المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: دعوة نوح عليه الصلاة والسلام - حماية الرسول صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد

[محمد بن عبد الله زربان الغامدي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

-

- ‌الفصل الأول: نماذج من دعوة الأنبياء والرسل (عليهم الصلاة والسلام)

- ‌المبحث الأول: دعوة نوح عليه الصلاة والسلام

- ‌المبحث الثاني: دعوة هود عليه السلام

- ‌المبحث الثالث: دعوة رسول الله صالح عليه الصلاة والسلام

- ‌المبحث الرابع: دعوة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام

- ‌المبحث الخامس: دعوة موسى عليه الصلاة والسلام

- ‌المبحث السادس: دعوة عيسى عليه الصلاة والسلام

- ‌الفصل الثاني: دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: حالة العرب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثالث: بدء دعوته صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: التوحيد أول واجب على العبد

-

- ‌الفصل الثالث: أنواع التوحيد

- ‌المبحث الأول: توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثالث: توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الرابع: منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى التوحيد

- ‌الفصل الرابع: أنواع الشرك

- ‌المبحث الأول: الشرك الأكبر

- ‌المبحث الثاني: الشرك الأصغر

- ‌المبحث الثالث: الشرك الخفي

-

- ‌الفصل الخامس: منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في حماية التوحيد

- ‌المبحث الأول: منهجه عليه الصلاة والسلام في حماية توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: منهجه عليه الصلاة والسلام في حماية توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثالث: حماية الرسول صلى الله عليه وسلم توحيد الأسماء والصفات

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الأول: دعوة نوح عليه الصلاة والسلام

‌المبحث الأول: دعوة نوح عليه الصلاة والسلام

وهو أول الرسل وأحد أولي العزم منهم، بعثه الله تعالى حين انحرف الناس عن الدين الصحيح والتوحيد الحق، وظهر الشرك فيهم أول ما ظهر بعد أن كانوا على التوحيد الصحيح عشرة قرون بعد آدم عليه السلام كما جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام"1.

ولما رأى الشيطان ذلك ما زال يوسوس ويزين ويلبس حتى استطاع أن يصل بهم في نهاية الأمر إلى تعظيم تلك الصور وعبادتها من دون الله، ثم انتقلت بعد ذلك إلى العرب ليقعوا فيما وقع فيه من سبقهم من الشرك ولانحراف.

كما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكانت بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهمدان، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم بني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما نسر فكانت لآل ذع الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت2.

1 أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 42 والطبري في تفسيره 29/ 99 وقال: هذا إسناده موقوف صحيح، رجاله كلهم ثقات.

2 صحيح البخاري مع الفتح 8/ 667.

ص: 54

فلما ظهر الشرك بعد أن لم يكن بعث الله نبيه ورسوله نوحاً عليه السلام يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى وحده ويحذرهم من الشرك الذي وقعوا فيه، ويبين لهم خطورة ما هم عليه1، وقص الله تعالى علينا دعوة رسوله نوح عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن الكريم2، ويمكن أن نلخص دعوته عليه السلام إلى توحيد الله تعالى في المواقف التالية:

الأول: بداية بدء الدعوة

بدأ عليه السلام دعوته بالتوحيد، والتحذير من الشرك وبيان خطورته ووخيم عاقبته، قال الله عز وجل:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَاّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَاّ بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَاّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} 3.

وقال عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 4.

1 انظر: البداية والنهاية لابن كثير 1/ 94.

2 منها سورة الأعراف، وهود، والأنبياء، والمؤمنون، والشعراء، والعنكبوت، والصافات، والقمر، وسورة كاملة هي سورة نوح.

3 الآيات من (25 – 28) من سورة هود.

4 الآية (59) من سورة الأعراف.

ص: 55

وآيات أخرى تبين أن الدعوة إلى توحيد الله عز وجل والنهي عن الشرك كانت أول ما بدأ به نوح عليه السلام دعوته، وسار على ذلك الأنبياء والمرسلين من بعده1، ذلك أن التوحيد أول ما فرضه الله على عباده، وهو الذي من أجله بعث الأنبياء والرسل وأنزلت عليهم الكتب والرسالات، فكلما انحرف الناس عن هذا الطريق وزاغوا عنه، وظهر فيهم الشرك بالله تعالى بعث الله إليهم من يجدد لهم معالم هذه العقيدة، ويردهم إلى الصراط المستقيم وينقذهم من خطر الشرك والانحراف.

الثاني: براءة نوح من قومه ودعاؤه عليهم

ما رأى نوح عليه السلام إصرار قومه على الكفر وتمسكهم به ودفاعهم عنه، ومكابرتهم للحق، رغم صبره على أذاهم، ومضيه في دعوته إلى دين الله تعالى ليلاً ونهارا ً، ذلك الزمن الطويل، وأن ذلك لم يزدهم إلا عتواً واستكباراً2 توجه إلى ربه:{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَاّ فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} 3، فأعلمه ربه عز وجل بقوله:{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَاّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 4.

1 انظر كتاب دعوة التوحيد لخليل الهراس ص 128.

2 انظر كتاب دعوة الرسل لمحمد أحمد العدوي ص 17.

3 الآيات من (5 – 7) من سورة نوح.

4 الآية (36) من سورة هود.

ص: 56

عند ذلك أعلن نوح براءته من قومه ودعا الله تعالى أن يهلكهم وأن يطهر الأرض من شركهم وضلالهم: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَاّ فَاجِراً كَفَّاراً رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَاّ تَبَاراً} 1. وكما قال عنه ربه تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} 2، وقد استجاب له ربه سبحانه وتعالى كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} 3. وقال سبحانه: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} 4.

وأهلك الله قومه الكافرين ومنهم ابنه الذي لم يفتأ يدعوه إلى الإيمان إلى أن أدركه الغرق، وكان يراجع ربه فيه حتى قال له ربه عز وجل:{يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 5. عندها تبرأ نوح منه وسأل ربه المغفرة والرحمة، لأن علاقة النسب وكل علاقة دون علاقة الإيمان لا عبرة بها، إذا لم تكن علاقة الإيمان بالله تعالى.

1 الآيات من (26 – 28) من سورة نوح.

2 الآية (10) من سورة القمر.

3 الآية (75) من سورة الصافات.

4 الآية (76) من سورة الأنبياء.

5 الآية (46) من سورة هود.

ص: 57

وقد عوض الله نبيه نوحاً بأن جعل في ذريته إبراهيم عليهما السلام النبوة والكتاب، فما بعث نبي إلا وهو من ذريتهما قال تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} 1.

قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: "يخبر الله تعالى أنه منذ بعث نوحاً عليه السلام لم يرسل بعده رسولاً ولا نبياً إلا من ذريته، وكذلك إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن لم ينزل كتاباً ولا أرسل رسولاً ولا أوحى إلى بشر من بعده إلا هو من سلالته، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} 2، حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى بن مريم الذي بشر من بعده بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما"3.

وهكذا من ترك شيئاً لله تعالى عوضه الله خيراً منه، والولاء لله تعالى مطلوب من كل مؤمن، والبراءة من كل كافر ومشرك مطلوب ولو كان أقرب الناس إليه، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ

1 الآية (26) من سورة الحديد.

2 الآية (27) من سورة العنكبوت.

3 الحافظ ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 4/ 315.

ص: 58

الظَّالِمُونَ} 1. وقال جل شأنه: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2.

الثالث: أهم الدروس والعبر من دعوة نوح عليه السلام

1-

أن التوحيد كان أول ما دعا إليه نوح عليه السلام قومه، وبدأ به دعوته، وكذلك الرسل من بعده.

2-

أن عقيدة التوحيد هي الأصل الذي كان عليه الناس من آدم عليه السلام إلى أن ظهر الشرك في قوم نوح عليه السلام بعد عشرة قرون، فقد كانوا قبل ذلك على التوحيد الصحيح الموافق للفطرة التي فطر الله الناس عليها، والشرك حادث طارئ بعد أن لم يكن، وهذا معنى قوله عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَاّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا

1 الآية (23) من سورة التوبة.

2 الآية (22) من سورة المجادلة.

ص: 59

جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1.

وقد جاء في تفسير هذه الآية الكريمة أن معنى قوله عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي على الهدى والتوحيد، ثم اختلفوا بأن ظهر فيهم الشرك، فبعث الله تعالى رسله عليهم الصلاة والسلام وأولهم نوح عليه السلام، وبهذا القول قال ابن عباس رضي الله عنهماومجاهد وعكرمة وقتادة.

ومنهم من قال: إن معنى الآية: أنهم كانوا كفاراً، وروي هذا القول عن العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما.

والقول الأول هو الصحيح لما يأتي:

أ- ما جاء في الحديث الصحيح سالف الذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن الناس كانوا عشرة قرون على التوحيد بعد آدم عليه السلام.

ب– ما ثبت عن ابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهما أنهما كانا يقرءان هذه الآية: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} وهما ممن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ القرآن عنهما2.

1 الآية (213) من سورة البقرة.

2 وهو: قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا القرآن عن أربعة عن ابن أم عبد، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة " صحيح مسلم بشرح النووي 16/ 17 – 18. وابن أم عبد هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ص: 60

جـ – ما جاء في الآية الأخرى في سورة يونس وهي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَاّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 1.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية الكريمة: "ثم أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس، كائن بعد أن لم يكن، وأن الناس كلهم على دين واحد، وهو الإسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام"، ثم وقع الاختلاف بين الناس وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان، فبعث الله الرسل بآياته وحججه البالغة وبراهينه الدامغة {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} "23.

د – القول الأول أصح سنداً عن ابن عباس رضي الله عنهما من القول الثاني.

هـ – القول الثاني لا يناسب سياق الآية الكريمة، فقوله تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} مدح يشعر بالقوة والترابط والوحدة، وهذا لا يكون إلا بالإيمان والتوحيد، أما الكفر والشرك ففرقة وشتات كما قال

1 الآية (19) من سورة يونس.

2 الآية (42) من سورة الأنفال.

3 ابن كثير تفسير القرآن العظيم 2/ 411.

ص: 61

عزَّ وجل: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} 1. وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} 2.

وبهذا يتضح أن الأصل هو التوحيد الموافق للفطرة والشرك طارئ حادث، وأن الدعوة إلى التوحيد دعوة بالناس إلى الأصل الذي كانوا عليه، والفطرة التي فطرهم الله عليها، والشرك خروج عن ذلك وانحراف عنه، ولذلك اقتضت حكمة الله الحكيم الخبير أن يبعث أنبياءه ورسله وينزل الكتب للعودة بالبشرية إلى هذا المنهج القويم، وحمايتها من كل انحراف عنه وأول ذلك وأخطره الشرك بالله تعالى.

3-

من الدروس والعبر في عودة نوح عليه السلام: أن أول شرك ظهر في الأرض كان سببه الغلو في الصالحين، وتجاوز الحد في تعظيمهم، ولا يزال كذلك إلى يومنا هذا سبباً في وقوع كثير من الناس في الشرك بالله تعالى، والمطية الأولى التي يركبها الشيطان لفتنة بني آدم في دينهم وإيقاعهم في الشرك، وأول وسائله إلى ذلك تزيين إقامة الأنصاب والتماثيل والصور حتى يتعلقوا بها ثم لا يزال بهم حتى يعبدوها، كما جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها: مارية، فذكرت له ما

1 الآية (14) من سورة الحشر.

2 الآية (159) من سورة الأنعام.

ص: 62

رأت فيها من الصور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله تعالى" وفي لفظ آخر في الصحيحين: "أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها"1.

فانظر كيف كان الغلو في الصالحين طريقاً إلى الشرك بالله تعالى مع طول الفارق الزمني، ولا يزال الشيطان يدخل على كثير من ضعفاء الإيمان من هذا الباب حتى يصل في نهاية الأمر إلى الشرك، نعوذ بالله من ذلك.

4-

من الدروس والعبر في دعوة نوح عليه السلام: تشابه صور الشرك وأعمال أهله في كل زمان ومكان مهما كان التفاوت الزمني في ذلك، فالأصنام التي ظهرت في قوم نوح أظهرها الشيطان للعرب فكانت فيهم يوم أن أظهرها عمرو بن لحي الخزاعي أخزاه الله، وما عمله المشركون في عهد نوح ويعمله المشركون في كل زمن من التعلق بالصالحين والغلو فيهم، ثم عبادتهم من دون الله عز وجل.

5-

من الدروس والعبر في هذه الدعوة: أن رابطة الإيمان والعقيدة هي الرابطة الأولى التي تغني عن كل رابطة ولا تغني عنها رابطة مهما كانت قوتها أو قربها، وأن موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين أمر مطلوب من

1 البخاري مع الفتح 1/ 523.

ص: 63

كل مؤمن، قال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الآية1. وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} 2، وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} 3.

1 الآية (22) من سورة المجادلة.

2 الآية (71) من سورة التوبة.

3 الآية (73) من سورة الأنفال.

ص: 64