الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: دعوة موسى عليه الصلاة والسلام
وهو نبي الله ورسوله موسى عليه الصلاة والسلام ابن عمران بن لاهب بن عازر بن لاوي بن يعقوب عليه السلام، قال الحافظ في الفتح: لا اختلاف في نسبه1.
وهو أحد أولي العزم من الرسل، كليم الله ورسوله إلى بني إسرائيل، بعثه الله وقد طغى فرعون واستكبر في الأرض بغير الحق، وبلغ شره البلاد والعباد {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} 2.
والطائفة المذكورة في الآية هم بنوا إسرائيل، وقد بلغ فرعون من الفساد والإلحاد والطغيان مبلغاً فاق به كل كفر وإلحاد، فقد ادعى الربوبية والألوهية على قومه، وأنه لا إله غيره، كما أخبر الله تعالى عنه:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 3.
1 انظر فتح الباري للحافظ ابن حجر 6/ 422.
2 الآية (4) من سورة القصص.
3 الآية (38) من سورة القصص.
وقال جل شأنه: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى} 1.وقال مهدداً لرسول الله موسى عليه السلام: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} 2. فدعاه
موسى عليه السلام إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وشد الله أزر موسى بأخيه هارون عليه السلام وأناط بهما دعوة بني إسرائيل وتخليصهم من عبودية فرعون وجبروته واستذلاله لهم، رغم ما بذله فرعون لصد هذه الدعوة والقضاء عليها منذ أن أخبره الكهان والمنجمون عن أمر موسى، ولكن الله تعالى غالب على أمره، وناصر رسله وأتباعهم، نصر موسى وهارون وأهلك فرعون وجنوده، وأورث بني إسرائيل الأرض من بعدهم:{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} 3.
وقد ذكر الله تعالى قصة موسى ودعوته في مواضع كثيرة من كتابه الكريم4.
1 الآية (24) من سورة النازعات.
2 الآية (29) من سورة الشعراء.
3 الآيتان (5 – 6) من سورة القصص.
4 في سورة المائدة، والأعراف، ويونس، وإبراهيم، وطه، والمؤمنون، والشعراء، والنحل، والقصص، وغافر، والزخرف، والدخان.
والحديث عن موسى عليه السلام ودعوته طويل والمواقف فيه كثيرة، أكتفي بذكر أهمها:
1-
تكليم الله تعالى له وبدء الرسالة:
بعد أن قضى موسى الأجل الذي اتفق عليه مع صاحب مدين، وكان عليه السلام قد قضى أتم الأجلين وأكملهما، كما ورد عن سعيد بن جبير رحمه الله قال:"سألني يهودي من أهل الحيرة، أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس فقال: "قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل"1.
بعد ذلك سار موسى عليه السلام بأهله في ليلة مظلمة مطيرة باردة، وتاهوا عن الطريق المألوف، وفي تلك الحال رأى ناراً عن بعد، في جانب جبل الطور، فأمر أهله بالمكوث وذهب يلتمس خبر النار، فلما وصل كان وعد الله في ذلك المكان، وسمع النداء الإلهي من الشجرة، وأراه ربه عز وجل من الآيات والمعجزات ماشاء سبحانه، وحصلت له أمور عظيمة في تلك البقعة، وهي: كلام الله عز وجل له، وجعله رسولاً، وإظهار المعجزات على يديه2. قال الله عز ووجل: {إِذْ قَالَ مُوسَى لأهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ
1 البداية والنهاية لابن كثير 1/ 229.
2 انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/ 387، 388، ومعالم التنزيل للبغوي 3/ 144، والبداية والنهاية لابن كثير 1/ 230 – 231.
أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} 1.
وقال جل شأنه: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ
1 الآيات من (7 – 14) من سورة النمل.
2 الآيات من (29 – 32) من سورة القصص.
يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} 1.
فقد بينت الآيات السابقة ما حصل لموسى عليه السلام بعد خروجه بأهله من مدين إلى مصر، وما رأى من آيات ربه تعالى إعداداً له تهيئة لحمل الرسالة، وما سيلاقيه في سبيلها.
وفي فهم هذه الآيات زلت أقدام أقوام وانحرفت أفهامهم عن الطريق المستقيم في فهم كتاب الله تعالى، فزعموا أن الله تعالى خلق الكلام في الشجرة، وسمع ذلك موسى من الشجرة، لا أن الله سبحانه هو المتكلم فعلاً3.
1 الآيات من (9 – 16) من سورة طه.
2 الآيات من (15 – 19) من سورة النازعات.
3 أول من أنكر تكليم الله تعالى لموسى هو الجعد بن درهم، الذي تتلمذ عليه الجهم ابن صفوان مؤسس الجهمية، وقد قتله – أي الجعد – خالد بن عبد الله القسري، فالجهمية ينكرون صفة الكلام حقيقة، ومنهم من يقر باللفظ ولكن يقول بأن الله خلق الكلام في غيره كقول المعتزلة الذين يقولون: إن الله تعالى كلم موسى حقيقة وتكلم حقيقة، وحقيقة الكلام عندهم أنه خلق الكلام في غيره كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى. والأشاعرة يقولون: الكلام هو المعنى القائم بالنفس، والحروف والأصوات عبارة عنه. انظر: الفتاوى لابن تيمية 12/ 502 – 531، ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 5/ 159-161 تحقيق د. محمد رشاد سالم، وشرح العقيدة الطحاوية ص 183، 184.
وهذا من الضلال المبين في فهم كتاب الله تعالى، ومن تقديم العقول العاجزة القاصرة عليه، إذ لم يفهموا معنى النداء، وأنه الكلام من بُعْد، كما لم يفهموا معنى قوله تعالى:{فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} فأنت حين تقول: سمعت كلام فلان من البيت، ليس معنى ذلك أن البيت هو المتكلم.
وكذلك ضلوا عن فهم ما بعد ذلك، فلو كان الأمر كما زعموا أن الكلام مخلوق في الشجرة، فمن الذي يقول:{يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ؟ هل تقول ذلك الشجرة؟ وهل تقول: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ؟.
وعلى فهمهم ففرعون لم يكن مخطئاً حين قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} وهذا من فساد العقول وانحراف الأفهام، نعوذ بالله من ذلك.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأما إطلاق القول بأن الله لم يكلم موسى، فهذه مناقضة لنص القرآن، فهو أعظم من القول بأن القرآن
مخلوق، وهذا بلا ريب يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإنه أنكر نص القرآن، وبذلك أفتى الأئمة والسلف في مثله، والذي يقول: القرآن مخلوق هو في المعنى موافق له، فلذلك كفره السلف"1.
الموقف الثاني: بدء دعوة موسى عليه السلام
ما تقدم ذكره مما حصل لموسى عليه السلام من آيات ربه سبحانه وكلامه له، كان تهيأة للمهمة العظيمة التي اختاره الله تعالى لها، وإشعاراً بالرسالة التي اصطفاه الله لحملها، وعدة له في دعوته فرعون وملأه.
قد أدرك عليه السلام ثقل هذه المسئولية، وجسامة العبء، وشكى ذلك لربه سبحانه مع ما سلف منه من قتل القبطي، إضافة إلى ما يشعر به من عدم فصاحة اللسان ومشيراً إلى فصافحة أخيه هارون، فأوحى إليه ربه بأنه معه وناصره في دعوته ومؤيده في مسيرته. {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا
1 ابن تيمية: الفتاوى 12/ 508.
بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} 1.
هذه الآيات البينات تحكي قصة دعوة موسى، منذ بدايتها ووعد الله له بالتأييد، ثم ما واجهه من فرعون من الطغيان والتكبر، فقد أعلن ادعاه للربوبية معارضاً به دعوة موسى عليه السلام ومستنكراً لها، ومتهماً أنها سحر مختلق من عند موسى، ثم كيف كانت نهايته وعاقبة تكذيبه لهذه الدعوة. وتكبره على رسول الله موسى عليه السلام واستخفافه بأمور الله، وله يوم القيامة عذاب وخزي فوق ذلك2.
وكان موسى عليه السلام قد بدأه بتذكيره بعظمة الخالق سبحانه، مستدلاً ومذكراً لهم ببعض هذه الآيات التي يشاهدونها، وأن الذي أوجدها هو الإله الحق المستحق للعبادة وحده.
1 الآيات من (32 – 40) من سورة القصص.
2 انظر دعوة الرسل للعدوي ص 274.
الموقف الثالث: مناظرة موسى لفرعون
وقد قص الله تعالى في القرآن في أكثر من موضع مناظرة موسى عليه السلام لفرعون، وكيف كان فرعون يلجأ فيها إلى المكابرة والتهديد بالقوة والبطش، وهذه حيلة العاجز عن المناظرة.
قال الله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ
لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} 1.
لقد كانت هزيمة فرعون في هذه المناظرة من أول الوهلة، ولكنه كان يسترها بتجاهله لموسى عليه السلام، والامتنان عليه بما قام به من الإنفاق عليه يوم كان رضيعاً وطفلاً، وتذكير موسى بقتله الرجل القبطي، ثم بتجاهله ربوبية الله عز وجل، وإعلانه أنه هو الرب، وتهديد إن اتخذ إلهاً غيره، وتأييد بطانة السوء له في كل ما يقول.
كل ذلك كان من فرعون تغطية لهزيمته التي أحس بها أمام موسى عليه السلام، وهو في قرارة نفسه يعلم أن الله تعالى هو الإله الحق، وهو رب العالمين سبحانه، كما بين الله تعالى ذلك بقوله:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 2. وكما ذكره موسى عليه السلام بذلك بقوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلأ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} 3.
1 الآيات من (10 – 40) من سورة الشعراء.
2 الآية (14) من سورة النمل.
3 الآية (102) من سورة الإسراء.
ثم كان من عجزه أن التجأ إلى بطانة السوء من حوله يستشيرهم في أمر موسى بعد أن أعلن لهم أنه ساحر، فأشاروا عليه بجمع السحرة، وكانت نتيجتها حجة أخرى على فرعون، وهزيمة لم يكن يتوقعها1.
وهذه حالة كثير من الطغاة الذين يقفون أنفسهم على عداوة دعوة الله تعالى، وإيذاء حملتها، يلصقون بهم التهم، ويبررون لأنفسهم كل أنواع الانتقام منهم والاتهام لهم، وبطانة السوء تزين ذلك لهم، وتعينهم على الإثم والعدوان.
الموقف الرابع: إسلام السحرة
اتهم فرعون موسى عليه السلام بالسحر، واستشار ملأه في ذلك فأشاروا عليه بجمع السحرة من أنحاء البلاد، وكان السحرة منتشراً فيها، ثم التقوا بموسى عليه السلام في جمع مشهود، وفرعون يعدهم ويمنيهم، وموسى عليه السلام يعظمهم وينصحهم:{قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} 2. ولكنهم لم يستجيبوا، فقد ركبهم ما ركب فرعون من الطغيان.
وتقابل الفريقان، وألقى السحرة ما عندهم من باطل، وألقى موسى عصاه بأمر ربه تعالى له، فإذا هي كما قال عز وجل:{تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} ،
1 انظر تفسير ابن كثير 3/ 333.
2 الآية (61) من سورة طه.
وحين رأى السحرة ذلك علموا يقيناً أن ذلك ليس من صنع البشر ولا من صنع موسى، وإنما هو من الله وحده، عندها أعلنوا إسلامهم لله تعالى وتوحيدهم له وحده لا شريك له، وإيمانهم به، وإذا هم ينتقلون هذه النقلة الكبيرة العظيمة من عبودية فرعون لا إلى عبودية موسى، ولكن إلى عبادة رب موسى سبحانه الذي رأوا آياته تجري على يد موسى عليه السلام، وأعلنوا ذلك على فرعون ومن معه بعد أن خروا ساجدين لله تعالى:{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} 1. وجن جنون فرعون، إذ جاءته الهزيمة من حيث أراد النصر، وقبل أن يتهدد ويتوعد يعلن السحرة تحديهم لذلك وثباتهم أمامه.
قال ابن عباس وعبيد بن عمير: "كانوا أول النهار سحرة، وآخره شهداء بررة"2.
قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى
1 الآيات من (46 – 48) من سورة الشعراء.
2 ابن كثير: البداية والنهاية 1/ 242.
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} 1.
لقد كان هذا أول انتصار لدعوة التوحيد التي جاء بها موسى عليه السلام، وأول هزيمة لشرك فرعون وكفره أمام ملائه، وعلى مرأى
1 الآيات من (56 – 76) من سورة طه.
ومسمع كثير من الناس الذين جمعهم لشهود هذه المناظرة التي كان جازماً أنها لصالحه، وكان يتمنى لو أن ما فعله السحرة تم بإذنه، أو بعيداً عن أعين الناس، كما يفهم ذلك من قوله:{قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} .
ثم اتهم السحرة بالاتفاق مع موسى عليه السلام على ما حدث، وهو أمر مرفوض، إذ لم يكن موسى على معرفة ولا صلة بهم، إنما هذه التهم من فرعون حين أسقط في يده بإسلام السحرة، فمرة يعتب عليهم أنهم آمنوا قبل إذنه، ومرة يتهمهم بتآمرهم مع موسى عليه السلام، ثم يرجع إلى تهديده ووعيده، كل ذلك ليخفف على نفسه وقع الهزيمة المرة، ووقع المصيبة العظيمة، كما هو شأن الطغاة، إذا تكشف باطلهم وانفضح طغيانهم1.
وكان إيمان السحرة مدعاة لافتضاح فرعون، لأنهم كانوا علماء لهم مكانتهم، فكان لإيمانهم ضجة كبرى، أحدثت في حاشية فرعون هزة عنيفة، وزلزالاً كبيراً {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} 2، 3.
1 انظر: البداية والنهاية 1/ 239 – 240، وكتاب دعوة الرسل لمحمد أحمد العدوي ص 186.
2 الآيات من (53 – 56) من سورة الشعراء.
3 محمد بن أحمد العدوي – دعوة الرسل ص 257 – 258.
ولكن العبرة ليست بالكثرة أو القلة، بل باتباع الحق، فأتباع الحق هم الأكثرون ولو كانوا قليلي العدد، وهم الجماعة ولو كان واحداً1.
الموقف الخامس: موقف ملأ فرعون من دعوة موسى عليه السلام
ملأ فرعون هم بطانته وأعوانه وكبراء قومه الذين يعيشون حوله، يزينون له الباطل ويحببونه إليه، ويظهرون له الحق في صورة الباطل ويكرهونه إليه، ويتفانون في سبيل ذلك، خشية أن يكشف الحق باطلهم وكذبهم، لأنهم يعيشون على حساب غيرهم، ويعلمون أنهم لا بقاء لهم إلا مع بقاء الباطل، وهم في كل زمان ومكان، ومع كل رسول ونبي وداع ومصلح هم حجر عثرة في سبيل دعوة التوحيد سلاحهم الكذب والنفاق والوشاية بأهل الحق، والتحريض عليهم وتلفيق التهم حولهم2.
وملأ فرعون من أشد هؤلاء فتنة، وأعظمهم شراً، وباختصار اذكر بعض مواقفهم من دعوة التوحيد التي جاء بها موسى عليه السلام:
1-
الاستهزاء والسخرية بموسى ودعوته:
وكان ذلك منذ بداية الدعوة حين قابلوا هذه الدعوة بالاستهزاء والازدراء بموسى، وكانوا ينفخون ذلك في فرعون، الذي كان يعتز بهم ويفاخر ويشاورهم في أمر موسى ودعوته. قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ
1 انظر: البداية والنهاية لابن كثير 1/ 242، ودعوة الرسل للعدوي ص 278.
2 انظر المرجعين السابقين.
بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَاّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} 1.
فلقد كان لهؤلاء الملأ الدور الأول في وصول فرعون إلى ما وصل إليه من الطغيان والضلال، ولذلك ترى أنه لا يذكر فرعون إلا معه ذكر الملأ غالباً، لكثرة ملاحقتهم وملازمتهم له.
2-
هم السبب في جمع السحرة حين شاورهم فرعون ظناً منهم أن في ذلك القضاء على موسى ودعوته، لكن الله غالب على أمره، فقد جاءهم عكس ما أرادوا وخططوا، إذ آمن السحرة على مشهد من الناس الذين اجتمعوا لذلك، وهذا ما لم يكن لفرعون وملائه في حسبان.
3-
لم يكفهم ما كان من جمع السحرة وهزيمتهم في ذلك حين أعلن السحرة إسلامهم، بل بالغوا في عداوة موسى عليه السلام ودعوته
1 الآيات من (46 – 56) من سورة الزخرف.
خوفاً على أنفسهم وطمعاً في مآربهم الدنيئة، فاستعدوا فرعون واستفزوه بأسلوب يعلمون تأثيره عليه، وهو زوال ملكه وسلطانه. قال الله جل شأنه:{وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} 1.
لكن موسى تسلح بسلاح لا يغلب وأوصى قومه بذلك: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 2.
الموقف السادس: مؤمن آل فرعون
كان من نصر الله عز وجل لموسى عليه السلام أن بعث له ناصراً من داخل أسرة فرعون، آمن به ولكنه كان يكتم إيمانه عن فرعون وملائه، وقد كان له موقف عظيم تجلى فيه النصح الخالص والحرص على موسى، والحكمة البالغة في وعظ فرعون وملائه، وبدأهم بقوله على وجه المشاورة لهم:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} 3. ثم تدرج في وعظهم يجمع لهم بين الترغيب والترهيب، ويخوفهم بزوال
1 الآية (127) من سورة الأعراف.
2 الآية (128) من سورة الأعراف.
3 الآية (28) من سورة غافر.
ملكهم الذي هو أغلى ما يحرصون عليه، ويبين لهم أنه يدعوهم إلى النجاة والسعادة، بينما هم يدعونه إلى الشرك والكفر والهلاك، ويذكرهم بمن سبقهم من الأمم وكيف كان مصيرها1. قال الله تعالى:{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} 2 إلى آخر الآيات.
الموقف السابع: نهاية فرعون وقومه
اشتد أذى فرعون وقومه لموسى ومن معه، وكان موسى يقابل ذلك بالصبر، ويوصي أتباعه بذلك، وبالتوكل على الله وحده، وأمرهم بوحي من الله تعالى أن يجعلوا بيوتهم قبلة، لتكون معروفة بينهم، وليتمكنوا من الصلاة فيها إذا اشتد عليهم الأذى.
ثم أمره ربه تعالى بأن يسير ببني إسرائيل، فاشتد غيظ فرعون فتبعهم بقومه، فأدركهم قرب ساحل البحر، وكاد أتباع موسى عليه السلام أن ييأسوا حين رأوا البحر أمامهم والجبال تحيط بهم وفرعون وقومه يطلبونهم، وقالوا لموسى:{إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} ولكن موسى ذكرهم بالتوكل على
1 انظر: البداية والنهاية 1/ 243 – 247.
2 الآية (28) سورة غافر، والآيات إلى آية (46) في شأن مؤمن آل فرعون.
الله تعالى وأنه معه سبحانه، وبوحي من الله تعالى ضرب موسى بعصاه البحر، فانفلق وجعل الله تعالى لهم طريقاً يبساً في البحر فسلكوه حتى دخلوا جميعاً، فانطبق عليهم بعد أن خرج موسى ومن معه، ولما رأى فرعون ذلك أدرك تمام الإدراك أنها لهلاك المبين نزل به وبمن معه، فأعلن ما كان يجحده من توحيد الله عز وجل والاعتراف له بالربوبية والألوهية، وأعلن توبته بعد فوات الأوان، ولم تقبل، وأخرج الله جسده ليكون عبرة وعظة، ووردت قصة هلاكه وقومه في أكثر من موضع من القرآن الكريم:
وقال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرائيلَ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ
1 الآيات من (90 – 92) من سورة يونس.
فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 1.
وبهذه النهاية والأليمة تنتهي حياة أكبر طاغوت نشأ على الأرض، وهي نهاية كل طغاة أعداء الرسل ودعوتهم إلى توحيد الله تعالى وعبادته وحده لا شريك له، ثم يوم القيامة يكون حال فرعون كما أخبر الله تعالى:{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} 2.
فنهاية أليمة في الدنيا وخزي عظيم يوم القيامة، نعوذ بالله من ذلك.
الموقف الثامن: بنوا إسرائيل بعد خروجهم من البحر:
بعد خروج بني إسرائيل من البحر ونجاتهم من فرعون وجنوده، وهلاك فرعون ومن معه بالغرق، وقد رأى بنو إسرائيل من آيات الله تبارك وتعالى ما يكفي لترسيخ الإيمان وعقيدة التوحيد في قلوبهم، وما بذله موسى عليه السلام من أجل ذلك، مع هذا كله ما أن تجاوزوا البحر، ورأوا قوماً لهم أصنام يعبدونها، يزعمون أنها تنفع وتضر حتى طلبوا من
1 الآيات من (52 – 68) من سورة الشعراء.
2 الآيتان (98 – 99) من سورة هود.
موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلهاً كما لأولئك آلهة، ولكن موسى رد عليهم بوصفهم بالجهل، وأي جهل أعظم من جهل من يتخذ آلهة من دون الله يزعم فيها النفع والضر من دون الله تعالى، وهكذا لا ييأس الشيطان من فتنة العبد عن دينه، فقد يجد الشيطان بعض النفوس الضعيفة، يحقق من خلالها أهدافه وآماله التي عاهد الله تعالى على تحقيقها، ولكن وجود الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يفوت على الشيطان مراده، ويحمي الناس من خطر الشرك وأهله1.
وشبيه بهذا الموقف ذلك الموقف من أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهم في طريقهم إلى حنين وكانوا حدثاء عهد بكفر، فرأوا سدرة للمشركين يعلقون بها أسلحتهم يسمونها ذات أنواط، فطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم مثلها، فذكَّرهم وشبه قولهم بقول بني إسرائيل لموسى.
1 انظر: البداية والنهاية لابن كثير 1/ 259.
2 الآيات (138 – 140) من سورة الأعراف.
كما روى أبو واقد الليثي1 رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أتواط، فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} لتركبن سنن من قبلكم" 2. وسيأتي الكلام عن ذلك إن شاء الله عند الحديث عن دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
الموقف التاسع: سؤال موسى رؤية ربه تعالى
لما كلم الله تعالى رسوله موسى عليه السلام تطلعت نفسه أن يرى ربه سبحانه، فسأل الله تعالى ذلك، ولما كان موسى لا يطيق تحمل ذلك، أمره ربه تبارك وتعالى أن ينظر إلى الجبل، فسوف يتجلى الله تعالى للجبل، فإن بقي الجبل وثبت فلعل موسى عليه السلام يثبت لذلك، وإن لم يثبت مع كبره وقوته، فموسى من باب أولى، فما أن تجلى الله عز وجل للجبل حتى اندك على أوله، فلما رأى موسى ذلك لم يطق تحمله فخر مغشياً عليه،
1 اسمه الحارث بن عوف بن أسيد بن جابر الليثي صحابي جليل شهد بدراً والفتح وحنين وغيرها من المشاهد والغزوات، توفي رضي الله عنه سنة 68 هـ وقيل: 85 هـ. انظر: الإصابة لابن حجر 4/ 212.
2 مسند الإمام أحمد 5/ 218، والترمذي في السنن 4/ 475، وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني. انظر: صحيح سنن الترمذي 2/ 235.
فلما أفاق أعلن توبته لربه تعالى معترفاً بضعفه وعجزه1. قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} 2.
وقد فهم بعض المتكلمين من هذه الآية نفي رؤية المؤمنين لربهم في الدنيا والآخرة، وأن معنى قوله تعالى:{لَنْ تَرَانِي} يدل على ذلك، ومن هؤلاء الجهمية والمعتزلة3.
وهذا تحريف لكلام الله عز وجل، وتأويل له بالباطل، والحق أن رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة ثابتة بالآيات الظاهرة والأحاديث المتواترة، قال الله عز وجل:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 4. وقال سبحانه مخبراً عن حال الكفار يوم القيامة: {كَلَاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 5. وقال
1 انظر: تفسير ابن كثير 2/ 245.
2 الآية (143) من سورة الأعراف.
3 انظر: كتاب رسائل العدل والتوحيد 1/ 105، 106، وكتاب شرح أصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 232 وما بعدها.
4 الآيتان (22، 23) من سورة القيامة.
5 الآية (15) من سورة المطففين.
جل شأنه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 1. والحسنى هي الجنة، والزيادة هي رؤيتهم ربهم عز وجل، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه صهيب رضي الله عنه قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة قال: يقول الله تعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتجنبنا النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم، وهي الزيادة"2. ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} .
وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أن ناساً قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال:"هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ " قالوا: لا، قال:"إنكم ترون ربكم كذلك"3.
وعن جرير رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: "إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا"4.
1 الآية (2) من سورة يونس.
2 صحيح مسلم بشرح النووي 3/ 17.
3 البخاري مع الفتح 13/ 419، ومسلم بشرح النووي 3/ 25.
4 البخاري مع الفتح 13/ 419.
فهذه الأحاديث تدل دلالة لا تقبل الشك على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وهذا من عظيم نعمة الله عز وجل على عباده المؤمنين يوم القيامة.
أما ما استدل به من نفى الرؤية من قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} فغير صحيح، فالله تعالى قال:{لَنْ تَرَانِي} ولم يقل لا أرى، أو لا تجوز رؤيتي، ثم لو كانت الرؤية غير ممكنة لما سألها موسى عليه السلام، وهو العالم بربه سبحانه، ولذلك لم ينكر عليه ربه سبحانه سؤاله، ولو كان باطلاً لأنكر عليه كما أنكر على نوح عليه السلام سؤاله في ابنه، وإنما بيَّن لموسى عليه السلام عدم قدرته على تحمل رؤيته تعالى في الدنيا، وعلق الرؤية بالجبل الذي لم يتحمل ذلك مع قوته، فكيف بموسى وهو البشر الضعيف أمام ربه تعالى، وإذا كانت الرؤية تجوز للجماد فهي للإنسان المؤمن أولى.
و"لن" لا تدل على تأبيد النفي في الدنيا والآخرة، فإن الله عز وجل قال عن الكفار {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} 1، ثم قال عنهم في الآخرة:{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} 2.
قال ابن مالك:
ومن رأى النفي بلن مؤبداً
…
فقوله أردد وسواه فاعضدا3
1 الآية (95) من سورة البقرة.
2 الآية (77) من سورة الزخرف.
3 انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص 189 – 194، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/ 240 وما بعدها.
الموقف العاشر: بنو إسرائيل وعبادة العجل
لما ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه سبحانه، استغل السامري غيبة موسى عليه السلام وجهل بني إسرائيل، وإِلْفَهم الوثنية أيام فرعون، فصنع لهم من حلي القبط الذي استعاره منهم هيكلاً على صورة العجل1، إذا مرت الريح من داخله أحدثت صوتاً يشبه خوار العجل، وقال لهم: إن هذا هو إله موسى نسيه هنا وذهب يبحث عنه في الطور، وبين لهم هارون أن ذلك كذب مفترى من السامري ليضلهم عن طريق التوحيد الذي جاء به موسى عليه السلام، ولكنهم أصروا على قبول ما جاء به السامري واستمرارهم على ذلك حتى يرجع موسى، وأخبر الله رسوله موسى بما فعل قومه من بعده، فرجع إليهم غاضباً آسفاً لما وقعوا فيه من الشرك بالله تعالى، الذي كان ينهاهم عنه ويحذرهم منه، وعوقب السامري بأن لا يمسه أحد ولا يمس أحداً في الدنيا.
قال الله عز وجل: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ
1 انظر: فتح القدير للشوكاني 2/ 247.
أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.
وقال جل شأنه: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي
1 الآيات من (148 – 153) من سورة الأعراف.
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} 1.
وعجب أمر بني إسرائيل الذين ما كادوا يفلتون من قبضة فرعون وبطشه واستعباده لهم أنقذهم الله من الشرك والكفر إلى التوحيد والإيمان على يد رسوله عليه السلام، فإذا هم يريدون استبدال التوحيد بالشرك ويطلبون موسى عليه السلام إلهاً حين رأوا قوماً يعبدون الأصنام، ويغيب عنهم موسى بعض الوقت فيتخذون العجل إلهاً، ولما ذهب بهم إلى ميقات ربه ليعتذروا عما حصل منهم، قالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، وذلك إِلْفهم الوثنية، وما تأصل في نفوسهم من المكر والخداع، وهو باق فيهم، فهم الذين حرفوا الكتب، وقتلوا الأنبياء والرسل، وهم أهل المكر والخداع قديماً وحديثاً.
1 الآيات من (83 – 97) من سورة طه.