الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: دعوة عيسى عليه الصلاة والسلام
وهو عيسى بن مريم ابنت عمران، عبد الله ونبيه ورسوله، أحد أولي العزم من الرسل، آخر الرسل قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وآخر الرسل من بني إسرائيل، وأمه مريم ابنت عمران، عليها وعلى ابنها السلام، كان أبوها عالماً كبيراً، وصاحب صلاة بني إسرائيل، وقدكانت مريم من العابدات1، وقصتها وقصة عيسى عليه السلام وولادته ودعوته قد قصها القرآن الكريم في أكثر من موضع2.
وقد بعثه الله عز وجل إلى بني إسرائيل بعد أن انحرفوا عن منهج الله تعالى الذي جاء به موسى عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وذكر بما جاء به موسى عليه السلام من قبله من الهدى والبينات.
وقد اخترت من دعوته عليه السلام عدداً من المواقف:
1-
بدء دعوته عليه السلام
ظهرت علامات نبوته ومظاهر فضله عليه السلام منذ ولادته، وجرت على يديه منذ صغره معجزات وانتشر خبره في الناس، واختاره الله تعالى
1 انظر: البداية والنهاية لابن كثير 2/ 52.
2 منها: سورة آل عمران، وسورة المائدة، وسورة مريم، والزخرف، والحديد، والصف.
لرسالته، والله أعلم حيث يجعل رسالته1، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة التي اصطفاه الله لحملها، وجاء إلى بني إسرائيل وقد غيروا الشريعة التي جاء بها موسى عليه السلام، وحرفوا التوراة، فمنهم المكذبون المنكرون للبعث والحساب، ومنهم المنغمسون في لهوهم وملذاتهم المعرضون عن طاعة الله تعالى، فكانوا في أمس الحاجة إلى رسول من الله تعالى يعيدهم إلى جادة الصواب وينقذهم من الضلال والشرك، ويردهم إلى ما تركهم عليه موسى عليه السلام.
وقد بين عيسى عليه السلام لبني إسرائيل دعوته التي جاء بها أول الأمر كما أخبر الله عنه: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 2.
بين لهم عيسى عليه السلام الذي جاء به، وأهم ذلك توحيد الله عز وجل إفراده بالعبادة فهو الصراط المستقيم الذي يسير عليه الأنبياء والرسل جميعاً ويدعون الناس إليه، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء
1 انظر: نفس المصدر 2/ 72.
2 الآيتان (50 – 51) من سورة آل عمران.
أبناء علاة1، ليس بيني وبينه نبي" 2.
واستمر عيسى عليه السلام في دعوته لبني إسرائيل، يبين لهم الحق ويدعوهم إليه، ويحذرهم العواقب الوخيمة لما هم عليه من الباطل والضلال إن لم يرجعوا عنه وكانت معارضتهم له على أشدها، وعداؤهم له ولأتباعه كذلك، والله عز وجل يؤيده بأنواع التأييد من حفظه له ولأتباعه، وإظهار المعجزات التي بهرتهم ووقفوا حائرين عاجزين أمامها، ورأوا أنها لا تصدر من مخلوق من عند نفسه.
قال الله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ
1 أولاد العلات: الأخوة من الآباء أمهاتهم شتى. انظر: فتح الباري للحافظ ابن حجر 6/ 489.
2 البخاري مع الفتح 6/ 478.
3 الآيتان (46 – 47) من سورة المائدة.
فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1.
ومن المعجزات التي آتاها الله تعالى رسوله عيسى عليه السلام، ما طلبه أتباعه الحواريون من إنزال المائدة، وقد نصحهم عيسى بأن يعدلوا عن سؤالهم، ولكنهم أصروا على ذلك فسأل الله تعالى ذلك فاستجاب الله تعالى له3، قال الله عز وجل: {إذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ
1 الآيتان (48 – 49) من سورة آل عمران.
2 الآية (110) من سورة المائدة.
3 قيل: إن المائدة نزلت فعلاً. وقيل: إنها لم تنزل فقد عدل الحواريون عن طلبهم، حين عرض عليهم العذاب إن كفروا. وقيل: هي مثل ضربه الله. وكل هذه الأقوال مروية عن السلف.
انظر: تفسير ابن كثير 2/ 116 – 118.
يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} 1.
ومع هذه المعجزات العظيمات والآيات البينات فقد أصر قومه على ما هم فيه من الشرك والضلال، فأعلن عليه السلام في قومه: من أنصاري إلى الله فاستجاب له الحواريون وهم أنصاره، كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ندب الناس يوم الأحزاب فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لكل نبي حواري، وحواري الزبير"2.
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ
1 الآيات من (112 – 115) من سورة المائدة.
2 صحيح البخاري مع الفتح 7/ 80، وصحيح مسلم بشرح النووي 15/ 188.
3 الآيتان (52 – 53) من سورة آل عمران.
مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} 1.
وكما فعل عيسى عليه السلام فعل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين أصر كفار مكة على ما هم عليه، فقد كان يعرض نفسه على القبائل في مواسم الحج، ويطلب منهم من يقبل دعوته ويؤيده حتى يبلغ رسالة ربه حيث أبتْ قريش ذلك، فأيده الله تعالى بالأنصار رضي الله عنهم جميعاً2.
2-
عقيدة أهل الكتاب في عيسى عليه السلام:
بين الله عز وجل أن عيسى بن مريم عليه السلام عبد من عباده اصطفاه لرسالته، وأنه كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وقص ذلك وبينه لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم فقال سبحانه:{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3.
ومما أمر الله تعالى عبده ورسوله عيسى عليه السلام أن يقول لقومه: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 4. وهي دعوة الأنبياء
1 الآية (14) من سورة الصف.
2 انظر: تفسير ابن كثير 4/ 362.
3 الآيتان (34 – 35) من سورة مريم.
4 الآية (36) من سورة مريم.
والرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام، ولكنهم كانوا كما قال الله عز وجل:{فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 1.
ولقد ضل في عيسى بن مريم عليه السلام طائفتان:
الأولى: اليهود عليهم لعنة الله تعالى عليهم الذين قالوا عنه: إنه ابن زنية، أخزاهم الله تعالى، فهو رسول الله تعالى الطاهر ابن الطاهرة مريم عليها السلام التي قال الله تعالى عنها:{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} 2. وقال عنهم: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} 3.
والطائفة الثانية: التي قابلت اليهود في الكفر هم النصارى لعنهم الله تعالى، قالوا عنه: إنه الله تعالى، ومنهم من قال: ابن الله، ومنهم من قال: ثالث ثلاثة: الأب والابن والروح القدس، وقد توعد الله تعالى الطائفتين بقوله سبحانه:{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 4.
1 الآية (37) من سورة مريم.
2 الآيتان (42 – 43) من سورة آل عمران.
3 الآية (156) من سورة النساء.
4 الآية (37) من سورة مريم.
وهدى الله عز وجل أهل الحق والإيمان إلى القول الحق في ذلك فقالوا: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
وقد أكذب الله تعالى النصارى وأخبر عن كفرهم بما قالوه في عيسى عليه السلام1، قال عز وجل:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2.كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3.
ثم بين سبحانه القول الحق في ذلك فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ
1 انظر: تفسير القرطبي 6/ 249 –252، والبداية والنهاية لابن كثير 2/ 67، 68، ودعوة الرسل للعدوي ص 344.
2 الآية (17) من سورة المائدة.
3 الآيات (72 – 74) من سورة المائدة.
أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَ
انَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} 1.
وقد بيَّن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم لأمته المنهج الحق والصراط المستقيم الذي ضلت عنه اليهود والنصارى في شأن عيسى عليه السلام، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد أن لا إله إلا الله
_________
1 الآية (171) من سورة النساء.
2 الآيات من (75 – 77) من سورة المائدة.
3 الآية (30) من سورة التوبة.
وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل"1.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن مشابهة النصارى، وحذر من الوقوع مما وقعوا من الغلو في عيسى عليه السلام، فقال: صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"2.
وسيأتي الكلام عن ذلك عند الحديث عن الإطراء والغلو إن شاء الله تعالى.
رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، وبطلان عقيدة الصلب
بقي عيسى عليه السلام دائباً في دعوته، مجاهداً في سبيلها، يلاقي من بني إسرائيل الإعراض والصدود والأذى، مع ما أتاه الله من الحجج والآيات والمعجزات.
بدأ الناس يقبلون على دعوته، وأتباعه وأنصاره المؤمنون بدعوته يزيدون يوماً بعد يوم، وتحرك في نفوس اليهود مكرهم المعهود، وأخذوا يتآمرون على عيسى عليه السلام لاستئصال دعوته والقضاء عليها، وعزموا على قتله، كما هو طبعهم وشأنهم مع أنبياء الله تعالى ورسله
1 البخاري مع الفتح 6/ 414.
2 البخاري مع الفتح 1/ 478.
عليهم الصلاة والسلام، {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} 1. ودخلوا عليه وهو عليه السلام جالس مع بعض أصحابه ليقتلوه، فألقى الله تعالى شبهه على بعض أصحابه ورفعه إليه وأخذ اليهود ذلك الشاب وقتلوه وصلبوه ظانين أنه عيسى، وضلوا في ذلك ضلالاً بعيداً2.
وللمفسرين في معنى قوله تعالى: {مُتَوَفِّيكَ} أقوال، أرجحها، أن المراد بالوفاة هنا النوم، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} 4. وكما قال سبحانه: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 5.
1 الآية (87) من سورة البقرة.
2 انظر: البداية والنهاية لابن كثير 2/ 825.
3 الآية (55) من سورة آل عمران.
4 الآية (60) من سورة الأنعام.
5 الآية (42) من سورة الزمر.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من النوم يقول: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور"1.
وهذا يرجح القول بأن المراد بالتوفي النوم على قول من قال: إن الله أماته ساعات ثم أحياه، أو قول من قال: إن الله تعالى أماته ثلاثة أيام ثم أحياه، وغير ذلك من الأقوال2.
وقد أكذب الله تعالى اليهود في زعمهم قتل عيسى عليه السلام فقال سبحانه: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 3.
فقد فضح الله تعالى كيد اليهود ومكرهم وكذبهم أنهم قتلوا عيسى، أما النصارى فمع كونهم لم يشاهدوا ذلك، فإن عامتهم قد سلموا بذلك، وضلوا فيه ضلالاً مبيناً، وصار الصليب شعار عبادتهم ورمز تعارفهم وتفاخرهم.
نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان:
سبق الكلام عن رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، وسينزل عليه
1 البخاري مع الفتح 7/ 16، ومسلم بشرح النووي 17/ 35.
2 انظر: تفسير ابن كثير 1/ 366، وأضواء البيان لمحمد الأمين الشنقيطي 1/ 245.
3 الآيتان (157 – 158) من سورة النساء.
السلام في آخر الزمان، ويقيم العدل في الأرض، ويحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويفرض الجزية، كما ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها:
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد"1. ثم يقول أبو هريرة: واقرؤا إن شئتم {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلأَ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} 2.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بين ظهراني الناس المسيح الدجال فقال: "إن الله ليس بأعور، ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية3، وأراني الله عند الكعبة في المنال رجلاً آدم4 كأحسن ما يرى من أُدم الرجال، يضرب لمته5 بين
1 البخاري مع الفتح 6/ 490، ومسلم بشرح النووي 2/189.
2 الآية (159) من سورة النساء.
3 الحبة التي قد خرجت عن حد نبتة أخواتها فظهرت من بينها وارتفعت. وقيل: أراد الحبة الطافية على وجه الماء شبه عينه بها. النهاية لابن الأثير 3/ 130.
4 الأدمة البياض مع سواد المقلتين. المصدر السابق 1/ 32.
5 اللمة: من شعر الرأس دون جمة، سميت بذلك لأنها ألمت بالمنكبين، فإذا زاد فهي الجمة. انظر: المصدر السابق 4/ 273.
منكبيه، ورَجْل الشعر، يقطر رأسه ماء، واضعاً يديه على منكبي رجلين، وهو يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ قالوا: هو المسيح بن مريم، ورأيت رجلاً وراءه قططاً1 أعور العين اليمنى، كأشبه من رأيت بابن قطن2، وضعاً يديه على منكبي رجل يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ قالوا: المسيح الدجال" 3.
وفي رواية البخاري: "بينما أنا نائم أطوف بالكعبة، وإذا رجل آدم سبط الشعر، يُهَوِّد4 بين رجلين، ينظف رأسه ماءاً، أو يهرق ماءاً، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا المسيح ابن مريم، فذهبت التفت فإذا رجل أحمر حسيم جعد الرأس، أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية، قلت: من هذا؟ قالوا: الدجال، وأقرب الناس به شبهاً ابن قطن"5.
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه في حديث طويل عن الدجال وما يكون من أمره، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق في
1 القطط: الشعر القصير المستجد.
2 ابن قطن بن عبد العزى رجل من بني المصطلق من خزاعة هلك في الجاهلية على الصحيح. انظر: فتح الباري 13/ 98 – 100.
3 مسلم بشرح النووي 2/ 235، 236.
4 المشي الرويد المتأني. النهاية لابن الأثير 4/ 273.
5 البخاري مع الفتح 13/ 90.
مهروذين1، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه جمان2 كاللؤلؤ، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات، ونفسه حيث انتهى طرفه، فيطلبه حيث يدركه بباب لد3 فيقتله، ثم يأتي عيسى ابن مريم قوماً قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم عن درجاتهم في الجنة" 4. الحديث.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنتم إذا نزل فيكم عيسى بن مريم وإمامكم منكم"5.
وهذه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل صراحة على أن رسول الله عيسى عليه السلام سوف ينزل في آخر الزمان، ويقع منه ما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترد على الذين أنكروا ذلك، وقدموا عقولهم وتأويلاتهم الباطلة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
1 تُروى بالدال المهملة والذال المعجمة، والمهملة أكثر: وهما ثوبان مصبوغان بورس ثم بزعفران، وقيل: هما شقتان والشقة نصف الملاءة. لسان العرب مادة: (هرد) .
2 الجمان: بضم الجيم وتخفيف الميم حبات من الفضة تصنع على هيئة اللؤلؤ الكبار، والمراد يتحدر منه الماء على هيئة اللؤلؤ في صفائه. انظر: المصدر السابق مادة: (جمن) .
3 بلدة قريبة من قدس.
4 مسلم بشرح النووي 18/ 67 – 68.
5 البخاري مع الفتح 6/ 491.