الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
أرى من المناسب قبل الدخول في موضوعات البحث أن أقدم بين يديه تعريفا للتوحيد لغة واصطلاحا، مع بيان ما حصل من مفاهيم خاطئة لمدلول التوحيد الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأما لغة:
فالتوحيد: مصدر وحد الشيء يوحده توحيدا، إذا أفرده، والوحدة: الانفراد، والله تعالى هو الواحد والأحد: ذو الوحدانية والتوحيد، والفرق بينهما أن الأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد، تقول: ما جاءني أحد.
والواحد: اسم بني لفتح العدد، فتقول: جاءني واحد من الناس، ولا تقول: جاءني أحد، فالواحد منفرد بالذات في عدم المثل والنظير، والأحد منفرد بالمعنى1.
قال ابن الأثير: "في أسماء الله تعالى (الواحد) هو الفرد الذي لم يزل وحده، ولم يكن معه آخر"2.
قال الأزهري: "وأما اسم الله عز وجل – أحد – فإنه لا يوصف شيء بالأحدية غيره، لا يقال: رجل أحد، ولا درهم أحد، كما يقال: رجل وحَدُ أي فرد، لأن أحدا صفة من صفات الله عز وجل استخلصها لنفسه، ولا يشركه فيها شيء، وليس كقولك: الله واحد، وهذا شيء واحد "3.
1 لسان العرب لابن منظور مادة (وحد) .
2 ابن الأثير - النهاية في غريب الحديث والأثر 5/159.
3 الأزهري تهذيب اللغة 5/197.
ومما تقدم يتبين أن مادة (وحد) تدل عل الانفراد، فالواو والحاء والدال أصل واحد يدل على الانفراد، يقال: هو واحد في قبيلته، إذا لم يكن مثله. قال الشاعر:
يا واحد العرب الذي
…
ما في الأنام له نظير1
فوَحَد تدل على التفرد وعدم النظير والمثيل للشيء فيم كان واحداً فيه، والله عز وجل هو الواحد الأحد، المتصف بصفات الكمال، فهو واحد أحد في ذاته، وأفعاله، وفي أسمائه وصفاته، لا نظير له في ذاته وصفاته، ولا ند له في إلهيته ولا شريك له في ربوبيته وملكه2.
التوحيد في الاصطلاح:
مادة (وَحَدَ) كما تقدم في المعنى اللغوي تدل على التفرد، والتوحيد مصدر وحد، يوحد، توحيداً، أي جعله واحدا.
والتوحيد في الاصطلاح: إفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة، وإخلاصها له وحده لا شريك له وهذاهو دين الرسل الذي أرسلهم الله إلى عباده3.
فإفراد الله سبحانه بالعبادة يقتضي أن تصرف جميع العبادات له عز وجل خالصة له دون من سواه كائنا من كان، لأنه الواحد الأحد الذي لا شريك له ولا مثيل ولا كفء ولا ند في ذاته وأفعاله وأسمائه وصفاته، قال
1 انظر معجم مقاييس اللغة 6/90.
2 انظر: تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص 33.
3 انظر: كشف الشبهات – للشيخ محمد بن عبد الوهاب، مجموعة التوحيد ص 93 ط دار البيان.
تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ} 1.
وقال جل شأنه: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِه} 3.
وقال تبارك وتعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} 4.
وقال سبحانه: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 5.
وقال عز من قائل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ*لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 6.
وقال جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 7.
ومن كان هذا شأنه وهذه صفته كان هو المستحق أن يفرد بالعبادة
1 الآية 31 من سورة التوبة.
2 الآية 5 من سورة البينة.
3 الآية 14 من سورة الزمر.
4 الآية 5 من سورة الفاتحة.
5 الآية 65 من سورة مريم.
6 سورة الإخلاص.
7 الآية 11 من سورة الشورى.
وحده لا شريك له، وكان صرف شيء منها لغيره شركا وجهلا وضلالا.
والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وبهذا المعنى فهي حق له تعالى على عباده لا يستحقها أحد سواه، كما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال:"كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، قال: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا". قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا"1.
ومما تقدم نعلم أن إفراد الله عز وجل بالعبادة واعتقاد أنه سبحانه لا شريك له ولا ند ولا مثيل في ربوبيته وإليته وأسمائه وصفاته، حق واجب له تعالى على عباده، بل أول الواجبات وأعظمها وأساسها.
وهذا هو دين الله عز وجل الذي أرسل به رسله جميعا من نوح إلى محمد عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2.
1 صحيح البخاري مع الفتح10/397، وصحيح مسلم مع شرح النووي 1/5958.
2 الآية 36 من سورة النحل.
وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1.
فجميعهم جاءوا يدعون إلى عبادة الله وحده، ونبذ عبادة غيره منذ أن ظهر أول شرك في الأرض حتى بعث الله خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فالعجب كل العجب ممن يشرك بالله بعد ذلك وله أدنى بصيرة، ولكن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
المفاهيم الخاطئة في معنى التوحيد:
ومع وضوح الرؤية وظهور الأدلة في هذا الجانب، فقد وجدت طوائف فهمت التوحيد فهما خاطئا وضلت في ذلك ضلالا بعيدا، وجعلت هذا الفهم الخاطئ غاية توحيدها، وأساس معتقدها.
والسبب في ذلك هو البعد عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والاعتماد على العقل وحده، وتقديمه على النصوص، ومعلوم تباين العقول واختلاف الأفهام.
1 الآية 25 من سورة الأنبياء.
2 الآية 13 من سورة الشورى.
ومن أهم الطوائف التي سلكت هذا المسلك:
المعتزلة:
وهم الذي سموا أنفسهم أهل التوحيد، وجعلوه الأصل الأول من أصولهم، وغاية هذا التوحيد عندهم: نفي صفات الله عز وجل، فيثبتون له سبحانه ذاتا مجردة عن الصفات، ووجودا مطلقا بشرط الإطلاق، لاعتقادهم أن إثباتها يوجب مشابهة الله لخلقه، وهذا شرك1.
فكل من أثبت لله تعالى علما أو قدرة أو أنه يرى في الآخرة، أو أن القرآن كلامه منزل غير مخلوق، أو أنه سميع بصير، مستو على عرشه بائن من خلقه، وغير ذلك من الصفات الثابتة بالكتاب والسنة، فهو عندهم مشبه وليس بموحد. فالحكم عندهم هو العقل فما وافقه قبلوه، وما لم يوافقه ردوه وأنكروه أو فوضوه أو أولوه، ولإيضاح هذا المنهج يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله:
ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء يضع كل فريق لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعا له، فما وافق قانونهم قبلوه وما خالفه لم يتبعوه "2.
1 انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 149، وما بعدها، وفتح الباري للحافظ ابن حجر 13/344 ط دار المعرفة.
2 ابن تيمية – درء تعارض العقل والنقل 1/6 ط الأولى تحقيق د. محمد رشاد سالم.
والمعتزلة متفقون جميعا على نفي صفات الله تعالى، ويسمون ذلك توحيدا ولكنهم يختلفون في التعبير عن ذلك:
فمنهم من يقول: إنها نفس الذات، فيقول: إن الله عالم بعلم هو ذاته وقادر بقدرة هي ذاته ونحو ذلك، ومن هؤلاء أبو الهذيل العلاف1.
ومعنى ذلك عندهم: أن الذات تسمى باعتبار تعلقها بالمعلوم علما، ونحو ذلك في بقية الصفات، لا أن الصفات شيء غير الذات.
ومنهم من يعبر عنها بالسلب ونفي الضد، فمعنى كونه علما – عندهم – ليس بجاهل، وقادرا ليس بعاجز، ونحوه، ومن هؤلاء النظام2.
ومنهم: من يعبر عنها بأنها أحوال وراء الذات، فيقول مثلا: لله عالمية وقادرية، لا علما ولا قدرة، ثم يقول: وهذه الأحوال ليست بموجودة ولا معدومة، وأشهر من قال بذلك: أبو هاشم، حتى نسبت إليه فقيل: أحوال أبي هاشم3.
وقوله هذا محال، إذ لا يتصور حصول شيء وقيامه، وهو لا موجود ولا معدوم.
وقد اعتمد المعتزلة في نفيهم صفات الله سبحانه وتعالى على قاعدة فاسدة، اتخذوها من عند أنفسهم مبعثها: بعدهم عن كتاب الله عز وجل،
1 انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/49، ومقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري 1/245.
2 انظر مقالات الإسلاميين 1/247.
3 انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/82.
وتقديمهم العقل على النص، ثم الأقيسة الفاسدة، والتأويلات الباطلة التي درجوا عليها، فقالوا: لو أثبتنا الصفات وقلنا: إنها زائدة على الذات، فإن قلنا: إنها محدثة لزم من ذلك قيام الحوادث بذاته تعالى.
وإن قلنا: بأنها قديمة، لزم من ذلك تعدد القدماء، والقائل بذلك يقع في أشد مما وقعت فيه النصارى فإنهم قالوا بقدماء ثلاثة، وهو يقول بأكثر من ذلك!
وبناء على قولهم هذا، فمن أثبت صفات الله على حقيقتها فقد شبه الله بخلقه، وهذا شرك، أو يقول بتعدد القدماء وهذا شرك – عندهم – أشد من شرك النصارى الدين قالوا:{إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} .
وسبب ضلالهم هذا كما سلف ذكره هو عدم اعتصامهم بالكتاب والسنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وعامة هذه الضلالات إنما تطرق من لم يعتصم بالكتاب والسنة، كما كان الزهري يقول: كان علماؤنا يقولون: الاعتصام بالسنة هو النجاة، وقال مالك رحمه الله: السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، ثم يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "والعجب أن من هؤلاء من يصرح بأن عقله إذا عارضه الحديث – لا سيما في أخبار الصفات – حمل الحديث على عقله، وصرح بتقديمه على الحديث، وجعل عقله ميزانا للحديث فليت شعري هل عقله هذا مصرحا بتقدميه في الشريعة المحمدية، فيكون من السبيل
المأمور باتباعه، أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل، فلا حول ولا قوة إلا بالله"1.
ومن جهلهم بكتاب الله تعالى تشبيههم لمن أثبت صفات الله تعالى وقال إنها قديمة بالنصارى حيث قالوا: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} وهذا تشبيه باطل وقياس فاسد، فإن سبب كفر النصارى أنهم قالوا بثلاثة آلهة كما قال تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2، فقد كذبهم الله بقوله عز وجل:{َمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ولم يقل: وما من قديم إلا قديم واحد3.
وقد جعلوا لفظ (القديم) من أسماء الله تعالى، والحق أنه ليس من أسماء الله الحسنى، وهي التي تدل على خصوص ما يمدح به، والقديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن هو المتقدم على غيره، ولم يستعمل فيما لم يسبقه عدم، والأمثلة على ذلك في كتاب الله تعالى كثيرة. قال عز من قائل:{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} 4 والعرجون القديم هو الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد قيل للأول قديم.
1 ابن تيمية – الفتاوى 4/56،57.
2 لآية 73 من سورة المائدة.
3 انظر كتاب ابن تيمية السلفي، لمحمد خليل هراس ص 93.
4 الآية 4 من سورة يس.
وقال جل شأنه: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} 1 ومعناه التقدم في الزمان
…
وغير ذلك من الأدلة.
وقد جاء الشرع باسم (الأول)، وهو أحسن من (القديم) فهو يشعر بأن ما بعده راجع إليه وتابع له بخلاف القديم. قال الله تبارك وتعالى:{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 2.
والله تعالى وحده له الأسماء الحسنى، {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3.
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر" 4 ولفظ القديم ليس من أسماء الله تعالى الثابتة في الكتاب والسنة5.
وقد لجأ المعتزلة إلى هذا القول فرارا من التشبيه، الذي يرونه لازما لإثبات صفات الله تعالى كما يزعمون، فيرون أن من أثبت صفات الله تعالى على الحقيقة فقد شبه الله بخلقه، وهذا شرك، فهم قد فروا من أمر
1 الآية 11 من سورة الأحقاف.
2 الآية 3 من سورة الحديد.
3 الآية 180 من سورة الأعراف.
4 صحيح البخاري مع الفتح 11/214، وصحيح مسلم مع شرح النووي 4/206.
5 انظر كتاب شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص 112-113.
ووقعوا في أعظم منه وهو التعطيل، إذ عطلوا صفات الله سبحانه التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم وجعلوا ذلك غاية التوحيد عندهم.
ولا شك أن من شبه الله بخلقه فقد أشرك، ولكن ذلك ليس لازما من إثبات صفات الله تعالى، فله سبحانه صفاته التي تليق بجلاله وعظمته ووحدانيته، والمخلوق له صفاته التي تناسبه، ولا يلزم من توافقها في الاسم توفقها في الحقيقة، بل إن المخلوقات نفسها قد تتوافق في الأسماء مع تباين الحقائق واختلافها كما هو معلوم.
والواقع أن المعتزلة أنفسهم بقولهم هذا قد وقعوا في التشبيه أيضا، بل في أقبحه، فهم حين أثبتوا لله تعالى ذاتا مجردة من الصفات، وهذا لا يتصور إلا في الأذهان ولا حقيقة له في الخارج، فهم بفعلهم هذا قد شبهوا الله تعالى بالمعدومات، مما قد يؤدي بهم إلى نفي وجود الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
الجهمية:
الجهمية هم أتباع الجهم بن صفوان تلميذ الجعد بن درهم، أول من قال بتعطيل الصفات، وأخذها عنه الجهم، وأظهرها فنسبت إليه، وقيل إن الجعد بن درهم أخذ عن أبان بن سمعان، وأبان أخذها عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وهو اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، فهي ترجع في أصلها إلى اليهود.
ولما أظهر الجعد بن درهم مقالته في نفي الصفات في زمن هشام بن عبد الملك، وكان الجعد في مدينة واسط، وعامل هشام عليها خالد
ابن عبد الله القسري، فقتله في يوم الأضحى كما ورد عنه أنه قال للناس يوم الأضحى:"ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله علوا كبيرا عما يقول ابن درهم"،ونزل وذبحه1.
ويتبين مما ذكر أن أساس مذهب الجهمية بما فيه من كفر وإلحاد قد نبع أصله من اليهود أعداء الله تعالى وأنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام كما نبع الرفض منهم على يدي عبد الله بن سبأ اليهودي.
وخلاصة قول الجهمية في التوحيد: إنكار أسماء الله عز وجل وصفاته، وتعطيلها، فيقولون: لا يجوز أن يوصف الله بصفة يوصف بها خلقه، لأن ذلك تشبيه لله بخلقه2، فهم في نفي الصفات متفقون مع المعتزلة، وقد تقدم الكلام عن معنى التوحيد عندهم، وهم تلامذة الجهمية، وكل هذا ناتج عن كيدهم للإسلام وبعدهم عن كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجهلهم بهما واعتمادهم على ما تمليه عقولهم، فمعرفة الإنسان للحق والهدى بقدر قربه وفهمه لكتاب الله تعالى وسنة رسوله، وسلامته من الأغراض والمقاصد الخبيثة.
فهؤلاء وأمثالهم ظنوا أن كل صفة يمكن أن يوصف الله بها المخلوق لا
1 انظر: كتاب خلق أفعال العباد للإمام البخاري ص 7، وكتاب لوامع الأنوار البهية لمحمد بن أحمد السفاريني 1/164.
2 انظر: الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد ص 20، والفرق بين الفرق للبغدادي ص 211، والملل والنحل للشهرستاني 1/86.
يجوز أن يوصف الله بها، لزعمهم أن ذلك يستلزم تشبيه الله بخلقه، وهذا لازم فرضوه على أنفسهم من عند أنفسهم نتيجة ما تمليه عليهم عقولهم البعيدة عن الكتاب والسنة، والمعلوم عند أهل الحق أن لكل شيء صفة تناسبه، حتى بين المخلوقات نفسها.
والجهمية شر الطوائف المبتدعة، وقد مكث زعيمها جهم أربعين يوما لا يعرف ربه، قال الإمام أحمد رحمه الله: "فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان، من أهل ترمذ، وقد كان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله تعالى، فلقي أناسا من المشركين يقال لهم السمنية1، فعرفوا الجهم فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم: نعم، فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا، قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا، قالوا: فشممت رائحته؟ قال: لا، قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم، فلم يدر من يعبد أربعين يوما.
ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يُحدث أمرا دخل في بعض خلقه، فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما يشاء، وينهى عما يشاء، وهو روح غائبة عن الأبصار، فاستدرك
1 السُّمَنية: بضم السين وفتح الميم: فرقة من عبدة الأصنام تقول بالتناسخ، وتنكر وقوع العلم. ابن منظور – لسان العرب 13/220.
الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحا؟ فقال: نعم، فقال: هل رأيت روحك؟ قال: لا، قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا، قال: فوجدت له حسا أو مجسا؟ قال: لا، قال: فكذلك الله: لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولم يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان، ووجد ثلاث آيات من المتشابه، قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 1، {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 2 {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَار} 3 فبنى أصل كلامه على هذه الآيات، وتأول القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء بما وصف به نفسه في كتابه، أو حدث عنه رسوله، كان كافرا، وكان من المشبهة، فأضل بكلامه بشرا كثيرا، وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة4، وأصحاب عمروبن عبيد5
1 الآية 11 من سورة الشورى.
2 الآية 3 من سورة الأنعام.
3 الآية 103 من سورة الأنعام.
4 هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله تعالى، أحد الأئمة الأربعة، ولد سنة 80هـ، وتوفي سنة 150 هـ، رأى أنس بن مالك رضي الله عنه. وكان إماما ورعا عالما عملا متعبدا كبير الشأو.
انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي 1/167، والأعلام للزركلي 9/4.
5 هو عمرو بن عبيد بن باب التيمي بالولاء أبو عثمان البصري شيخ المعتزلة في عصره، ولد سنة 80هـ، وتوفي سنة 144هـ.
انظر: كتاب الأعلام للزركلي 5/252.
بالبصرة، ووضع دين الجههمية"1.
فغاية توحيد الجهمية وأمثالهم من المعطلة نفي صفات الله تعالى بدعوى تنزيهه عن مشابهة الخلق، فيعطلونه سبحانه من صفات الكمال الثابتة له عز وجل بهذه الدعوى الباطلة، ويقعون في شر مما فروا منه، وهو تشبيه الله تعالى بالمعدومات، وهذا من أجهل الجهل وأضل الضلال، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله: "وتوحيد الجهمية والفلاسفة مناقض لتوحيد الرسل من كل درجة، فإن مضمونه إنكار حياة الرب وعلمه وقدرته وسمعه وبصره، وكلامه واستوائه على عرشه، ورؤية المؤمنين له بأبصارهم عيانا من فوقهم يوم القيامة، وإنكار ما أخبر به الرسول عنه، ومعلوم أن هذا التوحيد هو نفس تكذيب الرسول بما أخبر به عن الله، فاستعار له أصحابه اسم التوحيد"2.
ولخطورة هذه الفرقة الضالة المضلة، التي هي أول من أظهر التعطيل الذي هو أعظم من شرك عباد الأصنام والأوثان والكواكب، فقد تصدى
1 الإمام أحمد بن حنبل – الرد على الزنادقة والجهمية ص 19، 20.
وانظر: فتح الباري 13/345، وكتاب الرد على الجهمية لأبي سعيد الدارمي ص 106-107، وكتاب خلق أفعال العباد للإمام البخاري ص 7-8.
2 ابن قيم الجوزية – مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ص 183.
لهم علماء الإسلام المخلصون، وحماة التوحيد الصادقون، فكشفوا خباياهم وفضحوا باطلهم، وحذروا المسلمين شرورهم، فما تجد كتابا من كتب العقيدة إلا وتجد الرد على هؤلاء المعطلة أبرز موضوعاته وأبوابه وفصوله، بل وهناك من العلماء من كتب كتبا خاصة في الرد على الجهمية، ومنها: كتاب الرد على الجهمية لابن أبي حاتم، وكتاب الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد بن حنبل، وكتاب خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل للإمام البخاري، وكتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة للإمام ابن قيم الجوزية، وكتاب الشهب المرمية في الرد على المعطلة والجهمية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
وقد فند هؤلاء الأئمة العظام والعلماء الأعلام أقوالهم وكفروا من قال بها، قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ونستعظم أن نحكي قول جهم، وقال رحمه الله:
ولا أقول بقول الجهم إن له
…
قولا يضارع قول الشرك أحيانا
ولا أقول تخلى من بريته
…
رب العباد وولى الأمر شيطانا
ما قال فرعون هذا في تجبره
…
فرعون موسى ولا فرعون هامانا1
وقال رحمه الله: "كل قوم يعرفون من يعبدون إلا الجهمية"2.
1 انظر فتح الباري 13/345، وخلق أفعال العباد للإمام البخاري ص 8.
2 الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة لابن قيم الجوزية، تحقيق د. على بن محمد دخيل الله 4/1409 ن 1410.
وسئل وكيع رحمه الله عن الجهمية فقال: "يكفرون من وجه كذا، ويكفرون من وجه كذا، حتى أكفرهم من كذا وكذا وجها، وقال رحمه الله: الرافضة شر من القدرية، والحرورية شر منهما، والجهمية شر هذه الأصناف، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 1 ويقولون: لم يكلمه، ويقولون: الإيمان بالقلب"2.
وقال سعيد بن عامر3: "الجهمية أشر قولا من اليهود والنصارى، قد اجتمعت اليهود النصارى وأهل الأديان أن الله تبارك وتعالى على العرش، وقالوا هم: ليس على العرش شيء "4.
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: "بالغ جهم في نفي التشبيه حتى قال: إن الله ليس بشيء"5.
وأقوال العلماء فيهم كثيرة مشهورة6، قال أبو سعيد عثمان الدارمي رحمه الله: "وأي زندقة بأظهر ممن ينتحل الإسلام في الظاهر، وفي الباطن يضاهي قوله في القرآن قول مشركي قريش الذين ردوا على الله ورسوله
1 الآية 164 من سورة النساء.
2 ابن قيم الجوزية – المرجع السابق.
3 هو سعيد بن عامر الضبعي البصري الزاهد الحافظ، أبو محمد مولى بني عجيف، ولد بعد العشرين ومائة، قال عنه أحمد بن حنبل: ما رأيت أفضل منه ومن حسين الجعفي. انظر سير أعلام النبلاء 9/385.
4 البخاري – خلق أفعال العباد ص 9.
5 الحافظ بن حجر – فتح الباري 13/345.
6 انظر مختصر العلو للعلي الغفار، للألباني ص 135 وما بعدها.
فقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَاّ اخْتِلاقٌ} 1 و {إِنْ هَذَا إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} 2 و {إِنْ هَذَا إِلَاّ قَوْلُ الْبَشَرِ} 3 كما قالت الجهمية سواء: إن هذا إلا مخلوق، ولهم في ذلك أئمة سوء أقدم من مشركي قريش، وهم عاد قوم هود الذين قالوا لنبيهم:{سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَاّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} 4 فأي فرق بين الجهمية وبينهم، حتى نجبن عن قتلهم وإكفارهم؟! ولو لم يكن عندنا حجة في قتلهم وإكفارهم إلا قول حماد ابن زيد، وسلام بن أبي مطيع، وابن المبارك، ووكيع، ويزيد بن هارون، وأبي توبة، ويحيى بن يحيى، وأحمد بن حنبل، ونظرائهم رحمه الله عليهم أجمعين، لجبنا عن قتلهم وإكفارهم بقول هؤلاء حتى نستبرئ ذلك عمن هو أعلم منهم وأقدم، ولكنا نكفرهم بما تأولنا فيهم من كتاب الله عز وجل، وروينا فيهم من السنة، وبما حكينا عنهم من الكفر الواضح المشهور، الذي يعقله أكثر العوام، وبما ضاهوا مشركي الأمم قبلهم بقولهم في القرآن فضلا على ما ردوا على الله ورسوله، من تعطيل صفاته،
1 الآية 7 من سورة ص.
2 الآية 25 من سورة الأنعام.
3 الآية 25 من سورة المدثر.
4 الآيات 136-138 من سورة الشعراء.
وإنكار وحدانيته، ومعرفة مكانه واستوائه على عرشه بتأويل ضلال، به هتك الله سترهم، وأبدى سوءتهم، وعبر عن ضمائرهم، كلما أرادوا به احتاجا، ازدادت مذاهبهم اعوجاجا، وازدادوا أهل السنة بمخالفتهم ابتهاجا، ولما يخفون من خفايا زندقتهم استخراجا"1.
التوحيد عند الفلاسفة:
كان المأمون العباسي شديد الشغف بالعلوم القديمة، وانتشرت في عهده ترجمة كتب غير المسلمين، وغير العرب، ونقلت إلى بلاد المسلمين، وكان من بينها كتب الفلاسفة، إذ بعث إلى بلاد الروم من ترجم له كتبهم، ونقلها إليه فانتشر مذهب الفلاسفة بانتشار كتبهم في أكثر الأمصار الإسلامية، وأقبل عليها المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم، وأكثروا النظر فيها، وقراءتها، وازدادوا بها بلاء إلى بلائهم، ودخل على المسلمين بذلك، من آراء الفلاسفة وضلالهم ما لا يعلم مداه إلا الله، وزاد به ضلال أهل البدع والانحراف2.
وكان ممن اشتهر بذلك، وتكلم به، ودعا إليه، الرازي، والفارابي، وغيرهما ممن فتنوا بآراء الفلاسفة، كسقراط وأفلاطون، وأرسطو، وغيرهم.
وخلاصة معنى التوحيد عندهم: أن الله عز وجل موجود ولا ماهية له ولا حقيقة، فلا ماهية عندهم زائدة على الوجود، ولا يعلم الجزئيات، ولا
1 الرد على الجهمية والزنادقة للدارمي ص 116-117.
2 انظر الخطط المقريزية لتقي الدين أبي العباس أحمد بن علي المقريزي 2/357، وانظر الفتاوى لابن تيمية 4/21.
يفعل بقدرته ولا مشيئته، والعالم لازم له أزلا وأبدا، وإن سموه مفعولا له، فذلك مصانعة للمسلمين، وأخص خصائص الألوهية عندهم وجوب الوجود بالذات لله سبحانه، وينفون عن الله سبحانه جميع صفات الكمال، والقرآن عندهم فيض فياض فاض من العقل الفعال على قلب بشر زاكي النفس طاهر، ومتميز عن النوع الإنساني بثلاث خصائص: قوة الإدراك وسرعته، وقوة النفس، وقوة التخييل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما زعم المتفلسفة إنه بالعقل الفعال، فمن الخرافات التي لا دليل عليها وأبطل من ذلك زعمهم أن ذلك هو جبريل، وزعمهم أن كل ما يحصل في عالم العناصر من الصور الجسمانية وكمالاتها فهو من فيضه وبسببه، فهو من أبطل الباطل1.
ولا يثبتون لله سبحانه صفة، فلا يكلم ولا يتكلم، كما ينفون عنه سائر صفاته تعالى، فلا سمع ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة، ولا وجه ولا يدين وحجتهم أنه لو كان كذلك لكان مركبا وكان جسما مؤلفا، ولم يكن واحدا من كل وجه.
فغاية توحيدهم إنكار أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وإثباتها عندهم تشبيه لا توحيد2.
1 ابن تيمية – الفتاوى 4/35.
2 انظر الفتاوى لابن تيمية 3/100، وكتاب الصواعق المنزلة البن قيم الجوزية تحقيق د. على بن محمد الدخيل الله 3/929، 930، وكتاب شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص 297، 298، وكتاب الدين الخالص لصديق حسن خان 1/96.
وقد وقعوا في هذا الباطل والضلال نتيجة تأثرهم بكتب الفلاسفة المليئة بالإلحاد والكفر، وكانوا يظنون أن أولئك الفلاسفة هم أهل الصواب لأنهم يعتمدون على التجارب والبراهين، ثم حالوا التلفيق بين هذه الفلسفة وبين عقيد الإسلام، فضلوا في ذلك ضلالا مبينا.
وقد تصدى لهم علماء الإسلام بالرد عليهم وكشف باطلهم، كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه ومنها: نقض تأسيس الجهمية، ومنهاج السنة، ودرء تعارض العقل والنقل – المعروف بموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول
…
وغيرها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الفلاسفة: "وهم مخطئون في المنقول والمعقول، أما المنقول: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخبر قط بقدم ذات مجردة عن الصفات والأفعال، بل النصوص الإلهية متظاهرة باتصاف الرب بالصفات والأفعال، وهذا معلوم بالضرورة لمن سمع الكتاب والسنة، وهم يسلمون أن هذا هو الذي يظهر من النصوص، ولكن أخبر عن الله بأسمائه الحسنى وآياته المثبتة لصفاته وأفعاله، وأنه {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} 1 فمن قال الأفلاك قديمة أزلية "فقوله مناقض لقول الرسول صلى الله عليه وسلم بلا ريب.
1 الآية 3 من سورة يونس.
كما أن من قال: "أن الرب تعالى لا علم له ولا قدرة ولا كلام ولا فعل" فقوله مناقض لقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
فليس لواحد منهما عقل صريح يدل على قوله، بل العقل الصريح مناقض لقوله، كما قد بين في موضعه من وجوه كثيرة، مثل ما يقال:"إن العقل الصريح يعلم أن إثبات عالم بلا علم وقادر بلا قدرة ممتنع كإثبات علم بلا عالم، وقدرة بلا قادر، وأعظم امتناعا من ذلك أن يكون العلم هو العالم، والعلم هو القدرة، فهذا قول نفاة الصفات"1.
التوحيد عند الأشاعرة:
الأشاعرة فرقة تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري، وقد تتلمذ أبو الحسن على أبي علي الجبائي، من كبار علماء المعتزلة، ولازمه قريبا من أربعين عاما، فكان من أكبر الناس معرفة بمذهب المعتزلة، ثم انتقل إلى مذهب الكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب، وألف في بيان فساد آراء المعتزلة، والرافضة، والفلاسفة، وغيرهم من النحل الباطلة، والفرق المنحرفة، ثم رجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وتخلى عما كان عليه، وبقي الأشاعرة ينتسبون إليه رغم رجوعه عن المذهب الذي يتشبثون به، والذي يمثل المرحلة الوسطى من حياته.
ومذهب الأشعرية يجمع خليطا من مذهب الجمهية والمعتزلة والكلابية، فيثبتون لله تعالى سبعا من الصفات وهي التي يسمونها صفات المعاني،
1 ابن تيمية – درء تعارض العقل والنقل 2/150، 151.
وهي: العلم، والقدرة، والإرادة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، وينكرون ما عدا ذلك من الصفات بتأويلاتهم الباطلة.
فالتوحيد عندهم نفي التثنية أو التعدد، ونفي التبعيض والتركيب والجزئة1، ويقولون كما يقول إخوانهم من المتكلمين: واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، ويفسرون معنى الإلهية بالقدرة على الاختراع2 ويجعلون ذلك هو التوحيد المطلوب، ويرون أن توحيد الأفعال وهو قولهم واحد في أفعاله لا شريك له، هو الذي بعث الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام بالدعوة إليه، وأنه يتضمن توحيد الألوهية، وأطالوا في بحثه، وأقاموا الأدلة والبراهين العقلية في إثباته، وأتعبوا أنفسهم فيه، وهو من الأمور المسلمة بين المسلمين وخصومهم - سوى الملحدين منهم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"والإلهية تتضمن أشخاص للعبادة والدعاة لا أنها بمعنى القدرة على الاختراع كما يذكر ذلك عن الأشعري، فإن هذا هو الربوبية التي كان المشركون يقرون بها"3.
ومعلوم أن المشركين الذي بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بذلك وأن الله تعالى خالق كل شيء، ولا ينازعون في ذلك، ولكن ذلك لم
1 انظر كتاب الإرشاد لأبي المعالي الجويني ص 69.
2 انظر الفتاوى لابن تيمية 3/98، وما بعدها، وبيان تلبيس الجهمية لابن تيمية 1/469.
3 ابن تيمية - بيان تلبيس الجهمية 1/480.
ينفعهم شيئا، بل هم مع ذلك مشركون بالله تعالى، حيث لم يحققوا معنى الألوهية الحقة له سبحانه وتعالى، وهذا هو التوحيد الأعظم الذي بعث الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام بالدعوة إليه، وفيه قامت الخصومة بينهم وبين أممهم، وهذا ما لا ذكر له ولا اهتمام في كتب الأشاعرة1.
"وليس المراد بـ (الإله) هو القادر على الاختراع، كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظن أن الإلهية هي القدرة على الاختراع دون غيره، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا الله، فإن المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون – كما تقدم بيانه – بل الإله الحق هو الذي يستحق أن يعبد، فهو إله بمعنى مألوه، لا إله بمعنى آله، والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له، والإشراك أن يجعل مع الله إلها آخر. وإذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار، أهل الإثبات للقدرة المنتسبون إلى السنة إنما هو توحيد الربوبية، وأن الله رب كل شيء، ومع هذا فالمشركون كانوا مقرين بذلك، مع أنهم مشركون"2.
التوحيد عند الصوفية:
الصوفية من الفرق التي انحرفت وضلت عن المعنى الصحيح للتوحيد، وهي فرق وطوائف كثيرة منهم المعتدل ومنهم الغالي المنحرف، والتوحيد
1 انظر: الفتاوى لابن تيمية 3/100-101، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص 81، وكتاب دعوة التوحيد لخليل هراس ص 274.
2 ابن تيمية – الفتاوى 3/101.
عندهم مراتب أدناها ما يسمونه توحيد العامة، وهو الشهادة بأن لا إله إلا الله، وأعلاها ما يسمونه: الفناء في التوحيد وهو: أن لا يرى في الوجود إلا واحدا، وهو عندهم الغاية التي لا غاية وراءها1.
قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: "و (الفناء) الذي يشير إليه القوم ويعملون عليه: أن تذهب المحدثات في شهود العبد، وتغيب في أفق العدم، كما كانت قبل أن توجد، ويبقى الحق تعالى كما لم يزل، ثم تغيب صورة المشاهد ورسمه أيضا، فلا يبقى له صورة ولا رسم، ثم يغيب شهوده أيضا، فلا يبقى له شهود، ويصير الحق هو الذي يشاهد نفسه بنفسه، كما كان الأمر قبل إيجاد المكونات، وحقيقته: أن يفني من لم يكن، ويبقى من لم يزل"2.
وقد قسم الغزالي التوحيد عند الصوفية إلى أربع مراتب:
"الأولى: أن يقول الإنسان بلسانه: لا إله إلا الله.
الثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ بقلبه، كما صدق به عموم المسلمين، وهو اعتقاد العوام.
الثالثة: أن يشاهد بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين.
الرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحدا، فلا يرى نفسه أيضا، وهو مشاهدة الصديقين، كما تسميه الصوفية، لأنه من حيث أنه لا يرى إلا واحدا، فلا يرى نفسه أيضا "3.
1 انظر فتح الباري لابن حجر 13/348، والفتاوى لابن تيمية 3/101، 102.
2 ابن قيم الجوزية – مدارج السالكين 1/148.
3 انظر الإحياء للغزالي 4/245 وما بعدها.
وقد شرع الصوفية لأنفسهم من الدين ما لم يأذن به الله، فانحرفوا عن المنهج الإسلامي القائم على الاعتدال، والبعد عن الغلو والتطرف، حيث لم يجدوا فيه ما يوافق أهواءهم المنحرفة، وأذواقهم الفاسدة، وأفهامهم المعوجة، فاتخذوا لأنفسهم سبيلا جمعوا فيه خليطا من الديانات اليهودية والنصرانية والمجوسية، وغير ذلك مما دخل على المسلمين من الدخائل والعقائد الباطلة، وادعوا لأنفسهم أحوالا، وأذواقا ومواجد لم يعرفها الدين، ولا اتباع الأنبياء والمرسلين، وفتحوا على الإسلام والمسلمين باب شر دخلت منه عظائم الفتن، وكبرى المحن، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل، فكان كثير منهم ممن يصدق عليهم قوله الحق تبارك وتعالى:{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 1 وقوله جل شأنه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 2.
وتمادوا في غيهم وضلالهم فقالوا بالحلول وأن الله تعالى حال في كل شيء وقالوا بوحدة الوجود وأنه لا موجود إلا الله فيرون أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تبارك وتعالى، وليس وجودها غيره ولا سواه البتة.
1 الآية 30 من سورة الأعراف.
2 الآية 37 من سورة الزخرف.
ومن أقوالهم في ذلك: قول ابن عربي:
الرب حق والعبد حق
…
يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك رب
…
أو قلت رب أنى يكلف
وقول ابن الفارض:
إلي رسولا كنت مني مرسلا
…
وذاتي بآياتي عليك استدلت
وقوله أيضا:
لها صلواتي بالمقام أقيمها
…
واشهد فيها أنها لي صلت
كلانا مصل واحد ناظر إلى
…
حقيقته بالجمع في كل سجدة
وماكان لي صلىسواي فلم تكن
…
صلاتي لغيري في أداءكل ركعة1
وقول آخر: أنا الحق.
وقول غيره: سبحاني.
وقسم الصوفية الدين إلى ظاهر وباطن وشريعة وحقيقة، فالظاهر والشريعة علم عامة الناس ودينهم، ومنهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والباطن والحقيقة علم الصوفية ودينهم.
قال ابن الجوزي رحمه الله: "لما انقسم هؤلاء بين متكاسل عن طلب العلم، وبين ظان أن العلم هو ما يقع في النفوس من ثمرات التعبد، وسموا ذلك العلم: العلم الباطن، نهوًّا عن التشاغل بالعلم الظاهر"2.
1 انظر مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية 4/83، والتصوف بين الحق والخلق لمحمد فهر شقفة ص 64.
2 ابن الجوزي تلبيس إبليس ص 328.
وجعلوا للأولياء درجة فوق درجة الأنبياء، وقالوا:
مقام النبوة في برزخ
…
فويق الرسول ودون الولي
ويقولون: إن الولي يأخذ عن الله تعالى بلا واسطة، كما يقولون: حدثني قلبي عن ربي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن أدعى من الأولياء الذي بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن له طريقه إلى الله لا يحتاج فيها إلى محمد فهو كافر ملحد، وإذا قال: أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن محمدا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب"1.
وغلاتهم يلتقون مع غلاة الشيعة في تقديس أئمتهم واعتقاد العصمة فيهم، ووجوب طاعتهم في كل ما أمروا به أو نهوا عنه حلالا كان أو حراما، طاعة أو معصية، ويعتقدون بحصول الكرامات لهم حتى بعد موتهم وأقوالهم في ذلك أكثر من أن تحصر، ليس هذا مقام الحديث عنها. وكلا الطائفتين - الصوفية والشيعة - منفذ شر وباب فتنة وضلال ومعول هدم للإسلام وأهله، ومطية لأعداء الإسلام في الوصول إلى مآربهم الخيبيثة في الماضي والحاضر.
ومن أقوال الصوفية في التوحيد:
قول بعضهم: أصولنا في التوحيد خمسة أشياء: رفع الحدث، وإقرار القدم، وهجر الإخوان، ومفارقة الأوطان ونسيان ما علم وجهل.
1 ابن تيمية – الفتاوى 11/225.
وقول الآخر: من اطلع على ذرة من علم التوحيد ضعف عن حمل بقة لثقل ما حمله.
وقول أحدهم: علامة حقيقة التوحيد نسيان التوحيد.
وغير ذلك من الأقوال الضالة التي لا يقرها شرع ولا عقل1.
وبعد هذا العرض اليسير لمفاهيم بعض الفرق الطوائف الضالة في معنى التوحيد وكيف زلت أقدامهم وانحرفت أفهامهم عن المعنى الحق للتوحيد الحق لله رب العالمين، تبين لنا مما سبق أن السبب الأول في ذلك الزيغ عن الحق إنما حصل لهم بسبب أعراضهم عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وتقديمهم عقولهم على هذين الأصلين العظيمين اللذين عما النجاة من الضلال والملاذ والمرجع عند الانجراف والاختلاف. وكذلك تأويل النصوص تأويلات باطلة ناتجة عن أفهام سقيمة معوجة ظنوا أنها هي الحق الذي لا يجوز العدول عنه، فكانوا كما قال الله جل شأنه:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} 2 وكثير منهم من أقر بذلك واعترف عند موته.
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى عن ضلال هؤلاء وانحرافهم: "وإذا تأمله العارف وجده كلحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى فيطول عليك الطريق، ويوسع لك العبارة،
1 انظر كتاب التصوف بين الحق والخلق لمحمد فهر سقفة ص 53ن 54.
2 الآية 39 من سورة النور.
ويأتي بكل لفظ غريب، ومعنى أغرب من اللفظ، فإذا وصلت لم تجد معك حاصلا طائلا، ولكن تسمع جعجعة ولا ترى طحنا، فالمتكلمون في جعاجع الجواهر والأعراض والأكوان والألوان، والجوهر والفرد، والأحوال والحركة والسكون، والوجود والماهية والانحياز والجهات والنسب والإضافات والغيرين والخلافين، والضدين والنقيضين، والتماثل والاختلاف، والعرض وهل يبقى زمانين وما هو الزمان والمكان؟ ويموت أحدهم ولم يعرف الزمان والمكان، ويعترف بأنه لم يعرف الوجود هل هو ماهية الشيء، أو زائد عليها؟ ويعترف أنه شاك في وجود الرب، هل هو وجود، أو وجود مقارن للماهية، ويقول: الحق عندي الوقف في هذه المسألة، ويقول أفضلهم - عن نفسه - عند الموت: أخرج من الدنيا وما عرفت إلا مسألة واحدة، وهي أن الممكن يفتقر إلى واجب، ثم قال: الافتقار أمر عرضي، فأموت ولم أعرف شيئا، وهذا أكثر من أن يذكر، كما قال بعض السلف: أكثر الناس شكا عند الموت: أرباب الكلام"1.
وكما قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "انقسموا إلى أصحاب نظر وفكر وبحث واستدلال، وأصحاب إرادة وعبادة وتأله وزهد، وفكان منتهى أولئك الشك، ومنتهى هؤلاء الشطح، فأولئك يشكون في ثبوت واجب الوجود، أو يعجزون عن إقامة الدليل عليه، إلى أن قال:
…
والآخرون يجعلون كل موجود واجب الوجود، ويجعلون
1 ابن قيم الجوزية – مدارج السالكين 3/437.
وجود كل موجود هو نفس وجود واجب الوجود، ثم يقول بعدد ذلك: هذا مع أن إثبات الموجود الواجب الغني الخالق، وإثبات الموجود الممكن المحدث الفقير المخلوق، وهو من أظهر المعارف، وأبين المعلوم"1.
ولا شك أن انحرافهم عن المعنى الصحيح نتيجة حتمية لكل من لم يكن مرجعه الكتاب والسنة وقدم على ذلك عقله وهواه ولا يظلم ربك أحدا.
1 ابن تيمية – درء تعارض العقل والنقل 3/264، 265.