الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن أمثلة هذا القسم (الاستحسان) الذي يعني القول في الدين بمجرد التشهي والميل النفسي، واتباع الرأي بغير دليل.
ومن أمثلته تقديم المصلحة المرسلة على النص، كما يذهب إلى ذلك بعض الحنابلة حين قرر أن المصلحة وباقي الأدلة إما أن تتفقا، أو تختلفا فإن اتفقت فيها، وإن اختلفت فإن أمكن الجمع بينهما بوجه ما جمع، وإن تعذر الجمع بينها قدمت المصلحة على غيرها
…
ولا شك أن الاستحسان بالمعنى المذكور سلفاً، والمصلحة المرسلة بهذا المعنى المذكور هنا من الابتداع الذي لا دليل عليه من نص كتاب أو سنة أو أثر أو عمل إمام متبع.
ثانياً: القياس:
والناس فيه طرفان ووسط، فطرف مؤيد بإطلاقه، وآخر معارض بإطلاقه، وأهل التوسط يأخذون بالقياس الصحيح، ويعملون به، ويردون القياس الفاسد ويبطلونه..
وجانب النظر الذي لا علاقة بموضوع البدعة في مسألة القياس هذه هو: جانب التعبد في القياس، وهل تعبدنا الله تعالى به أم لا؟
…
فالذين يؤيدون القياس مطلقاً يقولون بالتعبد، وهم على خلاف في إيجاب التعبد به، أو جوازه، وهل هو ثابت بالعقل أم بالشرع أم بهما معاً؟
والذين يعارضون القياس مطلقاً يرون منع التعبد به، لعدم مشروعية القياس وبعضه غير متعبد به وهو الفاسد.
ومن هنا يمكن القول بأن الابتداع دخل من هذا الباب في كلا القولين المتقابلين، فالذي رد القياس ولم يعمل به على الإطلاق وقال بعدم مشروعيته قوله باطل، ومخالف لأدلة الشرع المثبتة للقياس الصحيح، ومعارض للشرع بإسقاط أصل ثبت اعتباره والعمل به، والتعبد لله من خلاله
…
وكل عمل كان بهذه المثابة فهو ابتداع، ولاسيما إذا انضم إليه قصد القربة ولا شك أن النافي للقياس مطلقاً يتعبد بهذا العمل، فمن هنا كان هذا العمل بدعة، لأنه إذا كان يصح إطلاق الابتداع على ترك فرع من الفروع الفقهية المشروعة، فكيف لا يصح إطلاق الابتداع بترك أصل يشهد له الجم الغفير من نصوص الكتاب والسنة، وأقوال السلف، وأفعالهم، وحكم العقل، والفطرة والطبع الإنساني؟.
قال ابن القيم- بعد أن حشد الأدلة على ثبوت القياس واعتباره-: (
…
وأما أحكامه الأمرية الشرعية فكلها هكذا، تجدها مشتملة على التسوية بين المتماثلين، وإلحاق النظير بنظيره، واعتبار الشيء بمثله، والتفريق بين المختلفين، وعدم تسوية أحدهما بالآخر، وشريعته-سبحانه- منزهة أن تنهى عن شيء لمفسدة فيه، ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة، أو مثلها أو أزيد عنها، فتمن جوز ذلك على الشريعة فما عرفها حق معرفتها ولا قدرها حق قدرها،
وكيف يظن بالشريعة أنها تبيح شيئاً لحاجة المكلف ومصلحته، ثم تحرم ما هو أحوج إليه والمصلحة في إباحته أظهر، وهذا من أمحل المحال-إلى أن قال- وقد فطر الله سبحانه عباده على أن حكم النظير حكم نظيره، وحكم الشيء حكم مثله، وعلى إنكار التفريق بين المتماثلين، وعلى إنكار الجمع بين المختلفين، والعقل والميزان الذي أنزله الله سبحانه شرعاً وقدراً يأبى ذلك
…
) .
ثم ذكر رحمه الله بعض الأغلاط التي وقع فيها نفاة القياس، فمنها إخراج بيع الرطب بالتمر من مسمى الربا
…
وإخراج الشاهد مع اليمين من لفظ البينة، ومثله إخراج شهادة العبيد العدول الصادقين المقبولي القول على الله ورسوله، وشهادة النساء منفردات في المواضع التي لا يحضرهن فيها الرجال كالأعراس وشهادة الأعمى على ما يتقنه
…
ومنها قولهم: إذا بال جرة من بول وصبها في الماء لم تنجسه، وإذا بال في الماء نفسه ولو أدنى شيء نجسه.
وقولهم: لو وقع الكلب والخنزير بكماله، أو أي ميتة كانت في أي ذائب كان من زيت، أو خل، أو دبس ألقيت الميتة فقط، وكان ذلك المائع حلالاً طاهراً كله، فإن وقع ما عدا الفأرة في السمن من كلب أو خنزير، أو أي نجاسة كانت فهو طاهر حلال ما لم يتغير.
ويتبين أن هذه الفروع التي انبنت على إبطال القياس، والوقوف المحض مع ظواهر النصوص، من الأغلاط التي وقع فيها هؤلاء بسبب طردهم نفي القياس، وتركهم الاعتماد عليه،
قال ابن القيم- بعد أن ذكر مؤيدي القياس: - (الفرقة الثانية: قابلت هذه الفرقة، وقالت: القياس كله باطل محرم في الدين، ليس منه، وأنكروا القياس الجلي
الظاهر، حتى فرقوا بين المتماثلين، وزعموا أن الشارع لم يشرع شيئاً لحكمة أصلاً، ونفوا تعليل خلقه وأمره، وجوزوا بل جزموا بأنه يفرق بين المتماثلين، ويقرن بين المختلفين في القضاء والشرع-إلى أن قال- ولكن ردوا من الحق المعلوم بالعقل والفطرة والشرع ما سلطوا عليهم به خصومهم وصاروا ممن رد بدعة ببدعة، وقابل الفاسد بالفاسد، ومكنوا خصومهم بما نفوه من الحق والرد عليهم، وبيان تناقضهم ومخالفتهم للشرع والعقل) .
ويقابل هؤلاء الذين بالغوا في نفي القياس: الطرف الآخر ال1ين بالغوا في إثباته وإعماله، فتجاوزوا به حدوده الصحيحة، وأغرقوا في اعتبار القياس حتى ولدوا به فروعاً كثيرة لم تقع، وتعمقوا فيه حتى خرجوا على نصوص الشريعة وناقضوها بالأقيسة الفاسدة، والرأي المذموم المعيب.
ومن هنا اعتبر هذا القول بدعة في دين الله سبحانه وتعالى فإن الرأي، إذا عارض السنة فهو بدعة وضلالة، بغض النظر عن حكم فاعله من حيث الإعذار أو عدمه، وإنما الكلام عن نفس القول أو العمل الذي حدث
…
وعلى هذا فتقديم القياس على النص الشرعي، أو اعتبار الأقيسة الفاسدة من الأمور المشروعة، أو توليد فروع على هذا النوع من الأقيسة الباطلة.. كل ذلك من الابتداع في دين الله، وإليه يتوجه الذم المنقول عن السلف، من مثل قول ابن مسعود رضي الله عنه:(لا يأتي عليكم زمان إلا وهو شر من الذي قبله، أما إني لا أقول أمير خير من أمير، ولا عام أخصب من عام، ولكن فقهاؤكم يذهبون، ثم لا تجدون منهم خلقاً، ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم) .
وفي رواية: (ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيهدم الإسلام ويثلم) .
وقول الشعبي رحمه الله: (إنما هلكتم حيث تركتم الآثار، وأخذتم بالمقاييس) .
وقول شريح: (إن السنة سبقت قياسكم، فاتبعوا ولا تبتدعوا، فإنكم لن تضلوا ما أخذتم بالأثر) .
وأمثال هذه الآثار كثير عن السلف-رحمهم الله وقد أورد ابن عبد البر رحمه الله جملة من هذه الآثار، ثم فسر المراد بالرأي والقياس الوارد في هذه الآثار، ذاكراً أقوالاً العلماء في هذه المسألة، ومرجحاً الرأي الأخير الذي نسبه لجمهور أهل العلم، فقال:
(وقال آخرون، وهم جمهور أهل العلم: الرأي المذموم المذكور في هذه الآثار عن النبي-صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه والتابعين، وهو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ورد الفروع والنوازل بعضها على بعض قياساً، دون ردها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها، فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل، وفرعت وشققت قبل أن تقع، وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن، قالوا: ففي الاشتغال بهذا، والاستغراق فيه تعطيل للسنن، والبعث على جهلها، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليها منها ومن كتاب الله عز وجل ومعانيه..) وقد أورد
ابن القيم آثاراً كثيرة في ذم القياس، والنهي عنه والتحذير منه في كتابه إعلام الموقعين ثم بين أخطاء الذين اعتمدوا على القياس مطلقاً من غير تمييز بين صحيحه وسقيمه، قال:
(وأما أصحاب الرأي والقياس، فإنهم لما لم يعتنوا بالنصوص ولم يعتقدوها وافيه بالأحكام، ولا شاملة لها، وغلاتهم على أنها لم بف بعشر معشارها فوسعوا طرق الرأي والقياس، وقالا بقيياس الشبه، وعلقوا الأحكام بأوصاف لا يعلم أن الشارع علقها بها، واستنبطوا عللاً لا يعلم أن الشارع شرع الأحكام لأجلها، ثم اضطرهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس ثم اضطربوا، فتارة يقدمون القياس، وتارة يقدمون النص، وتارة يفرقون بين النص المشهور وغير المشهور، واضطرهم ذلك أيضاً إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شرعت على خلاف القياس، فكان خطؤهم من خمسة أوجه:
أحدها: ظنهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث.
الثاني: معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس.
الثالث: اعتقادهم في كثير من أحكام الشريعة أنها على خلاف الميزان، والقياس، والميزان هو العدل، فظنوا أن العدل خلاف ما جاءت به من هذه الأحكام.
الرابع: اعتبارهم عللاً وأوصافاً لم يعلم اعتبار الشارع أ، أـ،
لها، وإلغاؤهم عللاً وأوصافاً اعتبرها الشارع كما تقدم بيانه.
الخامس: تناقضهم في نفس القياس كما تقدم أيضاً) .
وعند النظر في هذه الأخطاء التي أجملها ابن القيم في هذه الأوجه الخمسة يمكن استخراج ما بعد منها ابتداعاً، بناء على مفهوم أهل السنة والجماعة للبدعة الذي سبق ذكره
…