المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: منهجه عليه الصلاة والسلام في حماية توحيد الألوهية - حماية الرسول صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد

[محمد بن عبد الله زربان الغامدي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

-

- ‌الفصل الأول: نماذج من دعوة الأنبياء والرسل (عليهم الصلاة والسلام)

- ‌المبحث الأول: دعوة نوح عليه الصلاة والسلام

- ‌المبحث الثاني: دعوة هود عليه السلام

- ‌المبحث الثالث: دعوة رسول الله صالح عليه الصلاة والسلام

- ‌المبحث الرابع: دعوة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام

- ‌المبحث الخامس: دعوة موسى عليه الصلاة والسلام

- ‌المبحث السادس: دعوة عيسى عليه الصلاة والسلام

- ‌الفصل الثاني: دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: حالة العرب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثالث: بدء دعوته صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: التوحيد أول واجب على العبد

-

- ‌الفصل الثالث: أنواع التوحيد

- ‌المبحث الأول: توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثالث: توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الرابع: منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى التوحيد

- ‌الفصل الرابع: أنواع الشرك

- ‌المبحث الأول: الشرك الأكبر

- ‌المبحث الثاني: الشرك الأصغر

- ‌المبحث الثالث: الشرك الخفي

-

- ‌الفصل الخامس: منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في حماية التوحيد

- ‌المبحث الأول: منهجه عليه الصلاة والسلام في حماية توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: منهجه عليه الصلاة والسلام في حماية توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثالث: حماية الرسول صلى الله عليه وسلم توحيد الأسماء والصفات

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثاني: منهجه عليه الصلاة والسلام في حماية توحيد الألوهية

‌المبحث الثاني: منهجه عليه الصلاة والسلام في حماية توحيد الألوهية

كان لتوحيد الألوهية والعبادة الاهتمام الأول في العناية والحماية، فهو الذي كان ينكره المشركون ويردّون دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام إليه، ويعجبون منها، كما قال الله تعالى حكاية عن المشركين:{أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 1.

ولهذا فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التوحيد أتم بيان ودعا إليه أعظم دعوة، وجلُّ القرآن الكريم نزل ليقرر هذا النوع من التوحيد ويدعو إليه، وجاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك أعظم جهاد، وقام في حمايته وصيانة حماه حتى أتاه اليقين، بل إنه وهو في الرمق الأخير، وهو يعالج نزع الروح يبين لأمته أهمية هذا التوحيد، كما ربى أصحابه رضي الله عنهم على ذلك ليكونوا جنودا وحماة لهذا التوحيد ويسلّموا هذه الأمانة إلى من بعدهم صافية نقية، وقد كانوا كذلك رضي الله عنهم وأرضاهم.

وفيما يلي بعض الأمثلة من حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا النوع من التوحيد وبيانه والنهي عن كل ما يضاده من شرك أو بدعة أو يكون وسيلة وذريعة إلى ذلك وإن لم يكن في نفسه شركا.

1 الآية 5 من سورة ص.

ص: 287

أولا: النهي عن الغلو والإطراء

الغلو أصل كل شر وبلاء في الدين، فهو أصل الشرك والانحراف الذي صار طريق كل هالك وسبيل كل ضال، والإطراء باب من أبوابه ووسيلة من أعظم وسائله، فالغلو هو الذي كان سببا في وقوع الشرك في الأرض بعد أن لم يكن، ثم صار بعد أساس كل شرك يقع في كل زمان ومكان،

فهو سبب كفر النصارى، وشركهم الذين قال الله عنهم:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} 1.

ولهذا حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من ذلك، ومن كل وسيلة قد توصل إليه خوفا على أمته وحماية لجناب التوحيد، فنهاهم عن الغلو في الدين وحذرهم منه، وعن إطرائه أو تجاوز الحد في مدحه والثناء عليه، لئلا يقعوا فيما وقع فيه غيرهم، فكان سبب هلاكهم، فذم التنطع وحذر منه وهو أول سهم من سهام الغلو، فقال صلى الله عليه وسلم:"هلك المتنطعون" 2 قالها ثلاثا.

وكان صلى الله عليه وسلم لا يحب المتعمقين، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم فقال رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله، قال: "وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقين".

1 الآية 171 من سورة النساء.

2 صحيح مسلم بشرح النووي 16/220.

ص: 288

فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال أقبل بهم يوما ثم يوما، ثم أراد الهلاك، فقال:"لو تأخر لزدتكم"، كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا"1.

وكان الصحابة أقل الأمة تكلفا، اقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} 2.

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من كان مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوبا واعمقها علما، وأقلها تكلفا، اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم وسيرتهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"3.

وقال أنس رضي الله عنه:"كنا عند عمر رضي الله عنه فسمعته يقول: نهينا عن التكلف".

وقال مالك: قال عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمور بعده سننا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر فيما خالفهما، من اقتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا"4.

1 صحيح البخاري مع الفتح 4/206.

2 الآية 86 من سورة ص.

3 ابن قيم الجوزية مدارج السالكين 3/436.

4 الآجري – الشريعة 1/48.

ص: 289

وقال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب كان يقول:"سُنتْ لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتُرِكتم على الواضحة، إلا أن تميلوا بالناس يمينا وشمالا"1.

وقال صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"2.

فأخبر أن الغالين يحرفون ما جاء به، والمبطلين، ينتحلون بباطلهم غير ما كان غير ما كان عليه، والجاهلون يتأولونه على غير تأويله، وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاثة، فلولا أن الله تعالى يقيم لدينه من ينفي عنه ذلك لجرى عليه ما جرى على أديان الأبياء مثله من هؤلاء3.

وحذر عليه الصلاة والسلام من الغلو فقال: "إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" 4، وسد الذرائع الموصلة إليه، فنهى عن الإطراء وقال:"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"5.

1 انظر إغاثة اللهفان 1/159.

2 الكامل لابن عدي 1/152،153، من طرق كثيرة ضعيفة كما ذكر ذلك الدارقطني وأبو نعيم، ويمكن أن يتقوى بتعدد الطرق.

3 ابن قيم الجوزية، إغاثة اللهفان 1/159.

4 مسند الإمام أحمد 1/215، وغيره، حديث صحيح.

5 تقدم تخريجه ص 289.

ص: 290

فقد كان الإطراء والغلو سببا لكفر النصارى وقولهم في عيسى عليه السلام غير الحق.

وأخبر عن هلاك المتنطعين فقال: "هلك المتنطعون"1.

وأنكر على أصحابه المبالغة في المدح والثناء عليه خوفا عليهم من مجاوزة الحد إلى النهي عنه، وحماية لعقيدة التوحيد من أن يمسها دنس واحتياطا في الحفاظ عليها حتى من الأمور التي قد لا تكون في الواقع شركا أو بدعة، روى عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال:"انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: "السيد الله تبارك وتعالى"، قلنا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا، فقال: "قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان" 2.

وروى أنس رضي الله عنه: أن أناسا قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال:"يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل"3.

فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أكمل الله له مقام العبودية صار يكره أن يمدح صيانة لهذا المقام، وأرشد أمته إلى ترك ذلك نصحا لهم وحماية لمقام التوحيد أن يدخله ما يفسده، أو يضعفه من الشرك ووسائله4.

1 صحيح مسلم بشرح النووي 334/2055.

2 مسند الإمام أحمد 4/24، 25، حديث صحيح.

3 مسند الإمام أحمد 3/153، حديث صحيح.

4 سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، تيسير العزيز الحميد ص 732، 733.

ص: 291

والنهي عن الغلو عام في كل أمر من أمور الدين وأول ذلك أمر العقيدة التي هي أساس الدين وأصله.

والنهي عن الإطراء ومجاوزة الحد في شخصه عليه الصلاة والسلام، وغيره من باب أولى أيا كان ذلك الغير ملكا أو نبيا أو صالحا أو غير ذلك، وما أكثر من استزلهم الشيطان فوقعوا فيما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل، وأضلهم عن الهدى بدعوى المحبة والوسيلة، والتقرب إلى الله تعالى، حتى صدق على كثير منهم قوله تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} 1.

وقوله: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 2.

وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 3.

1 الآيات من 103-105 من سورة الكهف.

2 من الآية 30 من سورة الأعراف.

3 الآية 37 من سورة الزخرف.

ص: 292

وإنما المحبة الصحيحة والوسيلة الصالحة في اقتفاء أثر رسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين لهم بإحسان والسير على طريقهم الذي هو صراط الله المستقيم كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.

وكما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} 2.

وقال بعد ذكر عدد من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} 3.

1 الآية 31 من سورة آل عمران.

2 الآية 21 من سورة الأحزاب.

3 الآية 90 من سورة الأنعام.

ص: 293

ثانيا: زيارة القبور والنهي عن اتخاذها مساجد:

وهذا الموضوع له أهمية عظيمة نظرا لما له من الأثر المباشر في عقيدة التوحيد قديما وحديثا، وما حصل بسببه من الفتن التي أدت بكثير من أهلها إلى الشرك بالله سبحانه وتعالى، ولهذا فقد كان له أهميته العظيمة، ومن أهم ما اهتم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيّن الهدى فيه وأمر به، وحذر من الانحراف عنه وما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة وفتن عظيمة.

والكلام عن هذا الموضوع الهام يتلخص في عدة أمور:

الأمر الأول: الحكمة من زيارة القبور

لقد بيّن عليه الصلاة والسلام الحكمة التي من أجلها شرعت زيارة القبور وهي أمران:

أحدهما: تذكر الآخرة، والاعتبار بحال أهل القبور وما سينتهي إليه كل إنسان كما قال صلى الله عليه وسلم:"فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت"1.

فقد بيّن عليه الصلاة والسلام الغاية من زيارة القبور وأنها تذكر بالآخرة، وما ينبغي للزائر أن يكون قصده من زيارته للقبور، وهذه حكمة عظيمة تبعث في نفس المؤمن الاستعداد للموت والدار الآخرة، وتحذر من الغفلة والاغترار بالدنيا، وهذه حكمة عظيمة لو عقلها المسلمون.

1 صحيح مسلم بشرح النووي 7/46.

ص: 294

ثانيهما: من الحكمة في زيارة القبور: الدعاء للميت والاستغفار له والترحم عليه، وهذه حكمة أخرى من زيارة القبور، وهي حق للميت على الحي، إذ الميت قد انقطع عمله، وهو في أمس الحاجة وأشدها إلى من يدعو الله له بالمغفرة والرحمة.

فالزائر للقبور على الوجه المشروع تتحقق له هذه الحكمة، ويجمع بين خيرين له وللميت، فله بتذكر الآخرة والاستعداد لها، ونيل ثواب الزيارة وأجرها، وللميت بما حصل له من الاستغفار والدعاء.

هذا هو الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور والحكمة منها.

ولكن المشركين عكسوا ذلك فجعلوا الزيارة لدعاء الميت والتوسل به وليس للدعاء له فيعود الزائر مأزورا لا مأجورا، فيجمع بين شرين، ويحرم الميت من حصول الدعاء له بسبب مخالفة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته1.

الأمر الثاني: الزيارة الشرعية

بين رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية الزيارة الشرعية للقبور بقوله وعمله، وعلمها أصحابه وعملوا بها كما علمهم عليه الصلاة والسلام، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم"، قالت: قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: "قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم

1 انظر إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن قيم الجوزية 1/198-199.

ص: 295

لاحقون" 1.

وعنها رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل البقيع الغرقد"2.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن زيارة القبور أول الأمر سدا للذريعة، ثم أذن فيها حين تمكن التوحيد في القلوب، وبين الزيارة المشروعة وأمر بها، ونهى عن كل ما يخالفها وحذر منه أشد التحذير.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زوروا القبور فإنها تذكر الموت"3.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: "استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزورها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت" 4.

وعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجرا"5.

1 صحيح مسلم بشرح النووي 7/44.

2 صحيح مسلم بشرح النووي 7/40، 41.

3 صحيح مسلم بشرح النووي 7/46.

4 تقدم تخريجه ص316.

5 مسند الإمام أحمد 1/452، 5/361. وقد أخرج الشافعي في الأم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا" وإسناده صحيح. انظر الأم 1/278.

والهجر: هو الفحش، يقال: أهجر في منطقة يهجر اهجارا إذا أفحش. انظر النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 5/245.

ص: 296

فقد بين صلى الله عليه وسلم الزيارة الشرعية قولاً وعملاً أتم بيان، وأتبعه على ذلك أصحابه رضي الله عنهم في حياته وبعد مماته.

فالزيارة الشرعية يقصد بها السلام عليهم والدعاء لهم، كما يقصد الصلاة على أحدهم إذا مات فيصلى صلاة الجنازة، فهذه الزيارة الشرعية1.

فالحي محتاج إلى اتباع السنة، والحصول على الأجر والثواب، وتذكر الآخرة، والميت محتاج أمس الحاجة إلى من يدعو له ويستغفر أو يترحم عليه، وتحقيق هاتين المصلحتين كانت هدف الشارع من مشروعية زيارة القبور، وما خرج عن ذلك فهو ابتداع لا اتباع وشرك أو ذريعة له.

فهذه الزيارة الشرعية المستفادة من الأحاديث النبوية، وعليها درج الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان، إنما فيها التذكر بالقبور والاعتبار بأهلها والدعاء لهم والترحم عليهم، وسؤال الله العفو عنهم، فمن ادعى فيها غير هذا طولب بالبرهان، وأنى له ذلك، ومن أين يطلبه، بل كذب

1 ابن تيمية – الفتاوى 1/236.

انظر النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 5/245.

ص: 297

وافترى، وقفا ما ليس له به علم، بل إن العلوم الشرعية دالة على ضلاله وجهله.

الأمر الثالث: الزيارة غير الشرعية

وهي إما شركية كزيارة المشركين للقبور لدعاء الموتى وسؤالهم الحوائج من دون الله عز وجل، واعتقاد أنهم يقدرون على ذلك.

وأما بدعية مفضية إلى الشرك كتحري الدعاء عند القبور واعتقاد أنه افضل منه في مكان آخر، أو أن التوسل بهم إلى الله تبارك وتعالى يقتضي الإجابة.

وكلا الزيارتين باطلتان مخالفتان لما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور، وما سار عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم، كما تقدم من الأحاديث الصريحة الصحيحة.

إذ الناس في هذا الباب – أعني زيارة القبور – ثلاثة أقسام: قوم يزورون1 الموتى فيدعون لهم، وهذه هي الزيارة الشرعية، وقوم يزورونهم يدعون بهم وهؤلاء المشركون في الألوهية والمحبة، وقوم يزورونهم فيدعونهم أنفسهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" 2، وهؤلاء المشركون في الربوبية3.

1 حافظ بن أحمد حكمي – معارج القبول 1/479.

2 مسند الإمام أحمد 2/246. وهو حديث صحيح.

3 تقي الدين المقريزي – تجريد التوحيد المفيد ص 19-20.

ص: 298

وهذه الزيارة هي التي فتحت أبواب الشرك والبدع على المسلمين، إذ جعل أهلها القبور مقصدا لمن أراد الدعاء وطلب الحاجات وتفريج الكربات، وعظموها أشد من تعظيم بيوت الله تعالى فيعطونها من التعظيم والاحترام والخشوع والخضوع ما لا يفعلون بعضه في المساجد التي هي مكان العبادة والصلاة وذكر الله وسؤاله، فبذلك سعوا إلى عمارة القبور والمشاهد والبناء عليها واسراجها والدعوة إليها، وخراب المساجد وهجرها، وتقليل مكانتها وعظمتها في نفوس المسلمين.

وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا له مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك وسماه "مناسك حج المشاهد" مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عبادة الأصنام، فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده، من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه، ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره1.

والذين هذا حالهم في زيارتهم للقبور قد تنكبوا الصواب، وغفلوا عن الرشد، وكان أولى لهم من زيارة قبور من يعتقدون صلاحهم للتوسل كان أولى لهم أن يقتدوا بهم في أعمالهم ويتبعوا سبيلهم، يخافون من الله كما يخافون، ويرجون رحمته كما كانوا يرجون. قال الله جل شأنه:

1 ابن قيم الجوزية – إغاثة اللهفان 1/197.

ص: 299

{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 1.

وقبلها قوله سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 2.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وهؤلاء الفضلاء من الأئمة إنما ينبغي محبتهم واتباعهم، وإحياء ما أحيوه من الدين، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة والرضوان، ونحو ذلك.

وأما اتخاذ قبورهم أعيادا، فهو مما حرمه الله ورسوله، واعتياد قصد هذه القبور في وقت معين، أو الاجتماع العام عندها في وقت معين، وهو اتخاذها عيدا –كما تقدم – ولا أعلم بين المسلمين، أهل العلم في ذلك خلافا، ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة، فإن هذا من التشبه بأهل الكتابين، الذي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه كائن في هذه الأمة.

وأصل ذلك إنما هو اعتقاد فضل الدعاء عندها، وإلا فلو لم يقم هذا الاعتقاد بالقلوب انمحي ذلك كله، فإذا كان قصدها للدعاء يجر هذه المفاسد كان حراماً، كالصلاة عندها وأولى، وكان ذلك فتنة للخلق، وفتحا لباب الشرك، وإغلاقا لباب الإيمان"3.

1 الآية 57 من سورة الإسراء.

2 الآية 56 من سورة الإسراء.

3 ابن تيمية – اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 732 تحقيق د. ناصر العقل.

ص: 300

ولقد كان حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شديدا، فبين المشروع من ذلك بياناً واضحاً جلياً وأمر به وحث عليه، وحذر مما يخالفه أو يكون وسيلة وذريعة إليه أشد التحذير، إذ هو سبب كل شر، وأصل كل شرك في الأرض منذ ظهر الشرك أول ما ظهر في قوم نوح عليه السلام.

الرابع: بعض ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحذير والنهي عن ذلك:

فمن ذلك ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وأم حبيبة رضي الله عنها ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال:"أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجد، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله" 1 متفق عليه.

ولهما أيضا عنها رضي الله عنها قالت: "لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة على وجهه فإذا اغتم كشفها فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما صنعوا ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا2.

وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن

1 البخاري مع الفتح 1/531، ومسلم بشرح النووي 1/375.

2 البخاري مع الفتح 1/532، ومسلم بشرح النووي 1/377.

ص: 301

من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك" 1.

واتخاذ القبور مساجد يشمل ثلاثة معاني:

الأول: السجود إليها واستقبالها عند الصلاة والدعاء

فقد كانوا يسجدون لها تعظيما، ويتوجهون إليها في صلاتهم، فلذلك لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهى أمته عن مشابهتهم بعمل مثل هذه الأعمال كما جاء في الأحاديث السابقة وكما في حديث أبي مرثد الفنوي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها"2.

الثاني: بناء المساجد على القبور وقصد الصلاة فيها

وهذا يشمل بناء المساجد على القبور أو إدخال القبور في المساجد، فالعلة الموجودة للنهي قائمة على كلا المعنيين، وقد ذكر البخاري رحمه الله تعالى ذلك في بابين:

أحدهما: باب ما يكره من اتخاذ القبور، وأورد تحته حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم، والذي فيه لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود والنصارى، وأثرا عما حدث لامرأة الحسن بن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما ونصه: "لما مات الحسن بن الحسن بن عليّ رضي الله عنهم ضربت امرأته

1 تقدم تخريجه ص 289.

2 صحيح مسلم بشرح النووي 3/62.

ص: 302

قبة على قبره سنة، ثم رُفعت، فسمعوا صائحا يقول: ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه الآخر: بل يئسوا فانقلبوا".

والآخر: باب بناء المسجد على القبر، وأورد فيه حديث عائشة رضي الله عنها فيما رأته أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما في أرض الحبشة، وقد تقدم نصه.

وفي شرح حديث عائشة رضي الله عنها في الباب الأول أورد الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى قول الكرماني: "مفاد الحديث منع اتخاذ القبر مسجدا، ومدلول الترجمة اتخاذ المسجد على القبر، ومفهومهما متغاير، ويجاب بأنهما متلازمان وإن تغاير المفهوم"1.

الثالث: من معاني اتخاذ القبور مساجد: الصلاة على القبور والسجود عليها: كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبور أو يقعد عليها أو يصلي عليها"2.

والأحاديث الواردة في النهي عن ذلك تشمل هذه المعاني الثلاثة لأنها جميعا مما ورد النهي عنه، وهي إما شرك أو ذريعة إليه.

وتخصيص قبور الأنبياء في كثير من الأحاديث، لأن اتخاذها مساجد وقصد الصلاة والدعاء عندها أكثر من غيره، وتعلق الناس بها أعظم. ومن الأحاديث في التحذير من ذلك إضافة إلى ما سبق:

1 فتح الباري شرح صحيح البخاري 3/200، 201، 208.

2 مسند أبي يعلى 2/66، وإسناده صحيح.

ص: 303

حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"1. وقد استجاب الله دعاء رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وحمى قبره من أن يتخذ عيدا أو وثنا، فما هذه الحماية التي يسخر الله لها من شاء إلا استجابة له عليه الصلاة والسلام، قال ابن القيم الجوزية في النونية:

فأجاب رب العالمين دعاءه

وأحاطه بثلاثة الجدران

حتى غدت أرجاؤه بدعائه

في عزة وحماية وصيان

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"2. فقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا" معناه: بعدم الصلاة وقراءة القرآن والدعاء فيها، وهذا حث منه صلى الله عليه وسلم على إعطاء البيوت قسطا من نوافل العبادات لما في ذلك من الحكم والمنافع العظيمة، ومفهوم هذا القول منه صلى الله عليه وسلم أن القبور يجب أن تكون خالية من هذه الأمور.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون

1 تقدم تخريجه ص 321.

2 مسند الإمام أحمد 2/367 وهو حديث صحيح.

ص: 304

من النصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة"1

وعن ابن عمر رضي الله عنهما مر فوعا: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا"2. وعن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه" 3.

وهان الحديثان يدلان على ما دل عليه الحديث الأول من النهي عن تشبيه البيوت بالمقابر في عدم الصلاة والدعاء وقراء القرآن فيها، والحث على تخصيص شيء من النوافل في البيوت، وذلك يتضمن – كم سبق ذكره – النهي عن فعل شيء من ذلك عند القبور.

وعن عبد الله بن مسعود صلى الله عليه وسلم أن رسول الله قال: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون قبور أنبيائهم مساجد"4.

وعن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه بناء"5.

ومن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة

1 ابن تيمية – اقتضاء الصراط المستقيم 2/657ت د. ناصر العقل.

2 صحيح البخاري مع الفتح 1/528، وصحيح مسلم بشرح النووي 6/67.

3 صحيح مسلم بشرح النووي 6/68.

4 مسند أحمد بن حنبل 1/435.

5 مسلم بشرح النووي 2/ 667.

ص: 305

مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" 1.

وهذه الأحاديث وغيرها كثير كلها تنهى وتحذر أشد التحذير من الغلو في القبور والتوسل بأهلها، واتخاذها مساجد ومجاوزة الحد المشروع في تعظيمها وتخصيصها بالدعاء، واعتقاد أفضلية شيء من العبادة عندها، واتخاذها أعيادا ورفعها والبناء عليها وتجصيصها واتخاذ السرج عليها، وشد الرحال لزيارتها- عدا ما ورد في الحديث السابق- وكل ما خرج عن الحدّ الشرعي الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل ذلك كان حرصا منه عليه الصلاة والسلام على عقيدة التوحيد لتبقى طاهرة صافية نقية، وسد كل طرق الشرك أو ذرائعه حتى ولو لم تكن شركا في نفسها، لئلا يمس جانب هذه العقيدة دنس من الشرك، أو بدعة، وعلى الأخص ما يتعلق بالقبور وأهلها فقد اهتم به أعظم اهتمام حتى في اللحظات الأخيرة من حياته عليه الصلاة والسلام، وفي وقت النزع والاحتضار لأن هذا الباب هو الذي دخل منه الشرك على الناس على مدار التاريخ وأخطر معول يهدم بناء التوحيد الذي بناه الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام بوحي من ربهم جل شأنه وتعالى ذكره، وتوحيد العبادة على وجه الخصوص وهو التوحيد الذي كان أول ما دعا غليه الرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام أممهم وقامت بينهم الخصومة فيه بل وقد يفضي غلو بعض الناس في القبور وأهلها إلى الإخلال بتوحيد الربوبية والعياذ بالله تعالى.

1 البخاري مع الفتح 3/63، ومسلم بشرح النووي 9/167، 168.

ص: 306

وكما حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عن الشرك وذرائعه في هذا الباب الخطير بين الطريق المشروع ووضحه ودعا إليه الناس جميعا، وسار عليه هو وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، ورباهم حماة لهذه العقيدة مجاهدين في سبيلها، ودعاة إليها، على ذلك المنهج القويم والصراط المستقيم الذين أنزله ربهم تبارك وتعالى، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم.

"فلو كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها والتبرك بها فضيلة أو سنة أو مباحا لنصب المهاجرون والأنصار علما لذلك، ودعوا عنده، وسنوا ذلك لمن بعدهم، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخلوف التي خلفت بعدهم، وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير، وهم متوافرون، فما منهم من استغاث عند قبر صاحب، ولا دعاه ولا دعا به، ولا دعا عنده ولا استشفى به، ولا استسقى به ولا استنصر به، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه1.

بل الثابت ضد ذلك أنهم كانوا ينهون عن اقل من ذلك، كما ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قطع الشجرة التي بايع تحتها أصحاب رسول الله: وكما أنكر رضي الله عنه على أنس صلاته عند القبر، وقال له:"القبر، القبر"2.

1 ابن قيم الجوزية – إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 1/204.

2 البخاري مع الفتح 1/523.

ص: 307

وكما فعل الصحابة رضي الله عنهم بقبر دانيال لما فتحوا تستر1، إذا حفروا قبورا متفرقة ودفنوه ليلا في إحداها وسووا القبور جميعا لئلا يعرفه الناس2.

وهذه ثمرة تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الأخيار الذين كانوا جنودا أقوياء لهذه العقيدة، وحراسا أوفياء لها، يحبون ويعظمون ما أحبه الله ورسله وعظمه ويكرهون ويحرمون ما كرهه الله ورسوله وحرمه.

وإنما دين الله تعالى تعظيم بيوت الله وحده لا شريك له، وهي المساجد التي تشرع فيها الصلوات جماعة وغير جماعة، والاعتكاف وسائر العبادات البدنية والقلبية من القراءة والذكر والدعاء لله، وقال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 3.

وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 4.

1 تستر: بضم التاء الأولى وفتح الثالثة وبينهما سين ساكنة: مدينة بالإقليم خوزستان فتحها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. انظر معجم البلدان لياقوت الحموي 2/29.

2 انظر كتاب اقتضاء الصراط المسقيم 1/680 ت د. ناصر العقل، وإغاثة اللهفان لابن قيم الجوزية 1/203.

3 الآية من سورة الجن.

4 الآية 29 من سورة الأعراف.

ص: 308

ثالثا: التبرك:

وهو اعتقاد البركة في شيء من الأشياء والتماسها منه سواء كان ذلك الشيء شخصا، أو غيره من شجر وحجر، وبقعة، وقبر وغير ذلك.

وهو باب خطير، دخلت منه على الإسلام والمسلمين شرور كثيرة لبست ثوب الحق والخير والاتباع، فزلت أقدام كثير من الناس، ووقع في الشرك كثير منهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولفقت لذلك الأكاذيب وزوّرت في ذلك أحاديث نسبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا وبهتانا، ونسجت الأقاويل والأباطيل، وعزيت إلى كثير من سلف الأمة وعلمائها زورا وضلالا، كما كان المشركون من الأمم السابقة يعكفون على قبور الأنبياء والصالحين ويتخذونها أعيادا ويعتقدون فيها جلب البركة والنفع ودفع الضر، وسرى ذلك في هذه الأمة مصدقا لقوله صلى الله عليه وسلم:"لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضبٍّ لدخلتموه"، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ "1.

وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه الآتي ذكره "الله أكبر إنها السنن".

"ولقد عمت البلوى بذلك وطمت في كل زمان ومكان حتى في هذه الأمة، لاسيما في زماننا هذا، ما من قبر ولا بقعة يذكر لها شيء من الفضائل، ولو كذبا، إلا وقد اعتادوا الاختلاف إليها والتبرك بها حتى

1 البخاري مع الفتح 6/495، ومسلم بشرح النووي 16/219، 220.

ص: 310

جعلوا لها أوقاتا معلومة يفوت عيدهم بفواتها، ويرون من أعظم الخسارات أن يفوت الرجل ذلك العيد المعلوم، وآل بهم الأمر إلى أن صنفوا في أحكام حجهم إليها كتبا سموها مناسك حج المشاهد، ومن أخل بشيء منها فهو عندهم أعظم جرماً ممن أخلَّ بشيء من مناسك الحجّ إلى بيت الله الحرام، وجعلوا لها طوافا معلوما، كالطواف بالبيت الحرام، وشرعوا تقبيلها كما يقبل الحجر الأسود حتى قالوا: إن زحمت فاستلم بمحجن أن أو أشر إليه، قياسا على فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر الأسود، وشرعوا لها نذروا من المواشي والنقود، ووقفوا عليها الوقوف من العقارات والحرث وغيرها، وغير ذلك من شرائعهم الشيطانية، وقواعدهم الوثنية"1.

وكما حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيان الطريق المشروع فيما يتعلق بالقبور، وحذر من مخالفته واهتم بذلك أعظم اهتمام، كذلك كان عليه الصلاة والسلام في أمر التبرك وارتباطه بالقبور واضح جلي، إذ هو هدف كثير ممن يقصد القبور والمشاهد ويتمسح بها ويتحرى الصلاة عندها.

روى أبو واقد الليثي رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل حنين، ونحن حديثوا عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها – ذات أنواط – فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، إنها

1 حافظ حكمي – معارج القبول 1/475-476.

ص: 311

السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنوا إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، لتركبن سنن من كان قبلكم" 1.

فقد شبه عليه الصلاة والسلام قول أصحابه – اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط – بقول بني إسرائيل لموسى عليه الصلاة والسلام بعد خروجهم من البحر، وقد مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم فطلبوا من موسى عليه الصلاة والسلام أن يجعل لهم آلهة مثل أولئك كما قال الله عز وجل:{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 2.

"فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلقين عليها سلاحهم، فكيف بما هو أعظم من ذلك من مشابهتهم المشركين، أو هو الشرك بعينه؟ فمن قصد بقعة يرجوا الخير بقصدها، ولم تستحب الشريعة ذلك، فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواء كانت البقعة شجرة أو عين

1 سنن الترمذي 4/475، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/235.

2 الآيات 138- 140 من سورة الأعراف.

ص: 312

ماء أو قناة جارية، أو جبلا، أو مغارة، وسواء قصدها ليصلي عندها أو يدعوا عندها، أو ليذكر الله سبحانه عندها، أو ليتنسك عندها، بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به لا عينا ولا نوعا.

وأقبح من ذلك أن ينذر لتلك البقعة دهنا لتنور به ويقال: إنها تقبل النذر، كما يقال بعض الضالين، فإن هذا النذر نذر معصية باتفاق العلماء، ولا يجوز الوفاء به، بل عليه كفارة يمين عند كثير من أهل العلم"1.

وقد لا يكون الدافع أو الأمر شركا، ولا يقصد به ذلك ولكن الشيطان ما يلبث أن يزين للناس تلك المخالفة ويحببها إلى قلوبهم، وإن لم يجد لها أهلا في جيل وجد في الجيل الآخر، حتى يصل بأهلها إلى الشرك بالله تعالى، ثم يتبرأ منهم كما أخبر الله عنه، ولأجل ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على حماية هذه العقيدة، وسد كل ثغرة مهما كانت صغيرة لئلا تكون مدخلا للشيطان وهو يعلم عليه الصلاة والسلام أن الصحابة رضي الله عنهم، لم يقصدوا بطلبهم ذات أنواط أن يفعلوا شركاً بعد أن أنعم الله عليهم بنعمة التوحيد، ولم يقصدوا ما قصد غيرهم، بل ظنوا ذلك أمرا محبوبا أرادوا التقرب به، وهم أجل من أن يقصدوا مخالفته صلى الله عليه وسلم، ولكنه مع ذلك استعظم طلبهم ذلك وشبهه بطلب بني إسرائيل من

1 ابن تيمية – اقتضاء الصراط المستقيم تحقيق د. ناصر العقل 2/644.

ص: 313

موسى عليه الصلاة والسلام، وسمى تعظيم هذه الشجرة والعكوف عندها تألها، خوفا عليهم من الشرك، وحماية لجناب العقيدة وسدا لكل أبواب الشرك وذرائعه. "فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله تعالى، مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها، فما الظن بالعكوف حول القبر والدعاء به ودعائه، والدعاء عنده، فأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر؟ لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون. قال بعض أهل العلم من أصحاب مالك: فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها"1.

فاعتقاد حصول البركة من غير الله تعالى من قبر أو صنم أو شجرة، أو غيرها شرك حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا تحري الدعاء في هذه الأماكن لأجل القبول والبركة.

والتبرك بآثار الصالحين، واعتقاد ذلك فيهم، لم يفعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا التابعون لهم بإحسان، وهم القدوة والأسوة، إلا ما كان يفعله الصحابة رضوان الله عليهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وحده دون غيره في حياته عليه الصلاة والسلام، فإن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته خصائص لم يشاركه فيها غيره، وهو المقطوع عليه الصلاة والسلام، وهذا هو التبرك المشروع، ولم يعرف عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يفعلون ذلك مع غيره

1 ابن قيم الجوزية – إغاثة اللهفان 1/205.

ص: 314

عليه الصلاة والسلام، مهما كان فضله ومنزلته، وهم خير الأمة وأفضل الناس بعد الأنبياء والرسل، وأشدهم تمسكا، وخيرهم إيمانا وأحسنهم وأصفاهم عقيدة، ولو كان ذلك خيرا لكانوا اسبق الناس إليه وأحرصهم عليه رضوان الله تعالى عليهم، بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رباهم وعلمهم كل خير وحذرهم من كل شر، فكان يرشدهم ويوجههم ويبين لهم كما بين لهم عند ما طلبوا منه ذات أنواط وظنوا ذلك حسنا.

فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسنا، من النبي صلى الله عليه وسلم حتى بين لهم أن ذلك كقول بني إسرائيل:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} فكيف لا يخفى على من هو دونهم في العلم والفضل بأضعاف مضاعفة، مع غلبة الجهل وبعد العهد بآثار النبوة، بل عليهم عظائم الشرك في الإلهية والربوبية، فأكثروا فعله، واتخذوه قربة1. ومن الناس من يترك عمل الصالحات ويتعلق بالآثار والأشخاص معتقدا البركة فيهم، ويفوت عمره في طلب ذلك، وإنما البركة والخير كل الخير في الإيمان الصادق والعمل الصالح والعلم الصحيح من كتاب الله تعالى والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

1 عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – فتح المجيد ص 114.

ص: 315

رابعا: الرقى والتمائم:

والمقصود بالرقى غير المشروع منها وهي التي تسمى العزائم، التي يعتقدون فيها دفع الآفات والحفظ من المكروهات، وهي المقصود في قول الرسول صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن مسعود رضي الله عنه:"إن الرقى والتمائم والتولة شرك"1.

أما ما كان منها من المشروع والمأثور من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدخل في ذلك، لما جاء في الحديث عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا"2.

والرقى المشروعة هي التي توفرت فيها شروط ثلاثة:

الأول: أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته.

الثاني: أن تكون باللسان العربي وبمعان معروفة.

الثالث: أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله عز وجل.

أما التمائم: فهي جمع تميمة وهي: ما يعلق عادة على الصبيان من خرز أو عظام أو جلد أو نحو ذلك لاعتقاد دفع العين عنهم، وقد نهي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فيها من شرك، أو ذريعة إليه.

1 مسند الإمام أحمد بن حنبل 1/381. وقد صححه الحاكم على شرط الشيخين وأقره الذهبي.

2 صحيح مسلم بشرح النووي 1/187.

ص: 316

أما التولة: بكسر التاء وفتح الواو فهي ما يصنع بزعم أنه يحبب المرأة إلى زوجها1، كما فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه قالوا: يا أبا عبد الرحمن هذه الرقى والتمائم قد عرفناها، فما التولة؟ قال:"شيء تصنعه النساء يتحببن إلى أزواجهن".

وقال الحافظ رحمه الله تعالى: "التولة بكسر التاء وفتح الواو واللام مخففا شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها وهو ضرب من السحر"2.

ومن ذلك ما يعلق على الإبل من قلائد ونحوها باعتقاد أنه ترد عنها العين، كما جاء في الحديث عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه كان مع رسول الله في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً:"أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة إلا قطعت"3.

وهذه الأحاديث وغيرها التي تنهى عن هذه الأمور، التي فيها توكل على غير الله تعالى، واعتقاد جلب نفع أو دفع ضر من دونه عز وجل، والله تعالى يقول:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 4.

1 انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 1/200.

2 انظر: تيسير العزيز الحميد ص 169.

3 صحيح البخاري مع الفتح 6/141 ومسلم بشرح النووي 14/95.

4 الآية 107 من سورة يونس.

ص: 317

ويقول جل شأنه: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 1.

ويقول جل جلاله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} 2.

وأمر سبحانه رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يقول لمن توكل والتجأ إلى غيره من دونه لجلب نفع أو دفع ضر {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 3.

ولما لهذه من الكثرة والانتشار بين الناس قديما وحديثا، وما يعتقد أن تفضي إليه من مخالفة لعقيدة التوحيد، ومنافاة لصحة التوكل على الله عز وجل واعتقاد في غيره فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه، فقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على حماية التوحيد من مثل الأمور التي قد يتساهل فيها المرء مع خطورتها.

1 الآية 106 من سورة يونس.

2 الآيتان 17، 18 من سورة الأنعام.

3 الآية 56 من سورة الإسراء.

ص: 318

فمن تعلق بالله، وأنزل حوائجه به، والتجأ إليه، وفوض أمره إليه، كفاه وقرب إليه كل بعيد، ويسر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن على رأيه وعقله ودوائه وتمائمه ونحو ذلك وكله الله إلى ذلك وخذله، وهذا معروف بالنصوص والتجارب. قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه} 2.

1 من الآية 3 من سورة الطلاق.

2 عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – فتح المجيد ص 105.

ص: 319

خامسا: الاستسقاء بالأنواء:

ومعناه نسبة السقيا ونزول المطر إلى الأنواء، والأنواء: جمع نوء، وهي منازل القمر، وسميت بذلك: لأنه إذا سقط الساقط منها ناء الطالع بالمشرق أي: نهض، وهي ثمان وعشرين منزلة كما قال تعالى:{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} 1.

وقد كان العرب في الجاهلية يزعمون أنه مع سقوط منزلة وظهور أخرى من منازل القمر يكون مطرا، وينسبون ذلك إليها فيقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا.

"فإنهم يعتقدون أن لمطالع الكواكب ومغاربها وسيرها، وانتقالها واقترانها وافتراقها تأثيرا في هبوب الرياح وسكونها، وفي مجيء المطر وتأخره، وفي رخص الأسعار وغلائها، وغير ذلك، فإذا وقع شيء من الحوادث نسبوه إلى النجوم فقالوا: هذا بنوء عطارد أو المشتري أو المريخ أو كذا أو كذا2.

"ورد الله تعالى عليهم، وأكذبهم بما أنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُوَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ

1 الآية 39 من سورة يس.

2 انظر تيسير العزيز الحميد ص 451.

ص: 320

إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1.

وقال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيم هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 3.

وقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبين لأمته ما كان عليه أهل الجاهلية من شرك وضلال، وأمرهم بالحذر من ذلك والبعد عنه، وأهم ذلك وأعظمه ما كان متعلقا بأمور الاعتقاد، ومن ذلك ما كان شائعا في الجاهلية من نسبة نزول المطر إلى النجوم ومطالعها ومغاربها، وبين عليه الصلاة والسلام ما في ذلك من الشرك المنافي للتوحيد، كما جاء في حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية

1 الآيات 48-50 من سورة الروم.

2 الآيتان 10، 11 من سورة لقمان.

3 حافظ حكمي – معارج القبول 2/ 382، 383.

ص: 321

لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم والنياحة".

وقال: "والنائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب"1.

فبين عليه الصلاة والسلام أن مما سيكون في هذه الأمة وهو من أمر الجاهلية وعمل أهلها أمورا منها الاستسقاء بالنجوم، وحذر منه لكونه من أمر الجاهلية وشركها الذي كانت عليه، وكونه من أمر الجاهلية كاف في النهي والزجر عنه.

كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من ضرب الخدود وشقّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية"2.

وهذا يقتضي تجنب ما كان من أمور الجاهلية وخصالها المخالفة لهدي الإسلام وشرعه.

"وهذا كله يقتضي أن ما كان من أمر الجاهلية، وفعلهم فهو مذموم، في دين الإسلام، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها، ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم، وهذا كقوله سبحانه وتعالى:{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولى} 3، فإن في ذلك ذما للتبرج، وذما

1 صحيح مسلم بشرح النووي 2/644.

2 صحيح البخاري مع الفتح 3/163، وصحيح مسلم بشرح النووي 1/99.

3 الآية 33 من سورة الأحزاب.

ص: 322

لحال الجاهلية الأولى، وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة"1.

وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وحرصه على حماية هذه العقيدة، وحراستها من كل شرك أو ذريعة إليه.

وعن زيد بن خالد2 رضي الله عنه قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي، كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب" 3.

وهذا الحديث القدسي العظيم يخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل أن من الناس من ينسب نعمه سبحانه وتعالى إلى غيره، ويضيف أفعاله إلى سواه، وهو تعالى المنعم وحده الذي يجب أن تنسب إليه وحده جميع النعم، ونسبتها إلى غيره شرك به جل شأنه، فهو المتفرد بالرزق، المستحق أن تنسب إليه النعم ويفرد بالشكر عليها وحده لا شريك له.

1 ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم 1/205، 206، تحقيق د. ناصر العقل.

2 زيد بن خالد: هو الجهني، مختلف في كنيته صحابي جليل روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعثمان وأبي طلحة وعائشة، كان معه لواء جهينة يوم الفتح. مات سنة 78هـ. انظر الإصابة 1/547.

3 صحيح البخاري مع الفتح 2/522، وصحيح مسلم بشرح النووي 1/83، 84.

ص: 323

وهذا البيان من رسول الله حماية منه لجناب التوحيد وحرصا على أمته من الشرك، ومنه ما كان يعتاده أهل الجاهلية من نسبة المطر إلى النجوم والأنواء، وإن كان فيهم من يقر بأن ذلك من الله تعالى كما قال

سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 1.

وفي حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما بمعنى حديث زيد بن خالد الذي تقدم آنفا وفيه: وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآيات:{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَاّ الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 2،3 فبين في هذا الحديث أن سبب نزول هذه الكريمات من كتاب الله تعالى نسبتهم المطر إلى الأنواء والنجوم، وأقسم بها سبحانه، فالمقسم به مواقع النجوم وجواب القسم {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} ولعل في ذلك إشارة إلى حكمة إلهية عظيمة وهي أن الله قد جعل لهم النجوم ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، كما جاء

1 الآية 63 من سورة العنكبوت.

2 الآيات من 75- 82 من سورة الواقعة.

3 صحيح مسلم بشرح النووي 1/84.

ص: 324

ذلك صراحة في آيات أخرى، وجعل القرآن هداية لهم كذلك من ظلمات الكفر والشرك والضلال. والله أعلم.

والحديث عن الاستقاء بالنجوم والأنواء يدفع إلى الكلام عن التنجيم وما جاء فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما واد"1.

فهذا الحديث يبين أن التنجيم نوع من أنواع السحر الذي عده رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات "، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"2.

وهناك أحاديث أخرى في التحذير من ذلك حرصا منه عليه الصلاة والسلام على حماية التوحيد وسلامته من دنس الشرك ووسائله وطرقه.

وقد نزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين الحكمة من خلق النجوم. قال عز وجل: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً

1 مختصر أبي داود للحافظ المنذري 5/371، حديث صحيح.

2 صحيح البخاري مع الفتح 5/393، وصحيح مسلم بشرح النووي 1/92.

ص: 325

لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} 1.

وقال تبارك وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 2.

فهذه ثلاث حكم جعلها الله سبحانه وتعالى في خلق النجوم فهي زينة للسماء، ورجوم ترجم بها الشياطين عند استراقهم السمع، ووسيلة للاهتداء في ظلمات البر والبحر.

قال قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وكلف ما لا علم له به"3.

والتنجيم الذي يدخل تحت هذا النهي والوعيد ما كان فيه ادعاء علم الغيب وربط الأشياء وتأثيرها بالتنجيم، أما ما يحتاج إليه مما يدرك بالمشاهدة كمعرفة ظل الشمس، وجهة القبلة، ونحو ذلك، فلا يدخل تحت النهي.

وقد رخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.

1 الآية 5 من سورة الملك.

2 الآية 97 من سورة الأنعام.

3 سليمان بن عبد الله بن محمد عبد الوها تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ص442.

ص: 326

وروى ابن المنذر عن مجاهد "أنه كان لا يرى بأسا أن يتعلم الرجل منازل القمر".

وقال ابن رجب: "والمأذون في تعلمه علم التسيير لا علم التأثير، فإنه باطل محرم قليله وكثيره، وأما علم التسيير فيتعلم ما يحتاج إليه من الاهتداء ومعرفة القبلة، والطرق، جائز عند الجمهور"1.

1 انظر كتاب بيان فضل علم السلف على علم الخلف لابن رجب – ت محمد ابن ناصر العجمي ص 26.

ص: 327

سادسا: الذبح لغير الله تعالى:

وهذا من عمل الجاهلية، وأهل الشرك في كل زمان ومكان، وهو شرك أكبر يخرج صاحبه من ملة الإسلام إلى الكفر.

وقد أمر الله جل شأنه رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يعلن على المشركين: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 1.

وهذه هي درجة الكمال في العبودية لله تعالى لا شريك له، والولاء الخالص له سبحانه وتعالى، وهي مفاصلة كاملة عما عليه أهل الجاهلية. قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية:"يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله، ويذبحون لغير اسمه، أنه مخالف لهم في ذلك، فإن صلاته لله، ونسكه على اسمه وحده لا شريك له، وهذا كقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 2. أي: اخلص له صلاتك وذبحك، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام، ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم، والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى"3.

1 الآيتان 161، 162 من سورة الأنعام.

2 الآية 2 من سورة الكوثر.

3 الحافظ ابن كثير – تفسير القرآن العظيم 2/ 198.

ص: 328

وقد حقق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمره به ربه تبارك وتعالى حقق ذلك قولا وعملا وعلم ذلك أمته، وشدد في النهي عن مخالفته كما في حديث عليّ رضي الله عنه:"حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: "لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض" 1.

واللعن معناه: الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى. وهذا دليل على خطورة هذه الأمور التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعظمها خطرا الذبح لغير الله عز وجل، من الأصنام والأولياء والسادة والكهان والسحرة والمنجمين، أو الأشجار والكواكب، وجميع ما أهل به لغير الله تعالى، وكل ما كانت الجاهلية تفعله من هذا الأمر، كالفرع والعتيرة2ونحوهما، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا فرع ولا عتيرة"4.

قال الشوكاني رحمه الله عند تفسير قوله عز وجل: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّه} : "والمراد هنا ما ذكر عليه اسم غير الله، كاللات والعزى، إذا كان

1 صحيح مسلم بشرح النووي 3/141.

2 الفرعة والفرع: أول ما تلد الناقة، كانوا يذبحونه لآلهتهم. انظر النهاية في غريب الحديث 3/435.

3 العتيرة: وجمعها عتائر، وهي الشاة تذبح في رجب، وكان أهل الجاهلية ينذرون ذلك لأصنامهم. انظر النهاية 3/ 178.

4 صحيح البخاري مع الفتح 9/596، وصحيح مسلم بشرح النووي 13/135.

ص: 329

الذابح وثنيا، والنار إذا كان الذابح مجوسيا، ولا خلاف في تحريم هذا وأمثاله ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم، فإنه مما أهل به لغير الله، ولا فرق بينه وبين الذبح للوثن"1.

وقال القرطبي رحمه الله في تفسير الآية السالفة الذكر:"أي: ذكر غير اسم الله تعالى، وهي ذبيحة المجوسي، والوثني، والمعطل، فالوثني يذبح للوثن، والمجوسي للنار، والمعطل لا يعتقد شيئا فيذبح لنفسه"2. فالذبح لله تعالى تقربا إليه سبحانه من أفضل وأعظم القربات، كما أن الذبح لغيره تقربا من أعظم الذنوب والآثام، إذ هو الشرك الأكبر المخرج من الملة الذي لا يغفره الله تعالى لمن مات عليه ولم يتب، كما قال جل شأنه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} 3.

وقال تبارك وتعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 4.

وسواء أكان المتقرب به كبيرا أو صغيرا عظيما أو حقيرا، فإن المقصود عمل القلب، ولهذا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك لأمته، ليحترسوا منه

1 محمد بن عليّ الشوكاني – فتح القدير 1/ 170.

2 القرطبي – الجامع لأحكام القرآن 2/223.

3 الآية 48 من سورة النساء.

4 الآية من سورة المائدة.

ص: 330

كما روى طارق1 بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب"، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "مر رجلان على قوم لهم صنم، لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب، قال: ليس عندي شيء أقرب، قالوا له: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا، فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة"2.

ففي هذا الحديث بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أمورا عظمية منها:

1-

أن صرف شيء من العبادة لغير الله تعالى شرك، وإن كانت تلك العبادة يسيرة في نظر فاعلها.

2-

أن أعظم مقصود الشيطان وأوليائه أن يقبل العبد شركهم ذلك، إذ المقصود عمل القلب.

3-

شدة خطر الشرك، وإنه محبط لعمل صاحبه، ومورد له إلى النار.

4-

عظمة منزلة التوحيد في قلوب المؤمنين، حتى ولو قدموا حياتهم في سبيله.

1 طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الأحمسي أبو عبد الله صحابي جليل مات سنة 82هـ. انظر الإصابة 2/211، 212.

2 كتاب الزهد للإمام أحمد ص 15، 16. والحلية لأبي نعيم 1/203 عن طارق بن شهاب عن سلمان موقوفا بسند صحيح.

ص: 331

2-

شدة حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته وما من الله به عليها من نعمة التوحيد، وحمايته عليه الصلاة والسلام لهذا التوحيد من كل شرك أو ذريعة إليه.

ومن حرصه صلى الله عليه وسلم وحمايته لجناب التوحيد، أنه كان يعلم أصحابه لا يفعلوا شيئا من القربات لله تعالى في مكان كان يتقرب فيه لغير الله عز وجل، أو يعتاده المشركون في أعمالهم الجاهلية، سدا لذريعة الشرك ووسائله والتذكير بأهله وأعمالهم، وإن كان العمل في نفسه ليس شركا.

فقد جاء في الحديث عن ثابت1 بن الضحاك رضي الله عنه قال: "نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة2 فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " قالوا: لا، قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم" 3.

فقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي نذر أن يذبح لله في ذلك المكان سأله تلك الأسئلة، سدا للذريعة، وخوفا من مشابهة المشركين أيا

1 هو ابن خليفة بن ثعلبة الأنصاري الأشهلي شهد بدرا، وبيعة الرضوان، وفي سنة موته خلاف، انظر الإصابة 1/195.

2 بُوانة: بضم الباء: هضبة من وراء ينبع.

انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/164.

3 مسند الإمام أحمد 5/353، 356، حديث صحيح.

مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري 4/382، حديث صحيح.

ص: 332

كانت تلك المشابهة، ولو كانت تلك الأوثان أو الأعياد قد زالت واندثرت، كل ذلك حماية منه عليه الصلاة والسلام لحمى التوحيد أن يصل إليه شرك، أو مشابهة لأهله، ولذلك لما علم بخلوّ ذلك المكان من هذه الأمور قال للرجل "أوف بنذرك" ثم عقب على ذلك بقوله:"فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم".

قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وهذا يدل على أن الذبح بمكان عيدهم وكل أوثانهم معصية لله من وجوه:

أحدها: أن قوله: "أوف بنذرك" تعقيب للوصف بالحكم بحرف الفاء، وذلك يدل على أن الوصف سبب الحكم، فيكون سبب الأمر بالوفاء: وجود المنذر خاليا من هذين الوصفين، فيكون الوصفان مانعين من الوفاء، ولو لم يكن معصية لجاز الوفاء به.

الثاني: أنه عقب ذلك بقوله: "لا وفاء لنذر في معصية الله" ولولا اندراج الصورة المسؤول عنها في هذا اللفظ العام، وإلا لم يكن في الكلام ارتباط.

والمنذور في نفسه – وإن لم يكن معصية- لكن لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن الصورتين قال له: "فأوف بنذرك" يعني: حيث ليس هناك ما يوجب تحريم الذبح هناك، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم فيه أمر بالوفاء عند الخلو من هذا، ونهى عنه عند وجود هذا، وأصل الوفاء بالنذر معلوم، فبين ما لا وفاء فيه.

واللفظ العام إذا ورد على سبب، فلابد أن يكون السبب مندرجا فيه.

ص: 333

الثالث: أنه لو كان الذبح في موضع العيد جائزا لسوغ النبي صلى الله عليه وسلم للناذر الوفاء به، كما سوغ لمن نذرت الضرب بالدف، أن تضرب به، بل لأوجب الوفاء به، إذ كان الذبح بالمكان المنذور واجبا، وإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهيا عنه، فكيف بالموافقة في نفس العيد، بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم؟.

إلى أن قال رحمه الله: "فإن كان من أجل تخصيص البقعة – وهو الظاهر – فإنما نهى عن تخصيص البقعة لأجل كونها موضع عيدهم، ولهذا لما خلت من ذلك أذن في الذبح فيها، وقصد التخصيص باق، فعلم: أن المحذور تخصيص بقعة عيدهم، وإذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذورا، فكيف نفس عيدهم؟.

هذا كما أنه لما كرهها لكونها موضع شركهم بعبادة الأوثان كان ذلك أدل على النهي عن الشرك وعبادة الأوثان

ثم قال رحمه الله: "فليس بعد حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم غاية – بأبي هو وأمي – وكل ذلك من فضل الله عليه وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون "1.

1 ابن تيمية – اقتضاء الصراط المستقيم ت د. ناصر العقل 1/440، 445.

ص: 334

سابعا: السحر والكهانة:

السحر والكهانة من أشد الأخطار على عقيدة التوحيد، وأكثرها انتشارا بين الناس، وتلبيسا عليهم وتغريرا بهم، أدت بكثير منهم إلى الشرك من حيث يشعر أولا يشعر، والخطر فيهما لا يقتصر على الساحر والكاهن وحدهما فكفرهما وشركهما معلوم، ولكن ذلك يصل إلى كل من يأتيهما، وكل من يصدقهما، ومثلهم العرافون، فالكل تجمع بينهم الولاية للشياطين يطيعونهم من دون الله تعالى وتخدمهم الشياطين في بعض ما يريدون، فيلبسون على الناس، ويكذبون ويحتالون عليهم، ويدعون بذلك الولاية والكرامة وعلم الغيب، وينخدع بهم ضعفاء العقول وناقصو الإيمان، إذ يلبسون عليهم في دينهم، ويفتنونهم في عقيدتهم.

وشرهم وخطرهم عظيم قديماً وحديثاً، ولذلك فقد شدد رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحذير منهم بإتيانهم أو تصديقهم أو تعلم شيء مما يعملون.

من ذلك: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: "الشرك بالله والسحر

" الحديث1.

وكل الأحاديث التي وردت في عدد الكبائر وبيانها كان منها السحر.

وعن بجالة بن عبده قالَ: "كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر"2.

1 تقدم تخريجه ص 349.

2 مسند الإمام أحمد 1/190،191، أبو عبيد – كتاب الأموال ص 35.

ص: 335

وعن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما"1. أي لا ثواب له عليها.

وعن معاوية بن الحكم السلمي2 رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أمورا كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكهان. قال:"فلا تأتوا الكهان" قال: قلت: كنا نتطير. قال: "ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم"3.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهنا – قال موسى في حديثه -: فصدقه بما يقول أو أتى امرأة – قال مسدد: امرأته حائضا أو أتى امرأة – قال مسدد: يعنى امرأته في دبرها، فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"4.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسو الله صلى الله عليه وسلم: "من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"5.

والسحر:

رقى وعزائم وعقد يفعلها السحرة تؤثر في القلوب وفي الأبدان بمرض

1 صحيح مسلم بشرح النووي 14/227، ومسند الإمام أحمد 4/68، 5/380.

2 معاوية بن الحكم السلمي، سكن المدينة، قال البخاري: له صحبة ويعد في أهل الحجاز. انظر الإصابة 3/411.

3 صحيح مسلم بشرح النووي 14/223.

4 مسند الإمام أحمد 2/408 حديث صحيح.

5 مسند الإمام أحمد 2/429، الحاكم – المستدرك 1/8.

ص: 336

أو قتل أو تفريق بين المرء وزوجه، وغير ذلك، كما أخبر الله عن ذلك في كتابه الكريم فقال:{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِه} 1 ويقع ضرره بمشيئة الله عز وجل: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} 2.

والسحر حقيقة، وقد أمر الله بالاستعاذة من أهله إذ يقول عز وجل:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَد وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} 3 والنفاثات هن: السواحر.

والسحر أنواع كثيرة ليس هذا مقام الحديث عنها، وكلها شرك وكفر بالله تبارك وتعالى كما قال سبحانه وتعالى:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 4.

قال أبو بكر ابن العربي رحمه الله: "وما كفر سليمان قط ولا سحر، ولكن الشياطين كفروا بسحرهم، وأنهم يعلمون الناس، ومعتقد السحر كافر، وقائله كفر، ومعلمه كافر، ويعلمون الناس ما أنزل على الملكين

1 الآية 102 من سورة البقرة.

2 الآية 102 من سورة البقرة.

3 سورة الفلق.

4 الآية 102 من سورة البقرة.

ص: 337

ببابل هاروت وماروت، وما كان الملكان يعلمان أحدا حتى يقولا:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} 1"2.

وقد ذم الله عز وجل السحر وأهله في كتابه الكريم، وبين بطلان عملهم، وأنهم لا خلاق لهم في الآخرة وجاء ذلك في آيات كثيرة من كتابه منها:

قوله عز وجل: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 3.

وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} 4.

وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 5.

1 الآية 102 من سورة البقرة.

2 أبو بكر ابن العربي – أحكام القرآن 1/28.

3 الآية 102 من سورة البقرة.

4 الآية 81 من سورة يونس.

5 الآية 69 من سورة طه.

ص: 338

أما الكاهن:

فهو الذي يخبر عن المغيبات، يأخذها عن مسترق السمع من الشياطين يصدقونه مرة ويكذبون معها مائة كذبة كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض – ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه – فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قال لنا يوم كذا أو كذا كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء"1.

والعراف:

أعم من الكاهن إذ يشمله ويشمل المنجم والرمال ونحوهم، والعرافة من السحر.

قال الإمام أحمد رحمه الله: "العرافة طرف من السحر، والسحر أخبث"2.

1 صحيح البخاري مع الفتح 8/537.

2 عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – فتح المجيد 256.

ص: 339

وهم جميعا تجمعهم ولاية الشيطان، وادعاء علم الغيب، واستخدام الشياطين وادعاء أنهم أولياء الله وإن ما يعملونه كرامة، والحق بأنهم أولياء الشيطان وعملهم كذب وشعوذة، يلبسون به على جهلة المسلمين.

"ولا ريب أن من ادعى الولاية، واستدل بأخباره ببعض المغيبات، فهو من أولياء الشيطان، لا من أولياء الرحمن، إذ الكرامة أمر يجريه الله على يد عبده المؤمن التقي، إما بدعاء، أو أعمال صالحة، لا صنع للولي فيها، ولا قدرة له عليها، بخلاف من يدعي أنه ولي ويقول للناس: اعلموا أني أعلم المغيبات، فإن هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب، وإن كانت أسبابا محرمة كاذبة في الغالب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الكهان: "فيكذبون معها مائة كذبة" فبين أنهم يصدقون مرة، ويكذبون مائة، وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس، مع أن نفس دعواه دليل على كذبه، لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} 1 وليس هذا من شأن الأولياء، فإن من شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها وخوفهم من ربهم، فكيف يأتون الناس ويقولون: اعرفوا أننا أولياء، وإنا نعلم الغيب"2.

1 من الآية 32 من سورة النجم.

2 عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – فتح المجيد ص 256-257.

ص: 340

والكلام عن السحر والكهانة والعرافة وأهلها طويل يحتاج أكثر من هذا وليس هذا مقام التفصيل في ذلك، والقصد بيان خطر ذلك على عقيدة التوحيد قديما وحديثا، واغترار كثير من الناس بما يلبسونه عليهم ليوقعوهم به في الشرك والكفر والضلال، فيفسدون على الناس توحيدهم ويصرفونهم عن عبادته سبحانه وتعالى إلى عبادة الجن والشياطين وغيرهم والتعلق بهم من دون الله تعالى.

وبيان حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته وعقيدتها وتحذيره أشد التحذير من هذه الأمور وأهلها، حفاظا على هذه العقيدة وحماية لها من الشرك وأهله.

ص: 341

ثامنا: الشفاعة:

الشفاعة من أهم الوسائل التي اتخذها المشركون قديما وحديثا طريق للعبادة، فكانت سببا في وقوعهم في الشرك، وهم يظنون أنهم بذلك قد أصابوا الحق، وسلكوا الصراط المستقيم في اتخاذهم هذه الوسائل والوسائط، ورأوا أن هذا هو الذي يليق مع الله، والطريق الصحيح الذي يوصل إليه.

وهم في حقيقة الأمر قد أخطأوا الطريق، وفاتهم الصواب، وظنوا بربهم ظن السوء، وهو الذي أمرهم بإفراده بالعبادة وإخلاصها له وحده سبحانه لا شريك له.

قال جل شأنه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1.

وقال عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 2.

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3.

1 الآية 18 من سورة يونس.

2 الآية 22 من سورة سبأ.

3 من الآية 3 من سورة الزمر.

ص: 342

فهذه الآيات الكريمات تبين ما عليه المشركون من اتخاذ الشفعاء من دون الله تعالى، فيدعونهم ويتوجهون إليهم من دون الله عز وجل، ويرون أن ذلك هو الطريق الصحيح للعبادة، وقد أخبر الله تعالى عن عملهم ذلك أنه شرك، وذمهم، وذم فعلهم، فذلك دعوة غيره من دونه سبحانه، وهذا هو عين الشرك1.

وقد بعث الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم والمشركون على ذلك، فدعاهم إلى التوحيد الخالص لله تعالى، وترك ما هم عليه من اتخاذ الشفعاء والأنداد من دونه سبحانه بدعوى أنها تقربهم إلى الله، ونزلت عليه الآيات الكثيرة التي تبين بطلان هؤلاء الشفعاء وشفاعتهم بكل صورها، وأنه ليس لأحد من العباد ولي ولا شفيع من دون الله عز وجل، قال سبحانه:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 2.

وقال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} 3.

1 انظر: بيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد، لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص 273-274.

2 الآية 4 من سورة السجدة.

3 الآيتان 12، 13 من سورة الروم.

ص: 343

وقال عز وجل: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1.

وآيات أخرى كثيرة تنفي كل شفاعة فيها شرك بالله تعالى، وتبطل ما يدعيه المشركون من اتخاذ الشفعاء، وآيات أخرى تبين أن الشفاعة كلها لله تعالى وحده لا شريك له، يعطيها لمن يشاء ويرضى كما قال تعالى:{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 2.

وقال جل شأنه: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 3.

وقال سبحانه: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 4.

وقال تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} 5.

وقال عز وجل: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 6.

1 الآية 86 من سورة الزخرف.

2 الآية 44 من سورة الزمر.

3 الآية 23 من سورة سبأ.

4 الآية 109 من سورة طه.

5 الآية 255 من سورة البقرة.

6 الآية 26 من سورة النجم.

ص: 344

فنزلت هذه الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين أن الشفاعة لله يأذن فيها لمن رضي عنه، كما بينت الآيات السابقة بطلان دعوى المشركين واعتقادهم في شفعائهم وشركائهم.

فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يعرفها الناس، ويفعلها بعضهم مع بعض، ولهذا يطلق نفيها تارة بناء على أنها هي المعروفة والمشاهدة عند الناس، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا من بعد إذنه، وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه، فإنه الذي أذن، والذي قبل، والذي رضي عن المشفوع له، والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله فمتخذ الشفيع مشرك، لا تنفعه شفاعته، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه، ومرجوه، ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده، ويطلب رضاه، ويتباعد من سخطه، هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه، قال تعالى:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} 1.

وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2.

1 الآية 44 من سورة الزمر.

2 الآية 18 من سورة يونس.

ص: 345

فبين سبحانه أن المتخذين شفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم وإنما تحصل بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع له "1.

والرسول صلى الله عليه وسلم بين ذلك لأمته وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم الذي يصلهم بربهم دون شفعاء ولا وسائط، وهو طريق التوحيد الخالص لله عز وجل وإفراده سبحانه بالعبادة دون ما سواه، أما الشفاعة المثبتة التي أثبتها القرآن الكريم وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلها شرطان:

أولهما: الإذن من الله تعالى للشافع. قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} 2.

وثانيهما: الرضا عن المشفوع له: قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} 3.

وقد جمع هذين الشرطين قوله عز وجل: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 4.

وهذه الشفاعة خص الله تعالى بها أهل توحيده وعبادته تفضلا منه وكرما، فهذه خاصة بهم لأنهم لم يتخذوا من دون الله وليا ولا شفيعا،

1 ابن قيم الجوزية – إغاثة اللهفان 1/222.

2 الآية 255 من سورة البقرة.

3 الآية 28 من سورة الأنبياء.

4 الآية 26 من سورة النجم.

ص: 346

وقد رضي الله قولهم وعملهم كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "من أسعد الناس بشفاعتك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" 1.

وأول الشافعين رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الموحدين وخاتم المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين والذي اختصه الله تعالى وأكرمه بشفاعات عظيمة في ذلك اليوم تفضلا وتكريما منه سبحانه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ورحمة بأمته عليه الصلاة والسلام كما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوة مستجابة، وأني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا"2.

فله عليه الصلاة والسلام الشفاعة العظمى يوم القيامة والتي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهي كما بين أنها لأهل التوحيد من أمته.

وهو الذي يشفع في دخول المؤمنين الجنة، وفي إخراج عصاة الموحدين من النار، وله شفاعة في عمه أبي طالب.

وهذا من كريم فضل الله تعالى على خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم نسأل الله أن يرزقنا صدق الاتباع له في الدنيا، وأن يسعدنا بشفاعته في الآخرة.

1 البخاري مع الفتح 11/418، ومسند الإمام أحمد 2/308.

2 صحيح البخاري مع الفتح 13/447، ومسلم بشرح النووي 3/74.

ص: 347

والشفاعة إنما تكون وتنفع أهل التوحيد، أما غيرهم فهم كما قال عز وجل:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 1.

قال ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى عن الكلام عن حديث أبي هريرة السابق: "تأمل هذا الحديث كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين أن الشفاعة تنال باتخاذهم أوليائهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم، فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع، ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذ وليا أو شفيعا أن يشفع له وينفعه عند الله، كما يكون خواص الولاة والملوك تنفع من والاهم، ولم يعلموا أنه لا يشفع عند أحد إلا بإذنه في الشفاعة، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله"2.

وهذا الحرص الشديد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الشفاعة، حماية لعقيدة التوحيد من كل شرك أو ذريعة إليه، أو تشبه بأهله، إذ الشفاعة- كما سبق ذكره – كانت من أول الأسباب التي أوقعت المشركين في الشرك بالله عز وجل وذلك باتخاذهم الشفعاء، واعتقادهم أن عبادة الله تعالى لا تتم إلا عن طريقهم وبواسطتهم، فبين عليه الصلاة والسلام الطريق القويم، الموافق لتوحيد الله تعالى في هذه الشفاعة لئلا تقع أمته في شيء من ذلك،

1 الآية 48 من سورة المدثر.

2 ابن قيم الجوزية مدارج السالكين 1/341.

ص: 348

وليعلموا أن الشفاعة لله جميعا بإذن فيها لمن يشاء ممن يرضى قوله وعمله، لا كما يفعله المشركون ويعتقدونه.

"وسر ذلك: أن الأمر كله لله وحده، فليس لأحد معه من الأمر شيء، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده هم الرسل والملائكة المقربون، وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئا إلا بعد إذنه لهم وأمرهم، ولا سيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه، فإذا أشرك بهم المشرك، واتخذهم شفعاء من دونه ظنا أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه وما يجب له، ويمتنع عليه، فإن هذا محال ممتنع، شبيه قياس الرب تعالى على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج، وبهذا القياس عبدت الأصنام واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي1.

1 ابن قيم الجوزية – إغاثة اللفهان 1/221.

ص: 349

تاسعا: التوسل:

معنى التوسل:

التوسل والتوسيل في اللغة واحد، يقال: وسَّل فلان إلى ربه وسيلة، وتوسَّل إليه بوسيلة أي تقرب إليه بعمل.

والواسل: الراغب إلى الله. قال الشاعر:

أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم

بلى كل ذي دين إلى الله واسل1

وهو في الشرع: التقرب إلى الله تعالى بالإيمان به وطاعته سبحانه وتعالى والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم وطاعته.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 2.

وقال جل شأنه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 3.

"فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغي إليه، وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي: ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات، فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب، وما

1 انظر الصحاح – إسماعيل الجوهري 5/1841.

2 الآية 35 من سورة المائدة.

3 الآيتان 56،57 من سورة الإسراء.

ص: 350

ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا، فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب أو استحباب، وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول، فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك "1.

وهذا التوسل أصل الدين ومطلوب من كل أحد، جاء الأمر به من الله عز وجل في الآية الكريمة السابقة، وهو الطريق الصحيح الذي يصل العبد بربه، قال ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسير قوله عز وجل:{وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} : "قال سفيان الثوري عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس أي: القُربة وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد، وقال قتادة: أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه، وقرأ ابن زيد: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} وهو الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه"2.

والتوسل بهذا المعنى هو التوسل الصحيح الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وهو تعليم لجميع الأمة، وهو شامل لأنواع كثيرة بينها عليه الصلاة والسلام أتم بيان وليس هذا مقام التفصيل في ذلك.

1 ابن تيمية – قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ص 48.

2 ابن كثير – تفسير القرآن العظيم 2/52.

ص: 351

أما التوسل به عليه الصلاة والسلام الذي أقره وكان الصحابة رضي الله عنهم يفعلونه فهو إما التوسل بالإيمان به وطاعته أو بدعائه وشفاعته عليه الصلاة والسلام وكلا الأمرين جائز بإجماع المسلمين كما قال عمر رضي الله عنه: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبيك وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"1، أي بدعائه. أما التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم والإقسام به على الله تعالى فهذا هو التوسل الممنوع ولم يفعله أحد من الصحابة رضي الله عنهم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بعد مماته، فإذا كان التوسل بهذا الوجه ممنوع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمع غيره من باب أولى.

روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه لما أنزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فعم وخص فقال: "يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحما سأبلها ببلاها"2.

1 صحيح البخاري مع الفتح 2/494.

2 أي سأصلها، والعرب تستعمل لفظ البلل لمعنى الوصل، واليبس لمعنى القطيعة، انظر النهاية لابن الأثير 1/153.

ص: 352

وفي رواية عنه: "يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله، فإني لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية – عمة رسول الله – لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت رسول الله سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا"1.

وعنه رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الغلول2 فعظمه وعظم أمره ثم قال: "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بغير له رغاء يقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على

1 صحيح البخاري مع الفتح 8/501.

2 الغلول: بضم الغين واللام وهو الخيانة في المغنم سمى بذلك لأن آخذه يغله أي يخفيه. انظر النهاية لابن الأثير 3/380.

ص: 353

رقبته رقاع تخفق1 فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة2 فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت3 فيقول: يا رسو الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا فقد أبلغتك" 4.

فقوله عليه الصلاة والسلام لا أملك لك شيئا: أي من المغفرة لأن الشفاعة أمرها إليه فهو كقول إبراهيم عليه السلام: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 5 فلا عذر بعد الإبلاغ منه صلى الله عليه وسلم.

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله"6.

وهذا تعليم منه عليه الصلاة والسلام لأمته وحماية منه لجانب التوحيد، فقد أنكر على أصحابه رضي الله عنهم قولهم ذلك، وإن كان في شيء يقدر عليه في حياته صلى الله عليه وسلم فيكف إذا كان في شيء لا يقدر عليه إلا الله، أو كان بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.

يقول صاحب فتح المجيد: "كره صلى الله عليه وسلم أن يستعمل هذا اللفظ في حقه، وإن كان مما يقدر عليه في حياته، حماية لجناب التوحيد، وسدا لذرائع الشرك، وأدبا وتواضعا لربه، وتحذيرا للأمة من وسائل الشرك في الأقوال

1 والمراد بالرقاع ما عليه من الحقوق المكتوبة في الرقاع. انظر النهاية 2/251.

2 الحمحمة: صوت الفرس عند العلف وهو دون الصهيل. انظر النهاية1/436.

3 ما لا روح فيه من المال والمقصود به هنا الذهب والفضة. انظر النهاية3/52.

4 البخاري مع الفتح 6/185، وصحيح مسلم بشرح النووي 12/216 واللفظ له.

5 الآية 4 من سورة الممتحنة.

6 رواه الطبراني في المعجم الكبير كما في مجمع الزوائد 10/159، والحديث ضعيف.

ص: 354

والأفعال، فإذا كان هذا فيما يقدر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فكيف يجوز أن يستغاث به بعد وفاته، ويطلب منه أمور لا يقدر عليها إلا الله عز وجل "1.

وأما شفاعته ودعاؤه صلى الله عليه وسلم في حياته ويوم القيامة فهي نافعة لأهل التوحيد من أمته، كما سبق في سؤال أبي هريرة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسعد الناس بشفاعتك؟

وكان الصحابة يطلبون منه عليه الصلاة والسلام الدعاء فيدعو، ويوجههم إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة.

ولم يكن صلى الله عليه وسلم يطلب منهم أن يدعوه، أو يدعوا الملائكة أو الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ولا غيرهم أو يستشفعوا بهم، بل كان ينهاهم عن ذلك ولا يقر أحدا فعل ذلك منهم، ويبين لهم الطريق القويم والسبيل الحق الذي يصلهم بربهم وقد رضيه وشرعه لهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وعلم أنه لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا أحد من الأنبياء قبله شرع للناس أن يدعوا الملائكة والأنبياء والصالحين، ولا يستشفعوا بهم، لا بعد مماتهم، ولا في مغيبهم، فلا يقول أحد: يا ملائكة الله اشفعوا لي عند الله، سلوا الله أن ينصرنا أو يرزقنا أو يهدينا، وكذلك لا يقول لمن مات من الأنبياء والصالحين: يا نبي الله، يا رسول الله، ادع الله لي، سل الله لي، استغفر الله لي، سل الله أن يغفر لي،

1 عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – فتح المجيد ص 149.

ص: 355

أو يهديني أن ينصرني، أو يعافيني، ولا يقول: أشكو إليك ذنوبي، أو نقص رزق، أو تسلط العدو علي، أو أشكو إليك فلانا الذي ظلمني، ولا يقول: أنا نزيلك أنا جارك، أو: أنت تجير من يستجير، أو أنت خير معاذ يستعاذ به، ولا يكتب ورقة يعلقها عند القبور

إلى أن قال: ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها أنه يستحب لأحد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أن يشفع له أو يدعو لأمته، أو يشكو ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين، وكان أصحابه يبتلون بأنواع من البلاء بعد موته فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا قبر الخليل ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول نشكو إليك جدب الزمان، أو قوة العدو، أو كثرة الذنوب، ولا يقول: سل الله لنا أو لأمتك أو يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم، بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين"1.

ولم يقتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليمه أمته ألتوحيد، وتحذيرها من الشرك، وحمايته حمى التوحيد، لم يقتصر على بيان الشرك الأكبر المنافي للتوحيد، والتحذير منه وحده، بل بين عليه الصلاة والسلام ما دون ذلك من الشرك الأصغر ووسائله، كما لم يقتصر التحذير من الشرك على ما

1 ابن تيمية – الفتاوى 1/160-162.

ص: 356

يقع في الأعمال فحسب، بل شمل مع ذلك ما كان في الأقوال أو المقاصد والنيات، حرصا منه صلى الله عليه وسلم على حماية هذه العقيدة، وسلامتها من كل خلل أيا كان نوعه، كما أنه صلى الله عليه وسلم قد حذر من أمور ليست في نفسها شركا ولكنها قد تؤدي إليه أو إلى شيء من وسائله.

والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:

النهي عن الحلف بغير الله تعالى:

وهو من الشرك الأصغر – إن لم يعتقد الحالف مساواة المحلوف به لله عز وجل، وهو وإن سمي شركا أصغر فهو أكبر من الكبائر وأشد، لا يخرج من الملة، وقد يحبط العمل إذا زاد.

روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"1.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت"2.

وعنه رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفا فلا

1 مسند أحمد 2/34،86،وأخرجه الترمذي 1/290، وأبو داود برقم (23251) وهو حديث صحيح، انظر إرواء الغليل للألباني حديث (2561) .

2 صحيح البخاري مع الفتح 11/530، وصحيح مسلم بشرح النووي 3/1266، 1267.

ص: 357

يحلف إلا بالله" وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: "فلا تحلفوا بآبائكم" 1.

وعن بريد رضي الله عنه مرفوعا: "من حلف بالأمانة فليس منا"2.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله"3.

فهذه الأحاديث وغيرها يبين فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحلف بغير الله شرك، وينهى عنه عليه الصلاة والسلام، وبين أنه لا يجوز أن يحلف ِغلا بالله تعالى أو صفة من صفاته، لأن الحلف تعظيم، والمسلم لا يجوز له أن يعظم غير الله عز وجل.

وبين عليه الصلاة والسلام لمن وقع في شيء من ذلك ماذا يفعل وذلك بأن يقول: لا إله إلا الله، وتلك حكمة عظيمة، فالمخالف أخل بتوحيده فكانت كفارته أن يتذكر حكمة التوحيد الذي أخل به، وينطق بها ليتذكر عظمة الله واستحقاقه أن يفرد وحده بالعبادة ولوازمها، ومن ذلك تعظيمه سبحانه وتعالى.

ولذلك فقد ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "لأن أحلف بالله كاذبا، أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا"4.

1 تقدم تخريجه ص.

2 مسند الإمام أحمد 5/352، وسنن أبي داود حديث (3253) وهو حديث صحيح انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني حديث (94) .

3 صحيح البخاري مع الفتح 8/611، وصحيح مسلم بشرح النووي 11/106.

4 أخرجه عبد الرزاق في المصنف 8/469، وابن أبي شيبة في المصنف 3/79، والطبراني في المعجم الكبير 9/183، وإسناده صحيح موقوفا.

ص: 358

"وإنما رجح ابن مسعود رضي الله عنه الحلف كاذبا على الحلف بغيره صادقا، لأن الحلف بالله توحيد، والحلف بغيره شرك، وإن قدر الصدق في الحلف بغير الله فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك، ذكره شيخ الإسلام1، وفيه دليل على أن الحلف بغير الله صادقا أعظم من اليمين الغموس، وفيه دليل على أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، وفيه شاهد للقاعدة المشهورة وهي: ارتكاب أقل الشرين ضررا إذا كان لابد من أحدهما2.

ومما ينبغي أن يعلم أن الحالف لو اعتقد أن ما حلف به أعظم من الله عز وجل أو مثله، فإن ذلك شرك أكبر مخرج من ملة الإسلام نعوذ بالله من ذلك، وهذا هو شرك الجاهلية الأولى، الذي كانوا يعظمون معبوداتهم من دون الله ويحلفون بها، والذي يفعله بعض عباد القبور أعظم إذ يخشى أن يحلف بشيخه كذبا، ولا يخشى من الله ذلك.

فالذي يفعله عباد القبور إذا طلبت من أحدهم اليمين بالله، أعطاك ما شئت من الأيمان صادقا أو كاذبا، فإذا طلبت منه اليمين بالشيخ أو تربته أو حياته ونحو ذلك، لم يقدم على اليمين به إن كان كاذبا.

1 يريد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ولعله يشير إلى ما جاء في الفتاوى 2/204، من قوله:"قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر: "لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا، وذلك لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم من الكفر"اهـ.

2 سليمان بن عبد الله بن عبد الوهاب – تيسير العزيز الحميد ص 594، 595.

ص: 359

فهذا شرك أكبر بلا ريب، لأن المحلوف به عنده أخوف وأجل وأعظم من الله.

"وهذا ما بلغ إليه شرك عباد الأصنام، لأن جهد اليمين عندهم هو الحلف بالله كما قال تعالى:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} 1 فما كان جهد يمينه الحلف بالشيخ أو بحياته أو تربته فهو أكبر شركا منهم2.

ومن الأمثلة أيضا نهيه صلى الله عليه وسلم عن الألفاظ التي فيها شرك أو تحتمل الشرك ولو لم يقصد ذلك قائلها، حماية منه لجناب التوحيد، ومنها:

النهي عن قول ما شاء الله وشئت:

عن قتيلة3 رضي الله عنها أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبةِ، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت"4.

1 الآية 38 من سورة النحل.

2 سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – تيسير العزيز الحميد ص 593، 594.

3 قتيلة: هي بنت صيفي الجهنية، ويقال الأنصارية من المهاجرات الأرامل، قيل ليس لها غير هذا الحديث انظر الإصابة 4/378.

4 الإمام أحمد – المسند 4/371، 372، النسائي – السنن 7/6، وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي والحافظ في الإصابة 4/389.

ص: 360

فقد سمى ذلك اليهودي هذه الألفاظ شركا، وكانوا يعرفون ذلك، وأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه رضي الله عنهم باستعمال الألفاظ الصحيحة البعيدة عن الشرك أو مشابهته.

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه في بعض الأمر، فقال: ما شاء الله وشئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أجعلتني لله ندا، ما شاء الله وحده"1.

فقد أنكر صلى الله عليه وسلم على الرجل هذه التسوية، وبين له كيف ينبغي أن يقول، وصحح له ما قاله خوفا من الشرك وألفاظه وحماية لعقيدة التوحيد من كل ما يخل بها مهما كان قصد قائله.

وعن الطفيل – أخي عائشة رضي الله عنها لأمها – قال: "رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: "هل أخبرت بها أحداً؟ " قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من

1 مسند الإمام أحمد 1/214، حديث صحيح، وأخرجه ابن ماجة (2117) وغيره.

ص: 361

أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده" 1.

فقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه رضي الله عنهم باللفظ الصحيح الموافق لعقيدة التوحيد، ونهاهم عما كانوا يقولون من ألفاظ فيها مخالفة لذلك حماية لهذه العقيدة، وسدا لكل ذريعة تخل بها أيا كان نوعها، أو قصد فاعلها.

النهي عن قول عبدي وأمتي:

وهذا اللفظ نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما فيه من اشتراك في اللفظ، احتراسا من الشرك ولو في الفظ، وأدبا مع الله تعالى، وابتعادا بالمؤمن عن الشرك وما يشابهه، من ألفاظ وإن لم تكن في نفسها شركا.

حاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل: أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي"2.

ففي إطلاق هاتين الكلمتين على غير الله تشريك في اللفظ، فنهاهم عن ذلك تعظيما لله تعالى، وأدبا وبعدا عن الشرك، وتحقيقا للتوحيد، وأرشدهم إلى أن يقولوا:"فتاي وفتاتي وغلامي" وهذا من باب حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، فقد بلغ صلى الله عليه وسلم أمته كل ما فيه نفع لهم، ونهاهم

1 مسند الإمام أحمد 5/393، حديث صحيح.

2 البخاري مع الفتح 5/177، ومسلم بشرح النووي 4/1764، 1765.

ص: 362

عن كل ما فيه نقص في الدين، فلا خير إلا دلهم عليه وأوله تحقيق التوحيد، ولا شر إلا حذرهم منه، وأوله ما يقرب من الشرك لفظا وإن لم يقصد به1.

فإرشاده عليه الصلاة والسلام بأن يقولوا: سيدي ومولاي، وفتاي وفتاتي وغلامي من باب سد ذرائع الشرك ووسائله اللفظية وإن لم يقصد القائل بها شركا.

النهي عن قول "لو":

المقصود بها التي تقال ندما وأسفا وجزعا، لما في ذلك من عدم الرضى والتسليم بما قدره الله عز وجل وقضاه، فالمؤمن مأمور بالتسليم والرضى لأقدار الله، والصبر على بلائه، وفي ذلك خير له، وقول (لو) يتنافى مع ذلك المطلوب من المؤمن، مع ما قد يصاحبها من نوع اعتراض على أقدار الله تعالى وأحكامه.

ولذلك فقد نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حماية للتوحيد أن يمسه ما يقدح فيه ِأو يكون ذريعة إلى ذلك ولو رآه الناس يسيرا.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فقل، فإن لو تفتح عمل الشيطان"2.

1 عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ – فتح المجيد ص 412.

2 مسلم بشرح النووي 16/215.

ص: 363

فقد أمر عليه الصلاة والسلام وحث على الحرص على ما ينفع المسلم مستعينا بالله تعالى، ثم نهاه عما يفتح عمل الشيطان، ويؤدي إلى التسخط وعدم الرضى بأقدار الله تعالى، ويؤثر في سلامة التوحيد، وإخلاصه لله عز وجل، ثم بين ما يقوله المرء إذا وقع له شيء من البلاء من الألفاظ الموافقة للحق والمتفقة مع التوحيد الصحيح، والدالة على تسليم المؤمن ورضاه بما قدره ربه وقضاه.

وقد ذم الله تعالى أصحاب هذه المقولة في كتابه الكريم فقال جل شأنه: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} 1.

وقال عز وجل: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} 2.

والذين قالوا ذلك هم المنافقون قالوه في عزوة أحد لما نزل بهم من خوف وجزع، كما جاء في الحديث عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال:"لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا، أرسل الله علينا النوم، فما منا رجل إلا ذقنه في صدره، فوالله إني لأسمع قول معتب ابن قشير ما أسمعه إلا كالحلم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله عز وجل: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} لقول معتب"3.

1 من الآية 154 من سورة آل عمران.

2 الآية 168 من سورة آل عمران.

3 ابن كثير – التفسير 1/418.

ص: 364

التحذير من الرياء:

لم يقف حرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على حماية جناب التوحيد، من الشرك وذرائعه في الأقوال والأفعال فحسب كما تقدمت الأمثلة على ذلك فيما سبق بل كان حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك على المقاصد والنيات أن تكون خالصة لله سبحانه وتعالى وحمايتها من كل ما يصرفها عنه من شرك أو بدعة أو شبهة أو ذريعة للشرك، إذ النية أساس صحة العمل أو بطلانه، وأمرها عظيم، فهي سر بين العبد وبين ربه، كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه"1.

ومن الأمثلة على حرصه عليه الصلاة والسلام على سلامة النيات وخلوها لله عز وجل:

عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "قال الله تعالى:"أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" 2.

1 البخاري مع الفتح 1/9،135.

2 مسلم بشرح النووي 4/2289.

ص: 365

وعن محمود بن لبيد1 رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أيها الناس، إياكم وشرك السرائر"، قالوا: يا رسول الله: وما شرك السرائر؟ قال: "يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهدا، لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر"2.

وعن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، فسئل عنه فقال:"الرياء"3.

هذه الأحاديث وغيرها تبين خطر الرياء على الأعمال، فهو ينقص ثواب العمل، وقد يحبطه حسب نية فاعله، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر، وحذر منه أمته تحذيرا شديدا حماية لحمى التوحيد، من الشرك أيا كان نوعه، وحرصا على سلامة قول المؤمن وعمله ونيته وقصده من كل ما لا يحبه الله تعالى وأول ذلك الشرك به جل شأنه.

"وإذا كان هذا الشرك الأصغر مخوفا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كمال علمهم، وقوة إيمانهم فيكف لا يخافه وما فوقه من هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب؟ خصوصا إذا عُرف أن أكثر علماء الأمصار اليوم

1 محمدو بن لبيد: بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل الأنصاري، قال البخاري: له صحبة، وأكثر روايته عن الصحابة. انظر الإصابة للحافظ بن حجر 3/367.

2 سنن البيهقي 2/290، 291، وحسنه الذهبي في المهذب 2/261.

3 مسند الإمام أحمد 5/428، 429، وشرح السنة للبغوي 14/323، 423. وهو حديث حسن.

ص: 366

لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون، وما عرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإخلاص عن كل ما سوى الله1.

فإذا كان الباعث على العمل ابتغاء ما عند الله تعالى، وسلم من الرياء فهو العمل الصحيح المقبول عند الله عز وجل، وإن كان القصد والنية بالعمل إرادة غير الله عز وجل فذلك نفاق اعتقادي قد يخرج صاحبه من الإسلام.

قال عز وجل: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 2.

وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً} 3.

أما إذا كان الباعث على العمل ابتغاء وجه الله تعالى وطلب ما عند من الأجر والثواب، ثم دخل عليه الرياء، فهو الذي سماه رسو الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر، وبينه عليه الصلاة والسلام بقوله:"يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه" كما تقدم، فهذا لا يخرج من الملة،

1 عبد العزيز بن حسن آل الشيخ – فتح المجيد ص 63.

2 الآية 264 من سورة البقرة.

3 الآية 38 من سورة النساء.

ص: 367

ولكنه ينقص من ثواب العمل وقبوله، وقد يزيد فيحبط العمل، نعوذ بالله من ذلك.

وقد يعمل المسلم العمل خالصا لوجه الله تعالى، ثم يحصل له الثناء الجميل والذكر الطيب من الناس، لم يطلبه ولم يقصده بعمله، فليس ذلك من الرياء بل خير من الله وفضل منه سبحانه1، كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير، يحمده الناس عليه فقال:"تلك عاجل بشرى المؤمن"2.

إرادة الإنسان بعمله الدنيا:

وهو أن ينوي بعمله الصالح، عرضا دنيويا، ويكون ذلك قصده الباعث على ذلك العمل، وهو أخطر من الرياء، فالرياء قد يعرض للعمل ثم يزول بالمجاهدة إما إرادة الإنسان الدنيا بعمله فهي الباعث له على عمله الملازمة له في ذلك العمل وكلاهما خطر عظيم وداء ووبال.

"وقد يظن بعض الناس أن هذا الباب داخل في الرياء، وأن هذا مجرد تكرير فأخطأ، بل المراد بهذا أن يعمل الإنسان عملا صالحا يريد به الدنيا، كالذي يجاهد للقطيفة والخميلة ونحو ذلك، ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبدا لذلك، بخلا ف المرائي، فإنه يعمل ليراه الناس ويعظموه. والذي يعمل لأجل الدراهم والقطيفة ونحو ذلك أعقل من المرائي، لأن ذلك عمل لدنيا

1 انظر تيسير العزيز الحميد ص 531، ومعارج القبول 2/454.

2 مسلم بشرح النووي 4/2034.

ص: 368

يصيبها، والمرائي عمل لأجل المدح والجلالة في أعين الناس، وكلاهما خاسر، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه"1.

ولخطورة هذا الأمر على عقيدة التوحيد فقد حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد التحذير في أحاديث كثيرة، فهو بتعلق بنية العبد وقصده لا يعلم ذلك منه إلا الله وحده.

ومن هذه الأحاديث ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا اتنقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة في الحراسة، وإن كان في الساقة في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع"2.

وهذا دعاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بصيغة الخبر الماضي الذي يدل على تحقيق الوقوع، ولا ريب أن من كانت الدنيا ومتاعها الزائل قصده ونيته، وهدفه وغايته، فإنه خاسر هالك في الدنيا والآخرة، وقد سماه عليه الصلاة والسلام – عبدا – وهو الاسم والوصف المناسب له، إذ لو كان عبدا لله تعالى لطلب ذلك منه سبحانه وتعالى وهو الله الذي له الخلق والأمر

1 سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب – تيسير العزيز الحميد ص 534-535.

2 البخاري مع الفتح 6/81.

ص: 369

سبحانه، ليستعين بها على طاعته وعبادته وحده، ورضي بما اختاره الله له ورضيه، ولكنه قطع تعلقه بربه، وتعلق بغيره من أعراض الدنيا وحطامها الفاني، حتى كان كما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط".

"فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدا لها، وربما صار مستعبدا معتمدا على غير الله فيها، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله، ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله، وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة" وهذا هو عبد لهذه الأمور، ولو طلبها من الله، فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإن منعه إياها سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله، ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحب الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، فهذا الذي "استكمل الإيمان" 1.

وهذا الحرص الشديد من رسول الله صلى الله عليه وسلم والتحذير من هذه الأمور، ودعاؤه عليه الصلاة والسلام على من هذا حاله، نظرا لما لها من عظيم الخطر على حمى التوحيد، ولشدة الرغبة والمحبة لهذه الأشياء التي جبل الناس على حبها، والحرص عليها، حتى صارت لكثير منهم هدفا وقصدا استحق بسببه دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سبق في الحديث، إذ وصفهم

1 ابن تيمية – العبودية ص 27.

ص: 370

بعبوديتهم لغير الله تعالى، تحذيرا من الشرك ووسائله وطرقه، وحماية لجناب التوحيد، وحرصا على أهله.

هذه بعض الأمثلة على بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لتوحيد العبادة وبيان ما يضاده وينافيه وحمايته صلى الله عليه وسلم لهذا النوع من التوحيد، الذي هو لب التوحيد والغاية التي لأجلها خلق الله الناس وبعث فيهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وأنزل فيهم الكتب، وهو حق الله عز وجل على عباده وأول فرض على المكلف، وأول ما دعا إليه الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام أممهم.

لذا كان جديرا أن يكون له هذا الاهتمام من رسول الله صلى الله عليه وسلم والبيان الواضح والحماية العظيمة من كل ما يضاده أو يدنسه ويشوبه من شرك أو بدعة أو شك أو شهوة أو شبهة، فحقق عليه الصلاة والسلام هذا التوحيد، وحسم عنهم مواد الشرك، وربى أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين على ذلك، فكانوا بعد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام خير من عرف توحيد الله تعالى ودعا إليه وحماه، ومن بعدهم التابعون ومن تبعهم بإحسان في كل زمان ومكان.

ص: 371