المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

"‌ ‌المرتبة الثالثة": الإحسان ركن واحد. ــ الأحاديث الثابتة على الفرقة القدرية1 الذين نبغوا - حصول المأمول بشرح ثلاثة الأصول

[عبد الله بن صالح الفوزان]

الفصل: "‌ ‌المرتبة الثالثة": الإحسان ركن واحد. ــ الأحاديث الثابتة على الفرقة القدرية1 الذين نبغوا

"‌

‌المرتبة الثالثة":

الإحسان

ركن واحد.

ــ

الأحاديث الثابتة على الفرقة القدرية1 الذين نبغوا في آواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم

"2.

قوله: "المرتبة الثالثة: الإحسان ركن واحد".

الإحسان في الأصل نوعان: إحسان في عبادة الخالق وهو المراد هنا، وإحسان في حقوق الخلق، وهو نوعان: إحسان واجب، وهو أن تقوم بحقوقهم الواجبة على أكمل وجه كبر الوالدين وصلة الأرحام والإنصاف في جميع المعاملات، يدخل في هذا النوع الإحسان إلى البهائم ثم الإحسان في القتل لما ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة"3.

النوع الثاني: "الإحسان المستحب وهو ما زاد على الواجب من بذل نفع بدني أو مالي أو علمي، فيساعد الإنسان من احتاج إلى مساعدته ببدنه أو

1 وهم الذين يقولون إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدر، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته فيه أثر، وهذا يرده الشرع؛ لأنه مخالف لقوله تعالى:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} . ويرده العقل فإن الكون ملك لله تعالى والإنسان من هذا الكون فهو مملوك لله تعالى. وليس للمملوك أن ينصرف في ملك المالك إلا بإذنه ومشيته. "نبذة في العقيدة الإسلامية": "ص63،64".

2 "تفسير ابن كثير": "7/457".

3 أخرجه مسلم: "رقم1955".

ص: 138

وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

ــ

بماله أو بعلمه، فهذا كله داخل في باب الإحسان، وأجل أنواع الإحسان: الإحسان إلى من أساء إليك كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} 1.

قوله: "ركن واحد وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

معنى قوله: "أن تعبد الله"، أي: تقوم بعبادة ربك من عبادة بدنية: من صلاة وصيام، أو عبادة مالية: كذبح الأضاحي والهدايا أو الصدقة. تقوم بهذه العبادة على هذه الحال "كأنك تراه"، أي: كأنك ترى معبودك وتشاهده؛ فيبعث هذا على أمرين:

الأمر الأول: الإخلاص لله عز وجل بعبادته، فلا يعبده رياء ولا سمعة ولا مدحاً وهو يعتقد أن الله يراه.

الثاني: أن يتقن العبادة ويحسن أداءها. فيصلي صلاة من يشاهده ربه وهو يرى ربه. ولا ريب أن المسلم لو تحقق هذا المعنى؛ لكان من أكبر الدواعي على إخلاص العباد وإتقانها؛ ولكان من أكبر الدواعي على عدم شرود ذهن الإنسان في صلاته وانشغاله بأفكاره أو بهواجس ترد عليه أثناء الصلاة.

1 انظر: "بهجة قلوب الأبرار" للشيخ عبد الرحمن السعدي: "ص156"، والآيتان من سورة فصلت، رقم: 34، 35.

ص: 139

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وهذه الدرجة الأولى من درجات الإحسان، وهي درجة العظمى، وهي دراجة المراقبة، تليها درجة أخرى وهي قوله:"فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، أي: إذا لم تعبده كأنك تراه وتشاهده فاعبده على مرأى منه سبحانه وتعالى فإنه يرى ما تفعل ويسمع ما تقول. فهما درجتان، والدرجة الأولى هي العظمى؛ لأن الدرجة الثانية درجة عامة؛ لأن الله جل وعلا يرى جميع الخلق، لكن الدرجة الأولى لا تكون إلا لصاحب الإحسان الذي يعبد ربه كأنه يراه.

والمصنف رحمه الله أخر المرتبة الثالثة وهي مرتبة الإحسان؛ لأنها أضيق المراتب الثلاث؛ لأن أصحابها هم الخلص من عباد الله الصالحين. ولهذا يقول العلماء: إذا تحقق الإحسان تحقق الإيمان والإسلام. وكل محسن مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً محسناً1. وقد صور بعض العلماء هذه المراتب الثلاث بثلاث دوائر كل واحد داخل الأخرى. الدائرة الأولى: هي الدائرة الواسعة، دائرة الإسلام؛ لأن أهل الإسلام أكثر من أهل الإيمان، فقد يكون مسلماً في الظاهر ولا يكون مؤمناً. كما سنذكر بعد قليل –إن شاء الله- فأوسع دائرة هي دائرة الإسلام وفي داخلها دائرة الإيمان، وأضيق منها دائرة الإحسان، فمن وجد داخل الدوائر الثلاث فهو مسلم مؤمن محسن. وإن خرج من الدائرة الصغرى ونعني بها دائرة الإحسان فهو مؤمن مسلم. وإن خرج من الدائرة الثانية فهو مسلم في

1 انظر: كتاب "الإيمان" لشيخ الإسلام ابن تيمية: "ص6".

ص: 140

وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} . وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .

ــ

الظاهر وليس بمؤمن، ومن باب أولى لن يكون محسناً. فأهل الإحسان هم الصفوة وهم الخلص من عبادة المؤمنين. ولهذا ورد في حقهم في القرآن ما لم يرد في حقهم في غيرهم.

قوله: "وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 1"، فهذه الآية فيها دليل على فضل المحسنين الذين اتقوا الله جل وعلا فلم يتركوا فرائضه ولم ينتهكوا محارمه وهذه المعية معية خاصة، معية نصر وتأييد وتسديد زيادة على المعية العامة. ومعنى قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ، أي: في طاعة ربهم وعبادته إخلاصاً في النية والقصد، وأداء على ما شرع الله وبين رسوله صلى الله عليه وسلم.

قوله: "وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 2هذه الآيات أيضاً فيها دليل على الإحسان، وهو قوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} فالله جل وعلا يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتوكل على ربه في جميع أموره؛ لأنه سبحانه وتعالى "عزيز"، أي: قوي لا يغلب، "رحيم"، أي: بالمؤمنين من عباده {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ، أي: تقوم إلى الصلاة

1 سورة النحل، الآية:128.

2 سورة الشعراء، الآيات: 217-220.

ص: 141

وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} الآية.

والدليل من السنة حديث جبريل المشهور

ــ

فتصلي متهجداً من الليل وحدك. {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} الواو حرف عطف. "وتقلب" معطوف على الكاف، والتقدير: الذي يراك ويرى تقلبك، ومعنى "يرى تقلبك في الساجدين"، أي: يرى تقلبك مع المصلين، والمراد بالتقلب: الركوع والسجود والقيام، فهو معك يسمع ويرى، ثم قال تعالى:{إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فيه تقرير للأمر بالتوكل؛ لأن السميع لكل صوت، والعليم بكل حركة وسكون يحق للعبد أن يتوكل عليه وأن يفوض أموره إليه.

وقوله: "وقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} 1" هذه الآية أيضاً فيها دليل على الإحسان والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. ومعنى "في شأن"، أي: وما تكون في عمل من الأعمال يا محمد وما تتلو من كتاب الله تعالى "ولا تعملون"، أي: أنت وأمتك من عمل "إلا كنا عليكم شهوداً"، أي: مشاهدين لكم مراقبين لأعمالكم سامعين لأقوالكم "إذ تفيضون فيه"، أي: تأخذون في ذلك العمل.

قوله: "والدليل من السنة حديث جبريل المشهور" هذا دليل على ما تقدم من الإسلام والإيمان والإحسان، وهذا الحديث هو حديث يرويه

1 سورة يونس، الآية:61.

ص: 142

عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: "بينما نحن جلوس عن النبي صلى الله عليه وسلم

ــ

عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو مشهور على ألسنة بعض العلماء والوعاظ بحديث جبرائيل عليه السلام؛ لأنه يقوم على أسئلة وجهها جبرائيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه على صورة رجل، وهو حديث عظيم جليل القدر بروايات متعددة وألفاظ مختلفة مع أن القصة واحدة1.

يقول ابن دقيق العيد رحمه الله في "شرحه على الأربعين النووية": "هذا حديث عظيم قد اشتمل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة، وعلوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه لما تضمنه ن جمعه علم السنة فهو كالأم للسنة كما سميت الفاتحة أم القرآن لما تضمنته من جمعها معاني القرآن"2.

قوله: "عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "بينما"، "بين": ظرف زمان متضمن معنى الشرط، له ثلاث استعمالات، فيستعمل بدون ألف فيقال: "بين" بباء وياء ونون، تقول: جلست بين زيد وعمرو، ويستعمل بالألف بعد النون "بينا"، والاستعمال الثالث بالألف بعد النون بزيادة ما "بينما"، و"ما" هذه زائدة كافة عن الجر؛ لأن "بين" تجر ما بعدها؛ لأنها تضاف إليه، فإذا دخلت عليها "ما" كفتها عن العمل. ولهذا وقع بعدها الضمير "نحن" وهو لا يكون في محل جر.

1 أخرجه البخاري: "1141- فتح" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم:"رقم8، 9، 10" من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأبي هريرة رضي الله عنه.

2 "شرح الأربعين" لابن دقيق العيد: "ص11".

ص: 143

إذا طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ، فَقَالَ:"أَنْ تَشْهَدَ أن لا اله إلا الله وأن محمدا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا"، قَالَ: صَدَقْتَ، فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ، قَالَ:"أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره"، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ:"أَنْ تَعْبُدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فَإِنَّهُ يَرَاكَ، قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: "مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ"، قَالَ: أخبرني عَنْ أَمَارَاتِهَا، قَالَ:"أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ"، قَالَ: فَمَضَى فَلَبِثْنَا مَلِيَّا فَقَالَ: "يَا عُمَرُ أَتَدْرُونَ مَنِ السَّائِلِ"؟ قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يعلمكم أمر دينكم".

ــ

قوله: "إذا طلع علينا رجل شديد بياض الثياب" قال العلماء: يستفاد من هذا استحباب تحسين الهيئة والنظافة عند الدخول على العلماء والفضلاء والملوك.

قوله: "شديد سواد الشعر" عند ابن حبان: "شديد سواد اللحية"1.

1 "صحيح ابن حبان" الإحسان: "1/390".

ص: 144

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قوله: "لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلا يَعْرِفُهُ منا أحد" هذا متضمن معنى التعجب، فهو غريب عليهم، لكن لا يرى عليه أثر السفر. وقد نفى عمر رضي الله عنه أن يعرفه أحد الحاضرين، وهذا قد يشكل في ظاهره، لكن ورد رواية: "فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا: ما نعرف هذا

" فأفادت أن عمر حكم بذلك استناداً لما قاله الحاضرون.

قوله: "حتى جلس إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْنَدَ ركبتيه إلى ركبتيه" الضمير المجرور في قوله: "فأسند ركبتيه" يعود إلى الرجل. والضمير في قوله: "إلى ركبتيه" يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أنه جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كما يجلس الإنسان في الصلاة في التشهد أو في الجلوس بين السجدتين، فجلس قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: "ووضع كفيه على فخذيه" في قوله: "على فخذيه" احتمال. فإما أن المراد: فخذا نفسه، والمعنى: وضع كفيه على فخذي نفسه، وإما أن المراد: وضع كفيه على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه أراد بهذا أن يكون منتبهاً ومصغياً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعض العلماء: بل يحتمل أنه أراد زيادة التعمية في أمره، وأنه أعرابي وصل إلى هذا الحد من الجفاء فوضع يديه على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم. وكثير من الشراح يرجحون أن الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما ورد في بعض الروايات كما عند النسائي قال:"ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم"1. وهذه تزيل الإشكال. ولو كانت هي الرواية

1 "سنن النسائي": "8/101".

ص: 145

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الوحيد لما صار هناك إشكال فلا مانع من أن يرد اللفظ المشكل إلى لفظ يزيل الإشكال هذا هو الظاهر إن شاء الله تعالى.

قوله: "وقال: يا محمد" ناداه باسمه مع أن نداءه صلى الله عليه وسلم باسمه مخالف لقول الله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} 1، أي: لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً باسمه إنما قولوا له: يا رسول الله أو نبي الله. ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يمتثلون هذا الأمر وهذا التعليم من الله عز وجل فما كان الواحد منهم يقول: يا محمد إلا إن كان أعرابياً قدم من البادية، فلعله قال ذلك مبالغة في التعمية، أو أن الملائكة غير داخلين في هذا النهي كما قال ابن علان في "شرحه على رياض الصالحين"2. وقد ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:"يا رسول الله"3.

ثم إن الرواية التي معنا لم يذكر فيها أنه سلم وقد ورد في بعض الروايات كما عند النسائي4 "أنه سلم" فإما أن يكون بعض الرواة لم ينقله قال الحافظ: وهذا هو المعتمد أو أنه لم يسلم وقصد بذلك التعمية وصنع صنيع الأعراب لكن من ذكر السلام مقدم على من سكت عن ذكر السلام لأن هذه زيادة فتقبل.

1 سورة النور، الآية:63.

2 "دليل الفاتحين": "1/216".

3 أخرجه البخاري: "8/513-فتح"، ومسلم:"برقم10".

4 انظر: "سنن النسائي": "8/101".

ص: 146

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قوله: "قال: أخبرني عن الإسلام" في لفظ الترمذي: "قال: أخبرني عن الإيمان"، وورد أيضاً في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة أنه بدأ بالإيمان، وفي بعض الروايات أنه سأل عن الإحسان بين الإسلام والإيمان مع أن الحديث الذي معنا وهو لفظ مسلم ورد فيه الإحسان آخر شيء وقد أجاب الحافظ رحمه الله عن هذا فقال:"إن القصة واحدة والرواة اختلفوا في تأديتها فبعضهم يقدم وبعضهم يؤخر وليس في السياق ترتيب"1.

قوله: "وقال: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ، فَقَالَ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً" تقدم الكلام على هذه الأركان.

قوله: "فقال: صدقت فعجبنا له" معنى عجبنا له، أي: عجبنا منه أو لأجله.

قوله: "يسأله ويصدقه"، أي: تعجب الصحابة رضي الله عنهم من حاله؛ لأن السؤال يدل على عدم علم السائل، والتصديق يدل على علمه.

قوله: "قال: فأخبرني عَنِ الإِيمَانِ، قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وشره. قال: صدقت" ولم يقل عمر رضي الله عنه: "فعجبنا له يسأله ويصدقه" اكتفاءً بما تقدم. وقد أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإيمان بأنه: "أن تؤمن بالله"، مع أنه ورد في "الصحيحين" من حديث ابن عباس في قصة وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم

1 "فتح الباري": 1/117".

ص: 147

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قال: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَإِقَامُ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس"1.

ووجه الإشكال أنه في حديث جبريل فسر الإيمان بالاعتقادات الباطنة وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفي هذا الحديث فسر الإيمان بما فسر به الإسلام. والجواب: أن نقول إن حديث عمر الذي معنا دليل واضح على التفريق بين الإسلام والإيمان، فالإسلام يفسر بالأعمال الظاهرة من أقوال اللسان وأعمال الجوارح، وأما الإيمان فإنه يفسر بالأعمال الباطنة من اعتقادات القلوب وأعمالها. قال تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 2. وفي قصة قوم لوط قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 3، فإنه فرق بن المؤمنين والمسلمين؛ لأن البيت الذي كان هذه القرية بيت إسلامي في ظاهره؛ لأنه يشمل امرأة لوط التي خانته في دينها لأنها كافرة. والإخراج لم يكن لهذا البيت بأكمله وإنما قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، أي: ما نجا من هذا البيت المسلم إلا أهل الإيمان، فهذا يدل على أن هناك فرقاً بين الإيمان وبين الإسلام، وإلا فإن البيت

1 أخرجه البخاري: "1/129"، ومسلم:"23/17".

2 سورة الحجرات، الآية:14.

3 سورة الذاريات، الآيتان: 35، 36.

ص: 148

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

المتحدث عنه بيت واحد لكن وصف بأنه بيت إسلامي باعتبار، وبأنه بيت مؤمنين باعتبار آخر.

أما في حديث ابن عباس فإنه لم يذكر إلا قسماً واحداً وهو الإسلام ولا ريب أن الإسلام عند الإطلاق يشمل الدين كله. قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} 1، فيدخل فيه الإيمان. وكذا إذا ذكر الإيمان مجرداً دخل فيه الإسلام والأعمال الصالحة كقوله في حديث "الشعب":"الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قَوْلُ لا اله إِلا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأذى عن الطريق"2.

قوله: "قال: فأخبرني عن الساعة، قال: مالمسؤول عنها بأعلم من السائل" الساعة بمعنى الوقت أو الزمن الحاضر، والمراد بالساعة هنا: القيامة، والمعنى: فأخبرني عن زمن الساعة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل"، أي: ليس المسئول عن وقتها بأعلم من السائل، والمعنى: أنت لا تعلمها وأنا لا أعلمها، ويكون المراد بقوله:"ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" إثبات التساوي في نفي العلم بوقتها، أي: أن العلم بها منتفٍ عني وعنك على حد سواء، وليس المراد التساوي في العلم بوقتها. والباء في قوله:"بأعلم" زائدة لإفادة التوكيد؛ لأن علم الساعة من الخمس التي استأثر بعلمها كما في قوله

1 سورة آل عمران، الآية:19.

2 انظر: "الإيمان": "ص7".

ص: 149

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح أنه قال:"خمس لا يعلمهن إلا الله" فذكر منها قيام الساعة2. وفي بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية في أثناء جوابه للسائل3.

قوله: "قال: فأخبرني عن أماراتها" هذا تدرج في السؤال، يعني: إذا كنت لا تعلم متى وقت قيامها فأخبرني عن أماراتها. والأمارات جمع أمارة وهي العلامة. وقد ورد في بعض الروايات: "وسأخبرك عن أشراطها" فأماراتها وأشراطها بمعنى واحد، والمراد بالأمارات التي سيذكر له الأمارات التي تتقدم الساعة بأزمان متطاولة، وهي الأشراط الصغرى، وليس العلامات التي تظهر قرب الساعة وهي الأشراط الكبرى: كطلوع الشمس من مغربها، وظهور الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، غير ذلك.

قوله: "أن تلد الأمة ربتها" هذه علامة من علامات الساعة. وقد ورد في بعض الروايات: "بعلها" ومعنى "ربتها أو بعلها": سيدها. وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الجملة على أقوال منها أن هذا إخبار بأن السراري تكثر في آخر الزمان فيكون ولدها من سيدها بمنزلة سيدها لاسيما

1 سورة لقمان، الآية:34.

2 راجع: "تفسير ابن كثير": "6/354".

3 انظر: "فتح الباري": "1/114"، و"صحيح مسلم":"رقم10".

ص: 150

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

إذا كثرة الأموال وبدأ الولد يتصرف في المال فيكون هو السيد المطاع، وتكون هذه الأمة قد ولدت سيدها. وقيل: إن الحديث دليل على أن الإماء يلدن الملوك في آخر الزمان فتكون أم الملك أمة، وإذا كانت أمه أمة وتولى الملك فإنه سيكون سيداً لأمه ولغير أمه من أفراد الرعية، والله أعلم.

وقوله: "وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يتطاولون في البنيان" هذه علامة أخرى من علامات. والحفاة: جمع حاف، وهو الذي لا نعال عليه. والعراة جمع عار، وهو الذي لا ثياب عليه. والعالة: جمع عائل، والعائل هو: الفقير، كما في قول الشاعر:

وما يدري الفقير متى غناه

وما يدري الغني متى يعيل

أي: يفتقر. وقوله: "رعاء الشاء" بكسر الراء جمع راعٍ، ويجمع أيضاً على رعاة بضمها. والشاء جمع شاة وهو من الجموع التي يفرق بينها وبين واحدها بالهاء كشجر وشجرة.

وخصهم بالذكر لأنهم أضعف الرعاء، لكن قد ورد في حديث أبي هريرة في "الصحيحين":"رعاة الإبل"، والمراد: أن أصحاب هذه الأوصاف الأربعة: الحفاة والعراة والعالة ورعاة الشاء "يتطاولون في البنيان"، والتطاول في البنيان معناه: تكثير طبقات البنيان، ويصدق أيضاً على توسيع المنازل، وتكثير مجالسها ومرافقها، وهذه ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم لمن كانت حالهم أنهم حفاة وعراة.. إلخ. والمعنى: أن هؤلاء في آخر الزمان يقوى أمرهم وتكون الأموال بأيديهم، وبدل أنهم حفاة عراة لا يملكون غير الشاة يصلون إلى حال التطاول والتفاخر في البنيان، فكل

ص: 151

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

من بنى منهم بناء بدأ يتفاخر على من بنى قبله؛ لأنه أطول منه بناء أو أكبر أو أوسع فهذا يعتبر من أشراط الساعة، والله المستعان.

وقد ورد في حديث أبي هريرة في "الصحيحين" قال: "وإذا رأيت الحفاة العراة رؤوس الناس فذاك من أشراطها"1.

ومعنى رؤوس الناس: ملوك الناس. وفي رواية لمسلم: "وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها".

قال النووي: "المراد بهم السفلة الرعاء كما قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} 2، أي: لما لم ينتفعوا بجوارهم هذه فكأنهم عدموها. هذا هو الصحيح في معنى الحديث، والله أعلم"3.

قوله: "قال: فمضى فلبثنا ملياً" بتشديد الياء التحتية، والملي: هو الزمان، وقد ورد عند الترمذي والنسائي وغيرهما:"فلبثت ثلاثاً"4.

قوله: "فقال: يا عمر، أتدري من السائل؟ " ظاهره أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم بخبر عمر إلا بعد مدة، لكن ورد في حديث أبي هريرة في "الصحيحين" قال:"ثم أدبر فقال: ردوه فلم يروا شيئاً. فقال: هذا جبريل أتى يعلم الناس دينهم" فهذه الرواية تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم في

1 "صحيح البخاري": "8/513-فتح"، ومسلم:"رقم9، 10"، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

2 سورة البقرة، الآية:18.

3 "شرح النووي على صحيح مسلم": "3/279".

4 "سنن النسائي": "8/97"، و"جامع الترمذي":"5/8".

ص: 152

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الحال. والظاهر من الرواية التي معنا أن الإخبار خاص بعمر حيث قال: "فقال: يا عمر" والظاهر أن عمر رضي الله عنه قام في الحال، أي: بعد أن أدبر الرجل، ولم يحضر كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بعد مدة.

وهذا هو الجمع بين الرواية التي معنا وهي تدل على أن إخبارهم كان متراخياً ورواية "الصحيحين" من حديث أبي هريرة التي تدل على أن إخبارهم كان في الحال. قاله النووي، قال الحافظ: هو جمع حسن1.

قوله: "قلت: الله ورسوله أعلم"، أي: من غيرهما، ولم يقل: أعلما لأن أفعل التفضيل المجرد لا يثنى ولا يجمع بل يلزم الإفراد. وهذا فيه أدب من آداب العالم وهو أن من سئل عن شيء لا يعلمه أن يكل العلم إلى عالمه ولا يتكلف في الجواب بل يقول: الله أعلم. أما في حياته صلى الله عليه وسلم فإن العلم يمكن أن يؤخذ منه فيقول المسؤول: الله ورسوله أعلم. لكن بعد وفاته يقول: الله أعلم.

قوله: "قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُم" هذا دليل على أن ما ذكر في هذا الحديث هو الدين؛ لأنه اشتمل على أصول الدين وعقائده من الإسلام والإسلام والإحسان. والله أعلم.

1 "فتح الباري": "1/125".

ص: 153