الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسيأتي الحديث عن كل من القسمين مفرداً، مع ذكر بعض الأمثلة عليه، ويكون البدء بـ
البدع الاعتقادية:
والمراد بها:
المحدثات التي تقع في المسائل العلمية الخيرية، وهي المسائل التي اصطلح على تسميتها قديماً وحديثاً باسم العقيدة، وهي تشمل أركان الإيمان الستة وتدور حول ثلاث قضايا:
الأولى:
ما يتعلق بذات الله-سبحانه وتعالى من حيث ألوهيته وربو بيته وأسمائه وصفاته.
الثانية:
ما يتعلق بذوات الرسل الكرام، من حيث ما يتصفون به وما يتنزهون عنه، وما يجب عليهم، وما يجب لهم، وما يمتنع عنهم، ويلحق بذلك الكتب المنزلة.
الثالثة:
الغيبيات: وتشمل الملائكة، والجن، والموت وما وراءه والقضاء والقدر.
هذه بإجمال القضايا التي تدرسها العقيدة، وما من واحدة من هذه القضايا إلا دخل على بعض الناس فيها شيء من الابتداع.
وقد يسميها بعضهم بمسائل أصول الدين، ويدخلون فيها ما ليس منها، ويحصرون أصول الدين في القضايا الخيرية العلمية. ويجعلون الابتداع المنهي عنه والمذموم هو ما كان في هذا المجال وهذه جملة من الشبه، لا بد من بيانها بين يدي هذا المبحث
…
أما تسمية القضايا العلمية الخيرية بأصول الدين، وحصر هذا المسمى فيها فهو أمر محدث كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (
…
إن المسائل الخيرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية، وإن سميت تلك مسائل أصول، وهذه مسائل فروع، فإن هذه تسمية محدثة، قسمها طائفة من الفقهاء والمتكلمين، وهو على المتكلمين
والأصوليين أغلب لاسيما إذا تكلموا في مسائل التصويب والتخطئة..)
وهذا الذي قاله شيخ الإسلام حق، لأن من تأمل نصوص الشريعة وفهم السلف لهذه النصوص، يجد أن أصول الدين غير منحصرة في المسائل الخيرية لوجود أصول للدين في الأحكام العملية، لوجود فروع في المسائل الخيرية لا يمكن أن تعد من أصول الدين..
ومن أجل هذا الحصر الذي يخالف الدليل، وقع خلط واضطراب عند الحكم على المبتدع في فروع المسائل العلمية والمبتدعة في أصول وفروع المسائل العملية
…
وقد وضح شيخ الإسلام هذه المعاني فقال:
(
…
فالعلم بوجوب الواجبات كمباني الإسلام الخمس وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، كالعلم بأن الله على كل شيء قدير وبكل شيء عليم وأنه سميع بصير، وأن القرآن كلام الله، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة ولهذا من جحد تلط الأحكام العملية المجمع عليها كفر، كما أن من جحد هذه كفر.
وقد يكون الإقرار بالأحكام العلمية أوجب من الإقرار بالقضايا القولية، بل هذا هو الغالب فإن القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجمل، وهو الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشرره.
وأما الأعمال الواجبة فلا بد من معرفتها على التفصيل لأن العمل بها لا يمكن إلا بعد معرفتها مفصلة) .
وعلى ما سبق يتضح أن أصول الدين لا يكن أن تحصر في القضايا الخيرية العلمية، بل ولا تكون كل مسائلها من أصول الدين بل بعضها من فروعه، كما أن الأحكام العملية لا يمكن أن تعد جميعها من فروع الدين، بل بعضها من أصوله..
ولكن كيف يمكن التمييز بين ما يعد من أصول الدين وما يعد من فروعه في الخيرية أو العملية؟.
وضح شيخ الإسلام فيما يمكن أن يعد قاعدة في هذا المجال فقال: (.. بل الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين (مسائل أصول) والدقيق (مسائل فروع) .
وكما أن المسائل العلمية والعملية تشترك في هذه القاعدة فهي تشترك في أحكام وأمور أخرى تتعلق بهما منها:
أن كل واحدة منهما تنقسم إلى قطعي وظني، وأن الخلاف التنوعي والمتضاد يقع فيهما، وأن الاجتهاد والخطأ فيه يسوغ ويحصل فيهما، وأن مراتب العلم والعمل متفاوتة في كل منهما، وكذلك مراتب الحكم على المبتدع أو التارك أو الجاحد تختلف في كل منهما باختلاف مرتبة الذي وقعت فيه المخالفة، أما حصر البدع في الجوانب العلمية الاعتقادية فهذا غير صحيح أيضاً لكونه محالفاً لعموم أحاديث النهي عن البدع، كقوله-صلى الله عليه وسلم:(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وقوله صلى الله عليه وسلم: (وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) .
وقد استدل الطرطوشي على أن البدع لا تختص بالعقائد، بما جاء عن الصحابة والتابعين من تسميتهم الأقوال والأفعال بدعاً إذا خالفت الشريعة، ثم أتى بشواهد من الآثار تدل على ذلك.
ولعل هذا الحصر أهون من الحصر الذي يقول أصحابه: إن الفرق المذكورة في حديث الثلاث والسبعين هي المبتدعة في قواعد العقائد على الخصوص كالجبرية والجهمية والمرجئة وما يشبهها.
وقد ناقش الشاطبي هذا الزعم وفنده بما سيأتي مجملاً:
1.
قوله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) .
الآية (ما) في قوله (ما تشابه) لا تعطي خصوصاً في اتباع المتشابه لا في قواعد العقائد ولا في غيرها، بل الصيغة تشمل كل ذلك فالتخصيص تحكم.
2.
قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً) الآية، كذلك ليس فيها تخصيص، لأنه جعل التفريق في الدين، ولفظ الدين يشمل العقائد وغيرها.
3.
قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
…
) .
فالصراط المستقيم هو الشريعة على العموم، والسبل كل ما خالف هذه الشريعة في العقائد والأعمال.
4.
من المعلوم أن هذه الفرق الهالكة إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية، في معنى كلي في الدين أو قاعدة من قواعده، أو أصل من أصوله، وقد سبق بيان أن أصول الدين تشمل المسائل العلمية والمسائل الاعتقادية.. أما الجزئي والفرعي من الدين فالابتداع فيها لا يصير صاحبه من الفرق. ولكن يجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات، فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة، عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضاً) .
هذا ما يتعلق بالشبه التي سبق ذكرها، وهذا الكلام السابق يدور في معظمه على علاقة العقائد بالأعمال، في سياق ذكر المراد بالبدع الاعتقادية.
والمسائل الاعتقادية تنقسم إلى: أصول وفروع، وقطعي وظني- كما سبق الإشارة إليه- فالأصول كل جليل من الخبريات مثل: وجود لله وألوهيته واتصافه بالصفات الواردة في كتابه وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم ووجود الملائكة، والجن، والبعث، والحشر، والصراط، والميزان، والجنة، والنار، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة.
والفروع كل دقيق من الخبريات مثل: رؤية النبي-صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه، وسماع الموتى في قبورهم لكلام الأحياء، ورؤية الكفار لربهم يوم القيامة ووصول ثواب الأعمال-غير الدعاء- للميت بعد موته والتوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك..
والقطعي ما كان ثبوته بأدلة قاطعة، كعلو-الله سبحانه- واستوائه على عرشه، وتكلمه بالقرآن، واتصافه بالصفات الذاتية، كالحياة والسمع والبصر أو بالصفات الفعلية كالاستواء، والنزول، والمجيء والكلام.
والظني ما كان مختلفاً في ثبوته، أو في فهم الثابت من الأدلة، وسبق أمثلة هذا القسم عند الكلام عن فروع الاعتقاد.
ويقع الابتداع في كل قسم من هذه الأقسام، وهو في الأصول والقطعيات خطير، ومتفاوت بحسب تفاوت ما وقع فيه الابتداع، وبحسب تفاوت البدعة ذاتها
…
فالابتداع في الألوهية أشنع من الابتداع في الملائكة ومثال ذلك:
بدع القرامطة والنصيرية في أئمتهم، إذ ألهوهم من دون الله-سبحانه وتعالى وبدعة من زعم أن الملائكة غير عقلاء، فالبدعة الأولى أشنع وأشر من الثانية. أما التفاوت بين البدع بحسب تفاوت البدعة ذاتها فمثاله بدعة الجهمية الذين نفوا عن الله-سبحانه- الصفات، فشبهوه بالممتنعات، وبدعة الأشاعرة الذين لم ينكروا الصفات ولكن أولوها، فالأولى أفظع وأخطر من الثانية، وإن كان محل الابتداع واحد.
أما الفرعيات والظنيات فأمرها أهون، والاختلاف فيها غالباً ما يكون من الإختلاف الاعتباري التنوعي السائغ، ولهذا حدود وضوابط تأتي في الباب الثالث بإذن الله.
ويقع فيها الابتداع ما لم تكن المسألة من مسائل الاجتهاد.
قال شيخ الإسلام في هذا المعنى: (وأما السالمية فهم والحنبلية كالشيء الواحد، إلا في مواضع مخصوصة تجري مجرى اختلاف الحنابلة فيما بينهم وفيهم تصوف، ومن بدع من أصحابنا هؤلاء يبدع أيضاً التسمي بالحنبلية وغير ذلك
…
ولا يرى أ، يتسمى أحد في الأصول إلى بالكتاب والسنة وهذه طريقة جيدة لكن هذا مما يسوغ فيه الاجتهاد، فإن مسائل الدق في الأصول لا يكاد يتفق عليها طائفة، إذ لو كان كذلك لما تنازع في بعضها السلف من الصحابة والتابعين
…
) .
فقد اعتبر المسائل الدقيقة في الأصول مما يسوغ فيه الاجتهاد، فلا يقع فيه التبديع، فكيف بالدقيق من مسائل الفروع التي هي في أصلها بالنسبة للأصول دقيقة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد الكلام السابق:(بل الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين (يقصد الخبرية والعملية كما سبق) مسائل أصول والدقيق مسائل فروع) .
وبعد أن فصل رحمه الله مراتب المسائل الخبرية التي هي الاعتقادية وبين أنها تنقسم إلى قطعي وظني، ثم بين أقسامها من حيث وجوب العلم بها وعدمه فقال:
(ومما يتصل بذلك: أن المسائل الخبرية العلمية قد تكون واجبة الاعتقاد وقد تجب في حال دون حال وعلى قوم دون قوم، وقد تكون مستحبة غير
واجبة، وقد تستحب لطائفة أو في حال كالأعمال سواء.
وقد تكون معرفتها مضرة لبعض الناس فلا يجوز تعريفه بها، كما قال علي-رضي الله عنه:(حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلى كان فتنة لبعضهم) .
وبعد استرسال يسير أضاف قائلاً في سياق حديثه عن المسائل الخبرية: (وإذا كانت قد تكون قطعية وقد تكون اجتهادية، سوغ اجتهاديتها ما سوغ في المسائل العملية، وكثير من تفسير القرآن أو أكثره من هذا الباب، فإن الاختلاف في كثير من تفسير القرآن هو من باب المسائل العلمية الخبرية لا من باب العملية، لكن قد تقع الأهواء في المسائل الكبار كما قد تقع في مسائل العمل) .
ويستنتج من هذا الكلام أن فروع المسائل الاعتقادية يسوغ في بعضها الاجتهاد، خصوصاً إذا كانت ظنية، ولكن هناك أمر آخر يتبع هذا وهو أن هذا الحكم المتسامح على الاجتهاد في بعض المسائل الاعتقادية الفرعية هذه ليس على إطلاقه، فيبتدع كل من شاء ما شاء تحت حجة الاجتهاد السائغ، بل يختلف الحكم باختلاف حال المجتهد، من حيث بلوغ الدليل وثبوته لديه وعدم ذلك، وقد بين ذلك شيخ الإسلام، وختم به كلامه الذي سلف نقله، وضرب على ذلك مثالاً فقال:
(
…
إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت لعدم بلوغ الحجة له، فلا يغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للأول فلهذا يبدع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك ولا تبدع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن
الموتى يسمعون في قبورهم فهذا أصل عظيم فتدبره فإنه نافع) .
وأيضاً هناك أمر آخر يلحق بهذا الأصل وهو أن القول بأن هذه المسألة من المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد، لا يعني أنه لكل أحد أن يجتهد كما يشاء، كما لا يعني ذلك أن الصواب معه إذ الحق واحد لا يتعدد، ولكن قد يقال بأن المجتهد الفلاني معذور في خطئه، أو مرفوع عنه الإثم أو مأجور على اجتهاده، ومع كل ذلك فلا يعني أن هذا العمل قد اكتسب صفة المشروعية فلا يسمى بدعة.
بل لا بد من بيان الحق وإظهار السنة وعدم متابعة هذا المخطئ فيما ذهب إليه باجتهاده مع القول بإعذاره.
قال شيخ الإسلام في حديثه عن بعض أحكام البدعة:
(وأقول: إن إثمها قد يزول عن بعض الأشخاص لاجتهاد أو غيره، كما يزول اسم النبيذ والربا المختلف فيهما عن المجتهدين من السلف، ثم مع ذلك يجب بيان حالها وأن لا يقتدى بمن استخلها وأن لا يقصر في طلب العلم المبين لحقيقتها) .
فزوال الإثم عن المجتهد في هذه المسائل الفرعية، وحصول الأجر له لا يدل على جواز فعله هذا، ولا على جواز الاقتداء به، ولا يرفع عن العمل المحدث اسم
الابتداع.
(فلا بد من التفريق بين العفو والمغفرة له وبين إباحة فعله أو المحبة له) .
وليس هذا في المسائل الفرعية فقط بل قد يشمل الأصلية من مسائل الاعتقاد كما أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية في المناظرة التي عقدت بينه وبين خصومه في شأن العقيدة الواسطية، إذ اعترضوا عليه في قوله: (ومن أصول الفرقة الناجية أن الإيمان والدين قول وعمل يزيد وينقص.. قالوا: فإذا قيل إن هذا من أصول الفرقة الناجية، خرج عن الفرقة الناجية من لم يقل بذلك مثل أصحابنا المتكلمين، الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق ومن يقول: الإيمان هو التصديق والإقرار، وإذا لم يكونوا من الناجين لزم أن يكونوا هالكين
…
) .
فأجابهم بحديث الافتراق وحديث الفرقة الناجية، وأنها كل من كان على ما كان عليه النبي-صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم قال:
فهذا الاعتقاد هو المأثور عن النبي-صلى الله عليه وسلم وأصحابه-رضي الله عنهم وهم ومن اتبعهم الفرقة الناجية-إلى أن قال- ثم قلت لهم: وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد، يجب أن يكون هالكاً، فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم بع عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتاولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول، والقانت، وذو الحسنات الماحية، والمغفور له، وغير ذلك فهذا أولى بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجياً وقد لا يكون ناجياً كما يقال من صمت نجا) .
فهذا الذي ذكره شيخ الإسلام وإن كان في غالبه يخص الحكم على المبتدع، إلى أنه يستنتج من ظاهره وفحواه أن العذر الذي قد يرفع معه عن المبتدع في مسائل الاعتقاد الذنب والذم، لا يدل على أن ما قاله أو اعتقده من المحدثات ليس ببدعة، بل يكون القول والاعتقاد، والعمل بدعة إذا لم يكن له أصل في الشريعة وقصد به القربة إلى الله-تعالى- بغض النظر عن حكم مبتدعه من حيث الكفر والفسق أ، العفو والأجر....
على أنه لا بد من تبيين أن العقيدة إما أن تكون مسائل يجب اعتقادها قولاً أو قولاً وعملاً كمسائل التوحيد والصفات والقدر والنبوة والمعاد، وتوحيد الألوهية، وإما دلائل لهذه المسائل وهي الطرق البرهانية من العقل والنقل، التي يحتاج إليها في إثبات مسائل الاعتقاد.
وكل ما يحتاج الناس إليه من المسائل والدلائل قد بينها الله ورسوله-صلى الله عليه وسلم بياناً شافياً قاطعاً للعذر، بل إن هذه القضايا من أعظم ما بلغه الرسول-صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، وبينه للناس، وهو من أعظم ما أقام الله به الحجة على عباده فيه بالرسل الذين بينوه وبلغوه.
وقد وقع الابتداع في مسائل الاعتقاد ودلائله، فأما الابتداع الذي وقع في المسائل فهو على قسمين:
الأول: ابتداع في الدين الذي أرسل به رسوله-صلى الله عليه وسلم كالابتداع في الصفات بالتعطيل والتأويل، والابتداع في القدر بالجبر ونفي خلق أفعال العباد، والابتداع في الإيمان بالتكفير والإرجاء.. ونحو ذلك من البدع التي حدثت في أمور نزل بها الشرع وبينها الشارع..
الثاني: ابتداع في مسائل العقيدة بإدخال المحدثات الباطلة تحت هذا المسمى، أي باعتبار المبتدعات المحدثة من مسائل العقيدة، مثل نفي الصفات ونفي القدر ونحو ذلك.
فالابتداع الأول: إحداث في دين موجود.
والابتداع الثاني: إحداث دين لم يأذن به الله.
الأول: ابتداع في الدلائل الشرعية الموجودة في الكتاب والسنة بتبديلها وتحريفها عن مواضعها، مثل زعم المتكلمة في قوله تعالى:(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) .
حيث يجعلون دليل التمانع هو معنى هذه الآية، ويستدلون بها على إثبات الربوبية، لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروره هو توحيد الألوهية الذي بينه القرآن، ودعت إليه الرسل-عليهم السلام.
وكثير من الأدلة الشرعية على المسائل الخبرية، يحدث فيها أهل النظر من بدع الكلام ما ليس فيها، إذ يصرفون الأدلة عن مناهجها الشرعية إلى مناهج بدعية وهذا كثير عندهم.
الثاني: ابتداع دلائل للمسائل الاعتقادية وجعلها من الدلائل الشرعية أو في منزلتها، بل يجعلها بعضهم من ضروريات الدين وأصوله وفي منزلة أعلى من منزلة الأدلة الشرعية
…
كالاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأعراض، وتقرير المقدمات التي يحتاج إليها هذا الدليل من إثبات الأعراض أو بعضها ثم إثبات حدوثها، ثم إثبات امتناع حوادث لا أول لها، ثم يفرضون تعلم هذه الطريقة، ويوجبون الإيقان بها، لأنها كما يزعمون طريق الإيقان بوجود الله، ومن المعلوم بالاضطرار أنها من الدلائل الكلامية المبتدعة التي لا تفيد علماً وال تجلب يقيناً وأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم ولا سلف الأمة
وأئمتها.
وفي الطريق الاستدلالية عن أهل الكلام من جنس هذه الدلائل المبتدعة الشيء الكثير.
فهذه هي الأقسام الأربعة التي ابتدعها أهل الأهواء في مسائل العقيدة ودلائلها، ولا تخلو فرقة من فرق أهل الأهواء من بدع فيها أو في بعضها، ومما يجب ذكره عن د الحديث عن البدع الاعتقادية تأثير هذه البدع في الأحكام الفقهية عند المبتدعة..
فالرافضة بنوا كثيراً من الأحكام الفقهية على أسانيدهم التي فيها أناس جنسهم من المبتدعة، وأسندوا فيها أقوالاً-قد تصح وقد لا تصح- إلى أهل البيت وجعلوا مبدأ عصمة الأئمة- وهي بدعة اعتقا دية- مرجعاً لكثير من الأحكام الفقهية المبتدعة، وذلك حين بنوا صحة الأسانيد أو ضعفها على هذه القاعدة البدعية' وما يلحق بها، وبنوا الأحكام الفقهية على المتون المسندة وفق قاعدتهم، فقالوا في تعريف الصحيح والحسن والموثق والضعيف أقوالاً تدل على هذا الاعتماد البدعي الاعتقادي، فعرفوا الصحيح بأنه:(ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل العدل الإمامي عن مثله، في جميع الطبقات حيث تكون متعددة) .
وعرفوا الحسن بأنه: (ما اتصل سنده إلى المعصوم-عليه السلام بإمامي ممدوح مدحاً معتداً به غير معارض بذم، من غير نص على عدالته، مع تحقق ذلك في جميع مراتب رواة طريقه أو في بعضها) .
وعرفوا الموثق بأنه: (ما اتصل سنده إلى المعصوم بمن نص الأصحاب على توثيقه- مع فساد عقيدته- بأن كان من أحد الفرق المخالفة للإمامية وإن كان من
الشيعة مع تحقق ذلك في جميع رواة طريقه أو بعضهم مع كون الباقين من رجال الصحيح) .
وعرفوا الضعيف بأنه: (ما لم يجتمع فيه شرط أحد الأقسام السابقة بل اشتمل طريقه على مجروح بالفسق ونحوه أو على مجهول
…
) .
فهذه المراتب الأربع هي أصول الحديث عن الشيعة الإمامية، وعليها ينبت الكتب الحديثية المعتمدة لديهم كالكافي للكليني وكتاب التهذيب والاستبصار للطوسي.
وتعتبر هذه الكتب عمدة المذهب الشيعي، الإعتقادي منه والعملي، حتى قيل في مقدمة الكافي:(وقد اتفق أهل الإمامة وجمهور الشيعة على تفضيل هذا الكتاب والأخذ به والثقة بخبره والاكتفاء بأحكامه، وهم مجمعون على الإقرار بإرتفاع درجته وعلو قدره، على أنه القطب الذي عليه مدار روايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان إلى اليوم، وعندهم أجل وأفضل من جميع أصول الحديث) .
والمعصوم الذي يقصده هؤلاء هو النبي-صلى الله عليه وسلم والأئمة الاثني عشر، فالكل عندهم سواء في العصمة، وسواء في حق التشريع، وسيأتي في البدع
العملية ذكر بعض بدع الرافضة الفقهية التي قامت على البدع الاعتقادية واستمدت منها
…
ومن هذا الباب أيضاً تأثير العقيدة الزيدية على الأحكام الفقهية عند الزيود وقد بين ذلك الإمام الشوكاني في كتابه الجليل: (السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار) ..
ولا يخفى تأثير اعتقاد الباطنية في أن للشريعة ظاهر وباطن على الأحكام الفقهية عندهم، وهكذا نجد أن فقه الفرق البدعية يتأثر باعتقادات هذه الفرق وأهوائها.
أما البدع في الأحكام فيراد بها المحدثات المتعلقة بالأعمال، وقد تسمى فقهية، وعملية، وأمرية، وعبادية، وشرعية....
ويدخل تحت هذه المسميات بدع الأخلاق والسلوك.
وقد يطلق على هذا القسم البدع الفرعية وسبق بيان خطأ هذا القول في أول هذا الفصل، إذ أن من الأحكام العملية ما يعد من أصول الدين كما أن من المسائل الاعتقادية ما يعد من فروع الدين..
وسبق بيان ما تشترك فيه المسائل العملية مع المسائل الاعتقادية بما يغني عن إعادته هنا.
وقد حدد شيخ الإسلام مفهوماً للبدع في الأحكام فقال:
(والبدع الأمرية كمعصية الرسول المبعوث إليهم ونحو ذلك، لا بد أن يأمر فيه بخلاف ما أمر الله به
…
) .
والمراد أن البدع الأمرية هي إحداث شيء لا أصل له في الشرع ونسبته إليه سواء كان ذلك في أعمال الجوارح أو أعمال اللسان، أو غير ذلك من الأعمال
التي تدخل تحت حيز العمل والتنفيذ والتطبيق، سواء كانت هذه الأعمال من العبادات المحضة كالصلاة والصوم والحج والذكر والدعاء، أو من المعاملات كالبيع والشراء، أو من العادات كالأكل والشرب واللباس
…
وقد حصلت البدع في كل هذه الأصناف كما سبق الإشارة إليه، وكما سيأتي في الفصل اللاحق بإذن الله.
إلا أن من الجدير بالذكر هنا (أن البدع في أبواب العبادة والإدارة أكثر من البدع في أبواب الاعتقاد والقول، لأن الإرادة يشترك فيها أكثر الناس، أكثر من اشتراكهم في القول، لأن القول لا يكون إلا بعقل، والنطق من خصائص الإنسان، وأما جنس الإرادة فهو مما يتصف به كل الحيوان، فما من حيوان إلا وله إرادة، وهؤلاء اشتركوا في إرادة التأله، لكن افترقوا في المعبود وفي عبادته
…
) .
والمراد أن البدع الكثيرة التي حصلت في زمن التابعين وتابعيهم كان غالبها في الاعتقادات كالخوارج، والمعتزلة، والشيعة، والقدرية....
والبدع التي حصلت في المتأخرين من العباد والزهاد والفقراء، والصفوية لم يكن عامتها في زمن التابعين وتابعيهم، وأهلها أجهل من أولئك الذين كانوا في عهد التابعين، وأبعد عن متابعة الرسول فأتوا بطريق في العبادة والسلوك والأقوال، فيها من الضلال والجهل والبعد عن الدين ما ليس في بدع المبتدعة الذين كانوا في عهد التابعين، إذ الشبه فيها أقوى وأهلها أعقل، وأما المتأخرون فأهلها أجهل وبدعهم أضل، وإن كان فيهم من الزهد والعبادة والأخلاق ما لا يوجد في أولئك من الكبر والبخل والقسوة.. وكلهم سواء في باب الابتداع والافتئات على الشرع، والمتأخرون أصحاب البدع العملية فيهم شبه من النصارى وأولئك فيهم شبه من اليهود.
ولا ريب أنه كلما قرب الناس من عهد الرسول-صلى الله عليه وسلم كانت
بدعهم الاعتقادية والعملية أخف، وكلما بعدوا كانت بدعهم أشد، ولذلك وجد في المتأخرين من المبتدعة في أبواب العبادة والسلوك من يدعي الألوهية والحلول والإتحاد ومن يدعي أن أفضل من الرسول-صلى الله عليه وسلم وأنه مستغن عن الرسول، وأن لهم طريقاً طريق المسلمين وهذا ليس من جنس بدع المسلمين بل من جنس بدع الملاحدة من المتفلسفة.
ومما ينبغي ذكره عند الكلام عن البدع الفقهية أن الصحابة-رضوان الله عليهم- حصل بينهم تنازع في دقائق وفروع مسائل الأحكام، والمنقول من خلافهم في المسائل الفقهية كثير، بينما لم يختلفوا في مسائل العقائد إلا في أشياء قليلة محصورة، ومعدودة ضمن المسائل التي يدخلها الاجتهاد ويسوغ فيها الاختلاف
…
وإذا كانت المسائل الحكمية تنقسم إلى قطعي وظني وجليل ودقيق، فكذلك البدع التي تدخلها تختلف مراتبها وأحكامها باختلاف المسائل التي دخل عليها الابتداع، ويكون فيها اختلاف التنوع واختلاف التضاد
…
ويكون فيها ما يبدع فاعله ويعنف عليه، وفيها ما يعذر بالخلاف فيه، وليس بصحيح أن مجرد كون المسألة من المسائل الفقهية أنه يرفع عن المحدث فيها اسم الابتداع، كما أنه ليس بصحيح التبديع في كل مسائل الاختلاف لأنه.. كما سبق- من المسائل العملية ما يعد من أصول الدين وهو ما عبر عنه شيخ الإسلام بالجليل الكبير من هذه المسائل، أو ما يمكن أ، يعرف بأنه المعلوم من الدين بالضرورة، أو كما قال شيخ الإسلام: (ومن الناس من يجعل أصول الدين لكل ما اتفقت فيه الشرائع مما لا ينسخ ولا يغير سواء كان علمياً أو عملياً
…
) .
وهو ما يرجحه شيخ الإسلام وينسبه لأغلب أهل الحديث والتصوف وأئمة الفقهاء وطائفة من أهل الكلام.
وهذا القول هو الذي يؤيده أدلة الشرع، ويعضده فهم السلف
…
قال شيخ الإسلام: (.. والحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين (يقصد الخبرية والعملية) مسائل أصول والدقيق مسائل فروع.
فالعلم بوجوب الواجبات كمباني الإسلام الخمس، وتحريم المحرمات الظاهرة والمتواترة كالعلم بأن الله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم وأنه سميع بصير، وأن القرآن كلام الله، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة ولهذا من جحد تلك الأحكام العملية المجمع عليها كفر، كما أن جحد هذه كفر.
وقد يكون الإقرار بالأحكام العملية أوجب من الإقرار بالقضايا القولية بل هذا هو الغالب، فإن القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجمل- إلى أن قال- وأما الأعمال الواجبة فلا بد من معرفتها على التفصيل، لأن العمل بها لا يمكن إلا بعد معرفتها مفصلة....) .
وبهذا يظهر أن هناك من الفروق في الأحكام على البدع، في المسائل العملية ما لا يمكن ضبطه إلا بمعرفة المسألة التي وقع فيها الابتداع، وإن كان هذا المقام ليس مقام ذكر أحكام البدعة والمبتدع، إلا أنه يتضح من الكلام السالف أن البدعة تدخل في الجليل من مسائل الأحكام، بل وفي بعض أصول مسائل الأحكام كما تدخل في الدقيق منها كالفروع المولدة المحدثة التي لا يوجد لها دليل معتبر في الشريعة.
فمن البدع الواقعة في كبرى مسائل الأحكام ما تقوله طائفة الدروز من: (أن الصلاة هي صلة قلوب الدروز بعبادة الحاكم على يد خمسة حدود
…
وأن الزكاة فهي عبادة الحاكم وتزكية قلوبهم وتطهيرها وترك ما كانوا عليه، وفيما يتعلق بالصوم فهو صيانة قلوبهم) .
ويشبه هذا القول الكافر قول النصيرية في كتابهم المسمى (الهفت الشريف (قلت يا مولاي: أما كان أهله من أهل الصلاة، قال: ويحك أتدري ما معنى قوله تعالى: (وكان يأمر أهله بالصلاة) قلت: يعني أهله المؤمنين من شيعته الذين يخفون إيمانهم، وهي الدرجة العالية والمعرفة والإقرار بالتوحيد وأنه العلي الأعلى.. (أي الإمام علي) فأما معنى قوله تعالى:(وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة) فالصلاة أمير المؤمنين، والزكاة معرفته، أما إقامة الصلاة: فهي معرفتنا وإقامتنا) .
ويماثل هذه الأقوال الكافرة ما تقوله الإسماعيلية إذ يؤولون العبادات، والتكاليف تأويلات كفرية تخرجها عن حقيقة تشريعها
…
وأما البدع الواقعة في أصول الفقه فتختلف باختلاف الطوائف والمذاهب.. فمثلاً أصول الفقه عند الإمامية أربعة أصول: الكتاب والسنة والإجماع والعقل.
فأما الكتاب فيرى بعضهم أنه ناقض وحصل فيه تغيير وتبديل في لفظ، ويرى أكثرهم أن التغيير حصل في معناه، ويقولون إن القرآن لم يترك شيئاً كان أو سيكون إلا بين حكمه وأن النبي-صلى الله عليه وسلم عرف هذه الأحكام وعرف بعضها للناس وترك بعضها، ولكنه أودع ذلك كله عند أوصيائه كل وصي يعهد بها إلى الآخر لينشره في الوقت المناسب له، حسب الحكمة، من عام مخصص أو مطلق مقيد، أو مجمل مبين، فقد يذكر النبي عاماً ويذكر مخصصه بعد برهة من حياته وقد لا يذكره أصلاً بل يودعه عند وصية إلى وقته.
وأما السنة فيرون أن المراد بها ما أضيف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم-