الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويمكن أن يدخل تحت هذا القسم: الترك لحق الغير كما في تركه صلى الله عليه وسلم أكل الثوم والبصل لحق الملائكة، ففي البخاري وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته "، وإنه أتي ببدر - قال ابن وهب - يعني طبقاً فيه خضروات من بقول - فوجد لها ريحاً، فسال عنها فأخبر بما فيها من البقول فقال:" قربوها "، فقربوها إلى بعض أصحابه كان معه، فلما رآه كره أكلها قال:" كل فإني أناجي من لا تناجي ".
وفي الحلية لأبي نعيم بسنده عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل الثوم نيا، فلولا أن الملك يأتيني لأكلته "، وفيها عن علي قال:(أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكل الثوم وقال: " لولا أن الملك ينزل علي لأكلته ") .
النوع الثالث من أنواع الترك:
أن يكون الترك لأمر غير معتبر شرعاً وهو على قسمين:
الأول: أن يترك المأمور به بغير قصد التدين أو القربة، إما لكسل أو تهاون أو تضييع وما أشبه ذلك من الدواعي النفسية، فهذا الترك معصية ولا يسمى
بدعة، وهذا الترك يصير عاصياً بتركه لهذا العمل المشروع، مع اختلاف درجات الإثم والعقوبة باختلاف درجات المتروك من حيث الفرضية والوجوب والندب.
الثاني: أن يترك المباح أو المأمور به بقصد التدين والتعبد بهذا الترك، سواء كان في العبادات أو المعاملات أو العادات، بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، فهذا الترك هو محل الابتداع إذ يعد عاصياً مبتدعاً بتركه هذا، وأصل هذا القسم في قصة الثلاثة الذين منعوا أنفسهم من بعض المباحات للتقوي على العبادة، ففي الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها، قالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ ، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال:" أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: (قوله: " فمن رغب عن سنتي فليس مني "، المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولمّح بذلك إلى طريق الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله - تعالى - وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه، وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنفية السمحة فيفطر ليتقوى على الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل - إلى أن قال معدداً فوائد هذا الحديث ومنها - إزالة الشبهة عن المجتهدين، وأن المباحات قد تنقلب بالقصد إلى الكراهة
أو الاستحباب) .
وقال شيخ الإسلام بعد ذكره لهذا الحديث: (فإذا كان هذا فيما هو جنسه عبادة، فإن الصوم والصلاة جنسها عبادة، وترك اللحم والتزويج جائز، ولكن لما خرج في ذلك عن السنة فالتزم القدر الزائد على المشروع، والتزم هذا الترك المباح كما يفعل الرهبان، تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن فعل ذلك حيث رغب عن سنته إلى خلافها.
وقال في موطن آخر بعد أن أورد هذا الحديث: فبين (صلى الله عليه وسلم أن مثل هذا الزهد الفاسد، والعبادة الفاسدة ليست من سنته فمن رغب فيها عن سنته فرآها خيراً من سنته فليس منه) .
ومثل حديث الثلاثة السابق مارواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي، فحرمت عليّ اللحم، فأنزل الله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً] ) .
ومثلها حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه ".
قال شيخ الإسلام بعد ذكر هذا الحديث: (فأمره النبي صلى الله عليه وسلم -
بالصوم وحده لأنه عبادة يحبها الله - تعالى - وما عداه ليس بعبادة وإن ظنها الظان تقربه إلى الله تعالى) .
وقال في موضع آخر: (فلما نذر عبادة غير مشروعة من الصمت والقيام والتضحية، أمره بفعل المشروع وهو الصوم في حقه، ونهاه عن فعل غير المشروع) .
ومن هذا الباب مارواه البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: (دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب، فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ ، قالوا: حجت مصمتة، قال لها: تكلمي فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت فقالت: من أنت؟ قال: امرؤ من المهاجرين
…
) الأثر، قال شيخ الإسلام بعد استشهاده بهذا الأثر على وجوب مخالفة طريق أهل الجاهلية، (ومعنى قوله: من عمل الجاهلية أي مما انفرد به أهل الجاهلية، ولم يشرع في الإسلام فيدخل في هذا: كل ما اتخذ من عبادة مما كان أهل الجاهلية يتعبدون به، ولم يشرع الله التعبد به في الإسلام وإن لم ينوّه عنه بعينه كالمكاء والتصدية - إلى أن قال - فاتخاذ هذا قربة وطاعة من عمل الجاهلية الذي لم يشرع في الإسلام.
وقال الحافظ ابن حجر عند شرحه للحديث السابق (والصمت المنهي عنه ترك الكلام في الحق لمن يستطيعه وكذا المباح المستوى الطرفين) .
وكذلك بروز المحرم وغيره للشمس حتى لا يستظل بظل، أو ترك الطواف بالثياب المتقدمة، أو ترك كل ما عمل في غير المحرم
…
) .
فهذه مجموعة أحاديث تبين الترك لما هو مشروع أو مباح بقصد القربة إلى الله بذلك بدعة.