المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المرتبة الأولى: الإسلام - حصول المأمول بشرح ثلاثة الأصول

[عبد الله بن صالح الفوزان]

الفصل: ‌المرتبة الأولى: الإسلام

‌الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة

‌المرتبة الأولى: الإسلام

الأصل الثاني

معرفة دين الإسلام بالأدلة.

ــ

قوله: "الأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة" لما فرغ المصنف رحمه الله من الكلام على الأصل الأول وهو معرفة العبد ربه وحققه تحقيقاً بديعاً، وساق عليه الأدلة الكافية انتقل إلى الأصل الثاني: وهو معرفة دين الإسلام.

والدين في اللغة: يطلق على معان عدة منها:

1-

الطاعة والانقياد. يقال: دان ديناً وديانة، أي: خضع، وذل وأطاع.

2-

ما يتدين به الإنسان، يقال: دان بكذا، أي: اتخذه ديناً وتعبد به.

والمعنى الثاني يدخل في مفهومه المعنى الأول؛ لأن من دان بدين خضع لتعاليمه وانقاد لها1.

والدين الإسلامي: هو الدين الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، جعله خاتمة الأديان، وأكمله لعباده، وأتم به عليهم النعمة. وتقدم ذكر ذلك.

وقد أشار المصنف رحمه الله بقوله: "معرفة دين الإسلام بالأدلة" إلى أن معرفة الدين لابد أن تكون مقرونة بالدليل، إما من كتاب وإما من سنة.

فيجب على الإنسان أن يكون عالماً بالدليل على ما يقوم به من عبادة الله تعالى، ليكون على بصيرة من أمر دينه؛ لأن ذلك من أسباب الثبات عند السؤال في القبر بتوفيق الله تعالى. وتقدم هذا في أول الرسالة.

1 انظر: مادة "دين" من معاجم اللغة. وانظر: "نبذة في العقيدة الإسلامية": "ص5".

ص: 103

وَهُوَ الاسْتِسْلامُ للهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ، والخلوص من الشرك.

ــ

قوله: "وهو"، أي: دين الإسلام، الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم يقوم على ثلاثة أسس:

الأساس الأول: الاستسلام لله بالتوحيد.

الأساس الثاني: الانقياد لله تعالى بالطاعة.

الأساس الثالث: البراءة من الشرك ومن أهل الشرك.

فهذه الأمور الثلاثة هي التي ينتظمها دين الإسلام. أما الأول فهو "الاستسلام لله" بمعنى: الخضوع والذل له سبحانه؛ لأن من معاني مادة "أسلم" في اللغة: الطاعة والإذعان. وقد ورد هذا في قول الله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} 1، والمسلم سمي بذلك لخضوع جوارحه لطاعة بربه2. وقوله:"بالتوحيد" هذا شامل لتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، والمعنى: أن يستسلم ويخضع لله عز وجل وأن يفرد بربوبيته وألوهيته.

الثاني: "والانقياد له بالطاعة" الطاعة تشتمل المأمور والمحضور. الطاعة في المأمور بالفعل، والطاعة في المحضور بالترك. الثالث:"والخلوص من الشرك"، أي: البراءة من الشرك وأهله، فلا يتم دين الإنسان إلا إذا تبرأ من المشركين وتبرأ من الشرك فلا يشاركهم في اعتقاد، ولا يشاركهم في مسكن، ولا يتشبه بهم أو يأخذ شيئاً من عادتهم أو من تقاليدهم كما مر.

1 سورة الزمر، الآية:54.

2 انظر: "لسان العرب": مادة "سلم".

ص: 104

وهو ثلاث مراتب: "الإسلام" و"الإيمان" و"الإحسان". وكل مرتبة لها أركان. فأركان الإسلام: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام.

ــ

قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 1.

قوله: "وهو ثلاث مراتب"، يعني: الدين ثلاث مراتب: الإسلام، والإيمان، والإحسان، كما في حديث عمر رضي الله عنه وسيأتي إن شاء الله.

والمراتب: جمع مرتبة، والمرتبة والرتبة: هي المنزلة، والمكانة، ورتب الشيء ترتيباً: أثبته وجعله في مرتبته، أي، منزلته2.

قوله: وكل مرتبة لها أركان. فأركان الإسلام: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام".

الأركان جمع ركن، وهو جانب الشيء الأقوى الذي لا يقوم ولا يتم إلا به.

ودليل هذه الأركان الخمسة: حديث ابن عمر رضي الله عنهما

1 سورة الممتحنة، الآية:4.

2 انظر: الوافي "معجم وسيط للغة العربية": "ص222".

ص: 105

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وحج البيت، وصوم رمضان"1.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "المراد من هذا الحديث أن الإسلام مبني على هذه الخمس، فهي كالأركان والدعائم لبنيانه، والمقصود تمثيل الإسلام بنيان هذه الخمس، فلا يثبت البنيان بدونها، وبقية خصال الإسلام كتتمة البنيان، فإذا فقد منها شيء نقص البنيان وهو قائم، لا ينقص ذلك، بخلاف نقص هذه الدعائم، فإن الإسلام يزول بفقدها جميعاً بغير إشكال وكذلك يزول بفقد الشهادتين، وإما إقام الصلاة فقد وردت أحاديث مقصودة تدل على أن من تركها فقد خرج من الإسلام

وذهب إلى هذا القول جماعة من السلف والخلف

وذهبت طائفة منهم إلى أن من ترك من أركان الإسلام الخمسة عمداً أنه كافر بذلك

"2.

فالركن الأول: هو الشهادة ومعناها: الاعتقاد الجازم، والذي ينبئ عن هذا الاعتقاد هو اللسان، فالشهادة: هي الاعتقاد الجازم الذي يعبر عنه اللسان، وأطلق على الاعتقاد لفظ الشهادة؛ لبيان أنه لابد من الاعتقاد الجازم. والشهادة تكون مقرونة برؤية المشهود عليه أو بسماعه مثلاً. فلما

1 أخرجه البخاري: "1/49-فتح"، ومسلم:"رقم16".

2 "جامع العلوم والحكم": شرح الحديث الثالث.

ص: 106

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أريد أن هذا الاعتقاد يكون جازماً عبر عنه بلفظ يدل على الجزم وهو لفظ الشهادة، هذه هي الحكمة -والله أعلم- من أنه يقال: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ محمداً رسول الله ولا يقال اعتقاد. فاختير لفظ الشهادة دون لفظ الاعتقاد من باب التوكيد والجزم حتى كأن هذا الذي تعتقده كأنك تشاهده والذي تشاهده تشهد به. هذا معنى لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله. ثم هنا مسألة أخرى وهي أنه في هذا الحديث جعلت الشهادتان ركناً واحداً فلم تجعل شهادة أن لا إله إلا الله ركناً وتجعل شهادة أن محمداً رسول الله ركناً؛ لأن المشهود به متعدد. والجواب عن هذا السؤال من وجهين:

الأول: أن هاتين الشهادتين أساس صحة الأعمال وقبولها إذ لا يقبل العمل ولا يكون صحيحاً إلا بأمرين:

1-

الإخلاص لله سبحانه.

2-

المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم فإذا تحققت شهادة أن لا إله إلا الله، وإذا وجدت المتابعة تحققت شهادة أن محمداً رسول الله. فإذا كانت الشهادتين هم أساس الأعمال صح أن يكون ركناً واحداً.

الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله، فالشهادة له بالرسالة والعبودية من تمام أن لا إله إلا الله، فكأن الثانية تكملة للأولى.

أما بقية الأركان فيأتي الكلام عليها _إن شاء الله- عند سياق المصنف أدلتها.

ص: 107

فَدَلِيلُ الشَّهَادَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

ــ

قوله: "فَدَلِيلُ الشَّهَادَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1" بدأ المصنف رحمه الله بذكر الأدلة على الأركان. والآية التي ساقها دليلاً على الشهادة آية عظيمة دلت على أعظم شهادة من أجل شاهد لأعظم مشهود به، فأعظم شهادة هي شهادة التوحيد من أجل شاهد وهو {اللَّهُ} سبحانه وتعالى ثم {والْمَلائِكَةُ} على أعظم مشهود به وهو أنه لا إله إلا الله، ومعنى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ، أي: حكم وأعلم وأخبر؛ لأن الشهادة تأتي بهذه المعاني: وقوله: {وَأُولُو الْعِلْمِ} ، المراد بالعلم هنا: العلم الشرعي الذي هو نور القلوب وحياتها. والمراد بأولي العلم: الأنبياء والعلماء. وفي قوله تعالى: {وَأُولُو الْعِلْمِ} دليل واضح على فضل العلم وأهله؛ لأن الله جل وعلا خصهم بالذكر من دون البشر ولو كان أحد يقاربهم في هذا لذكر معهم، بل لو كان أحد أفضل منهم لذكر. والله جل وعلا خصهم بالذكر وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملائكة، فيصلح أن تكون الآية من الأدلة على فضل العلم من وجهين:

الوجه الأول: أن الله تعالى خصهم بالذكر دون سائر البشر؛ لأن الله لم يذكر من البشر أحداً إلا أولي العلم، فإنه سبحانه ذكر نفسه المقدسة {شَهِدَ اللَّهُ} ، وذكر الملائكة وهم ليسوا من البشر، ولم يذكر من البشر

1 سورة أل عمران، الآية 18.

ص: 108

ومعناها: لا معبود حق إلا الله وحده.

ــ

إلا أولي العلم، فلو كان من البشر من هو أفضل من أولي العلم أو مثلهم لذكر.

الوجه الثاني: أن الله تعالى قرن شهادتهم بشهادته، وهذه رفعة لهم، حيث إنهم يشهدون بألوهية الله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبادة.

وقوله تعالى: {قَائِماً بِالْقِسْطِ} القسط: هو العدل في القول والعمل والحكم. و {قَائِماً بِالْقِسْطِ} حال لازمة، أي: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا اله إِلَاّ هُوَ حال كونه {قَائِماً بِالْقِسْطِ} ، ثم أعاد توحيده مرة أخرى سبحانه وتعالى فقال:{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

قوله: "ومعناها"، أي: شهادة أن لا إله إلا الله "لا معبود حق إلا الله" فلا إله، أي:"لا معبود"، وأصل إله بمعنى: مألوه، من أله يأله إلهة، أي: عبد يعبد عبادة، والتأله في لغة العرب معناه: التعبد. فـ"لا" هنا نافية للجنس وتسمى أيضاً في بعض كتب النحو بـ"لا التبرئة"، فإذا قال: لا إله إلا الله، تبرأ من جميع المعبودات إلا الله. و"إله" اسم "لا" والخبر محذوف، والنحويون يقدرون الخبر كلمة "موجود"، وهذا التقدير ليس بصحيح إذ لا يصح أن يقال: إله موجود إلا الله؛ لأن فيه آلهة موجودة كثيرة غير الله سبحانه وتعالى. مثل الأشجار والأحجار والأشخاص إلى غير ذلك، قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1. فهذا التقدير لا يصلح، والصواب أن يكون

1 سورة لقمان، الآية:30.

ص: 109

"لا اله" نَافِيًا جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ. "إِلا اللهُ" مُثْبِتًا الْعِبَادَةَ للهِ وَحْدَهُ، لا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أنه ليس له شريك في ملكه.

ــ

التقدير لا إله حق أو لا إله معبود بحق. "إلا الله" سبحانه وتعالى، "وإلا" حصر، ولفظ الجلالة بدل من الضمير المستتر في الخبر؛ لأن خبر "لا" إذا قلنا: لا إله معبود بحق، أو قلنا: لا إله حق، فيه ضمير مستتر فيكون لفظ الجلالة بدلاً من هذا الضمير، هذا هو إعراب كلمة الإخلاص، وإنما ذكرت إعرابها لأنه قد يمر على الطالب في بعض كتب النحو تقدير الخبر بكلمة "موجود" وقد تبين فساده1.

قوله: " [لا اله] نَافِيًا جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ. "إِلا اللهُ" مُثْبِتًا الْعِبَادَةَ للهِ وَحْدَهُ، لا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أنه ليس له شريك في ملكه"، أي: أن هذه الكلمة العظيمة اشتملت على نفي وإثبات، فإن معناها: لا معبود بحق إلا إله واحد، وهو الله وحده لا شريك له كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2، مع قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 3، ففيها إثبات الألوهية الحقة لله تعالى، وترك عبادة ما سواه، وأن ما سوى الله ليس بإله وأن إلهية ما سواه من أبطل الباطل، قال

1 ومنهم من يرى أن الكلام تام لا يحتاج إلى تقدير خبر فـ"لا إله" مبتدأ، و"إلا الله" خبره. راجع رسالة:"التجريد في إعراب كلمة التوحيد" تأليف العلامة الشيخ علي القاري، المتوفى سنة 1014هـ.

2 سورة الأنبياء، الآية:25.

3 سورة النحل، الآية:36.

ص: 110

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1.

فـ"لا إله إلا الله" اشتملت على أمرين هما ركناها: النفي "لا إله"، والإثبات "إلا الله"، والنفي المحض ليس بتوحيد، وكذلك الإثبات المحض، فلا بد من الجمع بينهما.

يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله:

"والإله هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالاً، ومحبة وخوفاً، ورجاءً وتوكلاً عليه، وسؤالاً منه، ودعاء له، ولا يصلح ذلك كله إلا الله عز وجل، فمن أشرك مخلوقاً في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحاً في إخلاصه في قول: "لا إله إلا الله"، ونقصاً في توحيده، وكان فيه من عبوديته المخلوق بحسب ما فيه من ذلك. وهذا كله من فروع الشرك

"2.

وكما أن الله تعالى هو المتفرد في ملكه، فهو المتفرد بالعبادة؛ لأن من أظلم الظلم أن يجعل المخلوق الذي ليس شريكاً لله في الملك شريكاً معه في العبادة تعالى وتقدس. ولهذا يحتج تعالى على من أنكر ألوهيته بما أقر به من ربوبيته، فإن توحيد الربوبية هو الدليل على توحيد الإلهية، وقد تقدم ذكر ذلك.

1 سورة لقمان، الآية:30.

2 "كلمة الإخلاص": "ص23، 24".

ص: 111

وَتَفْسِيرُهَا الَّذِي يُوَضِّحُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .

ــ

قوله: "وتفسيرها الذي يوضحها"، أي: من القرآن الكريم ولم يكل في بيان معناها إلى أحد سواه "قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 1" فهذا إبراهيم خليل الرحمن يتبرأ من الآلهة التي عليها قومه، ويلزم من هذا أن يتبرأ منهم أيضاً، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام تبرأ من الشرك وأهله مع أنهم أقرب الناس إليه: أبوه، وقومه –أهل بابل وملكهم نمرود- وقوله:{إِنَّنِي بَرَاء} ، أي: إنني بريء {مِّمَّا تَعْبُدُونَ} ، يعني: من الأصنام والأوثان. وقوله: {إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ} يقابل قوله: "لا إله"، فمعنى:"لا إله" هو معنى {إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ} وهذا نفي. {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} معنى فطرني، أي: برأني وابتدأ خلقي. وهذا فيه معنى "إلا الله"، ثم قال مؤكداً هذه العقيدة السليمة {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} ، السين هنا للتوكيد، ومعنى يهدين: أي: يرشدني ويوفقني إلى سلوك الصراط المستقيم. {وَجَعَلَهَا} الضمير يعود إلى كلمة التوحيد المأخوذ من قوله: {إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} فهذه الكلمة العظيمة وهي كلمة التوحيد جعلها إبراهيم عليه الصلاة والسلام باقية في عقبه، والدليل على أنه جعلها باقية في عقبه قول الله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا

1 سورة الزخرف، الآيات: 26-28.

ص: 112

وقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} .

ــ

إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1.

وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، يعني: لعلهم يرجعون من الشرك إلى تحقيق هذه الكلمة، فإن من لم يأت بهذه الكلمة عارفاً معناها عاملاً بمقتضاها وقع في الشرك، ولهذا قال تعالى:{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وهذه الآية من الآيات العظيمة في العقيدة، وقد دلت على دلت على فوائد نذكر منها:

أولاً: أن الآية دليل على وجوب البراءة من الشرك والمشركين، فيصلح أن نستدل بالآية على الجزئية الثالثة التي ذكرها الشيخ قبل قليل وهي البراءة من الشرك وأهله.

ثانياً: الآية دليل على فضيلة من يورث أولاده هدى وصلاحاً وأن الإنسان ينشئ أولاده ويربيهم ويورثهم الهدى والصلاح فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام جعل هذه الكلمة باقية في عقبه وفي ذريته.

الفائدة الثالثة: أن الآية فيها دليل على أن من الكمال العقلي والإدراك السليم أن يتبع المرء الهدى ولو خالف أهله وقومه وأهل بلاده.

قوله: "وقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 2" هذه الآية تدلنا على

1 سورة البقرة، الآية:132.

2 سورة آل عمران، الآية:64.

ص: 113

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

تفسير الشهادة {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} أي: هلموا وأقبلوا {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} ، قال المفسرون: الكلمة السواء هي الكلمة العادلة، فكل كلمة عادلة يطلق عليها كلمة سواء {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} ، أي: نحن وأنتم سواء في هذه الكلمة {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} هذا نفي أي: "لا إله"، وقوله "إلا الله" هذا إثبات {وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} هذا لبيان أن العبادة لا تتم إلا بالتخلي عن الشرك؛ لأن من عبد الله وأشرك معه غيره لم يحقق المعنى المطلوب من العبادة؛ لأن المعنى المطلوب من العبادة هو إفراد الله تعالى بالعبادة كما تدل عليه كلمة الإخلاص، وقوله:{وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} هذا من مقتضيات كلمة الإخلاص، والمعنى: لا يتخذ بعضنا البعض الآخر رباً مطاعاً من دون الله فيفرض طاعته على غيره، فإن هذا يخل بمعنى العبادة. وقد ورد عن عدي رضي الله عنه وأرضاه أنه لما تلا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1، قال: يا رسول الله، لسنا نعبدهم. قال:"أليسوا يحلون ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه، قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم" 2، فدل على أن من مقتضيات كلمة الإخلاص ألا يتخذ رباً ومشرعاً إلا الله سبحانه وتعالى، فمن اتخذ غير الله سبحانه وتعالى مشرعاً فقد عبده مع الله، وقد عطف قوله: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً

1 سورة التوبة، الآية:31.

2 تقدم تخريجه.

ص: 114

وَدِليلُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .

ــ

أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} على الجملة السابقة؛ لأن من مستلزمات الشهادة أن نفرد الله تعالى بالتشريع فلا حكم إلا ما شرع الله تعالى، كما قال تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} 1، وقوله:{فَإِنْ تَوَلَّوْا} ، أي: امتنعوا وأبوا أن ينقادوا لهذه الكلمة العظيمة {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ، يعني: صرحوا لهم بأنكم مسلمون وأنكم بريئون منهم وما هم عليه.

قوله: "وَدِليلُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2" هذه الآية دليل على شهادة أن محمداً رسول الله، وفيها بيان أن الله جل وعلا امتن على هذه الأمة ببعثة هذا الرسول الكريم ووصف هذا الرسول بأنه "من أنفسهم" فهم يعرفون صدقه ونسبه ويمكنهم الجلوس معه وسماع خطابه وكلامه؛ لأنه ليس بغريب عليهم، وقوله:{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أصل العنت بمعنى المشقة، ومعنى {عَزِيزٌ عَلَيْهِ} ، أي: شديد عليه كل ما فيه مشقة عليكم من آصار وأغلال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعث بالحنيفية السمحة3، ولما تلا الرسول صلى الله عليه وسلم على

1 سورة يوسف، الآية:40.

2 سورة التوبة، الآية:128.

3 ورد ذلك من طرق، فراجع:"النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد": "ص333".

ص: 115

وَمَعْنَى شَهَادَة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، واجْتِنَابُ مَا عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.

ــ

الصحابة قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 1 قال الأقرع بن حابس: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت الرسول صلى الله عليه وسلم، وسكوته رحمة لهذه الأمة؛ لأنه قال:"لو قلت نعم لوجبت"2. فيكون الحج واجباً كل سنة على من استطاع إليه سبيلاً، وهذا فيه من المشقة والضرر ما لا يحتمله العباد، لكن من رحمة الله تعالى بعباده أن الحج لا يجب إلا مرة واحدة في العمر. وقوله تعالى: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} ، أي: على هدايتكم وإنقاذكم من النار، فالرسول صلى الله عليه وسلم حريص أشد الحرص على هداية أمته. وقوله تعالى:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ، يعني: أن الرأفة والرحمة خاصة بالمؤمنين، وأما هدايته فهي عامة لجميع الناس، فمن شاء الله تعالى هدايته اهتدى ومن شاء الله إضلاله ضل، وقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على هداية عمه أبي طالب، ولكن الله تعالى لم يشأ هدايته. قال تعالى:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 3.

قوله: "وَمَعْنَى شَهَادَة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، واجْتِنَابُ مَا عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع" هذه أربعة أمور لا تتم شهادة أن محمداً رسول الله إلا بها. فما أمر

1 سورة آل عمران، الآية:97.

2 أخرجه مسلم: "رقم1337".

3 أخرج قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه البخاري: "8/506-فتح"، ومسلم:"رقم39/26"، والآية من سورة القصص، رقم:56.

ص: 116

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

به رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد من طاعته فيه، وقد يكون الأمر أمر وجوب أو أمر استحباب. وقد دلت النصوص على أن الأمر الواجب لابد من طاعته فيه وأن الأمر المستحب الذي تدل القرائن على أنه مستحب ليس على وجه الإلزام وهي الحكمة من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1، وإنما يطاع الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه يأمر بأمر الله، فشرعه صلى الله عليه وسلم هو شرع الله تعالى. قال تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} 2، وكثير من الناس يخل بهذا الجزء من الشهادة فهو ينطق بها في صلاته وفي سماعه للأذان يشهد أن محمداً رسول الله، لكنه يخل بتحقيق هذه الشهادة في مجال العمل والتطبيق، والله جل وعلا يقول:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3.

قوله: "وتصديقه فيما أخبر"، أي: فلابد من تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، ومن كذب الرسول صلى الله عليه وسلم فهو لم يحقق شهادة أن محمداً رسول الله، وإنما وجب تصديقه صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، فخبره صدق قطعاً.

قوله: "واجتناب ما عنه نهى وزجر" هذا الأساس الثالث، وقد أخل به كثير من الناس أيضاً؛ فارتكبوا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال في العبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك. وهذا دليل على

1 سورة النساء، الآية:64.

2 سورة يوسف، الآية:40.

3 سورة الحشر، الآية:7.

ص: 117

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

ضعف على الإيمان نسأل الله السلامة. وقد فرق الإسلام بين الأوامر والنواهي، فالأوامر حسب قدرة المكلف، وأما النواهي فلم تقيد بالقدرة مما يدل على وجوب الانتهاء، وقد دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوا وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم

" 1.

قوله: "وألا يعبد الله إلا ما شرع" هذا الأمر الرابع، وهو يدل على ركن أساسي من أركان العبادة والدين، وهو: أن العبادة ليست بالأهواء ولا بالبدع ولا بالاجتهاد الذي لم يبن على دليل صحيح، وإنما العبادة مبنية على الاتباع وما جاء به الشرع، إضافة إلى أصل عظيم من أصول الدين الإسلامي، وهو: ألا نعبد إلا بما شرع، إضافة إلى الأصل الأول العظيم، وهو: ألا نعبد إلا الله، فهذا هو الإخلاص، والأول هو المتابعة. فلا يجوز لأحد أن يعبد الله تعالى إلا بما شرع، وليس لأحد أن يقول إن هذا مشروع أو مستحب إلا بدليل شرعي. ومن تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة فهو ضال مبتدع بدعة سيئة لا بدعة حسنة باتفاق أئمة الدين، فإن الله لا يعبد إلا بما هو واجب أو مستحب2.

وقد جاءت النصوص الشرعية تأمر بالاتباع وتنهى عن الابتداع، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ

} 3، وقال تعالى:

1 أخرجه البخاري: "13/251-فتح"، ومسلم:"رقم1337". وانظر: شرح الحافظ ابن رجب على هذا الحديث في "جامع العلوم والحكم": "رقم9".

2 "مجموع الفتاوى": "1/160".

3 سورة الأعراف، الآية:157.

ص: 118

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1، وقال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 2، وقال تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 3، وقال تعالى:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} 4.

وفي حديث العرباض بن سارية: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"5.

وطريق النجاة أن يلتزم المسلم سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ويقتفي أثره. فما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه التعبد والطاعة فهو عبادة نتأسى به فيها؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 6، وما صح من أقواله وتقريراته فهو سنة يعمل بها قال صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلي"7. وقال في الحج: "لتأخذوا عني مناسككم" 8.

1 سورة الأعراف، الآية:157.

2 سورة آل عمران، الآية:31.

3 سورة الكهف، الآيتان: 103، 104.

4 سورة القصص، الآية:50.

5 أخرجه أبو داود: "رقم6407"، والترمذي:"رقم2676"، وأحمد:"4/126"، وابن ماجه:"رقم42-44" وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

6 سورة الأحزاب، الآية:21.

7 أخرجه البخاري: "رقم631"، ومسلم:"رقم674".

8 أخرجه مسلم: "رقم1297".

ص: 119

وَدَلِيلُ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَتَفْسِيرُ التَّوْحِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} .

ــ

يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وأما متابعة الرسول فواجب على أمته متابعته في الاعتقادات والأقوال والأفعال.. فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله فما وافق منها قبل، وما خالف رد على فاعله كائناً من كان، فإن شهادة أن محمداً رسول الله تتضمن تصديقه فيما أخبر وطاعته ومتابعته في كل ما أمر به. وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"

1

قوله: "وَدَلِيلُ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَتَفْسِيرُ التَّوْحِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 2" هذه الآية الكريمة كما ذكر المصنف فيها دلالة على ثلاثة أمور:

الأمر الأول: على وجوب الصلاة، وذلك من قوله:{وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} .

1 انظر: القسم الخامس من "مؤلفات الشيخ" الرسائل الشخصية: "ص106"، والحديث المذكور أخرجه البخاري، وتقدم.

2 سورة البينة، الآية:5.

ص: 120

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الأمر الثاني: {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} ؛ لأن الفعل "يقيموا" معطوف على الفعل "ليعبدوا" الذي دخلت عليه لام الأمر، فالآية فيها أمر بإقامة الصلاة وأمر بإيتاء الزكاة.

الأمر الثالث: وهو تفسير التوحيد فهو من قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فهم مأمورون بإفراد الله بالعبادة وهو مستفاد من طريق القصر وهو الاستثناء بعد النفي في قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} ، ويضاف إلى هذا الإخلاص هو ألا يشرك مع الله غيره فيكون قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} هو معنى "لا إله إلا الله"، أي: لا معبود بحق إلا الله، ولا يتم هذا إلا بإفراد الله تعالى بالعبادة. والضمير في قوله:{وَمَا أُمِرُوا} يعود إلى الذين كفروا في الآيات التي قبل هذه، وهي قوله تعالى:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 1، وهذه الآية فيها دليل كما يقول الأصوليون على أن الكفار مخاطبون بالإيمان وبأركان الإسلام؛ لأن الله جل وعلا أمرهم بإفراده بالعبادة وأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنهم وقت الأمر كفار مما يدل على أن الكافر مأمور بالإيمان كما أن الإنسان إذا دخل عليه وقت الظهر –مثلاً- وهو محدث مأمور بالصلاة حال

1 سورة البينة، الآيات: 1-5.

ص: 121

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الحدث ولو لم يتوضأ ولا تصح الصلاة إلا بالوضوء وهكذا الكافر مأمور بالصلاة والصيام والزكاة والحج حال كفره ولكنها لا تصح منه إلا بالإيمان1. وقوله تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} القيمة وصف لمقدر، والتقدير –والله أعلم-: وذلك دلين الملة القيمة، ومعنى "القيمة": المستقيمة.

والصلاة هي التعبد لله تعالى بأقوال وأفعال على هيئة مخصوصة مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم. وفي الآية السابقة جاء لفظ بقوله: {وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ} ، وإقامة الصلاة هو التعبد لله تعالى بفعلها على وجه الاستقامة والتمام في أوقاتها وهيئاتها. فيأتي بها وافية الأركان والواجبات حريصاً على سننها القولية والفعلية. هذا هو معنى إقامة الصلاة، ولهذا نلاحظ أن الله جل وعلا لم يذكر الصلاة في القرآن إلا بإقامتها أو بالمداومة عليها أو بالمحافظة عليها، ولم يقل: يا أيها الذين آمنوا صلوا أو إن الذين يصلون أو المصلين بل قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} {عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} {عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} 5، وهذا يدل على أن هناك أمراً مقصوداً غير مجرد الصلاة ألا وهو إقامة الصلاة.

1 انظر كتابي: "شرح الورقات": "ص97".

2 سورة البقرة، الآية: 83، وغيرها من السور.

3 سورة النساء، الآية:162.

4 سورة المعارج، الآية:23.

5 سورة المعارج، الآية:34.

ص: 122

َودَلِيلُ الصِّيَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .

ــ

ومن ثمرات إقام الصلاة أنها صلة بين العبد وربه، فيها انشراح الصدر، وقرة العين، والهداية إلى فعل الخير، والانزجار عن الفحشاء والمنكر، قال تعالى:{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 1. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت قرة عيني في الصلاة" 2.

وأما الزكاة فهي جزء واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة أو جهة مخصوصة. فالطائفة مثل: "الفقراء"، والجهل مثل:"في سبيل الله".

ومن ثمرات إخراج الزكاة تطهير نفس الغني من الشح والبخل وتطهير نفس البخيل من الحسد والضغينة على الأغنياء، وسد حاجة الإسلام والمسلمين وطهرة المال، وحصول الآثار الطيبة على البلاد والعباد.

قوله: "َودَلِيلُ الصِّيَامِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 3" الصيام هو الإمساك عن المفطرات تعبداً لله تعالى من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وقلنا: "تعبداً"؛ لأن الإنسان قد يمسك عن الأكل والشرب لمرض أو لحمية أو نحو هذا.

وفي الصيام فوائد عظيمة وفضائل جسيمة من التعبد لله: بترك شهوات

1 سورة العنكبوت، الآية:45.

2 أخرجه النسائي: "7/61"، وأحمد:"3/285" وغيرهما، وهو حديث صحيح.

3 سورة البقرة، الآية:183.

ص: 123

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

النفس وتربية الإرادة، وجهاد النفس وتعويدها على الصبر والتحمل، وإشعار الصائم بنعم الله عليه، وفي الصوم فوائد صحية، وهو أكبر عون على تقوى الله عز وجل، وفيه من جزيل الأجر ما لو تصورته نفس صائمة لطارت فرحاً وتمنت أن تكون السنة كلها رمضان، وقد شبه الله جل وعلا كتابة الصيام علينا بأنها كتابة الصيام على من قبلنا فقال:{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وهذا تشبيه فرض لا تشبيه مفروض بمفروض بمعنى أنه كما وجب عليهم الصيام، فالصيام واجب علينا وليس الذي فرض علينا كالصيام الذي فرض عليهم ولهذا كان هذا الصيام في أول الإسلام له كيفية خاصة حتى نزل قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 1. وقد دلت السنة على المعنى الذي أشرت إليه2.

والمقصود أن صيامهم يختلف عن صيامنا، فصيام شهر بتمامه بالصفة المعروفة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس من خصائص هذه الأمة، وقوله تعالى:{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لعل هنا للتعليل بمعنى: لأجل أن يكون هذا الصيام وقاية لكم من عذاب الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ولا ريب أن الصيام من أعظم دواعي التقوى لو كان الإنسان يصوم الصيام الشرعي المطلوب. فإذا أخل بشيء من واجبات الصوم وآدابه فقد لا يورثه تقوى وصلاحاً.

1 سورة البقرة، الآية:187.

2 انظر: "تفسير ابن كثير": "1/306"، و"تفسير الطبري" تحقيق محمود وأحمد شاكر:"3/409".

ص: 124

ودليل الحج قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} .

ــ

وقوله: "َودَلِيلُ الْحَجِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 1" الحج هو: قصد مكة لأداء مناسك الحج في زمن مخصوص. وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} على: للوجوب، والمراد بالناس: بنو آدم، مؤمنهم وكافرهم؛ لأن الله قال:{عَلَى النَّاسِ} فالحج يجب على المؤمن والكافر. وهذا من الأدلة التي تدل على أن الكفار مخاطبون بالأوامر كما تقدم. ومعنى {حِجُّ الْبَيْتِ} ، أي: قصد الكعبة لأداء مناسك الحج. {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ، يعني: من أطاق الوصول إليه، والمراد بالسبيل: الطريق، فإذا استطاع الإنسان الطريق الذي يوصله إلى البيت وجب عليه الحج.

فإن الله جل وعلا "غني" عن العالمين، أي: كثير الخير لا يحتاج إلى أحد من الخلق سبحانه وتعالى. فمن ترك الحج ممن يجب عليه كفر. لكن إن كان تركه له إنكاراً لوجوبه فهذا كفر أكبر مخرج من الملة، وإن كان تركه للحج غير منكر لوجوبه فقد نص العلماء على أن هذا كفر أصغر لا يخرج عن الملة2. وإطلاق كلمة "كفر" على بعض الأعمال التي لا

1 سورة آل عمران، الآية:97.

2 هذا قول في المسألة، ويرى آخرون أن من ترك شيئاً من أركان الإسلام الخمسة عمداً أنه كافر. وقد تقدم ذكر ذلك. راجع "جامع العلوم والحكم" لابن رجب: شرح الحديث الثالث.

ص: 125