الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعالي على الناس:
وعندما تتعدد الجزئيات التي تتضخم داخل الإنسان فإن نفسه تتعاظم وتكبر شيئًا فشيئًا، ومِن ثَمَّ يزداد إعجابه بها وتقديسه لها، وينعكس ذلك على تعاملاته مع الآخرين
…
فتراه يكثر من نصح غيره ونقده، ولا يقبل نصيحة من أحد.
يحب أن يخدمه الناس ويكره أن يخدم أحدًا.
لا يمل من الحديث عن نفسه، وإنجازاته، وماضيه، ولو كرر ذلك مئات المرات، وفي نفس الوقت تراه يقطع غيره ولا يسمح له بالحديث عن نفسه كما يفعل هو.
لا يعطي الآخرين حقوقهم من التقدير .. ويضيق صدره إذا ما أثنى على أحد غيره .. يفرح بسماع عيوب الناس وبخاصة إذا ما كانوا أقرانه.
يبتعد عن كل ما ينقصه أو يظهره بمظهر الجاهل أو المحتاج إلى المعرفة.
إذا سُئل عن أمر من الأمور تراه يجيب دون دراية لينفي عن نفسه صفة الجهل (وإن رد عليه شيء من قوله غضب، وإن حاجّ أو ناظر أنِف أن يُرَد عليه وإن وعظ استنكف من قبول النصح .. وإن علم لم يرفق بالمتعلمين، وانتهرهم، وامتن عليهم، واستخدمهم)(1).
إن هذه المظاهر باختصار تعكس معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الكبر بطر الحق وغمط الناس "(2).
أمثلة من الواقع:
ومن الأمثلة العملية التي تكشف تضخم الذات ووجود الصنم:
- إبليس: عندما كبرت عنده ذاته وتضخمت حدا به ذلك إلى عدم الانصياع لأمر الله بالسجود لآدم عليه السلام معللًا ذلك بقوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12].
(1) إحياة علوم الدين 3/ 532، 533.
(2)
رواه مسلم (1/ 93، رقم 91).
- صاحب الجنتين: الذي أعجب بما لديه من أموال وجنات، واغتر بها ولم يقبل نصح صاحبه، بل كبرت عنده نفسه حتى ظن أن سيكون له عند الله مكانة في الآخرة خير مما هو عليه في الدنيا {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36].
- ومن الأمثلة التي تبين ما يمكن أن يفعله الإعجاب بالنفس والكبر في السلوك ما رواه الماوردي في أدب الدنيا والدين عن عمر بن حفص قال: قيل للحجاج: كيف وجدت منزلك بالعراق؟ قال: خير منزل، لو كان الله بلغني قتل أربعة لتقربت إليه بدمائهم، قيل: ومن هم؟
قال: مقاتل بن مسمع: ولي سجستان، فأتاه الناس، فأعطاهم الأموال، فلما عزل دخل مسجد البصرة، فبسط الناس له أرديتهم، فمشى عليه، وقال لرجل يماشيه: لمثل هذا فليعمل العاملون.
وعبد الله بن زياد بن ظبيان التيمي: خوف أهل البصرة أمرًا، فخطب خطبة أوجز فيها، فنادى الناس من أعراض المسجد: أكثر الله فينا مثلك! فقال: لقد كلفتم الله شططًا.
ومعبد بن زرارة كان ذات يوم جالسًا في طريق، فمرت به امرأة، فقالت له: يا عبد الله، كيف الطريق إلى موضع كذا؟ فقال: يا هناه، مثلي يكون من عبيد الله!
وأبو شمال الأسدي، أضل راحلته، فالتمسها الناس، فلم يجدوها، فقال: والله إن لم يرد إلى راحلتي لا صليت له صلاة أبدًا، فالتمسها الناس فوجدوها، فقالوا: قد رد الله راحلتك فصل، فقال: إن يميني يمين مصر (1).
القصيمي:
ومن الأمثلة كذلك: عبد الله القصيمي، نال من العلم كثيرًا، وبرع فيه وخاصة علم العقيدة، جرد قلمه في الرد على مخالفي أهل السنة وله كتاب عن الوثنية قيل: إنه أروع ما كتب
(1) أدب الدنيا والدين ص 232.
في بابه، قال عنه معاصروه: لم نره قط أبط كتابًا .. إلخ، لكن هذا الرجل كانت فيه دسيسة سوء وآفة مقيتة لم يستأصلها، الأمر الذي أدى إلى انتكاسه وضلاله وكفره بعد إيمانه، بل ألف في أهل التوحيد كتابًا يستهزئ فيه بهم وبدينهم، تلكم الآفة هي: العُجب والغرور، وقد شهد هذه الآفة شعره، ومنه:
لو أنصفوا كنت المقدم في الأمر
…
ولم يطلبوا غيري لدى الحادث النكر
ولم يرغبوا إلا إلي إذا ابتغوا
…
رشادًا وحزمًا يعذبان عن الفكر
ولم يذكروا غيري متى ذكر الذكا
…
ولم يبصروا غيري لدى غيبة البدر
فما أنا إلا الشمس في غير برجها
…
وما أنا إلا الدر في الحج البحر
بلغت بقولي ما يرام من العلا
…
فما ضرني نقد الصوارم والسمر
أسفت على علمي المضاع ومنطقي
…
وقد أدركا لو أدركا غاية الفخر
وقال أيضًا:
حاشا لهم أن يعدلوا بي واحدًا
…
من بعد ماوضحت لهم أنبائي
وأعيذهم من أن يحيل أديبهم
…
وأديب كل الناس في النعماء
عابوا على تحدثي وتمدحي
…
بأصالتي وشجاعتي وذكائي
إن لم يبح مدح الفتى أخلاقه
…
بيضا فأى تمدح وثناء
نسأل الله تعالى العافية والعصمة من هذا الداء الوبيل (1).
(1) العجب لعمر بن موسى الحافظ ص 90، 91 نقلًا عن أخبار المنتكسين.