الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصل الثالث: معرفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
اسمه ونسبة
…
الأَصْلُ الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم
وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بن عبد المطلب بن هاشم.
ــ
قوله: "الأَصْلُ الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم" هذا هو الأصل الثالث من الأصول الثلاثة التي يجب على العبد معرفتها. وهذا الأصل تأتي معرفته العبد ربه ومعرفة العبد دينه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بيننا وبين الله عز وجل. فالله هو يشرع الشرائع ويحكم الأحكام، ولا يمكن تلقي أحكام الشرع إلا عن طريق هذا النبي ديننا إلا بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا يمكن أن نقوم بعبادة الله تعالى على الوجه المطلوب إلا عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم. والعبادة لها ركنان: الإخلاص والمتابعة. ولا يمكن للإنسان أن يعبد الله تعالى على علم وبصيرة وتكون عبادة صحيحة مقبولة إلا عن طريق التلقي من النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعرفة النبي صلى الله عليه وسلم تشتمل على أمور كثيرة:
الأمر الأول: معرفة نسبة. وهو قوله: "وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المطلب بن هاشم" وقد اقتصر المصنف على جدين من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم.
والنبي صلى الله عليه وسلم له عدة أسماء. وقد ورد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي، وأنا العاقب،
وَهَاشِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
ــ
والعاقب: الذي ليس بعده نبي"1، وله أسماء أخرى، وأشهرها: "محمد"، وقد جاء ذكره في القرآن على وجه التنويه، ومعناه الذي يحمد أكثر مما يحمد غيره.
قوله: "وَهَاشِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام" قريش: هو النضر بن كنانة، لما ورد عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد لا يرون أني أفضلهم. فقلت: يا رسول الله، إننا نزعم أنا منكم، قال: "نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا
…
" 2. والمقصود بهذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في أكرم العرب نسباً.
وقد ورد عن وائلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، وأصطفاني من بني هاشم". 3
1 أخرجه البخاري: "6/554"، ومسلم:"رقم2354"، وانظر:"فتح الباري": "6/555".
2 أخرجه أحمد: "20/177-الفتح الرباني"، وابن ماجه:"رقم2612"، قال ابن كثير:"وهذا إسناد جيد قوي وهو فيصل في هذه المسألة: فلا التفات إلى قول من خالفه والله أعلم". "السيرة": "1/86".
قال في "الزوائد""2/327": هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، ومعنى:"لا نقفوا أمنا": قال في "النهاية": "ولا نتهمها ولا نقذفها".
3 أخرجه مسلم: "رقم2276"، والترمذي:"5/544"، وقال: حديث حسن صحيح.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقال أبو سفيان لهرقل-لما سأله: كيف نسبه فيكم؟ - قال: هو فينا ذو نسب، قال هرقل: فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها1، أي: في أكرمها نسباً وأشرفها قبيلة.
قوله: "وهاشم من قريش" هو هاشم بن عبد مناف. قال مؤرخوه: اسمه عمرو، وغلب عليه لقبه "هاشم"؛ لأنه أول من هشم الثريد مع اللحم لقومه في مكة في سني المحل، وهو أحد الأجواد الذين ضرب بهم المثل في الكرم، وأحد من انتهت إليه السيادة في الجاهلية2.
قوله: "وَقُرَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ"، المراد بالعرب –هنا-: العرب المستعربة. فإن العرب قسمان:
1-
عرب عاربة: وهم أصل العرب الباقية جميعاً ويسمون "القحطانيين"، وينتسبون إلى سبأ بن يشجب بن يعرف بن قحطان، وقد سكنوا اليمن ثم تفرقوا في بقية الجزيرة.
2-
عرب مستعربة: ويسمون "العدنانيين"، وقد نشأوا في مكة ومنها تفرقوا في جهات كثيرة من الحجاز وتهامة، وينتهي نسبهم إلى إسماعيل عليه الصلاة والسلام كما تقدم؛ لأنه لما أصهر إلى قبيلة "جرهم" كان من نسله "عدنان" الذي تنتسب إليه العرب المستعربة3.
1 أخرجه البخاري: "1/31-فتح"، ومسلم:"رقم1773".
2 انظر: "طبقات ابن سعد": "1/75"، و"الأعلام" للزركلي:"9/48".
3 "البداية والنهاية": "2/156".
وله من العمر ثلاث وستون، منها أربعون قبل النبوة، وثلاث عشرون نبياً رسولاً.
ــ
قوله: "والعرب من ذرية إسماعيل"، أي: فيكون النبي صلى الله عليه وسلم من أولاد إسماعيل عليه السلام وليس من أولاد "إسحاق"، وأنبياء بني إسرائيل كلهم من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. و"إسماعيل" ولد لإبراهيم عليه السلام من أمته "هاجر" على كبر منه قال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} 1، وهو الذي أمر إبراهيم عليه السلام بذبحه كما ذكر الله تعالى في القرآن.
قوله: "وله من العمر ثلاث وستون سنة" هذا الأمر الثاني: وهو معرفة عمره ومكان ولادته. وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: "توفى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين"2. وأما مولده صلى الله عليه وسلم ففي يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول من عام الفيل3.
قوله: "منها أربعون قبل النبوة، وثلاث وعشرون نبياً مرسلاً" هذا ورد م حديث أنس رضي الله عنه وفيه: "أنزل عليه وهو ابن أربعين"4. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم مات وعمره ثلاث وستون سنة، وثبت في حديث أنس أنه بعث على رأس الأربعين، فهذا يدل دلالة قاطعة على أن مدة النبوة والرسالة كانت ثلاثاً وعشرين سنة. وقد ورد في "صحيح
1 سورة إبراهيم، الآية:39.
2 أخرجه البخاري: "6/559"، ومسلم:"رقم2349".
3 انظر: "البداية والنهاية": "1/259".
4 "أخرجه البخاري": "6/564-فتح"
نبئ باقرأ. وأرسل بالمدثر.
ــ
البخاري" حديث أنس قال: "أنزل عليه القرآن هو ابن أربعين فلبث في مكة عشر سنين ينزل عليه القرآن وبالمدينة عشر سنين"1. وظاهر هذا أن مدة النبوة والرسالة عشرون سنة، لكن الصحيح أنها ثلاث وعشرون؛ لأنه ورد عن عائشة أنه مات عن ثلاث وستين. وورد عن أنس نفسه في "الصحيحين" أن الرسول صلى الله عليه وسلم مات وله ثلاث وستون. وقد يكون قوله: "وبالمدينة عشر سنين" من باب حذف الكسر لكن على أي حال ما اتفق عليه أولى مما اختلف فيه2.
قوله: "وثلاث وعشرون نبياً رسولاً. نبئ باقرأ. وأرسل بالمدثر" هذا الأمر الثالث: وهو معرفة حياته النبوية. ومعنى "نبئ"، أي: خبر؛ لأن أصل النبوة مأخوذ من النبأ وهو الخبر. قوله: "وأرسل بالمدثر"، أي: بهث لأن الإرسال معناه البعث والتوجيه.
وقوله: "باقرأ"، يعني: قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} هذا نزل عليه يوم الاثنين في رمضان وهو في غار حراء3.
قوله: "وأرسل"، أي: بصدر السورة. وقول المصنف: "نبئ باقرأ وأرسل بالمدثر" دليل على أن هناك فرقاً بين النبي والرسول وهذا هو الصحيح المعتمد أن النبي غير الرسول، والرسول غير النبي،
1 المصدر السابق.
2 راجع: "فتح الباري": "6/570"، "8/150، 151".
3 "البداية والنهاية": "3/6".
وبلده مكة.
ــ
وقد تقدم ذلك، ومن الأدلة على هذا قول الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} 1، والعطف يقتضي المغايرة، وكذلك مجيء "لا" في قوله:"ولا نبي" فهذا يدل على أن النبي غير الرسول.
قوله: "وبلده مكة"، أي: ولد فيها، ونشأ بها إلا المدة التي أقامها عند مرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية في بادية بني سعد، ثم رجع إليها في حضانة جده عبد المطلب ثم عمه أبي طالب؛ لأن أمه آمنة بنت وهب ماتت وعمره ست سنين، وبقي في مكة ثلاث عشرة سنة بعد أن أوحى إليه.
قوله: "وهاجر إلى المدينة" الهجرة يأتي الكلام عليها إن شاء الله. والمدينة اسم غالب لمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم دون غيرها من المدن كالنجم للثريا. وابن عباس لعبد الله دون إخوته من أولاد العباس.
وقد روى أبو موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب" 2!!!
وكانت هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة –فيما يظهر- فراراً من أذى
1 سورة الحج، الآية:52.
2 أخرجه البخاري: "6/627"، "7/226-فتح"، ومسلم:"رقم2272"، وقوله:"وهلي" بفتح الواو والهاء، أي: ظني، وقوله:"فإذا هي المدينة يثرب" كان ذلك قبل أن يسميها صلى الله عليه وسلم طيبة.
بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إِلَى التَّوْحِيدِ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} .
ــ
المشركين، وطلباً للنجاة بالدين، والتماساً لمكان تنمو فيه الدعوة، وتؤتي أكلها، حتى يقوي ساعدها ويشتد أزرها؛ وذلك بعد أن تابعته الأنصار على الإسلام وبايعوه على النصر والمؤازرة.
ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صار له شيعة وأصحاب من غيرهم في غير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، خافوا من انتشار دعوته، ومحاربته لهم فعزموا أصحابه من المهاجرين إليهم، خافوا ذلك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم برعاية الله تعالى وحفظه، ومعه أبو بكر رضي الله عنه وتغيباً في غار ثور –جبل بأسفل مكة- ثم سارا إلى المدينة فوصلاها وفرحت بذلك الأنصار فرحاً عظيماً، وكل ذلك مدون في السيرة.
قوله: "بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد" هذا الأمر الرابع مما يتعلق بمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معرفة ما بعث به، وهذا أعظمها وأعلاها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله تعالى ينذر عن الشرك، ويدعو إلى توحيد الله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته. والإنذار بمعنى: التحذير.
والمنذر: المحذر. وأصل الإنذار: الإبلاغ، ولا يكون إلا في التخويف.
قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} 1"، أي:
1 سورة المدثر، الآيات: 1-7.
وَمَعْنَى {قُمْ فَأَنذِرْ} يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ وَيَدْعُو إلى التوحيد، {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشِّرْكِ، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرُّجْزَ: الأَصْنَامُ، وَهَجْرُهَا تركها وأهلها والبراءة منها وأهلها. وأخذ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ، وَبَعْدَ الْعَشْرِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ وَفُرِضَتْ عليه الصلوات الخمس.
ــ
الدليل على أنه صلى الله عليه وسلم بعث بالإنذار عن الشرك، والدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى. وقوله:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} هذه أو آية أرسل بها النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ثبت عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: "فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه حتى هويت إلى الأرض، فجئت إلى أهلي، فقلت: زملوني زملوني؛ فزملوني فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ} إلى {فَاهْجُرْ} قال أبو سلمة: والرجز: الأوثان: ثم حمى الوحي وتتابع1.
وهذه الآيات قد فسر الشيخ أكثرها. وسأذكر تفسيرها بعون الله تعالى.
فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} ، أي: الذي قد تدثر بثيابه، أي: تغشى بها من الرعب الذي حصل له من رؤية الملك كما تقدم. وأصله: المتدثر، فأدغمت التاء في الدال لتجانسها.
" ومعنى {قُمْ فَأَنذِرْ} "، أي انهض فخوف المشركين وحذرهم العذاب
1 أخرجه البخاري "1/27فتح" ومسلم "255""161" وقوله: "فَجُثِثْتُ" بالثاء بمعنى: فزعت، ويجوز: فجُئثت. بهمزة بعد الجيم ثم ثاء مثلثة ثم تاء. والمعنى واحد. انظر: شرحي القاضي عياض "1/49" والنووي "1/564".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
إن لم يؤمنوا. بها حصل الإرسال، كما حصل بقول الله تعالى:{اقْرَأْ} النبوة.
وقول الشيخ رحمه الله: "ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد" هو معنى ما تقدم فإن أشرك مع الله غيره قد عرض نفسه فهو بحاجة إلى إنذار.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، أي: عظمه بالتوحيد. وصفه بالكبرياء والعظمة وأنه أكبر من أن يكون له شريك كما يقول الكفار.
{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ، أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشِّرْكِ. وهذا أحد تفاسير الآية. اقتصر عليه الشيخ رحمه الله. والقول الثاني: أن المراد بها الثياب الملبوسة. أمره الله بتطهير ثيابه وحفظها عن النجاسات. وهذا من تمام التطهير للأعمال خصوصاً في الصلاة. واختار ذلك ابن جرير الطبري، والشوكاني؛ لأن ذلك هو المعنى اللغوي للكلمة. قال ابن كثير:"وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب فإن العرب تطلق الثياب عليه"1.
{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قرأ حفص بضم الراء، بمعنى: الأصنام والأوثان. وهجرها: تركها والإعراض عنها والبراءة من أهلها كما قال تعالى عن الخليل عليه الصلاة والسلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 2.
ويحتمل أن المراد بالرجز أعمال الشر كلها؛ فيكون أمراً له بترك الذنوب صغارها وكبارها ظاهرها وباطنها فيدخل في هذا الشرك فما دونه.
وقرأ الباء بكسر الراء، بمعنى: العذاب3. والقراءتان بمعنى
1 "تفسير ابن كثير""8/289"، "فتح القدير": 5/324"، "فتح الباري": "8/679".
2 سورة مريم، الآية:48.
3 الكشف المكي "2/347".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
واحد؛ لأن عبادة الأوثان تؤدي إلى العذاب؛ فأمر أن يهجر ما يحل العذاب بسببه. والله أعلم.
{وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} بضم الراء على أنه حال، أي: ولا تمنن حال كونك مستكثراً ما يتحمله بسبب الغير. قاله الحسن والربيع بن أنس واختاره ابن جرير. وقيل: لا تعط العطية تلتمس أكثر منها. قاله ابن عباس وجماعة من السلف. واختاره ابن كثير1.
{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} ، أي: لربك وحده دون سواه فاصبر على كل ما تلقاه في سبيل الدعوة وإبلاغ الرسالة.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "فامتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ربه وبادر فيه، فأنذر الناس وأوضح لهم بالآيات البينات جميع مطالب الإلهية، وعظم الله تعالى، ودعا الخلق إلى تعظيمه، وطهر أعماله الظاهرة والباطنة من كل سوء، وهجر كل ما يعبد من دون الله، وما يعبد معه من الأصنام وأهلها، والشر وأهله، وله المنة على الناس –بعد منة الله- من غير أن يطلب عليهم بذلك جزاء ولا شكوراً. وصبر لربه أكمل صبر: فصبر على طاعة الله وعن معاصيه، وصبر على أقداره المؤلمة، حتى فاق أولى من المرسلين، صلوات الله وسلامة عليه وعليهم أجمعين"2.
1 "تفسير ابن كثير": "8/290"، "فتح القدير":"5/324".
2 "تفسير ابن سعدي": "5/332".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قوله: "أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلَى التوحيد"، أي: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يدعو إلى توحيد الله تعالى، ويبين الشرك ويحذر منه.
وذلك أن المقصود الأعظم من بعثة النبيين وإرسال المرسلين وإنزال الكتب هو الإنذار من الشرك والنهي عنه، والدعوة إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة. وكان النداء الأول لكل رسول:{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1، وقال تَعَالَى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2، وقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3.
فالتوحيد هو أساس الملة الذي تبنى عليه، وبدونه لا يقوم عمل من الأعمال؛ ولهذا لم تفرض الصلاة التي هي عماد الدين وبقية الشرائع إلا بعد إرساء دعائم التوحيد وبنيان العقيدة وهذا يدل على أن التوحيد من أوجب الواجبات، وأنه يبدأ به قبل غيره. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن:"فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله"4.
قوله: "وبعد العشر عرج به إلى السماء". اعلم أن الإسراء والمعراج من الأمور التي ثبتت بطريق الشرع وليس للعقل فيها مدخل، والجمهور
1 سورة الأعراف، الآية: 59، 65، 73، 85، وسورة هود، الآيتان: 50، 61، وغيرها.
2 سورة النحل، الآية:36.
3 سورة الأنبياء، الآية:25.
4 تقدم تخريجه.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
من المحدثين والفقهاء أن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه؛ لأن قريشاً أكبرته وأنكرته ولو كان مناماً لم تنكره؛ لأنه لا تنكر المنامات.
والإسراء لغة: السير بالشخص ليلاً. وشرعاً: سير جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس؛ لقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1.
والمعراج لغة: الآلة التي يعرج بها، وهي المصعد. وشرعاً: السلم الذي عرج به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأرض إلى السماء. وقد ثبت المعراج بالقرآن في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} 2 إلى قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 3.
وخلاصة ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة أن جبريل أمره الله أن يسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس على البراق4، ثم يعرج به إلى السموات العلى سماء حتى بلغ مكاناً سمع فيه صرير الأقلام وفرض الله عليه الصلوات الخمس –كما سيأتي- واطلع على الجنة والنار، واتصل
1 سورة الإسراء، الآية:1.
2 سورة النجم، الآيات: 1-3.
3 سورة النجم، الآية:18.
4 بضم الباء دابة دون البغل وفوق الحمار أبيض يضع خطوة عند أقصى طرفه "فتح الباري": "7/201".
وصلى في مكة ثلاث سنين،
ــ
بالأنبياء الكرام، وصلى بهم إماماً، ثم رجع إلى مكة فحدث الناس بما رأى فكذبه الكافرون وصدق به المؤمنون وتردد آخرون1.
قوله: "وفرضت عليه الصلوات الخمس"، أي: فرض الله تعالى على عبده محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته الصلوات الخمس ليلة المعراج خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ثم لم يزل يختلف بين موسى وبين ربه عز وجل حتى وضعها الرب جل جلاله –وله الحمد والمنة- إلى خمس وقال:"هي خمس وهن خمسون".
قوله: "وصلى في مكة ثلاث سنين"، أي: فيكون الإسراع قبل الهجرة بثلاث سنين، وكان يصلي الرباعية ركعتين حتى هاجر إلى المدينة، وقد دل على ذلك ما ورد عن عائشة –رضي الله عنها قالت:"فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول الله ففرضت أربعاً، وتركت صلاة السفر على الأولى"2.
ورواه ابن حبان في "صحيحه"، ولفظه قالت:"فرضت صلاة السفر والحضر ركعتين، فلما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار"3.
1 انظر: "السيرة" لابن كثير: "2/93"، و"فتح الباري":"1/458"، "7/196، وما بعدها"، و"شرح لمعة الاعتقاد" للشيخ محمد العثيمين:"ص59".
2 أخرجه البخاري: "7/267- فتح"
3 أخرجه ابن حبان: "6/447-إحسان"، وابن خزيمة:"1/157"، وانظر:"فتح الباري": "1م464".