الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من أخطاء المغرقين في القياس
ظنهم أن النصوص الشرعية قاصرة عن بيان أحكام الحوادث، وأنها غير شاملة وغير كافية، وغير مغنية عن الرأي والقياس.
وهذا المفهوم الذي يجعله المغرقون في القياس مقدمة لاعتمادهم على القياس فيه معنى ابتداعي؛ لأنه قول محدث لا دليل عليه، بل هو مخالف لنصوص الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام وعامة الأمة
…
ويكفي في الدلالة على شمول النصوص الشرعية وكمالها قوله تعالى: [اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً]، وقوله صلى الله عليه وسلم:" تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض ".
والنظر إلى الشريعة بعين النقصان أساس الابتداع في دين الله سبحانه ومن أكبر مداخل الملحدين من العلمانيين وغيرهم في هذا الزمان.
وهذا النظر مناقض لحقيقة التشريع ومضاد لمقاصده ومخالف لأدلته وواقعه ويلزم منه اتهام المشرع بالغفلة والنسيان، أو ترك الأمور الحكمية لآراء الناس وأهوائهم، وكفى بذلك ضلالاً وإثماً.
فإذا تقرر هذا المعنى نتج عنه تصور ما في حشو هذا القول من البدعة والمنكر، وإن كان أهله يقولون نحن لا نخرج عن الشريعة ولا نتهمها بالنقصان، لأننا نعود إلى أصل معتبر في الشريعة ألا وهو القياس، فيقال لهم: نعم القياس الصحيح معتبر في الشريعة، وهو من ضمن علامات كمالها، ولكن اعتباره جاء من قبل الشريعة التي تزعمون عدم شمول نصوصها، ومع هذا الاعتبار فإن (.. المذهب المعتدل في القياس ما قاله الشافعي: إن القياس المشروع عند الضرورة
لا أنه أصل برأسه) .
وهذا القول موجود في الرسالة.
حيث قال رحمه الله: (ونحكم بالإجماع ثم بالقياس، وهو أضعف من هذا ولكنها منزلة ضرورة؛ لأنه لا يحل القياس والخبر موجود، كما يكون التيمم طهارة في السفر عند الإعواز من الماء، ولا يكون طهارة إذا وجد الماء، فإنما يكون طهارة في الإعواز) .
وهذا المعنى الذي قرره الشافعي رحمه الله هو القول الوسط بين طرفي المغالاة في إنكار القياس أو اعتباره.
والمراد في هذا المقام بيان أن القول بعدم شمول نصوص الشريعة لأحكام المكلفين قول مبتدع، يحوي مفاسد عظيمة، وأخطاراً جسيمة، وفيه من التجني على الشريعة ما لا يتسع المجال لحصره هنا.
وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية عندما سئل عن صحة قول القائل: إن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة فقال: (هذا القول قاله طائفة من أهل الكلام والرأي، كأبي المعالي وغيره وهو خطأ، بل الصواب الذي عليه الجمهور وأئمة المسلمين: أن النصوص وافيه بجمهور أحكام أفعال العباد ومنهم من يقول: إنها وافية بجميع ذلك، وإنما أنكر ذلك من أنكره لأنه لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله، وشمولها لأحكام أفعال العباد، وذلك أن الله بعث محمد صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية، وقاعدة عامة تتناول أنواعاً كثيرة، وتلك الأنواع تتناول
أعياناً لا تحصى، فبهذا الوجه تكون محيطة بأحكام أفعال العباد) .
وقال الشاطبي رحمه الله في هذا المعنى:
(.. إن الله تعالى أنزل الشريعة على رسوله صلى الله عليه وسلم فيها تبيان كل شيء يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم التي أمروا بها، وتعبداتهم التي طوقوها في أعناقهم، ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كمل الدين بشهادة الله تعالى - إلى أن قال - فلا يقال: قد وجدنا من النوازل والوقائع المتجددة ما لم يكن في الكتاب ولا في السنة نص عليه ولا عموم ينتظمه - ثم قال - مبيناً معنى قوله تعالى: [اليوم أكملت لكم دينكم]، المراد: كلياتها فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلا وقد بينت غاية البيان، ثم تحدث عن علاقة الجزئيات والنوازل بالكليات، وعمل المجتهد ثم استدل على أن الكليات هي المقصودة بكمال الدين فقال: ومن الدليل على أن هذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة رضوان الله عليهم أنهم لم يسمع عنهم قط إيراد ذلك السؤال، ولا قال أحد منهم: لم لم ينص على حكم الجد مع الإخوة، وعلى حكم من قال لزوجته: أنت حرام، وأشباه ذلك، مما لم يجدوا فيه عن الشارع نصاً، بل قالوا فيها وحكموا بالاجتهاد، واعتبروا بمعان شريعة ترجع في التحصيل للكتاب والسنة، وإن لم يكن بالنص فإنه بالمعنى، فقد ظهر إذاً وجه كمال الدين على أتم الوجوه، - ثم انتقل إلى بيان أنه لا تناقض ولا اختلاف في نصوص الشرع وبعد إسهاب طويل في ذلك - قال: فإذا تقرر هذا فعلى الناظر في الشريعة بحسب هذه المقدمة أمران:
أحدهما: أن ينظر إليها بعين الكمال لا بعين النقص، ويعتبرها اعتباراً كلياً في العبادات والعادات، ولا يخرج عنها البتة، لأن الخروج عنها تيه وضلال، ورمي في عماية، كيف وقد ثبت كمالها وتمامها؟! ، فالزائد والمنقص في جهتها هو المبتدع بإطلاق والمنحرف عن الجادة إلى بنيات الطريق.