الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توحيد الربوبية وأدلتة
…
الأُولَى: أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا وَلَمْ يَتْرُكْنَا هملاً،
ــ
وهذه المسائل الثلاث مسائل عظيمة لابد من تعلمها والعمل بها؛ لأنها قاعدة الدين وأساس العقيدة، فـ "الأولى" التي هي توحيد الربوبية "أن الله خلقنا وورزقنا ولم يتركنا هملاً"، هذه ثلاثة أمور:
الأولى: أن الله تعالى خلقنا، والدليل على أن الله خلقنا هو السمع والعقل، أما السمع فآياته كثيرة كقوله تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1، وقوله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2، أما العقل فقد دل عليه قول الله تعالى في سورة الطور:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} 3، ففي هذه الآية دليل عقلي على أنه لابد من خالق، وأنه لم يوجد هذا الكون صدفة؛ لأن القسمة العقلية تقتضي ثلاثة أمور لا رابع لها: إما أننا خلقنا بدون خالق، وهذا لا يمكن؛ لأن الخلق لابد أن يتعلق بخالق كالتحريك يتعلق بمحرك، فلا يمكن للشيء أن يتحرك من مكانه إلا بوجود محرك له، وهذا أمر ضروري يعرفه العقلاء، فكوننا خلقنا بدون خالق هذا لا يمكن، والناس بمقتضى عقولهم –حتى المعاندون منهم- يعرفون هذا، فلو قيل لشخص: إن هناك قصراً من القصور الذي جهز بكل ما تشتهيه الأنفس وتتمناه، ولكن هذا القصر وجد صدفة بدون بناء ولا إعداد لبادر الناس إلى التكذيب، وقالوا: هذا لا يمكن؛ لأن القصر يحتاج إلى بناء، وما فيه يحتاج إلى إعداد، فلابد من عمال وصُناع.
1 سورة الذاريات، الآية:56.
2 سورة الزمر، الآية:62.
3 سورة الطور، الآية:35.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الأمر الثاني: أننا خلقنا أنفسنا، وهذا أشد فساداً مما قبله؛ لأننا معدومون، والمعدوم لا يمكن أن يكون قادراً على إيجاد نفسه؛ لأن العدم نقص، والخلق كمال، فكيف يكون الناقص كاملاً، هذا لا يمكن، فيتعين الأمر الثالث وهو أنه لابد لنا من خالق وهو رب القادر، ولهذا قال تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} يعني: هل هم خلقوا هكذا دون خالق؟ هذا الأمر الأول، أم هم الخالقون؟ يعني لأنفسهم هذا الأمر الثاني، والأمر الثالث لم تذكره الآية؛ لأنه إذا امتنع الأمر الأول والثاني يتعين الأمر الثالث.
وقد ورد في الحديث أن رجلاً مشركاً سمع هذا الآية فدخل الإيمان في قلبه وهو جبير بن مطعم رضي الله عنه كما في "صحيح البخاري"1 أنه جاء في موضوع أسارى بدر والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور فمرت الآية وجبير يسمع فيقول معبراً عن نفسه: "كاد قلبي أن يطير، ومنذ ذلك الوقت وقر الإيمان في قلبي"؛ لأنه من أهل اللسن والفصاحة والبلاغة، فعرف الآية ومعناها وما تدل عليه فوقر الإيمان في قلبه2.
قوله: "ورزقنا"، هذا الأمر الثاني مما يتعلق بتوحيد الربوبية، والدليل على أن الله تعالى رزقنا آيات كثيرة من القرآن الكريم، كقول الله تعالى:
1 "2/ 247 – الفتح" في الصلاة، و"6/168" في الجهاد، و"7/323" في المغازي، "8/603" في التفسير.
2 انظر: "الأسماء والصفات" للبيهقي: "ص390".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} 1، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 2، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} 3 إلى غير ذلك من الآيات.
والرزق: اسم لما يسوقه الله إلى الحيوان فيأكله. قال في "القاموس": الرزق –بالكسر-: ما ينتفع به كل مرتزق. والرزق نوعان:
1-
خاص: وهو الرزق الحلال للمؤمنين. وهذا هو الرزق النافع الذي لا تبعة فيه إذا كان عوناً على طاعة الله تعالى، قال تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 4.
2-
عام: وهو ما به قوام سواء كان حلالاً أو حراماً، وسواء كان المرزوق مسلماً أو كافراً، قال تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 5.
وقوله: "ولم يتركنا هملاً" هذا الأمر الثالث، والهمل بالتحريك: هو السدى المتروك ليلاً ونهاراً، ولم يرد اللفظ هذا في القرآن الكريم، إنما الذي ورد في القرآن الكريم:{أَيَحْسَبُ الْإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} 6 وورد في
1 سورة الذاريات، الآية:22.
2 سورة الذاريات، الآية: 58
3 سورة آل عمران، الآية:37.
4 سورة الأعراف، الآية:32.
5 انظر: "لوامع الأنوار البهية": "1/343"، والآية من سور هود، رقم:6.
6 سورة القيامة، الآية: 36
بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً، فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجنة، ومن عصاه دخل النار.
ــ
القرآن الكريم: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} 1، فالهمل والسدى والعبث بمعنى واحد، وهو المتروك الذي لا يؤمر ولا ينهى، والدليل من السمع على أن الله تعالى لم يتركنا سدى هو ما تقدم.
أما الدليل من العقل فإن الله جل وعلا حكيم، فقد خلقنا ورزقنا، وأرسل إلينا الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وأوجب علينا طاعتهم، وأمرنا بقتال المعاندين، فلو لم يكن هناك حساب ولا عقاب ولا ثواب ولا جزاء؛ لكان هذا من العبث الذي ينزه الله تعالى عنه. فالله تعالى شرع هذه الأمور لمعاد يحاسب عليه الإنسان المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فهذا الدليل العقلي يدل على أن الله تعالى لم يتركنا هملاً، وأن الجزاء الأخروي تعقبه الحياة الأبدية، وهي الحياة الحقيقية كما في قوله تعالى:{يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} 2 سماها حياة مع أن الدنيا حياة لكنها حياة إلى زوال وانقضاء، وأما حياة البقاء والخلود فهي الحياة في الدار الآخرة، إما في عذاب سرمدي، وإما في نعيم دائم، -نسأل الله الكريم من فضله-.
قوله: "بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً، فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجنة، ومن عصاه دخل النار". هذا دليل على أن الله تعالى لم يتركنا هملاً، والمراد بالرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بقول المصنف "أرسل إلينا"، أي: معشر الأمة، وقد جاء في القرآن الكريم آية عظيمة تبين الغاية من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، قال
1 سورة المؤمنون، الآية:115.
2 سورة الفجر، الآية:24.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1 فالغاية من إرسال الرسل: طاعتهم واتباعهم فيما جاءوا به عن الله تعالى، وأما الحكمة من إرسال الرسل فهي هداية البشرية إلى الصراط المستقيم، وبيان عبادة الله تعالى على الوجه المرضي؛ لأن العقل البشري لا يستقل بمعرفة ذلك. والتلقي لا يمكن عن الله تعالى إلا بواسطة الرسل، فالرسل واسطة بين الله تعالى وبين الخلق، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يشرع للأمة بعد تشريع الله تعالى {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} 2.
ثم بين المصنف رحمه الله مآل الطائعين والعصاة بقوله: "فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النار"، وهذا دل عليه القرآن الكريم في آيات كثيرة، قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 3، وفي الجانب الآخر:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} 4.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"5.
1 سورة النساء، الآية:64.
2 سورة يوسف، الآية:40.
3 سورة النساء، الآية:13.
4 سورة النساء، الآية:14.
5 أخرجه البخاري: "13/249 فتح".
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} .
ــ
قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} 1". هذا دليل على المسألة الأخيرة وهي قوله: "بل أرسل إلينا رسولا"، والخطاب في قوله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ} ، يعني: شاهداً على أعمالكم كما في قوله تعالى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ، وقوله تعالى:{كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} ، هو موسى عليه الصلاة والسلام وعدم تعيينه؛ لعدم دخوله في التشبيه أو لأنه معلوم غني عن البيان2.
والمقصود من هذه الآية –والله أعليم- تذكير هذه الأمة بهذه النعمة العظيمة، وهي إرسال هذا النبي الكريم وتحذيرها أن تفعل مثل ما فعل قوم فرعون فيصيبهم ما أصابهم. والمعنى: أن الله جل وعلا أرسل إليكم رسولاً كما أرسل إلى فرعون رسولاً فانظروا ماذا كان موفق فرعون وقومه من الرسول؛ لأن سنة الله واحدة لا تتغير ولا تتبدل قال تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} ، وأصل الوبيل في اللغة بمعنى: الثقيل الشديد، كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما3 "تقول
1 سورة المزمل، الآيتان: 15، 16.
2 "روح المعاني": "29/108".
3 أخرجه البخاري: "8/657 الفتح" معلقاً، ووصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.