نوح؛ لأن رسالة آدم كانت إلى زوجته وبنيه فقط، فهي لأناس محصورين ولم يكن في الأرض آنذاك أهل غيرهم. وأما نوح عليه الصلاة والسلام فإن رسالته كانت إلى أهل الأرض. أو إن رسالة آدم كانت إلى بنيه وهم موحدون ليعلمهم شريعته، ونوح كانت رسالته إلى قوم كفار يدعوهم إلى التوحيد
…
والله أعلم2.
وقد ذكر بعض المؤرخين أن إدريس عليه السلام جد نوح عليه السلام، وإذا كان جداً لنوح فتكون رسالته متقدمة. وقال آخرون: إنه ليس جداً لنوح
1 أخرجه البخاري: "رقم 3304"، ومسلم:"رقم194" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو في "الصحيحين" أيضاً من حديث أنس رضي الله عنه.
2 انظر: "فتح الباري": "6/372"، "11/433-434"، وشرح مسلم للنووي "3/57".
وكل أمة بعث الله إليهم رسولاً من نوح إلى محمد يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطاغوت.
ــ
وإنما هو من أنبياء بني إسرائيل. وفي حديث المعراج ما يدل على أن إدريس من أنبياء بني إسرائيل وأن رسالته متأخرة. وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما مر على إدريس عليه السلام في السماء الرابعة وسلم عليه قال له: أهلاً بالأخ الصالح والنبي الصالح. قالوا: ولو كان جداً لنوح لقال للنبي صلى الله عليه وسلم: الابن الصالح. وإن كان الحافظ ابن حجر قال: إن هذا لا يلزم؛ لأنه قد يكون قاله من باب التواضع1 لكن على أي حال يصلح أن يتمسك به. وخلاصة المسألة أنه لم تثبت الأولية بأدلة قوية إلا لنوح عليه الصلاة والسلام، والله أعلم.
والمصنف ساق الدليل على أولية نوح صلى الله عليه وسلم وترك الدليل على أن محمداً آخرهم لوضوحه وهو قول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 2.
قوله: "وكل أمة بعث الله إليهم رسولاً من نوح إلى محمد يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطاغوت"، يعني: يأمرهم بالتوحيد؛ لأن التوحيد يجمع أمرين:
الأول: عبادة الله وحده.
الثاني: النهي عن عبادة الطاغوت. فكل أمة من الأمم السابقة بعث الله إليها رسولاً يدعوهم إلى توحيد الله تعالى وترك عبادة ما سواه فمن كفر
1 "فتح الباري": "6/374".
2 سورة الأحزاب، الآية:40.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وَافْتَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ وَالإِيمَانَ بِاللهِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: مَعْنَى الطَّاغُوتِ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أَوْ مَتْبُوعٍ أَوْ مُطَاعٍ.
ــ
بالطاغوت وآمن بالله تعالى فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لَا انفِصَامَ لَهَا، ولا يصح من الإنسان عمل إلا بالبراءة من عبادة كل ما يعبد من دون الله تعالى، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1.
قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2" معنى {بَعَثْنَا} ، أي: أرسلنا. ومعنى {فِي كُلِّ أُمَّةٍ} ، أي: في كل طائفة وقرن وجيل من الناس. وهذه الآية دليل واضح على أن الرسالة عمت كل أمة وأن دين الأنبياء واحد، كما أن الآية دليل على عظم شأن التوحيد وأنه واجب على جميع الأمم. وقد افترض اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ وَالإِيمَانَ بالله؛ لأن توحيد العبد لا يتم إلا بذلك.
قوله: "قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: مَعْنَى الطَّاغُوتِ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ معبود أو متبوع أو مطاع" هذا تعريف الطاغوت. وهذا الكلام ذكره ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين"3. وقد عرف ابن القيم
1 سورة الأنبياء، الآية:25.
2 سورة النحل، الآية:36.
3 "1/50".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الطاغوت أحسن تعريف. والطاغوت في الأصل مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد، فكل من يتجاوز الحد الذي يحد له يعتبر في اللغة طاغوتاً، ومنه قوله تعالى:{إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} 1. وكلمة طاغوت من أبنية المبالغة مثل الجبروت والملكوت. أما تعريفه المقصود فكما قال ابن القيم رحمه الله: "كل ما تجاوز به العبد حده"، ومعنى كل ما تجاوز به حده، أي: تعدى به العبد قدره الذي ينبغي له في الشرع فهو طاغوت، "من معبود" يعني: سواء كان هذا التعدي بكون هذا الإنسان عبد من دون الله فصار معبوداً فمن صرف له شيء من أنواع العبادة وهو مقر بذلك وراض به فإنه طاغوت؛ لأنه تجاوز حده وقدره في الشرع؛ لأن حده في الشرع أن يكون عابداً لله تعالى لا أن يكون معبوداً فإذا رضي أن يكون معبوداً فقد تجاوز حده، "أو متبوع" هذا يدخل فيه الكهان والسحرة الذين يتبعون فيما يقولون. كما يدخل في هذا علماء السوء الذين يدعون إلى الكفر أو الضلال أو إلى البدع أو يزينون للحكام الخروج عن شريعة الإسلام والاستعاضة عنها بالقوانين الوضعية فهؤلاء كل واحد منهم يصدق عليه أنه طاغوت؛ لأنه تجاوز حده، وهذا التجاوز في كونه متبوعاً يشرع، "أو مطاع" هذا يدخل فيه الحكام والأمراء الخارجون عن طاعة الله تعالى، الذين يحرمون ما أحل الله، أو يحلون ما حرم الله، فهم بهذا المعنى طواغيت؛ لأنهم تجاوزوا حدهم بكونهم هيأوا أنفسهم لأن يطاعوا في غير طاعة الله تعالى. هذا معنى التعريف الذي ذكره ابن القيم.
1 سورة الحاقة، الآية:11.