المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: حالة العرب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم - حماية الرسول صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد

[محمد بن عبد الله زربان الغامدي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

-

- ‌الفصل الأول: نماذج من دعوة الأنبياء والرسل (عليهم الصلاة والسلام)

- ‌المبحث الأول: دعوة نوح عليه الصلاة والسلام

- ‌المبحث الثاني: دعوة هود عليه السلام

- ‌المبحث الثالث: دعوة رسول الله صالح عليه الصلاة والسلام

- ‌المبحث الرابع: دعوة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام

- ‌المبحث الخامس: دعوة موسى عليه الصلاة والسلام

- ‌المبحث السادس: دعوة عيسى عليه الصلاة والسلام

- ‌الفصل الثاني: دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: حالة العرب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثالث: بدء دعوته صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابع: التوحيد أول واجب على العبد

-

- ‌الفصل الثالث: أنواع التوحيد

- ‌المبحث الأول: توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثالث: توحيد الأسماء والصفات

- ‌المبحث الرابع: منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته إلى التوحيد

- ‌الفصل الرابع: أنواع الشرك

- ‌المبحث الأول: الشرك الأكبر

- ‌المبحث الثاني: الشرك الأصغر

- ‌المبحث الثالث: الشرك الخفي

-

- ‌الفصل الخامس: منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في حماية التوحيد

- ‌المبحث الأول: منهجه عليه الصلاة والسلام في حماية توحيد الربوبية

- ‌المبحث الثاني: منهجه عليه الصلاة والسلام في حماية توحيد الألوهية

- ‌المبحث الثالث: حماية الرسول صلى الله عليه وسلم توحيد الأسماء والصفات

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الأول: حالة العرب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم

‌الفصل الثاني: دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم

‌المبحث الأول: حالة العرب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم

المبحث الأول: حالة العرب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم

العرب:

هم ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، أسكن إبراهيم ابنه إسماعيل وأمه بمكة وتوجه إلى ربه قائلا:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} 1.

وكان نزوله بإسماعيل وأمه إلى مكة وتركهما فيها بأمر ربه، روى البخاري رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أول ما اتخذ النساء المنطق2 من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقا لتعفى أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت عند درجة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها مار، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قضى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذا

1 الآية 37 من سورة إبراهيم.

2 المنطق: بكسر الميم وسكون النون وفتح الطاء. وجمعه نُطق: بضم النون والطاء وهو ما يشد به الوسط. انظر فتح الباري 6/400، والقاموس المحيط 3/295.

ص: 139

لا يضيعنا، ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي

إلى قوله: {يَشْكُرُونَ} 1.

وكانت ولاية البيت في بني إسماعيل من بعده حتى انتزعتها قبيلة جرهم، ثم انتزعتها منهم خزاعة، ثم عادت إلى قصي وبنيه حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبقي بنوا إسماعيل من بعده على دين إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام زمنا، ثم بدأ الشرك يدب فيهم حينما خرج بعضهم من مكة وقد ضاقت بهم، فكان من أراد أن يسافر أخذ معه حجرا من الحرم تعظيما له، فأينما نزل وضعه وطاف به ثم خلف من بعدهم خلوف تمادى بهم الغلو فعبدوا هذه الحجارة وغيرها، حتى جاء عمرو الخزاعي2 فكان أول من جاء بالأصنام إلى مكة سواء منها ما جاء به من البلقاء أو التي كانت من عهد قوم نوح، فكان – أخزاه الله – أول من نصب الأوثان وغير دين إسماعيل وأول من سيب السوائب3. كما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض

1 البخاري مع الفتح، 3/396، 398.

2 هو عمر بن لحي بن حارثة بن عمر بن عامر الأزدي من قحطان أول من غير دين إسماعيل ودعا العرب إلى عبادة الأوثان، كنيته أبو ثمامة، وفي نسبه خلاف شديد.

3 السوائب: جمع سائبة، وهي التي كانوا يجعلونها لآلهتهم فلا يحمل عليها شيء، ولا تمنع من ماء ولا مرعى ولا تحلب ولا تركب.

والسائبة: هي أم البحيرة.

انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 2/431.

ص: 140

أحاديثه فقال: "رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ورأيت عمرا يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب"1.

وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب ".

فانتشرت عبادة الأصنام والأوثان في جزيرة العرب وعادت تلك الأصنام التي كانت في عهد قوم نوح مرة أخرى وظهرت في جزيرة العرب وعبدت من دون الله تعالى كما سبق أن ذكرنا ما أخرجه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد: أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم بني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم

الحديث"2.

ولم تقتصر عبادة الأصنام في الجزيرة على هذه المذكورة في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، بل ظهرت أصنام كثيرة وصارت عبادتها مسيطرة عليهم لا يرون الاستغناء عنها في حضر أو سفر، مع اعترافهم بوجود الله

1 البخاري مع الفتح 6/547.

2 تقدم تخريجه ص 55.

ص: 141

تعالى ولكنهم كانوا يقولون كما قال الله تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1 وكانوا كما سلف ذكره يحملون حجارة الحرم إذا سافروا خارجه، وأكثر من ذلك ما ورد في صحيح الإمام البخاري رحمه الله عن رجاء العطاردي قال:"كنا في الجاهلية إذا لن نجد حجرا جمعنا حثية من التراب وجئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا بها "2.

ودخلت عبادتها في كل دار، فجعلت لها صنما تعبده مع عبادة أصنامهم الكبيرة المشهورة، قال ابن إسحاق:"واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه، فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، وإذا قدم من سفره تمسح به فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله "3.

وكانوا إذا أهلّوا بالتلبية قالوا: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، فأشركوا مع الله غيره، فدعوا أصنامهم معه سبحانه، وجعلوا ملكها بيده.

قال السهيلي: "وكانت التلبية من عهد إبراهيم: لبيك لا شريك لك لبيك حتى كان عمرو بن لحي، فبينما هو يلبي تمثل له الشيطان في صورة

1 الآية 3 من سورة الزمر.

2 البخاري مع الشرح 8/90.

3 ابن هشام، السيرة النبوية 1/85.

ص: 142

شيخ يلبي معه، فقال عمرو: لبيك لا شريك لك، فقال الشيخ: إلا شريكا هو لك، فأنكر ذلك عمرو، وقال: وما هذا؟ فقال الشيخ قل: تملكه وما ملك، فإنه لا بأس بهذا، فقالها عمرو، فدانت بها العرب"1.

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكره هذه التلبية وينكرها قبل أن يبعث، فقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلكم قدٍ قدٍ"2، فيقولون: إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت "3.

قال ابن إسحاق: "واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات، وفيهم مع ذلك بقايا من عهد إبراهيم يتمسكون بها، من تعظيم البيت، والطواف به، والحج والعمرة، والوقوف على عرفة والمزدلفة وهدي البدن، والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه، فكانت كنانة وقريش إذا أهلّوا قالوا: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك"فيوحدونه بالتلبية، ثم يدخلون معه أصنامهم، ويجعلون ملكها بيده، يقول الله تبارك وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ

1 أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي، الروض الآنف 1/102.

2 قدٍ قدٍ: روى بإسكان الدال وكسرها مع التنوين ومعناه كفاكم.

3 صحيح مسلم بشرح النووي 8/90.

ص: 143

وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 1 أي ما يوحدونني لمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكا من خلقي2.

وقد بلغت عبادة الأصنام في جزيرة العرب مبلغا لم تبلغه من قبل، فأصنام خاصة وأصنام عامة وأحجار وأشجار وبيوت بل أدخلوها داخل الكعبة وعلقوها عليها وحولها، ومنها هبل الذي كان على صورة إنسان من ذهب داخل الكعبة أمامه القداح وأساف ونائلة وغيرها كثير.

قال ابن الكلبي في كتاب الأصنام: "واستهترت3 العرب في عبادة الأصنام، فمنهم من اتخذ بيتا، ومنهم من اتخذ صنما، ومن لم يقدر عليه، ولا على بناء بيت نصب حجرا أمام الحرم، وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت، وسموها الأنصاب، فإذا كانت تماثيل دعوها الأصنام والأوثان، وسموا طوافهم الدوار، فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلا أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه ربا، وجعل ثلاثا أثافي لقدره، وإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلا آخر فعل مثل ذلك، فكانوا ينحرون ويذبحون عندها ويتقربون إليها وهم مع ذلك عارفون بفضل

1 الآية 106 من سورة يوسف.

2 أبو محمد عبد الملك بن هسام. السيرة النبوية 1/80.

3 الاستهتار بالشيء: الولوع والشغف به، فلان مستهتر بالشراب مولع به، ولا يبالي ما قيل، وكذلك يقال استهتر فلان فهو مستهتر إذا كان كثير الأباطيل.

انظر لسان العرب لابن منظور5/250، وكل ما تقدم فمعناه يصدق على عباد الأصنام.

ص: 144

الكعبة عليها يحجونها ويعتمرون إليها "1.

وأكثر ما كان عليه المشركون قبل بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام وفي مبعثه دعوى الشريك لله تعالى والولد، ولذلك جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تنزه الله تعالى عن هذين الشركين، كقوله تعالى:{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} 2.

وكقوله سبحانه: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} 3 وسورة الإخلاص وآيات كثيرة أخرى في كتاب الله تعالى4.

ولم يقتصر الشرك في جزيرة العرب على الأصنام المشار إليها، وإن كانت هي الكثرة الغالبة عليهم، بل وجدت بينهم ديانات وعبادات أخرى من أشهرها: الصائبة، وهم عبدة الكواكب والنجوم، ولكل جماعة أو قبيلة منهم كوكب يعبدونه ويتقربون إليه ويعتقدون أنها تنفعهم تضرهم.

ومنها ما دب إليها من بلاد الفرس من عبادة المجوس واعتقاد في النار وعبادة لها وأكثر ما كانت في قبيلة تميم، ومعها كذلك تسربت الزندقة

1 أبو المنذر هشام بن الكلبي. الأصنام ص 33.

2 الآية 100 من سورة الأنعام.

3 الآية 111 من سورة الإسراء.

4 انظر كتاب النبوات لابن تيمية ص 28 وما بعدها.

ص: 145

التي اعتنقها الدهريون الملحدون الذين لا يقرون بإله1 وهم كما قال الله تعالىعنهم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَاّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَظُنُّونَ} 2.

ومنها المسيحية وقد دخلت على الجزيرة من بعض البلاد المجاورة من بلاد الشام والعراق ومن الحبشة إلى اليمن، ثم انتشرت في بعض نواحي الجزيرة ومنها طيء ودومة الجندل ونجران وغيرها، وقد بقيت في نجران حتى بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وفدوا عليه وفرض عليهم الجزية حيث لم يسلموا.

أخرج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: "جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه3 قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فوالله لئن كان نبيا فلاعننا

1 الدهريون: جماعة من معطلة العرب أنكروا الخالق والبعث والإعادة وقالوا بالطبع المحيي والدهر المفني. انظر الملل والنحل للشهرستاني 2/235، وكتاب تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 63، وكتاب تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور السيد عبد العزيز سالم 1/427، وكتاب الجاهلية قديما وحديثا، أحمد أمين عبد الغفار ص 50.

2 الآية 24 من سورة الجاثية.

3 يلاعناه: أي يباهلاه وهو المراد بقوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (آل عمران:61) .

ص: 146

لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا، فقال:"لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين"، فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"قم يا أبا عبيدة بن الجراح"، فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا أمين هذه الأمة"1.

ومنها: اليهودية التي وجدت في شمال الجزيرة في يثرب وخيبر ووادي القرى وفي جنوب الجزيرة في اليمن، ولكن على الرغم من وجود اليهود وتعايشهم مع العرب واشتغالهم بأنواع كثيرة من الحرف، فإن اليهودية لم تنتشر في العرب، ولعل من أسباب ذلك عدم اهتمامهم بنشر عقيدتهم، واعتقادهم أنهم شعب الله المختار كما يزعمون، واحتقارهم للعرب، وانشغالهم بجمع الأموال واحتكار الأعمال.

وقد هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبها ثلاث قبائل منهم وهم بنو قينقاع، وبنو قريظة وبنو النظير وقد عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة، ولكنهم نكثوا وغدروا كما هي سجيتهم، فكانت نهايتهم القتل أو الجلاء، حتى كان آخر جلائهم في خلافة عمر رضي الله عنه.

ومع هذا الخليط من العقائد والديانات والوثنيات التي انتشرت في جزيرة العرب، مع هذا كله كانت جماعة من الناس قد نبذت هذا كله، ولم يكن له قبول عندها فترفعوا عما كان عليه المشركون والكفار من الكفر والضلال، وتمسكوا ببقايا من دين إبراهيم عليه السلام2، وقد

1 البخاري مع الفتح 7/92، ومسند الإمام أحمد 1/18.

2 انظر: كتاب تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 63، 64.

ص: 147

اجتمع عدد منهم وتشاوروا فيما عليه قومهم من الباطل وما الذي يجب عليهم للحفاظ على أنفسهم، فتفرق بعضهم في البلاد التماسا للحق، وهي الحنفية ملة إبراهيم، ولهذا فقد سمي هؤلاء بالحنفاء، والمتحنفين، وكان منهم من تنصر وكان عنده قسط كبير من علم أهل الكتاب، مثل ورقة بن نوفل، ابن عم خديجة بنت خويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم، الذي طمأنها بما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يتمنى أن يبقى ألى مبعثه ليناصره ويؤازره، وكان يستبطئ مبعثه ويقول: حتى متى؟

ومنهم زيد بن عمرو بن نفيل الذي بقي على ما هو عليه مما بقي من الحنفية ملة إبراهيم، وخرج إلى بلاد الشام والعراق يبحث فيها عن دين إبراهيم ثم عاد إلى مكة وكان يلوم قومه على ما يفعلونه من عبادة الأصنام والأوثان ومما قال في ذلك:

أربا واحدا أم ألف رب

أدين إذا تقسمت الأمور

عزلت اللات والعزى جميعا

كذلك يفعل الجلد الصبور

فلا العزى أدين ولا ابنتيها

ولا صنمي بني عمرو أزور

ولا هبلا أدين وكان ربا

لنا في الدهر إذا حلمي يسير

عجبت وفي الليالي معجبات

وفي الأيام يعرفها البصير

بأن الله قد أفنى رجالا

كثيرا كان شأنهم الفجور

وأبقى آخرين ببر قوم

فيربل منهم الطفل الصفير

ص: 148

وبينا المرء يفتر ثاب يوما

كما يتروح الغصن المطير

ولكن أعبد الرحمن ربي

ليغفر ذنبي الرب الغفور

فتقوى الله ربكم احفظوها

متى ما تحفوظوها لا تبوروا

ترى الأبرار دراهم جنان

وللكفار حامية سعير

وخزي في الحياة الدنيا وإن يموتوا

يلاقوا ماتضيق به الصدور1

وأخرج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه عن عبد الملك بن عمر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمر بن نفيل بأسفل بلدح2 قبل أن ينزل عليه الوحي، فقُدِّمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة3 فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم4، ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه، وإن زيد بن عمرو يعيب على قريش ذبائحهم تذبحها على غير اسم الله، إنكارا لذلك وإعظاما له "5.

1 أبو محمد عبد الملك بن هشام – السيرة النبوية 1/241، 242.

2 بلدح: فتح الباء، وسكون اللام والحاء: اسم موضع قرب مكة.

3 السفرة: طعام يتخذه المسافر، وأكثر ما يحمل في جلد مستدير، فاستعمل اسم الطعام إلى الجلد وسمي به كما سميت المزاده راويه وغير ذلك من الأسماء المنقولة، النهاية 2/373.

4 الأنصاب: جمع نصب بضم الصاد وسكونها: حجر كانوا ينصبونه في الجاهلية ويتخذونه صنما فيعبدونه.

وقيل: هو حجر كانوا ينصبونه ويذبحون عليه فيحمر بالدم. النهاية 5/60.

5 البخاري مع الفتح 7/142، ومسند الإمام أحمد 3/69.

ص: 149

ومن هؤلاء قس بن ساعدة بن عمرو بن عدي بن مالك الأيادي، الذي كان يخبر عن قرب بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وهو يخطب في سوق عكاظ1 يعظ الناس ويذكرهم، ويبشرهم ببعثته محمد صلى الله عليه وسلم، وكان أحد حكماء العرب وخطبائهم، أول من خطب متوكئا على سيف أو عصا، وأول من قال أما بعد.

1 عكاظ: موضع بقرب مكة كانت تقام بالجاهلية سوق، ويقيمون فيه أيام.

النهاية في غريب الحديث 3/284.

ص: 150