الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي إبَاحَةِ الْمَعَارِيضِ وَمَحَلِّهَا]
) وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَعَارِيضِ، وَتُبَاحُ الْمَعَارِيضُ وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيُّ: عِنْدَ الْحَاجَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا وَتُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ تَحْرِيمِ الْمَعَارِيضِ لِغَيْرِ الظَّالِمِ.
وَقِيلَ: يَحْرُمُ وَقِيلَ: لَهُ التَّعْرِيضُ فِي الْكَلَامِ دُونَ الْيَمِينِ بِلَا حَاجَةٍ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَذَكَرَ فِي بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.
قَالَ مُثَنَّى لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: كَيْفَ الْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ فِي الْمَعَارِيضِ فِي الْكَلَامِ؟ قَالَ: الْمَعَارِيضُ لَا تَكُونُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَتَصْلُحُ بَيْنَ النَّاسِ. فَلَعَلَّ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَعَارِيضَ فِيمَا اسْتَثْنَى الشَّرْعُ مِنْ الْكَذِبِ وَلَا تَجُوزُ الْمَعَارِيضُ فِي غَيْرِهَا.
وَسَأَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ الرَّجُلِ يَحْلِفُ فَيَقُولُ: هُوَ اللَّهُ لَا أَزِيدُكَ يُوهِمُ الَّذِي يَشْرِي مِنْهُ قَالَ: هَذَا عِنْدِي يَحْنَثُ إنَّمَا الْمَعَارِيضُ فِي الرَّجُلِ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ فَأَمَّا فِي الشِّرَاءِ، وَالْبَيْعِ لَا تَكُونُ مَعَارِيضَ قُلْتُ: أَوْ يَقُولُ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ فِي الْمَسَاكِينِ إنْ زِدْتُكَ قَالَ هُوَ عِنْدِي يَحْنَثُ.
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ إنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يُعَارِضُ فِي كَلَام الرَّجُلِ يَسْأَلُنِي عَنْ الشَّيْءِ أَكْرَهُ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهِ؟ قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ يَمِينٌ فَلَا بَأْسَ، فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ. وَهُوَ إذَا احْتَاجَ إلَى الْخِطَابِ، فَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِذَلِكَ فَهُوَ أَشَدُّ.
فَهَذَا النَّصُّ قَوْلٌ خَامِسٌ، وَجَزَمَ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَقَالَ: ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ لَهُ تَأْوِيلُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَلَا نَعْلَمُ فِيهِ
خِلَافًا.
وَذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ إجْمَاعًا وَاحْتَجَّ فِي الْمُغْنِي بِأَنَّ مُهَنَّا كَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَهُوَ وَالْمَرُّوذِيُّ وَجَمَاعَةٌ فَجَاءَ رَجُلٌ يَطْلُبُ الْمَرُّوذِيَّ وَلَمْ يُرِدْ الْمَرُّوذِيُّ أَنْ يُكَلِّمَهُ فَوَضَعَ مُهَنَّا أُصْبُعَهُ فِي كَفِّهِ وَقَالَ لَيْسَ الْمَرُّوذِيُّ هَهُنَا يُرِيدُ لَيْسَ الْمَرُّوذِيُّ فِي كَفِّهِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ.
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: جَاءَ مُهَنَّا إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ أَحَادِيثُ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَعِي هَذِهِ وَأُرِيدُ أَنْ أَخْرُجَ قَالَ مَتَى تُرِيدُ تَخْرُجُ؟ قَالَ السَّاعَةَ أَخْرُجُ، فَحَدَّثَهُ بِهَا وَخَرَجَ، فَلَمَّا كَانَ مَنْ الْغَدِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ جَاءَ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَلَيْسَ قُلْتَ السَّاعَةَ أَخْرُجُ؟ قَالَ: قُلْتُ أَخْرُجُ مِنْ بَغْدَادَ؟ إنَّمَا قُلْتُ لَكَ أَخْرُجُ مِنْ زُقَاقِكَ قَالَ فِي الْمُغْنِي: وَقَدْ ذَكَرَهُ بِنَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَانِ النَّصَّانِ لَا يَمِينَ فِيهِمَا.
وَاحْتَجَّ فِي الْمُغْنِي بِالْأَخْبَارِ الْمَشْهُورَةِ فِي ذَلِكَ وَبِآثَارٍ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا يَمِينٌ كَقَوْلِهِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ» وَلِمَنْ اسْتَحْمَلَهُ «إنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ» وَقَوْلُهُ عليه السلام لِرَجُلٍ حُرٍّ «مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ» ، وَغَيْرُ ذَلِكَ قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالْمَعَارِيضِ وَقَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَقًّا فَقَالَ: «لَا أَقُولُ إلَّا حَقًّا» وَكَانَ يَقُولُ ذَلِكَ فِي الْمِزَاحِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. يُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ إذَا جَازَ التَّعْرِيضُ فِي الْخَبَرِ بِغَيْرِ يَمِينٍ جَازَ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِالتَّعْرِيضِ كَذِبًا مُنِعَ مِنْهُ مُطْلَقًا وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَإِنْ كَانَ صِدْقًا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَأْكِيدِ الصِّدْقِ بِالْيَمِينِ وَغَيْرِهَا وَغَايَةُ مَا فِيهِ إيهَامُ السَّامِعِ وَلَيْسَ بِمَانِعٍ، وَلَا الْمَنْعُ بِغَيْرِ يَمِينٍ وَالْغَرَضُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَيْسَ بِظَالِمٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ وَلَا يُقَالُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْإِيهَامِ بِغَيْرِ يَمِينٍ جَوَازُهُ بِهَا لِأَنَّهُ مَعَهَا آكَدُ وَأَبْلَغُ لِأَنَّا نَقُولُ: لَمْ نَقِسْ بَلْ نَقُولُ: إنْ كَانَ الْإِيهَامُ عَلَيْهِ لِلْمَنْعِ فَلْيُطْرَدْ وَقَدْ جَاءَ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَأَيْضًا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِيهَامَ عَلَيْهِ لِلْمَنْعِ دَعْوَى تَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَلَا يُقَالُ الْأَصْلُ فِي كُلِّ يَمِينٍ عَقَدَهَا الْمُؤَاخَذَةُ بِهَا لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَلَا دَلِيلَ لِأَنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَقْدَهَا مَعَ التَّأْوِيلِ وَالتَّعْرِيضِ يَشْمَلُهَا الْقُرْآنُ ثُمَّ هِيَ يَمِينٌ صَادِقٌ فِيهَا بِدَلِيلِ صِدْقِهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، يُؤَيِّدُهُ أَنَّ حَقِيقَةَ
الْكَلَامِ تَخْتَلِفُ بِالْيَمِينِ وَعَدَمِهَا فَمَا كَانَ صِدْقًا بِدُونِهَا كَانَ صِدْقًا مَعَهَا، هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَعَدَمُ تَغَيُّرِهِ بِالْيَمِينِ فَمُدَّعِي خِلَافَهُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ.
وَقَدْ رُوِيَ «إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ» هَذَا ثَابِتٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَيْسَ هُوَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَلَا الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمَعَارِيضِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ بَسَّامٍ عَنْ دَاوُد بْنِ الزِّبْرِقَانِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ» . وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي زَيْدٍ النُّمَيْرِيِّ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ مَحْبُورٍ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ سَعِيدٍ فَذَكَرَهُ، وَدَاوُد وَالْعَبَّاسُ ضَعِيفَانِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: مَعَ ضَعْفِهِمَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُمَا
وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمُغْنِي هَذَا الْخَبَرَ تَعْلِيقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ مُحْتَجًّا بِهِ وَلَمْ يَعْزُهُ إلَى كِتَابٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] الْمَعَارِيضُ لَا تُذَمُّ خُصُوصًا إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهَا ثُمَّ ذَكَرَ خَبَرَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَلَمْ يَعْزُهُ قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِمَا أَعْلَمُ مِنْ مَعَارِيضِ الْقَوْلِ مِثْلَ أَهْلِي وَمَالِي.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ: لَهُمْ كَلَامٌ يَتَكَلَّمُونَ بِهِ إذَا خَشَوْا مِنْ شَيْءٍ يَدْرَءُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: الْكَلَامُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يَكْذِبَ ظَرِيفٌ وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ كَلَامًا كَثِيرًا فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ لَا يَجُوزُ مَعَ الْيَمِينِ وَمِنْ غَيْرِ يَمِينٍ يَجُوزُ، وَعَنْهُ لَا، وَعَنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ يُقَيِّدُونَ بِهِ الْجَوَازَ الْأَوْلَى بِالْمَصْلَحَةِ لَا مُطْلَقًا، وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْآثَارُ.
وَأَمَّا الْأَصْحَابُ فَتَجُوزُ عِنْدَهُمْ الْمَعَارِيضُ، وَقِيلَ: تُكْرَهُ وَقِيلَ: تَحْرُمُ وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا مِنْهُمْ صَرَّحَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا.
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: التَّدْلِيسُ عَيْبٌ وَقَالَ: أَكْرَهُهُ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ يَتَزَيَّنُ لِلنَّاسِ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ وَكَذَا اقْتَصَرَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى كَرَاهَتِهِ يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا وَقِيلَ: لَهُ كَانَ شُعْبَةُ يَقُولُ: التَّدْلِيسُ كَذِبٌ فَقَالَ لَا قَدْ
دَلَّسَ قَوْمٌ وَنَحْنُ نَرْوِي عَنْهُمْ. وَلَوْ كُرِهَ التَّعْرِيضُ مُطْلَقًا أَوْ حَرُمَ، أَوْ كَانَ كَذِبًا لَعَلَّلَ بِهِ لِاطِّرَادِهِ وَعُمُومِ فَائِدَتِهِ، بَلْ عَلَّلَ بِالتَّزَيُّنِ، وَغَالِبُ صُوَرِ التَّعْرِيضِ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ لَا تَزَيُّنَ فِيهَا، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَلِكَ كَالْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَعْمَلَهَا الشَّارِعُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَلِهَذَا اقْتَصَرَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَلِأَنَّهُ يُفْعَلُ ذَلِكَ كَرَاهَةَ الْوَضْعِ فِي الْحَدِيثِ لِرَاوِيهِ، وَمَنْ كَرِهَ التَّوَاضُعَ فِي الْحَدِيثِ فَقَدْ أَسَاءَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ يَتَزَيَّنُ انْتَهَى كَلَامُهُ، فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ أَمْرٌ يَخْتَصُّ بِالرِّوَايَةِ، لَكِنْ لَا يُعَارِضُ هَذَا نَصَّهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: كُلُّ كَرَاهَتِهِ هُنَا لِلتَّحْرِيمِ يَخْرُجُ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَعَارِيضِ إذَا لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا وَلَا مَظْلُومًا وَالْأَشْبَهُ التَّحْرِيمُ فَإِنَّ التَّدْلِيسَ فِي الرِّوَايَةِ وَالْحَدِيثِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي الْبَيْعِ كَذَا قَالَ. قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ مَا كَذَبَ بَلْ صَدَقَ إلَّا أَنَّهُ أَوْهَمَ، وَمَنْ أَوْهَمَ فِي خَبَرِهِ لَمْ يُرَدَّ خَبَرُهُ كَمَنْ قِيلَ لَهُ حَجَجْت؟ فَقَالَ: لَا مَرَّةً وَلَا مَرَّتَيْنِ يُوهِمُ أَنَّهُ حَجَّ أَكْثَرُ وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ مَا حَجَّ أَصْلًا، فَلَا يَكُونُ كَذِبًا انْتَهَى كَلَامُهُ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا سَبَقَ.
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِي الدِّينِ: لَيْسَ بِصَادِقٍ فِي الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ فَيُقَالُ: قَدْ يَمْنَعُ ذَلِكَ وَعَدَمُ فَهْمِ بَعْضِ النَّاسِ لَيْسَ بِحُجَّةِ فَقَدْ يَفْطِنُ لِلتَّعْرِيضِ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَلِهَذَا لَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ كَذِبًا؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ لُغَةً وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِاسْتِعْمَالِ الشَّارِعِ وَحَقِيقَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ حُدِّثْتُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِصَالِ كُلِّهَا إلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ» عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْكَذِبِ. لَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكَذْبَةَ فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ
اللَّهِ إنَّ لِي ضَرَّةً فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ إنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِي غَيْرَ الَّذِي يُعْطِينِي قَالَ الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ.
وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ» لَهُ طُرُقٌ إلَى بَهْزٍ وَهُوَ ثَابِتٌ إلَيْهِ وَبَهْزٌ حَدِيثُهُ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَلِأَحْمَدَ حَدِيثُ مَكْحُولٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا «لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْكَذِبَ فِي الْمُزَاحِ وَيَتْرُكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا»
الْمِرَاءُ فِي اللُّغَةِ الْجِدَالُ يُقَال: مَارَى يُمَارِي مُمَارَاةً وَمِرَاءً، أَيْ: جَادَلَ. وَتَفْسِيرُ الْمِرَاءِ فِي اللُّغَةِ اسْتِخْرَاجُ غَضَبِ الْمُجَادِلِ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَرَيْتُ الشَّاةَ إذَا اسْتَخْرَجْتُ لَبَنَهَا.
وَعَنْ السَّائِبِ بْنِ أَبِي السَّائِبِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «كُنْتَ شَرِيكِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكُنْتَ خَيْرَ شَرِيكٍ لَا تُدَارِينِي، وَلَا تُمَارِينِي» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَلَفْظُهُ: «كُنْتَ شَرِيكِي فَنِعْمَ الشَّرِيكُ» . وَتُدَارِينِي مِنْ الْمُدَارَاةِ بِلَا هَمْزٍ وَرُوِيَ بِالْهَمْزِ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ.
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ يَا بُنَيَّ: لَا تُمَارِيَنَّ حَكِيمًا، وَلَا تُجَادِلَنَّ لَجُوجًا، وَلَا تُعَاشِرَنَّ ظَلُومًا، وَلَا تُصَاحِبَنَّ مُتَّهَمًا.
وَقَالَ أَيْضًا يَا بُنَيَّ مَنْ قَصَّرَ فِي الْخُصُومَةِ خَصِمَ، وَمَنْ بَالَغَ فِيهَا أَثِمَ، فَقُلْ الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ فَلَا تُبَالِ مَنْ غَضِبَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: كَفَى بِكَ ظَالِمًا أَنْ لَا تَزَالَ مُخَاصِمًا، وَكَفَى بِكَ آثِمًا أَنْ لَا تَزَالَ مُمَارِيًا. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: مَا مَارَيْتُ أَخِي أَبَدًا؛ لِأَنِّي إنْ مَارَيْتُهُ إمَّا أَنْ أَكْذِبَهُ، وَإِمَّا أَنْ أُغْضِبَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: الْخُصُومَةُ تَمْحَقُ الدِّينَ وَتُثَبِّتُ الشَّحْنَاءَ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ. يُقَالُ: لَا تُمَارِ حَكِيمًا وَلَا سَفِيهًا، فَإِنَّ الْحَكِيمَ يَغْلِبُكَ، وَالسَّفِيهَ يُؤْذِيكَ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: مَنْ لَاحَى الرِّجَالَ وَمَارَاهُمْ قَلَّتْ كَرَامَتُهُ، وَمَنْ أَكْثَرَ مِنْ شَيْءٍ عُرِفَ بِهِ.
وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ (الْإِمَامُ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَ
رَكْعَةٍ وَمَحَلُّهُ بِالشَّامِ كَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِالْبَصْرَةِ) قَالَ: إذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ لَجُوجًا مُمَارِيًا فَقَدْ تَمَّتْ خَسَارَتُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أُسَيْدٍ وَيُقَالُ أَسَدٌ مَرْفُوعًا «كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ بِهِ كَاذِبٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَأَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ بَقِيَّةَ عَنْ ضُبَارَةَ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ وَبَقِيَّةُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ مُدَلِّسٌ وَأَبُو ضُبَارَةَ تَفَرَّدَ عَنْهُ ابْنُهُ تَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد (بَابٌ فِي الْمَعَارِيضِ) وَلِأَحْمَدَ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ هَارُونَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَثَمَّ الْمُرَادُ بِهَا الْكَذِبُ، أَوْ التَّعْرِيضُ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ الْكَرَاهَةُ وَاَللَّه أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخَبَرَ الَّذِي يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَمَّا أُسْرِيَ بِي كَانَ أَوَّلُ مَا أَمَرَنِي بِهِ رَبِّي عز وجل قَالَ إيَّاكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَشُرْبَ الْخُمُورِ وَمُلَاحَاةَ الرِّجَالِ» .
وَقَالَ مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ يُوصِي ابْنَهُ كِدَامًا شِعْرًا:
إنِّي مَنَحْتُكَ يَا كِدَامُ وَصِيَّتِي
…
فَاسْمَعْ لِقَوْلِ أَبٍ عَلَيْكَ شَفِيقِ
أَمَّا الْمُزَاحَةُ وَالْمِرَاءُ فَدَعْهُمَا
…
خُلُقَانِ لَا أَرْضَاهُمَا لِصَدِيقِ
إنِّي بَلَوْتُهُمَا فَلَمْ أَحْمَدْهُمَا
…
لِمُجَاوِرٍ جَارٍ وَلَا لِرَفِيقِ
وَالْجَهْلُ يُزْرِي بِالْفَتَى وَعُمُومُهُ
…
وَعُرُوقُهُ فِي النَّاسِ أَيُّ عُرُوقِ
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الرِّيَاشِيُّ:
وَإِذَا بُلِيتُ بِجَاهِلٍ مُتَجَاهِلٍ
…
يَجِدُ الْمُحَالَ مِنْ الْأُمُورِ صَوَابَا
أَوْلَيْتُهُ مِنِّي السُّكُوتَ وَرُبَّمَا
…
كَانَ السُّكُوتُ عَنْ الْجَوَابِ جَوَابَا
وَيَأْتِي بِالْقُرْبِ مِنْ نِصْفِ الْكِتَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا، وَتَحْرِيمِ الْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالْعُجْبِ.
وَقَالَ مَنْصُورٌ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: رُخِّصَ فِي الْكَذِبِ فِي ثَلَاثٍ قَالَ: وَمَا بَأْسٌ عَلَى مَا قِيلَ فِي الْحَدِيثِ.
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا بَأْسَ أَنْ يَكْذِبَ لَهُمْ لِيَنْجُوَ يَعْنِي الْأَسِيرَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: الْكَذِبُ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ جَدٌّ وَلَا هَزْلٌ قُلْتُ لَهُ فَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «إلَّا أَنْ يَكُونَ يُصَالِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ رَجُلٍ لِامْرَأَتِهِ يُرِيدُ بِذَلِكَ رِضَاهَا» قَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، فَأَمَّا ابْتِدَاءُ الْكَذِبِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَفِي الْحَرْبِ كَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَّى بِغَيْرِهَا لَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا فِي الْحَرْبِ» . فَأَمَّا الْكَذِبُ بِعَيْنِهِ فَلَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «الْكَذِبُ مُجَانِبُ الْإِيمَانِ» كَذَا قَالَ، وَرُوِيَ هَذَا الْخَبَرُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مَوْقُوفًا
وَقَالَ أَحْمَدُ: وَلَا يَصْلُحُ مِنْ الْكَذِبِ إلَّا فِي كَذَا وَكَذَا وَقَالَ: لَا يَزَالُ يَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا فَهَذَا مَكْرُوهٌ فَقَدْ نَصَّ عَلَى إبَاحَةِ الْكَذِبِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ لَكِنْ هَلْ هُوَ التَّوْرِيَةُ أَوْ مُطْلَقًا؟ وَرِوَايَةُ حَنْبَلٍ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ ابْتِدَاءِ الْكَذِبِ، وَرِوَايَةُ ابْنِ مَنْصُورٍ ظَاهِرَةٌ فِي الْإِطْلَاقِ فَصَارَ الْمَسْأَلَتَانِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَالْإِطْلَاقُ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِهَذَا اسْتَثْنَوْهُ مِنْ الْكَذِبِ الْمُحَرَّمِ أَعْنِي الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابَ كَمَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّصْرِيحُ وَأَيْضًا التَّعْرِيضُ يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِلَا حَاجَةٍ فَلَا وَجْهَ إذًا لِاسْتِثْنَاءِ هَذِهِ الثَّلَاثَة وَاخْتِصَاصِ التَّعْرِيضِ بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَنْ أَمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مَرْفُوعًا «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ قَالَ بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُولُ خَيْرًا أَوْ يُنْمِي خَيْرًا» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَزَادَ وَلَمْ أَسْمَعْهُ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبًا إلَّا فِي ثَلَاثٍ يَعْنِي: الْحَرْبَ، وَالْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثَ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ وَحَدِيثَ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا، وَهُوَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبًا، وَذَكَرَهُ، وَلِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ قَالَ مَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَذِبِ إلَّا فِي ثَلَاثٍ الْحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَعَنْ شَهْرٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ مَرْفُوعًا «كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى ابْنِ آدَمَ إلَّا ثَلَاثَ خِصَالٍ، إلَّا رَجُلٌ كَذَبَ لِامْرَأَتِهِ لِيُرْضِيَهَا، أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ
فِي خَدِيعَةِ حَرْبٍ، أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَلِلتِّرْمِذِيِّ «لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ» .
وَفِي رِوَايَةٍ «لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ، وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ» وَقَالَ: حَسَنٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شَهْرٍ مُرْسَلًا.
وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ مُرْسَلًا «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْذِبُ لِامْرَأَتِي؟ فَقَالَ لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ فَقَالَ: فَأَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا؟ فَقَالَ لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ» .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْكَذِبُ فِي الصُّلْحِ بَيْنَ الْكَافِرِينَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْأَخْبَارِ وَرِوَايَةُ أَحْمَدَ " بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ " فِي الْخَبَرِ إرْسَالٌ وَشَهْرٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى ثُمَّ ظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْنَ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ لِحَقِّ الْمُسْلِمِ كَالْحُكْمِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ هُوَ مَفْهُومُ
اسْمٍ وَفِيهِ خِلَافٌ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْتَصَّ بِالْمُسْلِمِينَ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَخَصُّ كَمَا يَخْتَصُّ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ لِلصُّلْحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ إطْلَاقِ الْآيَةِ فِيهِ فَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ وَلَعَلَّهُ مُتَعَيَّنٌ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ إنَّمَا جَازَ
لِمَصْلَحَةٍ
شَرْعِيَّةٍ.
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالتَّأْلِيفِ بَيْنَهُمْ مَصْلَحَةٌ شَرْعِيَّةٌ يَفْتَقِرُ إلَى دَلِيلٍ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ثُمَّ يُقَال: لَوْ كَانَ مَصْلَحَةً شَرْعِيَّةً لَجَازَ دَفْعُ الزَّكَاةِ فِي الْغُرْمِ فِيهِ كَالصُّلْحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ دَرَجَةَ الْإِصْلَاحِ أَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَيْسَ بِأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الصُّلْحَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ الَّذِي رَغَّبَ فِيهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي أَجَازَ الْكَذِبَ لِأَجْلِهِ وَأَنَّهُ لَا تَجِبُ إجَابَةُ دَعَوْتِهِمْ بَلْ تُسْتَحَبُّ أَوْ تَجُوزُ أَوْ تُكْرَهُ مَعَ أَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَ بِهَا أَمْرًا عَامًّا وَأَجَابَ دَعْوَةَ يَهُودِيٍّ فَالدَّلِيلُ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ مِنْ الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ وَهُوَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِكْرَامِ وَالْمَوَدَّةِ فَهُنَا مِثْلُهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ قُوَّةِ الدَّلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْكَذِبُ لِلصُّلْحِ بَيْنَهُمْ وَهَلْ يُسْتَحَبُّ أَوْ يُبَاحُ أَوْ يُكْرَهُ؟
يَخْرُجُ فِيهِ خِلَافٌ وَعَلَى هَذَا قَوْلُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ: اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْكَذِبِ إلَّا فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ، وَمُدَارَاةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَإِصْلَاحٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَدَفْعِ مَظْلَمَةٍ مُرَادَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، أَوْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ لِمَا سَبَقَ، وَقَدْ عُرِفَ بِمَا سَبَقَ أَنَّ هَذَا الْإِجْمَاعَ مَدْخُولٌ.
قَالَ أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا بَلَى قَالَ إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ» سَالِمٌ هُوَ ابْنُ أَبِي الْجَعْدِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ هَنَّادٍ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ الْحَالِقَةُ الْخَصْلَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَحْلِقَ أَيْ تُهْلِكَ، وَتَسْتَأْصِلَ الدِّينَ كَمَا يَسْتَأْصِلُ الْمُوسَى الشَّعْرَ.
وَقَالَ صَالِحٌ لِأَبِيهِ: قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ» يُحَدِّثُ
الرَّجُلُ بِكُلِّ شَيْءٍ يُرِيدُ قَالَ أَبِي يَرْوِي عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ» فَفَرَّقَ بَيْنَ مَا يُحَدَّثُ عَنْهُ وَبَيْنَ مَا يُحَدَّثُ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ فَقَالَ «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ فَإِنَّهُ كَانَتْ فِيهِمْ الْأَعَاجِيبُ» فَيَكُونُ الرَّجُلُ يُحَدِّثُ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا بَأْسَ، وَلَا يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إلَّا مَا يَرَى أَنَّهُ صِدْقٌ.
وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إذَا ظَنَّ أَنَّهُ كَذِبٌ كَمَا أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ وَهُوَ ظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّحَدُّثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا لَا يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَيُحَدِّثُ بِمَا يَشُكُّ فِيهِ كَذَا جُزِمَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ عليه السلام قَيَّدَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ يَأْثَمُ إلَّا بِرِوَايَةِ مَا يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّهُ كَذِبًا أَمَّا مَا لَا يَعْلَمُهُ، أَوْ يَظُنُّهُ كَذِبًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ إذًا فَإِنَّكُمْ لَا تُحَدِّثُونَ عَنْهُمْ بِشَيْءٍ إلَّا وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ أَعْجَبُ مِنْهُ وَإِنْ ظَنَّهُ غَيْرَ كَذِبٍ، أَوْ عَلِمَهُ وَفِي رِسَالَةِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَنَّهُ أَبَاحَهُ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَمَّنْ يُجْهَلُ صِدْقُهُ وَكَذِبُهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ عَمَّنْ لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَالْخَبَرُ الْأَوَّلُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَضَبْطُ يَرَى فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا وَالْكَذَّابِينَ عَلَى التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ وَالْخَبَرِ الثَّانِي فِي السُّنَنِ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثٍ حَسَنٍ جَيِّدِ الْإِسْنَادِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا مُعَاذٌ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي حَسَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُنَا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ حَتَّى نُصْبِحَ مَا نَقُومُ إلَّا إلَى عُظْمِ الصَّلَاةِ» حَدِيثٌ حَسَنٌ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ بَابُ رِوَايَةِ حَدِيثِ أَهْلِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثنا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي نَمْلَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ «بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -
وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ مُرَّ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَتَكَلَّمُ هَذِهِ الْجِنَازَةُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ الْيَهُودِيُّ: إنَّهَا تَتَكَلَّمُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُمْ وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُمْ» إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَابْنُ أَبِي نَمْلَةَ اسْمُهُ نَمْلَةُ رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ
وَلِأَحْمَدَ حَدَّثَنَا عَفَّانَ ثنا هِلَالُ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَبِي حَسَّانَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُنَا عَامَّةَ لَيْلِهِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ لَا نَقُومُ إلَّا لِعُظْمِ صَلَاةٍ يَعْنِي: الْمَكْتُوبَةَ الْفَرِيضَةَ» أَبُو هِلَالٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ الرَّاسِبِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَلِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا» الْآيَةَ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
فَصْلٌ يَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهُ الْكَذِبُ هُوَ: إخْبَارُهُ عَنْ الشَّيْءِ خِلَافَ مَا هُوَ عَلَيْهِ لِهَذَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ هِيَ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا كَاذِبًا عَالِمًا بِكَذِبِهِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْأُصُولِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ عليه السلام فِي الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» فَقَيَّدَهُ بِالْعَمْدِ قِيلَ: هُوَ دُعَاءٌ بِلَفْظِ الْأَمْرِ أَيْ: بَوَّأَهُ اللَّهُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ بِلَفْظِ الْأَمْرِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الصَّحِيحِ أَوْ الصَّحِيحَيْنِ «يَلِجُ النَّارَ» وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ شَرْطُ الْكَذِبِ الْعَمْدِيَّةُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَيْضًا يُعْتَبَرُ لِلصِّدْقِ وَالِاعْتِقَادِ وَإِلَّا فَهُوَ كَاذِبٌ وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إنْ طَابَقَ الْحُكْمَ الْخَارِجِيَّ فَصِدْقٌ وَإِلَّا فَكَذِبٌ وَبَحَثَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأُصُولِ هَذَا فِي الْمَاضِيَ وَالْحَالَ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَكَذَلِكَ عَلَى رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ الْمَذْكُورَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْتُ هَارُونَ الْمُسْتَمْلِيَّ يَقُولُ لِأَبِي: بِمَ تَعْرِفُ الْكَذَّابِينَ؟ قَالَ بِالْمَوَاعِيدِ أَوْ بِخُلْفِ الْمَوَاعِيدِ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُصُولِ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَكْذَبُ النَّاسِ الصَّبَّاغُونَ وَالصَّوَّاغُونَ» وَقَالَ: هَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمْ يَعِدُ وَيُخْلِفُ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ قَالَ أَحْمَدُ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ إذَا اسْتَثْنَى بَعْدَهُ فَلَهُ ثُنْيَاهُ لَيْسَ هُوَ فِي الْأَيْمَانِ إنَّمَا تَأْوِيلُهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24] .
فَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْكَذِبِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ لَيْسَ فِيهِ كَفَّارَةٌ وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تُكَفَّرُ وَالْكَذِبُ لَا يُكَفَّرُ قَالَ الْجُمْهُورُ: إنَّ الْمَعْنَى إذَا نَسِيتَ الِاسْتِثْنَاءَ ثُمَّ ذَكَرْتَ فَقُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كَانَ بَعْدَ سَنَةٍ، مَعَ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا مُتَّصِلًا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الصَّوَابُ لَهُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ وَلَوْ بَعْدَ حِنْثِهِ فِي يَمِينِهِ فَيَقُولُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ مِمَّا يَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَرَجُ فَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلَا تَسْقُطُ بِحَالٍ إلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ
مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ. وَمَنْ قَالَ لَهُ ثُنْيَاهُ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ أَرَادَ سُقُوطَ الْحَرَجِ الَّذِي يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ الِاسْتِثْنَاءِ دُونَ الْكَفَّارَةِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَائِدَةُ الِاسْتِثْنَاءِ خُرُوجُ الْحَالِفِ مِنْ الْكَذِبِ إذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. قَالَ مُوسَى عليه السلام {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} [الكهف: 69] وَلَمْ يَصْبِرْ فَسَلِمَ مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ.
وَفِي الْمُغْنِي فِي الطَّلَاقِ أَنَّ الْحَالِفَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ كَاذِبٌ حَانِثٌ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38] إلَى قَوْلِهِ {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل: 39] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} [الحشر: 11] إلَى قَوْلِهِ {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107] .
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: نَظِيرُهَا {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} [الأنعام: 27] الْآيَةَ قَالَهُ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} [العنكبوت: 12] . الْآيَةَ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْكُو حَاطِبًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا فَإِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثِ حَاطِبٍ يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَإِنَّ لَفْظَ الْكَذِبِ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ مَاضٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ، وَهَذَا قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَأَظُنُّهُ احْتَجَّ هُوَ وَغَيْرُهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «آيَةُ الْمُنَافِق ثَلَاثٌ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إخْلَافِ الْوَعْدِ لَيْسَ
بِكَذِبٍ وَإِلَّا لَاقْتَصَرَ عَلَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ كَذِبًا وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَإِنَّمَا ذُكِرَ بِلَفْظٍ خَاصٍّ صَرِيحٍ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبٍ وَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي اللَّفْظِ ثُمَّ غَايَتُهُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ طَرِيقِ الظَّاهِرِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَذِبٌ بِاسْتِعْمَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَلَا تَعَارُضَ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ: لَا يُسْتَعْمَلُ الْكَذِبُ إلَّا فِي إخْبَارٍ عَنْ الْمَاضِي بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ. وَإِذَا قَدْ تَبَيَّنَ هَذَا فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ وُجُودِ شَيْءٍ يَعْلَمُهُ، أَوْ يَظُنُّهُ جَازَ وَإِنْ عَلِمَ عَدَمَهُ أَوْ ظَنَّهُ لَمْ يَجُزْ وَكَذَلِكَ إنْ شَكَّ فِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يَصْلُحُ مُسْتَنَدًا لِلْإِخْبَارِ وَسَوَاءٌ طَابَقَ الْخَارِجَ مَعَ الظَّنِّ أَوْ الشَّكِّ أَوْ لَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْقَسَامَةِ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ وَأَنَّهُ خَبَرٌ مُؤَكَّدٌ بِالْيَمِينِ، وَكَذَا لَغْوُ الْيَمِينِ يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ بِالظَّنِّ وَكَذَا مَا ظَنَّهُ بِخَطِّ أَبِيهِ مِنْ الدِّينِ يَعْمَلُ بِهِ وَيَحْلِفُ، وَأَنَّهُ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالْمُلْكِ لِمَنْ بِيَدِهِ عَيْنٌ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ فِي الْمَشْهُورِ كَمَا لَوْ شَاهَدَ سَبَبَ الْيَدِ مَعَ بَيْعٍ، أَوْ غَيْرِهِ مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِ الْبَائِعِ غَيْرَ مَالِكٍ وَالشَّهَادَةُ آكَدُ مِنْ الْخَبَرِ، وَأَنَّهُ يُخْبِرُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ بِعِلْمٍ، أَوْ ظَنٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُخْبِرُ بِعِلْمٍ وَظَنٍّ خَاصَّةً وَهَذَا أَوْضَحُ وَدَلِيلُهُ مَشْهُورٌ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْأَنْصَارِ الَّذِينَ قُتِلَ مِنْهُمْ الْقَتِيلُ بِخَيْبَرَ «يَحْلِفُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ قَالُوا أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ فَكَيْفَ نَحْلِفُ؟» الْحَدِيثَ.
«وَحَلَفَ جَابِرٌ بِاَللَّهِ إنَّ ابْنَ صَيَّادٍ الدَّجَّالَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: أَتَحْلِفُ بِاَللَّهِ قَالَ: إنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» وَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ بِوُجُودِ شَيْءٍ يَظُنُّهُ فَلَمْ يَكُنْ جَازَ أَنَّهُ كَاذِبٌ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ أَخْبَرَ بِهِ وَهُوَ يَظُنُّ عَدَمَهُ فَكَانَ لَمْ يَحْرُمْ مَعَ أَنَّهُ صَادِقٌ، وَأَنَّ قَوْلَ الْأَصْحَابِ رحمهم الله وَاللَّفْظُ لِلْمُغْنِي لَا كَفَّارَةَ فِي يَمِينٍ عَلَى مَاضٍ؛ لِأَنَّهَا تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
مَا هُوَ صَادِقٌ فِيهِ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ إجْمَاعًا.
وَمَا تَعَمَّدَ الْكَذِبَ فِيهِ فَهُوَ يَمِينُ الْغَمُوسِ
وَمَا يَظُنُّهُ حَقًّا فَيَتَبَيَّنُ بِخِلَافِهِ فَلَا كَفَّارَةَ.
وَذَكَرَ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ رِوَايَةً ظَهَرَ أَنَّهُ لَوْ شَكَّ أَوْ حَلَفَ عَلَى خِلَافِ مَا يَظُنُّهُ فَطَابَقَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ إقْدَامُهُ عَلَى الْيَمِينِ لَكِنْ هَلْ يَدْخُلُ يَمِينُهُ فِي خِلَافِ ظَنِّهِ فِي الْغَمُوسِ؟
ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ لَا يَدْخُلُ وَقَدْ قَالَ فِي الْمُغْنِي فِي مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ الْمَذْكُورَةِ: الظَّنُّ يُسَمَّى عِلْمًا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] .
وَخَرَجَ مِنْ كَلَامِهِمْ إذَا لَمْ يُطَابَقْ مَعَ الشَّكِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِصَادِقٍ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ الْكَذِبَ فَلَا ظَنَّ لَهُ فَيُقَالُ إنْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِيمَا يَظُنُّهُ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ فَهُنَا أَوْلَى، فَظَاهِرُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الصُّورَةِ بِعَدَمِ الْكَفَّارَةِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فِي غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الظَّنَّ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ الْوُجُوبِ وَإِلَّا لَوَجَبَتْ لِظَاهِرِ الْآيَةِ.
وَقَدْ عَلَّلَ فِي الْمُغْنِي عَدَمَ وُجُوبِهَا فِي الظَّنِّ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْمُخَالَفَةَ كَالنَّاسِي وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ الْمُخَالَفَةَ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: لَا كَفَّارَةَ فِي يَمِينٍ عَلَى مَاضٍ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْحَصْرَ، وَوُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِيهَا لَقَالَ إنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا كَفَّارَةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَادِقًا فَإِنْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ أَوْ ظَنَّ شَيْئًا فَبَانَ بِخِلَافِهِ فَلَا كَفَّارَةَ وَإِلَّا وَجَبَتْ إلَّا أَنْ يَدُومَ شَكُّهُ فَلَا كَفَّارَةَ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
وَقَدْ جَزَمَ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي الطَّلَاقِ فَقَالَ: وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنَّ أَخَاك لَعَاقِلٌ وَكَانَ أَخُوهَا عَاقِلًا لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا حَنِثَ كَمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ إنَّ أَخَاك لَعَاقِلٌ، وَإِنْ شُكَّ فِي عَقْلِهِ لَمْ تَطْلُقْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ فَلَا يُزَالُ بِالشَّكِّ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا أَكَلْتُ هَذَا الرَّغِيفَ لَمْ يَحْنَثْ إنْ كَانَ صَادِقًا وَيَحْنَثُ إنْ كَانَ كَاذِبًا كَمَا لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَكَلْتُهُ.
وَقَالَ فِي الْمُغْنِي فِيمَا إذَا صَالَحَ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمُنْكِرِ أَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُدَّعِي فِي جَوَازِ الدَّعْوَى عَلَى الْمُنْكِرِ قَالَ: وَيُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الدَّعْوَى أَنْ يُعْلَمَ صِدْقُ الْمُدَّعِي فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لَمْ يَحِلَّ لَهُ دَعْوَى شَيْءٍ لَا يُعْلَمُ بِثُبُوتِهِ فَمُرَادُهُ بِالْعِلْمِ الظَّنُّ لِيَتَّفِقَ كَلَامُهُ أَوْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ عِنْدَهُ قَوْلَانِ ذَكَرَ فِي كُلِّ مَكَان قَوْلًا بِحَسَبِ مَا رَآهُ فِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَوْ مَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَكِيلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُهُ وَفَرْعُهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ دَعْوَى لَا تَجُوزُ لِأَصْلِهِ فَلَا يَدَّعِي إلَّا مَا يَعْلَمُهُ، أَوْ يَظُنُّهُ حَقًّا كَمَا سَبَقَ، وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي فِي قَوْله تَعَالَى:{وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَاصِمَ لِغَيْرِهِ فِي إثْبَاتِ حَقٍّ أَوْ نَفْيِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا وَلَمْ يُخَالِفْهُ فَدَلَّ عَلَى مُوَافَقَتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: لَا تَصِحُّ وَكَالَةُ مَنْ عَلِمَ ظُلْمَ مُوَكِّلِهِ فِي الْخُصُومَةِ فَظَاهِرُهُ يَصِحُّ إذَا لَمْ يَعْلَمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْعِلْمِ أَيْضًا الظَّنُّ وَإِلَّا فَبَعِيدٌ جِدًّا الْقَوْلُ بِهِ مَعَ ظَنِّ ظُلْمِهِ.
فَإِنْ قِيلَ ظَنُّ التَّحْرِيمِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْعِلْمِ بِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يُخَاصِمَ فِي بَاطِلٍ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَبَقَ قِيلَ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ التَّوْكِيلِ وَصِحَّتِهِ إلَّا الْمُخَاصَمَةُ فِيمَا وَكَّلَهُ فِيهِ مِمَّا يَعْلَمُهُ، أَوْ يَظُنُّهُ بَاطِلًا وَإِلَّا فَكَانَ يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ مَعَ الْعِلْمِ وَلَا يُخَاصِمُ فِي بَاطِلٍ فَلَا مَفْسَدَةَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَكَّ فِي ظُلْمِهِ صَحَّتْ وَخَاصَمَ فِيهِ وَعَلَى هَذَا عَمَلُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَيَدَّعُونَ مَعَ الشَّكِّ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى وَعَدَمِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُخْبِرٍ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُخْبِرُ عَنْ الْمُوَكِّلِ وَيُبَلِّغُ كَلَامَهُ لِكَوْنِهِ لَا يَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَمَسُّ إلَى ذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَشَقَّتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُدَّعِي لِنَفْسِهِ لِخِبْرَتِهِ بِأَحْوَالِهِ وَقَضَايَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد بَابٌ فِيمَنْ يُعِينُ عَلَى خُصُومَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ أَمْرَهَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ ثنا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ رَاشِدٍ قَالَ جَلَسْنَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فَخَرَجَ إلَيْنَا فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عز وجل فَقَدْ حَادَّ اللَّهَ. وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» . حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يُونُسَ ثنا إبْرَاهِيمُ ثنا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْعُمَرِيُّ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ يَزِيدَ عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَاهُ قَالَ «وَمَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ عز وجل» انْتَهَى كَلَامُهُ. فَالتَّرْجَمَةُ تُوَافِقُ مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الْقَاضِي وَالْخَبَرُ قَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِخِلَافِهِ
فَهَلْ يَكُونُ مَذْهَبًا لَهُ؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْأَصْحَابِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُخَالِفُهُ.
وَالْخَبَرُ إنَّمَا يَدُلُّ لِمَا سَبَقَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَقِيلٍ كَمَا تَرَاهُ وَالْإِسْنَادُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ وَالثَّانِي إنَّمَا فِيهِ الْمُثَنَّى بْن يَزِيدَ تَفَرَّدَ عَنْهُ عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَذْكُورُ فَيَكُونُ مَجْهُولًا فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ لَكِنْ يُقَالُ: عَاصِمٌ كَبِيرٌ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَرْوِي عَمَّنْ يَرْوِي عَنْ آبَائِهِ شَيْئًا إلَّا أَنْ يُعْرَفَ حَالُهُ مَعَ أَنَّهُ مُتَابِعٌ لِلْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ فَهَذِهِ حُجَّةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَدْغَةُ الْخَبَالِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْخَاءِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ: صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ اللَّهُمَّ أَجِرْنَا وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهَا.
أَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «وَمَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ» فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو ابْنِ أَبِي نِعْمَةَ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَجْهُولٌ يُتْرَكُ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَصِحُّ خَبَرُهُ وَأَمَّا إنْ تَعَلَّقَ الْإِخْبَارُ بِالْمُسْتَقْبَلِ فَإِنْ عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَوَاضِحٌ كَمَا سَبَقَ وَإِلَّا فَالْحُكْمُ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ فَلَا يُخْبِرُ عَنْ شَيْءٍ سَيُوجَدُ أَوْ لَا إلَّا بِاعْتِقَادٍ جَازِمٍ أَوْ ظَنٍّ رَاجِحٍ ثُمَّ إنْ طَابَقِ فَقَدْ اجْتَمَعَ الْإِخْبَارُ الْجَائِزُ وَالصِّدْقُ، وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ لِغَيْرِ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ فَكَذِبٌ مُحَرَّمٌ وَإِلَّا فَكَذِبٌ لَا إثْمَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَنِدْ الْإِخْبَارُ إلَيْهِ مَا لَمْ يَجُزْ، ثُمَّ إنْ طَابَقَ فَصِدْقٌ، وَإِنْ لَمْ يُطَابَقْ لِغَيْرِ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ فَكَذِبٌ مُحَرَّمٌ وَإِلَّا فَكَذِبٌ لَا إثْمَ فِيهِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ أَبِي النُّعْمَانِ عَنْ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إذَا وَعَدَ الرَّجُلُ أَخَاهُ وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ فَلَمْ يَفِ وَلَمْ يَجِئْ لِلْمِيعَادِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ» . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ: أَبُو وَقَّاصٍ مَجْهُولٌ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ لَيْسَ إسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ قَالَ وَلَا يُعْرَفُ أَبُو النُّعْمَانِ وَلَا أَبُو وَقَّاصٍ
فَاعْتُبِرَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ أَنْ يَفِيَ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا فَهُوَ يُعَضَّدُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْمَعْنَى مَعَ أَنَّ فِيهَا كِفَايَةً، وَتَعْلِيقُ الْخَبَرِ فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ مُسْتَحَبٌّ، وَلَا يَجِبُ لِلْأَخْبَارِ الْمَشْهُورَةِ فَيَتْرُكُهُ فِي الْخَبَرِ وَالْقَسَمِ، وَسَبَقَ كَلَامُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي مَسْأَلَةِ الْفِرَارِ مِنْ الزَّكَاةِ لَمَّا قِيلَ: لَهُ إنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ عُوقِبُوا عَلَى تَرْكِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْقَسَمِ فَقَالَ: لَا؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَعَلَى أَنَّ الْوَعِيدَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ الْكَذِبِ إنْ أَتَى بِهِ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا وَقَدْ نَسِيَهُ وَإِلَّا فَلَا.
هَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ الْجُمْهُورِ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ السَّابِقِ وَحِكَايَتُهُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَسْلَمُ مِنْهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ مُطْلَقًا وَلَعَلَّ مُرَادَهُ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَمَّا مَنْ حَلَفَ وَحَنِثَ فَالْكَفَّارَةُ كَالْوَاجِبِ وَهِيَ مَاحِيَةٌ لِحُكْمِ مَا وَقَعَ.
وَلِهَذَا قَالَ الْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ: الْيَمِينُ عَلَى الْمُبَاحِ الْإِقَامَةُ عَلَيْهَا وَحِلُّهَا مُبَاحٌ وَإِنَّ الْيَمِينَ لَا تُغَيِّرُ الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا إذَا حَنِثَ سِوَى الْكَفَّارَةِ وَأَنَّهَا زَاجِرَةٌ مَاحِيَةٌ وَهَذَا ظَاهِرُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ السَّابِقِ وَحِكَايَتُهُ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَأْتِي بِالِاسْتِثْنَاءِ لِيَسْلَمَ مِنْ الْكَذِبِ وَأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تُزِيلُهُ وَلَعَلَّ مُرَادَهُ الْخَبَرُ لَا الْقَسَمُ وَسَبَقَ كَلَامُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي بَابِ الْكَذِبِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ هُوَ النَّمَرِيُّ عَنْ شُعْبَةَ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ هُوَ ابْنُ إشْكَابَ ثنا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ ثنا شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ ابْنُ حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» وَلَمْ يَذْكُرْ حَفْصٌ أَبَا هُرَيْرَةَ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَحَفْصٌ وَابْنُ إشْكَابَ ثَبْتَانِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا» وَذَكَرَهُ وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا «بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنْ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» .
فَفِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي الْكَذِبِ الْمُحَرَّمِ فَلَا يَفْعَلُ لِيَجْتَنِبَ الْمُحَرَّمَ فَيَكُونُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا قَدْ تَعَمَّدَ كَذِبًا.
وَقَالَ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَعْنَاهُ الزَّجْرُ عَنْ التَّحْدِيثِ بِكُلِّ مَا سَمِعَ
فَإِنَّهُ يَسْمَعُ فِي الْعَادَةِ الصِّدْقَ، وَالْكَذِبَ فَإِذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَقَدْ كَذَبَ لِإِخْبَارِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْكَذِبَ: الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَمُّدُ لَكِنَّ التَّعَمُّدَ شَرْطٌ لِكَوْنِهِ إثْمًا انْتَهَى كَلَامُهُ. فَلَعَلَّ ظَاهِرُهُ لَا يَحْرُمُ لِعَدَمِ تَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَلَمْ يَذْكُرْ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُد الْمَذْكُورَةُ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَجِيئُونَنِي بِالطَّعَامِ فَإِنْ قُلْتُ لَا آكُلُهُ ثُمَّ أَكَلْت؟ قَالَ هَذَا كَذِبٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ.
وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَأْتِيهِ الْأُمِّيُّ الَّذِي لَا يَكْتُبُ فَيَقُولُ اُكْتُبْ كِتَابًا فَيُمْلِي عَلَيْهِ شَيْئًا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ لِيَكْتُبَ لَهُ قَالَ: لَا فَلَا يَكْتُبُ بِالْكَذِبِ.