المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: توحيد الربوبية - حماية الرسول صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد

[محمد بن عبد الله زربان الغامدي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

-

- ‌الفصل الأول: نماذج من دعوة الأنبياء والرسل (عليهم الصلاة والسلام)

- ‌المبحث الأول: دعوة نوح عليه الصلاة والسلام

- ‌المبحث الثاني: دعوة هود عليه السلام

- ‌المبحث الثالث: دعوة رسول الله صالح عليه الصلاة والسلام

- ‌المبحث الرابع: دعوة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام

- ‌المبحث الخامس: دعوة موسى عليه الصلاة والسلام

- ‌المبحث السادس: دعوة عيسى عليه الصلاة والسلام

- ‌الفصل الثاني: دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: حالة العرب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثالث: بدء دعوته صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: التوحيد أول واجب على العبد

-

- ‌الفصل الثالث: أنواع التوحيد

- ‌المبحث الأول: توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثالث: توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الرابع: منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى التوحيد

- ‌الفصل الرابع: أنواع الشرك

- ‌المبحث الأول: الشرك الأكبر

- ‌المبحث الثاني: الشرك الأصغر

- ‌المبحث الثالث: الشرك الخفي

-

- ‌الفصل الخامس: منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في حماية التوحيد

- ‌المبحث الأول: منهجه عليه الصلاة والسلام في حماية توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: منهجه عليه الصلاة والسلام في حماية توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثالث: حماية الرسول صلى الله عليه وسلم توحيد الأسماء والصفات

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الأول: توحيد الربوبية

‌المبحث الأول: توحيد الربوبية

ومعناه: الاعتقاد بأن الله تعالى هو الرب المتفرد بالخلق والرزق، وأنه المالك المدبر الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو توحيد الله تعالى بأفعاله1.

وهذا النوع من أنواع التوحيد قد أقر به الكفار، وشهد لهم القرآن بذلك، ولكن ذلك لم ينفعهم شيئا فلم يخرجهم من الكفر ولم يدخلهم في الإسلام.

قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2

وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3.

وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 4.

1 انظر تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد ص 33، ودعوة التوحيد للهراس ص 32.

2 الآية 79 من سورة العنكبوت.

3 الآية 61 من سورة الزخرف.

4 الآية 31 من سورة يونس.

ص: 211

وقال: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ َسَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 1.

والآيات في هذا كثيرة كلها تدل على إقرار الكفار واعترافهم بربوبية الله تعالى، ولكن ذلك لم ينفعهم شيئا إذ لم يعترفوا بألوهيته ويخلصوا له العبادة سبحانه.

طريقة القرآن الكريم في إثبات الربوبية لله تعالى:

القرآن الكريم آخر الكتب السماوية وناسخها، فكان لابد لأن يأتي مشتملا على الحجج والبراهين الواضحة والأدلة القاطعة التي تدعوا إلى الإيمان بالله وربوبيته وألوهيته لخلقه، وتقطع في الوقت نفسه شبه المعاندين وتحريف المنحرفين وزيغ الزائفين في كل زمان ومكان كما قال سبحانه:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} .

وكما قال سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} 2.

1 الآيات من 84-89 من سورة المؤمنون.

2 الآية 88 من سورة الإسراء.

ص: 212

وقال سبحانه: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} 1.

فلوا ظهر الإلحاد يوما في أي صورة وتحت أي شعار وجد في أدلة القرآن القاطعة وحججه الدامغة ما يكشف زيفه ويفضح باطله ويدحض حجته، ليأخذ بأيدي الناس إلى الحق المبين الذي يصلهم برب العالمين.

وأدلة القرآن الكريم في بيان ربوبية الله تعالى لخلقه كثيرة:

منها:

1-

دليل الفطرة:

وهذا أمر داخل الإنسان نفسه مستقر في قلبه، فهو مفطور على الإقرار بأن له خالقا، وهذا هو الأصل الذي فطر عليه البشر، وما يحصل من ضلال أو انحراف أمر طارئ على هذه الفطرة السليمة.

قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} 2.

فهذه شهادة أخذها الله على بني آدم وهم في عالم الذر أنه تعالى ربهم وخالقهم3، فاستقرت معرفته فطرة في قلوب البشر، وإن دنسها

1 الآية 33 من سورة الفرقان.

2 الآيتان172، 173 من سورة الأعراف.

3 انظر: كتاب الدين الخالص لصديق حسن خان 1/391.

ص: 213

أو حجبها الباطل يوما ما، فإنها تظهر وتتجلى ويزول عنها هذا الحجاب والغشاوة إما إجابة ً لداعي الإيمان، أو تحت ضغط شدة ومصيبة، كما قال تعالى:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 1.

وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} 2.

وقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} 3.

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} 4.

فالفطرة هي الأصل في البشر، والانحراف والضلال طارئ عليها بشهادة القرآن كما سبق، والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها حديث

1 الآية 22 من سورة يونس.

2 الآيات 63، 64 من سورة الأنعام.

3 الآية 32 من سورة لقمان.

4 الآية 201 من سورة الأعراف.

ص: 214

أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه" 1 ولم يقل يسلمانه لأن الإسلام موافق للفطرة.

ومنها حديث عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فكان مما جاء في خطبته: "إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا، كل مال نحلته (منحته) عبدا حلال، وأني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا"2.

بل إن توحيد الله تعالى أمر فطري كذلك، قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3.

ولهذا كان قول الرسل عليهم الصلاة والسلام لأممهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 4 وتجد أسلوب القرآن في آيات المعرفة الفطرية

1 البخاري مع الفتح 3/219.

2 صحيح مسلم مع شرح النووي 17/197.

3 الآية 30 من سورة الروم.

4 الآية 10 من سورة إبراهيم.

ص: 215

أسلوب التذكير بهذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها والتي لأجلها أشهدهم على أنفسهم في الأزل، وشهدوا بذلك1.

2-

دليل الخلق والتدبير:

تناول القرآن الكريم قضية الخلق والتدبير تناولا فريدا، وعني بتوجيه العقول إلى النظر في آفاق الكون وآيات الله الكثيرة، وأهاب بالعقل أن يستيقظ من سباته ليتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وما أودع فيهما من الآيات، ويكرر القرآن ذلك في أساليب متنوعة ليرى هذا الإنسان ويسمع في آفاق الكون ما يقوده إلى الإيمان بخالقه سبحانه وتعالى ويعلم أن هذا الكون لم يكن وليد الصدفة كما يزعم الملحدون الجاحدون، بل هو صنع الله الخالق المدبر، المستحق للعبادة وحده لا شريك له.

فوا عجبا كيف يعصى الإله

أم كيف يجحده الجاحد

وفي كل شيء له آي

ة

تدل على أنه واحد2

وقد جاء الحديث في القرآن الكريم عن قضية الخلق في أغلب سوره عن خلق الإنسان وخلق السماوات والأرض والجبال والأنعام وغير ذلك

_________

1 انظر: كتاب التوحيد وإخلاص العمل لوجه الله عز وجل لابن تيمية، تحقيق د. محمد السيد الجليند ص22-38، والعقيدة في الله للدكتور عمر الأشقر ص65-66.

2 انظر: كتاب التوحيد وإخلاص العمل لوجه الله عز وجل لابن تيمية، تحقيق د. محمد السيد الجليند ص 54، وكتاب الإيمان في القرآن للدكتور / مصطفى عبد الواحد ص 16-18.

ص: 216

من الآيات وبين ما فيها من عجائب وحكم وإحكام ودقة نظام، وهي آيات كثيرة يضيق المقام عن حصرها والإحاطة بها.

ومن هذه الآيات قوله تعالى عن خلق الإنسان: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} 1.

وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} 2.

وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 3.

ودعا سبحانه إلى التفكير في الخلق المتقن المتناسق فقال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 4.

1 الآيات من 5-7 من سورة الطارق.

2 الآية 5 من سورة الحج.

3 الآياتمن 12-14 من سورة المؤمنون.

4 الآية 21 من سورة الذاريات.

ص: 217

وقال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1.

وقال: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُون} 2.

ومنها قوله تعالى عن خلق السموات والأرض: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 3.

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} 4.

وقوله سبحانه: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} 5.

1 الآية 53 من سورة فصلت.

2 الآية 6 من سورة الزمر.

3 الآيتان 163، 164من سورة آل عمران.

4 الآية 41 من سورة فاطر.

5 الآيات من 27-33 من سورة النازعات.

ص: 218

وقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 1.

وقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْم يَعْقِلُونَ} 2.

وهذه قد جمعت مع خلق السموات والأرض آيات أخرى من آيات الله تعالى التي يراها البشر ويحسونها تتجلى فيها عظمة خالقها سبحانه، وآيات كثيرة تجمع عددا كبيرا من آيات الله تعالى ويعرضها القرآن للناس دلائل على الخالق سبحانه وعظمته وتدبيره وعنايته وأنه خالق كل شيء ومالكه وهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له.

ومن هذه الآيات قوله سبحانه: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُون وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ

1 الآية 57 من سورة غافر.

2 الآيتان 163، 164 من سورة البقرة.

ص: 219

مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 1.

ومنها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.

فبعد أن ذكر بعض آياته ونعمه بالتخصيص ذكرهم بأنه هو خالقها وخالقهم وخالق كل شيء وغيره ليس له شيء من ذلك، ثم ذكر عموم نعمته عليهم وعجزهم عن الإحاطة بها، ثم قال بعد ذلك: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ

1 الآيات 37-40 من سورة يس.

2 الآيات من 10-18 من سورة النحل.

ص: 220

مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونََ} 1.

والآيات في هذا كثيرة جدا ومعظم السور المكية مليئة من هذه الآيات لمن تدبرها، كلها تبين آياته سبحانه ومخلوقاته وعظيم نعمته بذلك، وتدعوهم إلى التفكر في ذلك والتدبر، وأن هذه المخلوقات والآيات العظيمة لها خالق مدير عظيم، وأن غيره لا يملك من ذلك شيئا فكلهم مربوبون مخلوقون، وأنه سبحانه هو المستحق للعبادة سبحانه دون ما سواه، وقد أمر الله الناس بالنظر في هذا الملكوت الكبير وما فيه من الآيات العظيمة، أمرهم بذلك في آيات كثيرة من كتابه الكريم، وذم من لم ينظر في ذلك ويتفكر ليقوده ذلك إلى معرفة ربه الخالق المدبر ليعلم أنه المستحق للعبادة وحده.

ومن هذه الآيات قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} 2.

وقوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3.

1 الآيات 20 – 22 من سورة الحج.

2 الآية 101 من سورة يونس.

3 الآية 20 من سورة العنكبوت.

ص: 221

وقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} 1.

وقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} 2.

المنكرون لربوبية الله تعالى:

سبق الكلام على أن معرفة الله تعالى والإقرار به أمر فطري، وأن الله قد أخذ الميثاق علىعباه وهم في الأزل وهم في عالم الذر أنه ربهم فشهدوا بذلك على أنفسهم كما قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} 3.

1 الآية 185 من سورة الأعراف.

2 الآيات 6-11من سورة ق.

3 الآيتان 172، 173 من سورة الأعراف.

ص: 222

وأقر الكفار بربوبية الله تعالى وشهد الله لهم بذلك، ولكن ذلك لم ينفعهم شيئا حيث أشركوا في ألوهيته واتخذوا شركاء وآلهة من دون الله زعموا أنها تشفع لهم عند الله.

ومع هذا فقد وجد في البشر من أنكر ربوبية الله وجحدها، ونسبها إلى نفسه أو اعتقدها في غيره، وقائد هؤلاء جميعا فرعون موسى الذي ادعى الربوبية لنفسه وأرغم قومه على الاعتراف بها وأعلن ذلك فيهم كما قال الله حكاية عنه:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 1.

وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} 2.

وقال موجها الخطاب إلى رسول الله موسى عليه الصلاة والسلام حين دعاه إلى عبادة الله وحده: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} 3.

وبلغ به الفساد والمكابرة إلى أن قال كما حكى الله عنه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} 4.

1 الآية 38 من سورة القصص.

2 الآية 24 من سورة النازعات.

3 الآية 29 من سورة الشعراء.

4 الآية 36، 37 من سورة غافر.

ص: 223

{فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 1

ومثله ذلك الذي حاج إبراهيم عليه السلام في ربه وناظره إبراهيم عليه السلام فأفحمه، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 2.

وكذلك الرسل احتجت بالمعجزات على أشد الخلق عنادا، وكان هذا الذي أفحم به إبراهيم عليه السلام خصمه الكافر الذي زعم أنه يحيي ويميت، فقال إبراهيم:{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} 3 وهو الذي احتج به موسى عليه الصلاة والسلام على فرعون، وسماه موسى شيئا بينا كما جاء في سورة الشعراء حيث قال

1 الآية 38 من سورة القصص.

2 الآية 258 من سورة البقرة.

3 الآية 258 من سورة البقرة.

ص: 224

فرعونك: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} فقال موسى عليه الصلاة والسلام: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ

} 1 الآية.

ومن هؤلاء المنكرين الجاحدين لربوبية الله تعالى: الدهريون: الذين يزعمون أن العالم يسير بنفسه، وهم الذين قال الله عنهم:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} 2.

فكذبهم الله تعالى في زعمهم هذا، وبين أنهم لا علم لهم بذلك، وأن مصدرهم في ذلك الظن، وغاية حجة هؤلاء حين يدعون إلى الحق، ويسمعون آيات الله غاية حجتهم طلب إخراج آبائهم وإعادتهم، ورد الله عليهم في الآية التي بعد الآية السابقة فقال تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 3.

وهؤلاء الملحدون منهم، فوصفهم – سبحانه- بعدم العلم مرة أخرى.

1 أبو عبد الله بن الوزير، ترجيح أساليب القرآن على الأساليب اليونان ص 92.

2 الآية 24 من سورة الجاثية.

3 الآية 26-27 من سورة الجاثية

ص: 225

والعجب من هؤلاء كيف يغالطون أنفسهم، ويكابرون ويجحدون فطرهم التي تقر بوجود الله تعالى، وأنه خالقهم وربهم، فينكرون ذلك وينسبونه إلى غيره كفرا وإلحادا.

فصورة هؤلاء الملاحدة أن جميع الموجودات وجدت بغير موجد، وجدت مصادفة من طبيعة عمياء لا علم ولا قصد ولا شيء من الشعور الإرادي، فلو صورت المحالات والممتنعات بأوضح من هذا التصوير، وأشد مكابرة للعقول لم يهتد المصور إلى تعبير شيء ممتنع أبلغ من هذا المنطق الجنوني، وهذا جزاء من جاءه الحق فرده، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} 2.

ومنهم: الثنوية3: من المجوس الذين يجعلون للعالم خالقين، خالقا للخير وهو النور، وخالقا للشر وهو الظلمة4.

وكذلك: النصارى: القائلون بالتثليث، فيجعلون الآلهة ثلاثة: الأب، والابن، والروح القدس.

1 الآية 110 من سورة الأنعام.

2 عبد الرحمن بن ناصر السعدي – الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين ص 63-64.

3 الثنويه: هم أصحاب الاثنين الأزليين يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان. انظر الملل والنحل للشهرستاني على هامش الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/80.

4 انظر الفتاوى لابن تيمية 3/97.

ص: 226

ولما وجد في الناس من ينازع في توحيد الربوبية، ويجعل لغير الله عز وجل شيئا من الشركة معه في الخلق والتدبير، لم يهمل القرآن الكريم الاحتجاج له، بل قرره أبدع تقرير في سورة المؤمنين {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} .

يقول شارح الطحاوية عن هذه الآية: "فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية"1.

ولكن هؤلاء المنكرين الجاحدين لربوبية الله جميعا وإن أنكروا ذلك وجحدوه فإن الحقيقة التي ينبغي أن تعرف أنهم في أنفسهم يقرون بأن الله خالقهم وإن أنكروا ذلك في الظاهر، فهم كما قال الله:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 2.

وأول هؤلاء فرعون، الذي كشف له موسى عن حقيقته التي يخفيها ويتنكر لها، فقال له موسى كما حكى الله عنه:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} 3.

1 محمد خليل الهراس، دعوة التوحيد ص 33-35.

2 الآية 14 من سورة النمل.

3 الآية 102 من سورة الإسراء.

ص: 227

وكذلك موسى يجيبه في مناظرته له وتجاهله لخالقه وربه تجاهل العارف، قال الله تعالى:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} 1 ولما وجهه موسى بهذه الحجج والحقائق الدامغة التي لا يستطيع فرعون المغالطة فيها كانت إجابته لا تعدوا الاستهتار والمكابرة ولما ظهر عجزه أطلق سلاح الجبابرة المعروف، وهو التهديد فقال:{قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} 2 فكان فرعون يعلم ويتيقن أن الله ربه وخالقه ولكن كبره وعناده وغروره وتزيين الملأ من حوله الذي كان يوجه القول إليهم حين يسأله موسى، كل ذلك أبى عليه إلا أن يتمادى في طغيانه وضلاله وإضلاله قومه {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} 3.

ولقد أفصح فرعون عن هذه الحقيقة التي كان يجحدها، أفصح عنها في غير وقتها، حين عاين الموت، وأيقن بالهلاك كما قال الله عنه: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ

1 الآيات 23-28 من سورة الشعراء.

2 الآية 29 من سورة الشعراء.

3 الآية 54 من سورة الزخرف.

ص: 228

آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} 1.

ومثل فرعون كل الملاحدة والدهريين، فهم في قرارة أنفسهم يعترفون بأن الله ربهم وخالقهم، ولكنهم يغالطون ويكابرون هذه الحقيقة، فمعرفة الله تعالى مستقرة في الفطر، ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قال: إن للعالم صانعين متماثلين في الصفات والأفعال، والثنوية من المجوس، والنصارى القائلون بالتثليث مع ما في قولهم من الكفر لم يقولوا بالتساوي بين الآلهة، فالمجوس لا يسوون بين النور والظلمة، فالنور هو الأصل عندهم وهو الذي سيغلب في النهاية، والنصارى لا يقولون بتساوي الأقانيم الثلاثة، بل متفقون على أن صانع العالم واحد، ويقولون: باسم الابن والأب وروح القدس إله واحد2.

والقرآن قد بين أتم بيان وأقطع حجة أن الله تعالى هو وحده الخالق المالك المدبر رب كل شيء ومليكه كما سبق ذكره في الآية السابقة وهي

قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3.

1 الآية 90، 91 من سورة يونس.

2 انظر: شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص 80، ومدارج السالكين لابن قيم الجوزية 1/62، ودعوة التوحيد لخليل الهراس ص 33.

3 الآيتان 91، 92 من سورة المؤمنون.

4 الآيتان 21، 22 من سورة الأنبياء.

ص: 229

وقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 4. وبهذه الطريقة البينة الواضحة المستقيمة، بين القرآن ربوبية الله تعالى للناس، ودعاهم إلى ربهم وخالقهم ليعبدوه وحده لا شريك له بأوضح أسلوب وأسهل طريق.

أما ما سلكه كثير من المتكلمين من مسالك عقلية لإثبات الربوبية، كالاستدلال على وجود الله تعالى عن طريق الجواهر والأعراض، إلى آخر ما يقولون في ذلك من أمور يصعب فهما حتى على المتخصص فضلا عن الجمهور، مع ما عليها من اعتراضات وما فيها من اختلاف.

وكذا ما سلكه الفلاسفة في هذا الباب من تقسيم الموجود إلى ممكن الوجود، وواجب الوجود، وما لهم من كلام حول ذلك ليس هذا مكان استقصائه ويجعلونه دليلا على وجود الله تعالى، ويسمونه علم ما بعد الطبيعة، وإمامهم في ذلك أرسطو، الذي يلقبونه المعلم الأول، وتبعهم في بعض ذلك بعض الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام كابن سينا وغيره، وخلطوا في ذلك بين ما سلكه المتكلمون وما سلكه الفلاسفة1.

وكلا المسلكين انحراف عن الصراط المستقيم، ينتهي بأهله إلى الشك والشطح والانحراف.

1 انظر درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 8/135، والفتاوى1/49.

ص: 230

والطريقة الشرعية تتضمن الخبر بالحق والتعريف بالطرق الموصلة إليه النافعة للخلق.

وأما الكلام على كل ما يخطر ببال كل أحد من الناس من الشبهات السوفسطائية فهذا لا يمكن أن يبينه خطاب على وجه التفصيل، والعلوم الفطرية الضرورية حاصلة مع صحة الفطرة وسلامتها، وقد يعرض للفطرة ما يفسدها ويمرضها فترى الحق باطلا، كالبدن إذا فسد أو مرض فإنه يجد الحلو مرا، ويرى الواحد اثنين، فهذا يعالج بما يزيل مرضه.

والقرآن فيه شفاء لما في الصدور من الأمراض، والنبي صلى الله عليه وسلم علم أن وسواس التسلسل في الفاعل يقع في النفوس، وإنه معلوم الفساد بالضرورة، فأمر عند وروده بالاستعاذة بالله منه، والانتهاء عنه كما في الصحيحين – واللفظ لمسلم – عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل: آمنت بالله".

وفي لفظ آخر: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ فيقول الله، ثم ذكر بمثله، وزاد ورسله"

وفي لفظ آخر يقول: "من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فيستعذ بالله ولينته" هذا لفظ البخاري1 أو نحوه2. ثم ذكر أحاديث أخرى في هذا المعنى.

1 البخاري مع الفتح 6/336، ومسلم بشرح النووي 2/153، 154.

2 ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل 3/306-307.

ص: 231

1-

أن ربوبية الله تعلى أمر فطري مستقر في النفوس، والإلحاد والكفر طارئ عليها.

2-

طريق القرآن الكريم في إثبات ربوبية الله تعالى هي الطريقة الأصوب والأقرب للإفهام، والموافقة لأصل الفطرة، وطريقة المتكلمين والفلاسفة ومن نحا نحوهم طريقة تثير الشك أكثر مما تدعو إلى الإيمان.

3-

وجود من يجحد الربوبية لله ويدعيها لنفسه أو ينسبها لغيره، وجاء القرآن بالرد القاطع على هؤلاء وأمثالهم.

4-

جحود المنكرين للربوبية مخالف لما في نفوسهم، إذ هم في قرارة نفوسهم يعترفون بأن الله خالقهم.

5-

الحق أنه لم يوجد في البشر من يقول بوجود خالقين متماثلين متكافئين في الصفات والأفعال.

6-

المشركون كانوا يقرون بالربوبية لله تعالى والقرآن شهد لهم بذلك، وإقرارهم هذا لم ينفعهم، لعدم إقرارهم بألوهية الله عز وجل.

7-

بيان القرآن الكريم للربوبية دعوة إلى توحيد الألوهية.

8-

خطأ من جعل توحيد الربوبية هو المطلب الأول في التوحيد.

ومما تقدم يتضح أن هذه الشواهد التي سلف ذكرها قد جاءت لترسيخ هذا النوع من أنواع التوحيد، وحفظهم من مزالق الإلحاد، والاستدلال به على توحيد الألوهية، التي جاءت الرسل بالدعوة إليه، ولهذا فإن حماية توحيد الربوبية وبيانه للناس مطلوب للدعوة إلى توحيد الألوهية وحمايته.

ص: 233