المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل أهل الحديث هم الطائفة الناجية القائمون على الحق] - الآداب الشرعية والمنح المرعية - جـ ١

[شمس الدين ابن مفلح]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَة الْكتاب]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْخَوْفِ وَالصَّبْرِ وَالرِّضَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْبُهْتِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالنِّفَاقِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي إبَاحَةِ الْمَعَارِيضِ وَمَحَلِّهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي الزَّعْمِ وَكَوْنِ زَعَمُوا مَطِيَّةَ الْكَذِبِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي حِفْظِ اللِّسَانِ وَتَوَقِّي الْكَلَامِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي السَّعَةِ فِي الْكَلَامِ وَأَلْفَاظِ النَّاسِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي حُسْنِ الظَّنِّ بِأَهْلِ الدِّينِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مُدَارَاة مِنْ يُتَّقَى فُحْشه]

- ‌[فِي وُجُوبِ التَّوْبَةِ وَأَحْكَامِهَا وَمَا يُنَابُ مِنْهُ] [

- ‌الْخِلَاف فِي لُزُوم التَّوْبَة]

- ‌[فَصْلٌ فِي عَدَمِ صِحَّةِ تَوْبَةِ الْمُصِرِّ وَكَيْفِيَّةِ التَّوْبَةِ مِنْ الذُّنُوبِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا عَلَى التَّائِبِ مِنْ قَضَاءِ الْعِبَادَاتِ وَمُفَارَقَةِ قَرِينِ السُّوءِ وَمَوَاضِعِ الذُّنُوبِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْعَفْوِ عَمَّنْ ظَلَمَ وَجَعْلِهِ فِي حِلٍّ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْإِبْرَاءِ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَنْ اسْتَدَانَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ وَفَاءٌ وَهُوَ يَنْوِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَرَاءَةِ مَنْ رَدَّ مَا غَصَبَهُ عَلَى وَرَثَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَبَقَاءِ إثْمِ الْغَصْبِ]

- ‌[فَصْلٌ كَانَ لَهُ عَلَى قَوْمٍ مَالٌ أَوْ أَوْدَعَهُمْ مَالًا ثُمَّ مَاتَ فَجَحَدَ الَّذِينَ فِي أَيْدِيهِمْ الْأَمْوَالُ لِمَنْ ثَوَابُ ذَلِكَ الْمَالِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي وُجُوب اتِّقَاءِ الصَّغَائِرِ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّصَدُّقِ بِالْمَظَالِمِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ حَلَالٌ وَشُبْهَةٌ]

- ‌[فَصْلٌ فِي حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ وَشُرُوطِهَا]

- ‌[فَصْلٌ حُكْمُ تَوْبَةِ الْكَافِرِ مِنْ الْمَعَاصِي دُونَ الْكُفْرِ وَالْعَكْسِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَيْلِ الطَّبْعِ إلَى الْمَعْصِيَةِ، وَالنِّيَّةِ، وَالْعَزْمِ، وَالْإِرَادَةِ لَهَا]

- ‌[فَصْلٌ وَصِيَّةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَلَدَهُ بِنِيَّةِ الْخَيْرِ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ الْحُدُودُ كَفَّارَةٌ مُطْلَقًا أَمْ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي صِحَّةِ تَوْبَةِ الْعَاجِزِ عَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْبِدْعَةِ الْمُفَسِّقَةِ وَالْمُكَفِّرَةِ وَمَا اُشْتُرِطَ فِيهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ مَا لَمْ يَرَ التَّائِبُ مَلَكَ الْمَوْتِ أَوْ يُغَرْغِرْ]

- ‌[فَصْلٌ قَبُولُ التَّوْبَةِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَبْدِيلِ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ بِالتَّوْبَةِ]

- ‌[فَصْلٌ تَخْلِيدُ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ بِوَعِيدِ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[فَصْلٌ فِي حُبُوطِ الْمَعَاصِي بِالتَّوْبَةِ وَالْكُفْرِ بِالْإِسْلَامِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي سُرُورِ الْإِنْسَانِ بِمَعْرِفَةِ طَاعَتِهِ وَالْعُجْبِ وَالرِّيَاءِ وَالْغُرُورِ بِهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي إصْلَاحِ السَّرِيرَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَعَلَامَاتِ فَسَادِ الْقَلْبِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي فَضِيحَةِ الْعَاصِي]

- ‌[فَصْلٌ أَسْبَابُ مَوَانِعِ الْعِقَابِ وَثَمَرَاتُ التَّوْحِيدِ وَالدُّعَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ وُجُوبُ حُبِّ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ مِمَّا يَتَحَبَّبُ إلَيْهِ مِنْ نِعَمِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ] [

- ‌التَّعْرِيف بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر]

- ‌[فَصْلٌ رَجُلٌ لَهُ جَارٌ يَعْمَلُ بِالْمُنْكَرِ]

- ‌[فَصْلٌ مَرَاتِبُ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ]

- ‌[فَصْلٌ عَلَى مَنْ وَمَتَى يَجُوزُ الْإِنْكَارُ]

- ‌[فَصْل النُّصُوص فِي وُجُوب الْأَمْر بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر]

- ‌[فَصْل الْإِنْكَار الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب وَالْمُشْتَرَط فِيهِ إذْن الْحَاكِمِ]

- ‌[فَصْل فِي الْإِنْكَار عَلَى السُّلْطَان وَالْفَرْق بَيْن الْبُغَاة وَالْإِمَام الْجَائِر]

- ‌[فَصْل فِي الْإِنْكَار عَلَى غَيْر الْمُكَلَّف لِلزَّجْرِ وَالتَّأْدِيب]

- ‌[فَصْل فِي الْإِنْكَار عَلَى أَهْلِ السُّوقِ]

- ‌[فَصْل فِي الْإِنْكَار عَلَى أَهْل الذِّمَّة]

- ‌[فَصْل فِي تَحْقِيق دَار الْإِسْلَام وَدَار الْحَرْب]

- ‌[فَصْل مَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْآمِر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَر]

- ‌[فَصْل فِي الْبَيْت الَّذِي فِيهِ الْخَمْر هَلْ يُتْلَف أَوْ يُحْرَق]

- ‌[فَصْل فِي الْمُعَالَجَة بِالرُّقَى وَالْعَزَائِم]

- ‌[فَصْل تَحْرِيق الثِّيَاب الَّتِي عَلَيْهَا الصُّوَر]

- ‌[فَصْل فِي النَّظَر إلَى مَا يُخْشَى مِنْهُ الْوُقُوعُ فِي الضَّلَال وَالشُّبْهَة]

- ‌[فَصْلٌ كِتَابًا فِيهِ أَحَادِيثُ رَدِيَّةٌ تَرَى أَنْ أُحْرِقَهُ أَوْ أُغْرِقَهُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي وُجُوبِ إبْطَالِ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى بُطْلَانِهَا]

- ‌[فَصْلٌ أَهْلُ الْحَدِيثِ هُمْ الطَّائِفَةُ النَّاجِيَةُ الْقَائِمُونَ عَلَى الْحَقِّ]

- ‌[فَصْلٌ حُكْمُ هَجْرِ أَهْلِ الْمَعَاصِي]

- ‌[فَصْلٌ فِي هَجْرِ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ وَالْمُبْتَدِعِ وَالدَّاعِي إلَى بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ]

- ‌[فَصْلٌ لَا تَجُوزُ الْهِجْرَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَمَّا يُوجِبُ الْهِجْرَةَ]

- ‌[فَصْلٌ حُكْمُ هَجْرِ الْمُسْلِمِ الْعَدْلِ وَمُقَاطَعَتِهِ وَمُعَادَاتِهِ وَتَحْقِيرِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي زَوَالِ الْهَجْرِ وَمَسَائِلُ فِي الْغِيبَةِ، وَمَتَى تُبَاحُ بِالسَّلَامِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي الدَّوْلَةِ]

- ‌[فَصْل فِي حَظْرِ حَبْسِ أَهْلِ الْبِدَعِ لِبِدْعَتِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ فِي إنْكَارِ الْمُنْكَرِ الْخَفِيِّ وَالْبَعِيدِ وَالْمَاضِي]

- ‌[فَصْلٌ يَنْبَغِي الْإِنْكَارُ عَلَى الْفِعْلِ غَيْر الْمَشْرُوعِ، وَإِنْ كَثُرَ فَاعِلُوهُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَمْيِيزِ الْأَعْمَالِ وَانْقِسَامِ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ إلَى طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ بِالنِّيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُ الْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ خَوْفَ الرِّيَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَفَاوُتِ الْأَجْرِ لِمَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَمَنْ لَا يَشُقُّ]

- ‌[فَصَلِّ حُكْمُ اللَّعْنِ، وَلَعْنِ الْمُعَيَّنِ]

- ‌[فَصْلٌ الطَّعْنُ عَلَى الْعُلَمَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ الْإِنْكَارُ عَلَى النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ كَشْفَ وُجُوهِهِنَّ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْإِنْكَارِ بِدَاعِي الرِّيبَةِ وَظَنِّ الْمُنْكَرِ وَالتَّجَسُّسِ لِذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ الْإِنْكَارُ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي مَوْقِفِ الرِّيبَةِ كَخَلْوَةٍ وَنَحْوِهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي نَشْرِ السُّنَّةَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ بِغَيْرِ خُصُومَةٍ وَلَا عُنْفٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ مَدَاخِلِ السُّوءِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ]

- ‌[فَصْلٌ الْهَدِيَّةُ لِمَنْ أُهْدِيَتْ إلَيْهِ لَا لِمَنْ حَضَرَ]

- ‌[فَصْلٌ قَبُولُ الْهَدِيَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ عَلَى عَمَلِ الْبِرِّ]

- ‌[فَصْلٌ حَمْلُ مَا جَاءَ عَنْ الْإِخْوَانِ عَلَى أَحْسَنِ الْمَحَامِلِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي احْتِرَامِ الْجَلِيسِ وَإِكْرَامِ الصَّدِيقِ وَالْمُكَافَأَةِ عَلَى الْمَعْرُوفِ]

- ‌[فَصْلٌ إجَابَةُ الدَّعْوَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْهَدِيَّةِ لِذِي الْقُرْبَى فِي الْوَلِيمَةِ]

- ‌[فَصْلٌ مَا صَحَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي اتِّقَاءِ النَّارِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَحْرِيمِ الْمَنِّ عَلَى الْعَطَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الشَّمَاتَةِ وَاسْتِعَاذَتِهِ مِنْ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ وَمِنْ أُمُورٍ أُخْرَى]

- ‌[فَصْلٌ فِي صِيغَةِ الدُّعَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ وَغَيْرِهَا بَعْدَ الْجَوَابِ بِلَا النَّافِيَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي عَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِالْقَوْلِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِي السَّلَامِ وَتَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي أَحْكَامِهِ عَلَى الْمُنْفَرِدِ وَالْجَمَاعَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي حُكْمِ السَّلَامِ عَلَى الْمُصَلِّي الْمُتَوَضِّئِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْآكِلِ وَالْمُتَخَلِّي]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ رَدِّ السَّلَامِ الْمَسْنُونِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي رَدِّ جَوَابِ الْكِتَابِ وَأُسْلُوبِ السَّلَفِ فِي الْمُكَاتَبَةِ كَالسَّلَامِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنْ نَوَابِغِ الْكَلِمِ وَنَوَابِغِ الْحِكَمِ وَكُتُبِ الْبُلَغَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ تَقْبِيلِ الْيَدِ أَوْ الْكَفِّ أَوْ الْقَدَمِ أَوْ الْبَاسِطَةِ أَوْ الْبَاسِطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ]

- ‌[فَصْلٌ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُبْدَأَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِالسَّلَامِ]

- ‌[فَصْلُ السَّلَامِ وَالدُّعَاءِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُصَافَحَتِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْ يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ وَتَبْلِيغِهِ بِالْكِتَابِ، وَحُكْمُ الْجَوَابِ]

- ‌[فَصْلٌ فُرُوعٌ فِي السَّلَامِ وَرَدِّهِ بِاللَّفْظِ وَبِالْإِشَارَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي قَوْلِ كَيْفَ أَمْسَيْتَ؟ كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ بَدَلًا مِنْ السَّلَامِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ تَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا هِيَ]

- ‌[فَصْلٌ يُكْرَهُ قَوْلُ أَبْقَاكَ اللَّهُ فِي السِّلَامِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي كَرَاهِيَةِ قَوْلِ أَمْتَعَ اللَّهُ بِكَ فِي الدُّعَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ قَوْلُهُمْ فِي السَّلَامِ وَالْكِتَابِ جُعِلْتُ فِدَاءَكَ وَفِدَاكَ أُمِّي وَأَبِي وَنَحْوُهُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي سُنَّةِ الِاسْتِئْذَانِ فِي الدُّخُولِ عَلَى النَّاسِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْجُلُوسِ فِي وَسَطِ الْحَلَقَةِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْقِيَامِ لِلْقَادِمِ وَأَدَبِ السُّنَّةِ وَمُرَاعَاةِ الْعَادَةِ فِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي اسْتِحْبَابِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ فِي الْحَرْبِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي إكْرَامِ كَرِيمِ الْقَوْمِ كَالشُّرَفَاءِ وَإِنْزَالِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ]

- ‌[فَصْلٌ ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ الطِّيبُ وَالْوِسَادَةُ وَاللَّبَنُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الِاسْتِئْذَانِ فِي الْقِيَامِ مِنْ الْمَجْلِسِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَعَلُّمِ الْأَدَبِ وَحُسْنِ السَّمْتِ وَالسِّيرَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالِاقْتِصَادِ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يُسْتَحَبُّ فِي السَّفَرِ وَالْعَوْدِ مِنْهُ مِنْ ذِكْرٍ وَعَمَلٍ]

- ‌[فَصْلٌ مَا يَحْرُمُ مِنْ سَفَرِ الْمَرْأَةِ مَعَ غَيْرِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ سَفَرِ الرَّجُلِ وَمَبِيتِهِ وَحْدَهُ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَقُولُ مِنْ انْفَلَتَتْ دَابَّتُهُ أَوْ ضَلَّ الطَّرِيقَ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يُقَالُ عِنْدَ أَخْذِ الرَّجُلِ شَيْئًا مِنْ لِحْيَةِ الرَّجُلِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي كَرَاهَةِ السِّيَاحَةِ إلَى غَيْرِ مَكَان مَعْلُومٍ وَلَا غَرَضٍ مَشْرُوعٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَطَاعَتِهِمَا وَوَلِيِّ الْأَمْرِ وَالزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ تَجِبُ طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ فِي تَنَاوُلِ الحرام أَوْ مَا بَعْضُهُ حَلَالٌ وَبَعْضُهُ حَرَامٌ]

- ‌[فَصْلٌ لَيْسَ لِلْوَالِدَيْنِ إلْزَامُ الْوَلَدِ بِنِكَاحِ مَنْ لَا يُرِيدُ]

- ‌[فَصْلٌ لَا تَجِبُ طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ حُكْمُ أَمْرِ الْوَالِدَيْنِ الْوَلَدَ بِالزَّوَاجِ أَوْ بَيْعِ سُرِّيَّتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَمْرِ الْوَالِدَيْنِ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمَا عَنْ الْمُنْكَرِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي اسْتِئْذَانِ الْأُمِّ لِلْخُرُوجِ مِنْ مَكَانِ الْمُنْكَرِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي اتِّقَاءِ غَضَبِ الْأُمِّ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ ضَرْبِ الْأَوْلَادِ بِشَرْطِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ وَحَدِّ مَا يَحْرُمُ قَطْعُهُ مِنْهَا]

- ‌[فَصْلٌ بَعْضُ النُّصُوصِ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْبَنَاتِ وَتَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ وَتَعْلِيمِهِمْ]

الفصل: ‌[فصل أهل الحديث هم الطائفة الناجية القائمون على الحق]

[فَصْلٌ أَهْلُ الْحَدِيثِ هُمْ الطَّائِفَةُ النَّاجِيَةُ الْقَائِمُونَ عَلَى الْحَقِّ]

وَنَصَّ أَحْمَدُ رضي الله عنه عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ هُمْ الطَّائِفَةُ فِي قَوْلِهِ عليه السلام: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ» وَنَصَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُمْ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرَ، وَكَذَا قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونُ.

وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَبْدَالًا فِي الْأَرْضِ قِيلَ: مَنْ هُمْ؟ قَالَ إنْ لَمْ يَكُونُوا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ فَلَا أَعْرِفُ لِلَّهِ أَبْدَالًا.

وَقَالَ أَيْضًا عَنْهُمْ: إنْ لَمْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ النَّاسَ فَلَا أَدْرِي مَنْ النَّاسُ؟ وَنَقَلَ نُعَيْمُ بْنُ طَرِيفٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ: صلى الله عليه وسلم «لَا يَزَالُ اللَّهُ تَعَالَى يَغْرِسُ غَرْسًا يُشْغِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ» قَالَ هُمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ.

وَرَوَى الْبُوَيْطِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه قَالَ: عَلَيْكُمْ بِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ صَوَابًا.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَنْ أَرَادَ الْحَدِيثَ خَدَمَهُ.

قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: قَدْ خَدَمَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَرَحَلَ فِيهِ وَحَفِظَهُ وَعَمِلَ بِهِ وَعَلَّمَهُ وَحَمَلَ شَدَائِدَهُ. وَهُوَ كَمَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَظُمَتْ قِيمَتُهُ، وَمَنْ تَفَقَّهَ نَبُلَ قَدْرُهُ، وَمَنْ كَتَبَ الْحَدِيثَ قَوِيَتْ حُجَّتُهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَ اللُّغَةَ رَقَّ طَبْعُهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَ الْحِسَابَ جَزِلَ رَأْيُهُ، وَمَنْ لَمْ يَصُنْ نَفْسَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ.

وَقَدْ مَدَحَ الْحَدِيثَ وَأَهْلَهُ بِالشِّعْرِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَتًى فِي مَجْلِسِ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، وَمِنْهُمْ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ الشِّيرَازِيُّ، وَمِنْهُمْ أَبُو عَامِرٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَسَوِيُّ، وَمِنْهُمْ أَبُو مُزَاحِمٍ الْخَاقَانِيُّ، وَمِنْهُمْ أَبُو ظَاهِرٍ بْنُ سُلْفَةَ، وَمِنْهُمْ أَبُو الْكَرَمِ خَمِيسُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَاسِطِيُّ.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مَنَاقِبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَقَدْ وَقَعَ لِي بِخَطِّهِ.

ص: 211

وَرَوَى أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي عُتْبَةَ الْخَوْلَانِيِّ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَزَالُ اللَّهُ عز وجل يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ» قَالَ أَحْمَدُ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ: هُمْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه يُنْشِدُ:

إذَا رَأَيْت شَبَابَ الْحَيِّ قَدْ نَشَئُوا

لَا يَحْمِلُونَ قِلَالَ الْحِبْرِ وَالْوَرَقَا

وَلَا تَرَاهُمْ لَدَى الْأَشْيَاخِ فِي حِلَقٍ

يَعُونَ مِنْ صَالِحِ الْأَخْبَارِ مَا اتَّسَقَا

فَعَدِّ عَنْهُمْ وَدَعْهُمْ إنَّهُمْ هَمَجُ

قَدْ بَدَّلُوا بِعُلُوِّ الْهِمَّةِ الْحُمُقَا

وَقَالَ الْمُزَنِيّ: قَالَ لِي الشَّافِعِيُّ يَا أَبَا إبْرَاهِيمَ الْعِلْمُ جَهْلٌ عِنْدَ أَهْلِ الْجَهْلِ، كَمَا أَنَّ الْجَهْلَ جَهْلٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، ثُمَّ أَنْشَدَ الشَّافِعِيُّ لِنَفْسِهِ:

وَمَنْزِلَةُ الْفَقِيهِ مِنْ السَّفِيهِ

كَمَنْزِلَةِ السَّفِيهِ مِنْ الْفَقِيهِ

فَهَذَا زَاهِدٌ فِي قُرْبِ هَذَا

وَهَذَا فِيهِ أَزْهَدُ مِنْهُ فِيهِ

إذَا غَلَبَ الشَّقَاءُ عَلَى السَّفِيهِ

تَنَطَّعَ فِي مُخَالَفَةِ الْفَقِيهِ

قَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ وَهَذَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ: صلى الله عليه وسلم «إنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ أُولُوا الْفَضْلِ» ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ مَا رَوَاهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ مَشْهُورٌ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه لَمَّا دَخَلَ مِصْرَ أَتَاهُ جُلُّ أَصْحَابِ مَالِكٍ رضي الله عنه، وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ فَابْتَدَأَ يُحَلِّفُ أَصْحَابَ مَالِكٍ فِي مَسَائِلَ فَتَنَكَّرُوا لَهُ وَجَفَوْهُ فَأَنْشَأَ يَقُولُ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ لَمَّا دَخَلَ الشَّافِعِيُّ مِصْرَ أَوَّلَ قُدُومِهِ إلَيْهَا جَفَاهُ النَّاسُ فَلَمْ يَجْلِسْ إلَيْهِ أَحَدٌ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ قَدِمَ مَعَهُ: لَوْ قُلْت شَيْئًا يَجْتَمِعُ إلَيْك بِهِ النَّاسُ، فَقَالَ إلَيْك عَنِّي وَأَنْشَدَ يَقُولُ:

أَأَنْثُرُ دُرًّا بَيْنَ سَارِحَةِ النَّعَمْ

أَأَنْظِمُ مَنْثُورًا لِرَاعِيَةِ الْغَنَمْ

لَعَمْرِي لَإِنْ ضُيِّعْتُ فِي شَرِّ بَلْدَةٍ

فَلَسْت مُضَيِّعًا بَيْنَهُمْ غُرَرَ الْكَلِمْ

فَإِنْ فَرَّجَ اللَّهُ اللَّطِيفُ بِلُطْفِهِ

وَصَادَفْت أَهْلًا لِلْعُلُومِ وَلِلْحِكَمْ

بَثَثْتُ مُفِيدًا وَاسْتَفَدْتُ وِدَادَهُمْ

وَإِلَّا فَمَخْزُونٌ لَدَيَّ وَمُكْتَتَمْ

وَمَنْ مَنَحَ الْجُهَّالَ عِلْمًا أَضَاعَهُ

وَمَنْ مَنَعَ الْمُسْتَوْجِبِينَ فَقَدْ ظَلَمْ

ص: 212

وَحَكَى ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ الْعَرَبِ أَنَّهَا تَقُولُ: مَنْ أَمَّلَ رَجُلًا هَابَهُ، وَمَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَابَهُ، وَسَيَأْتِي فِي أَنَّ مِنْ الْعِلْمِ " لَا أَدْرِي " قَوْلُهُ: عليه السلام «وَإِنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيًّا» .

وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْفُنُونِ: يَقُولُ الشَّاعِرُ:

أُحِبُّ الْمَكَانَ الْقَفْرَ مِنْ أَجْلِ أَنَّنِي

أُصَرِّحُ فِيهِ بِاسْمِهِ غَيْرَ مُعْجَمِ

وَاكَمَدَاهُ مِنْ مَخَافَةِ الْأَعْيَارِ، وَاحَصْرَاهُ مِنْ أَجْلِ اسْتِمَاعِ ذِي الْجَهَالَةِ لِلْحَقِّ وَالْإِنْكَارِ، وَاَللَّهِ مَا زَالَ خَوَاصُّ عِبَادِ اللَّهِ يَتَطَلَّبُونَ لِنُزُوحِهِمْ بِمُنَاجَاتِهِمْ رُءُوسَ الْجِبَالِ وَالْبَرَارِي وَالْقِفَارِ، لِمَا يَرَوْنَ مِنْ اسْتِزْرَاءِ الْمُنْكِرِينَ بِشَأْنِهِمْ مِنْ الْأَغْمَارِ، إلَى أَنْ قَالَ: فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُنْكِرَ تَضْلِيعَ أَحْوَالِهِ، وَتَكْدِيرَ عَيْشِهِ.

وَقَالَ: الْجُهَّالُ يَفْرَحُونَ بِسُوقِ الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ اجْتَمَعَ أَلْفُ أَقْرَعَ يَزْعَقُونَ عَلَى بَقَرَةِ هَرَّاسٍ لَقَوِيَ قَلْبُهُ بِمَا يَعْتَقِدُ أُولَئِكَ، وَيَنْفِرُ قَلْبُهُ مِنْ أَدِلَّةِ الْمُحَقِّقِينَ، بَهِيمَةٌ فِي طِبَاعِ الْجُهَّالِ لَا تَزُولُ بِمُعَالَجَةٍ.

وَقَالَ: وَيْلٌ لِعَالِمٍ لَا يَتَّقِي الْجُهَّالَ بِجَهْدِهِ، قَالَ: وَكَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّحَرُّزُ مِنْ مَضَارِّ الدُّنْيَا الْوَاقِعَةِ مِنْ جُهَّالِ أَهْلِهَا بِالتَّقِيَّةِ، وَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَحْلِفُ بِالْمُصْحَفِ لِأَجْلِ حَبَّةٍ، وَيَضْرِبُ بِالسَّيْفِ مَنْ لَقِيَ بِعَصَبِيَّتِهِ، وَيَرَى قَنَاةً مُلْقَاةً فِي الْأَرْضِ فَيُنَكِّبُ عَنْ أَخْذِهَا، وَالْوَيْلُ لِمَنْ رَأَوْهُ أَكَبَّ رَغِيفًا عَلَى وَجْهِهِ، أَوْ تَرَكَ نَعْلَهُ مَقْلُوبَةً ظَهْرُهَا إلَى السَّمَاءِ، أَوْ دَخَلَ مَشْهَدًا بِمَدَاسِهِ، أَوْ دَخَلَ وَلَمْ يُقَبِّلْ الضَّرِيحَ إلَى أَنْ قَالَ:

هَلْ يَسُوغُ لِعَاقِلٍ أَنْ يُهْمِلَ هَؤُلَاءِ وَلَا يَفْزَعُ مِنْهُمْ كُلَّ الْفَزَعِ؟ وَيَتَجَاهَلُ كُلَّ التَّجَاهُلِ فِي الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ مِنْهُمْ فَإِنَّ الذُّنُوبَ مِمَّا تُقْبَلُ التَّوْبَةُ عَنْهَا وَلَا إقَالَةَ لِلْعَالِمِ مِنْ شَرِّ هَؤُلَاءِ إذَا زَلَّ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَكْرَهُونَ وَيُنْكِرُونَ، وَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ هَوَانٌ، وَأَبَى إلَّا إهْمَالَهُمْ، نَظَرًا إلَيْهِمْ بِعَيْنِ الِازْدِرَاءِ لَهُمْ، فَقَدْ ضَيَّعَ نَفْسَهُ، فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ أَهْوَنُ، وَهُمْ مِنْهُ أَكْثَرُ، وَعَلَى الْإِضْرَارِ بِهِ أَقْدَرُ، وَهَلْ تَقَعُ الْمَكَارِهُ بِالْمُسْلِمِ إلَّا مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ؟ فَإِذَا احْتَشَمَ الْإِنْسَانُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ تَوْقِيرًا لَهُمْ وَتَعْظِيمًا، أَوْجَبَ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ احْتِشَامَ هَؤُلَاءِ تَحَدُّرًا وَاتِّقَاءَ فَتْكِهِمْ، وَهَلْ طَاحَتْ دِمَاءُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ إلَّا بِأَيْدِي هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ؟

حَيْثُ رَأَوْا مِنْ

ص: 213

التَّحْقِيقِ مَا يُنْكِرُونَ، فَصَالُوا لِمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَغَالُوا لِمَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَهُمْ بَيْنَ قَاتِلٍ لِلْمُتَّقِينَ مُكَاشَفَةً حَالَ الْقُدْرَةِ، أَوْ غِيلَةً حَالَ الْعَجْزِ، فَاسْمَعْ هَذَا سَمْعَ قَابِلٍ فَإِنَّهُ قَوْلٌ مِنْ نَاصِحٍ خَبِيرٍ بِالْعَالِمِ، وَلَا تُهَوِّنْ بِهِمْ فَتُهَوِّنَ بِنَفْسِك، وَيَطِيحُ دَمُك مِمَّا رَأَيْت مِنْ جَهْلِهِمْ، إنَّهُمْ يَعْنِي لَا يَرَوْنَ الْحِيَلَ الَّتِي وَضَعَهَا الْعُلَمَاءُ عَلَى مَا دَلَّهُمْ عَلَيْهَا الشَّرْعُ كَبَيْعِ الصِّحَاحِ بِفِضَّةٍ قِرَاضَةً لِيَخْرُجَ مِنْ الرِّبَا أَخْذًا لِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام:«بِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِثَمَنِهِ» وَيَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ هَذَا خِدَاعٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَيَعْدِلُ إلَى بَيْعِ الدِّينَارِ الصَّحِيحِ بِدِينَارٍ وَنِصْفٍ قِرَاضَةً، وَيَرَى أَنَّ الرِّبَا الصَّرِيحَ خَيْرٌ مِنْ التَّسَيُّبِ الْحَلَالِ بِطَرِيقِ الشَّرْعِ إلَى أَنْ قَالَ إنَّ قَوْلَهُ عليه السلام عَنْ اللَّحْمِ الَّذِي تُصَدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ:«هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ» طَرِيقٌ مُسْتَعْمَلٌ، وَيَتَعَيَّنُ فِي كُلِّ عَيْنٍ تَحْرُمُ فِي حَقِّنَا لِمَعْنًى إذَا مَلَكَهَا مَنْ تُبَاحُ لَهُ لِمَعْنًى مُبِيحٍ وَنَقَلَهَا ذَلِكَ إلَيْنَا بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ مَلَكْنَاهَا، وَالْعَامَّةُ لَا تَرْضَى ذَلِكَ، وَتَذُمُّ الْعَالِمَ الَّذِي يَسْلُكُ هَذَا الْمَسْلَكَ.

وَسَمِعَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ كَلَامَ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَحَرَكَتَهُمْ، فَقَالَ: يَا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ مَا هَذِهِ الْحَرَكَةُ عَلَيْكُمْ بِالْوَقَارِ. وَرَأَى الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ قَوْمًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِهِمْ بَعْضُ الْخِفَّةِ فَقَالَ: هَكَذَا تَكُونُونَ يَا وَرَثَةَ الْأَنْبِيَاءِ؟ .

وَقَالَ سُفْيَانُ: سَمَاعُ الْحَدِيثِ عِزٌّ لِمَنْ أَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا، وَرَشَادٌ لِمَنْ أَرَادَ بِهِ الْآخِرَةَ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لِلشَّعْبِيِّ: يَا شَعْبِيُّ عَهْدِي بِك وَإِنَّك لَغُلَامٌ فِي الْكُتَّابِ فَحَدِّثْنِي فَمَا بَقِيَ مَعِي شَيْءٌ إلَّا وَقَدْ مَلِلْته سِوَى الْحَدِيثِ الْحَسَنِ، وَأَنْشَدَ:

وَمَلِلْت إلَّا مِنْ لِقَاءِ مُحَدِّثٍ

حَسَنِ الْحَدِيثِ يَزِيدُنِي تَعْلِيمَا

وَقَالَ الْقَاضِي الْمُعَافِي بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ لِتَفَقُّهِهِ عَلَى مَذْهَبِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ قَالَ: نَظِيرُ هَذَا قَوْلُ ابْنِ الرُّومِيِّ.

ص: 214

وَلَقَدْ سَئِمْت مَآرِبِي

وَكَانَ أَطْيَبَهَا الْحَدِيثُ

إلَّا الْحَدِيثَ فَإِنَّهُ

مِثْلُ اسْمِهِ أَبَدًا حَدِيثُ

وَبَعْضُ النَّاسِ يَتْرُكُ الصِّفَاتِ الْمَطْلُوبَةَ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الرُّتَبِ الْعَالِيَةِ اتِّكَالًا عَلَى حَسَبِهِ وَنَسَبِهِ، وَفِعْلِ آبَائِهِ فَهَذَا أَعْمَى فَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:

لَسْنَا وَإِنْ كَرُمَتْ أَوَائِلُنَا

أَبَدًا عَلَى الْأَحْسَابِ نَتَّكِلُ

نَبْنِي كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا

تَبْنِي وَنَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلُوا

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهم تَمَثَّلَ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ، وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ فِي قَوْلِهِ:

يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ كُنْ أَخَا أَدَبِ

مِنْ عَجَمٍ كُنْت أَوْ مِنْ الْعَرَبِ

إنَّ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ هَأَنَذَا

لَيْسَ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ كَانَ أَبِي

وَأَحْسَنَ ابْنُ الرُّومِيِّ فِي قَوْلِهِ:

فَلَا تَفْتَخِرْ إلَّا بِمَا أَنْتَ فَاعِلٌ

وَلَا تَحْسَبَنَّ الْمَجْدَ يُورَثُ بِالنَّسَبِ

فَلَا لَا يَسُودُ الْمَرْءُ إلَّا بِفِعْلِهِ

وَإِنْ عَدَّ آبَاءً كِرَامًا ذَوِي حَسَبِ

إذَا الْعُودُ لَمْ يُثْمِرْ وَإِنْ كَانَ شُعْبَةً

مِنْ الثَّمَرَاتِ اعْتَدَّهُ النَّاسُ فِي الْحَطَبِ

وَقَدْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ فِي عَصَمَ: وَقَوْلُهُ: مَا وَرَاءَك يَا عِصَامُ؟ هُوَ اسْمُ حَاجِبِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَفِي الْمَثَلِ كُنْ عِصَامِيًّا وَلَا تَكُنْ عِظَامِيًّا يُرِيدُونَ بِهِ قَوْلُهُ:

نَفْسُ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَامَا

وَصَيَّرَتْهُ مَلِكًا هُمَامَا

وَعَلَّمَتْهُ الْكَرَّ وَالْإِقْدَامَا

وَلِلْأَصْلِ تَأْثِيرٌ، وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: مَنْ طَابَ أَصْلُهُ حَسُنَ مَحْضَرُهُ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَحْتَجُّ لِتَرْكِهِ بِكِبَرِ السِّنِّ، أَوْ عَدَمِ الذَّكَاءِ، أَوْ الْقِلَّةِ وَالْفَقْرِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ وَسْوَاسُ الشَّيْطَانِ يُثَبِّطُونَ بِهَا.

ص: 215

وَمَنْ نَظَرَ فِي حَالِ السَّلَفِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْخَلَفِ وَجَدَهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ إلَى هَذِهِ الْأَعْذَارِ، وَلَا يُعَرِّجُونَ عَلَيْهَا، وَقَدْ قِيلَ

وَمَنْ يَجْتَهِدْ فِي نَيْلِ أَمْرٍ وَيَصْطَبِرْ

يَنَلْهُ وَإِلَّا بَعْضَهُ إنْ تَعَسَّرَا

فَمَا دُمْت حَيًّا فَاطْلُبْ الْعِلْمَ وَالْعُلَى

وَلَا تَأْلُ جُهْدًا أَنْ تَمُوتَ فَتُعْذَرَا

وَلَكِنْ يَنْبَغِي اغْتِنَامُ أَوْقَاتِ الْفَرَاغِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ:«نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَذَكَرَ أَبُو حَفْصٍ النَّحَّاسُ قَوْلَ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ:

بَادِرْ إذَا الْحَاجَاتُ يَوْمًا أَمْكَنَتْ

بِوُرُودِهِنَّ مَوَارِدَ الْآفَاتِ

كَمْ مِنْ مُؤَخِّرِ حَاجَةٍ قَدْ أَمْكَنَتْ

لِغَدٍ وَلَيْسَ غَدٌ لَهُ بِمُوَاتِ

تَأْتِي الْحَوَادِثُ حِينَ تَأْتِي جَمَّةً

وَنَرَى السُّرُورَ يَجِيءُ فِي الْفَلَتَاتِ

وَكَانَ الشَّاشِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْمَشْهُورُ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ يُنْشِدُ:

تَعَلَّمْ يَا فَتَى وَالْعُودُ رَطْبٌ

وَطِينُك لَيِّنٌ وَالطَّبْعُ قَابِلْ

وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيَّ الْحَنْبَلِيَّ تِلْمِيذَ أَبِي الْخَطَّابِ الْمُتَوَفَّى فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ قَالَ أَنْشَدَنِي:

أَخِي لَنْ تَنَالَ الْعِلْمَ إلَّا بِسِتَّةٍ

سَأُنْبِيكَ عَنْ مَكْنُونِهَا بِبَيَانِ

ذَكَاءٍ وَحِرْصٍ وَاجْتِهَادٍ وَبُلْغَةٍ

وَإِرْشَادِ أُسْتَاذٍ وَطُولِ زَمَانِ

قَالَ وَأَنْشَدَنِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

ص: 216

تَمَنَّيْت أَنْ تُمْسِي فَقِيهًا مُنَاظِرًا

بِغَيْرِ عَنَاءٍ وَالْجُنُونُ فُنُونُ

وَلَيْسَ اكْتِسَابُ الْمَالِ دُونَ مَشَقَّةٍ

تَلَقَّيْتهَا فَالْعِلْمُ كَيْفَ يَكُونُ

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَا يَتَنَاهَى فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا عَاشِقٌ، وَالْعَاشِقُ يَنْبَغِي أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَكَارِهِ. وَمِنْ ضَرُورَةِ الْمُتَشَاغِلِ بِهِ الْبُعْدُ عَنْ الْكَسْبِ، وَقَدْ فُقِدَ التَّفَقُّدُ لَهُمْ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَمِنْ الْإِخْوَانِ، وَلَازَمَهُمْ الْفَقْرُ، وَالْفَضَائِلُ يُنَادَى عَلَيْهَا:

{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11] فَلَمَّا أَجَابَتْ مَرَارَةُ الِابْتِلَاءِ قَالَتْ:

لَا تَحْسَبْ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ

لَنْ تَبْلُغَ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبِرَا

ثُمَّ ذَكَرَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رضي الله عنه وَشَأْنِهِ وَقَالَ: فَمَا شَاعَ لَهُ الذِّكْرُ الْجَمِيلُ جُزَافًا، وَلَا تَرَدَّدَتْ الْأَقْدَامُ إلَى قَبْرِهِ إلَّا لِمَعْنًى عَجِيبٍ، فَيَا لَهُ ثَنَاءً مَلَأَ الْآفَاقَ وَجَمَالًا زَيَّنَ الْوُجُودَ، وَعِزًّا نَسَخَ كُلَّ ذُلٍّ، هَذَا فِي الْعَاجِلِ، وَثَوَابُ الْآجِلِ لَا يُوصَفُ، وَتَلْمَحُ قُبُورَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لَا تُعْرَفُ وَلَا تُزَارُ، تَرَخَّصُوا وَتَأَوَّلُوا وَخَالَطُوا السَّلَاطِينَ فَذَهَبَتْ بَرَكَةُ الْعِلْمِ وَمُحِيَ الْجَاهُ، وَوَرَدُوا عِنْدَ الْمَوْتِ حِيَاضَ النَّدَمِ، فَيَالَهَا حَسَرَاتٍ لَا تَتَلَافَى، وَخُسْرَانًا لَا يَنْجَبِرُ، كَانَتْ صُحْبَةُ اللَّذَّاتِ كَطَرْفَةِ عَيْنٍ، وَلَازَمَ الْأَسَفُ دَائِمًا. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ:

يَا نَفْسُ مَا هُوَ إلَّا صَبْرُ أَيَّامِ

كَأَنَّ مُدَّتَهَا أَضْغَاثُ أَحْلَامِ

يَا نَفْسُ جُوزِي عَنْ الدُّنْيَا مُبَادِرَةً

وَخَلِّ عَنْهَا فَإِنَّ الْعَيْشَ قُدَّامِي

ثُمَّ أَيُّهَا الْعَالِمُ الْفَقِيرُ أَيَسُرُّك مُلْكُ سُلْطَانٍ مِنْ السَّلَاطِينِ، وَأَنَّ مَا تَعْلَمُهُ مِنْ الْعِلْمِ لَا تَعْلَمُهُ؟ كَلًّا مَا أَظُنُّ الْمُتَيَقِّظَ يُؤْثِرُ هَذَا، ثُمَّ أَنْتَ إذَا وَقَعَ لَك خَاطِرٌ مُسْتَحْسَنٌ، أَوْ مَعْنًى عَجِيبٌ تَجِدُ لَذَّةً لَا يَجِدُهَا مُلْتَذٌّ بِاللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ، فَقَدْ حُرِمَ مِنْ رِزْقِ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ مَا قَدْ رُزِقْت. وَقَدْ شَارَكْتَهُمْ فِي قِوَامِ الْعَيْشِ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْفُضُولُ الَّتِي إذَا حُذِفَتْ لَمْ تَكَدْ تَضُرُّ، ثُمَّ هِيَ عَلَى الْمُخَاطَرَةِ فِي

ص: 217

بَابِ الْآخِرَةِ غَالِبًا وَأَنْتَ عَلَى السَّلَامَةِ فِي الْأَغْلَبِ، فَتَلَمَّحْ يَا أَخِي عَوَاقِبَ الْأَحْوَالِ، وَاقْمَعْ الْكَسَلَ الْمُثَبِّطَ عَنْ الْفَضَائِلِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَضَائِلَ لَا تُنَالُ بِالْهُوَيْنَا، فَبَارَكَ اللَّهُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ، فَنَحْنُ الْأَغْنِيَاءُ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ، فَإِنْ عَمَّرُوا دَارًا سَخَّرُوا الْفَعَلَةَ، وَإِنْ جَمَعُوا مَالًا فَمِنْ وُجُوهٍ لَا تَصْلُحُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَخَافُ أَنْ يُقْتَلَ أَوْ يُعْزَلَ أَوْ يُسَمَّ، فَعَيْشُهُمْ نَغَصٌ، الْعِزُّ فِي الدُّنْيَا لَنَا لَا لَهُمْ، وَإِقْبَالُ الْخَلْقِ عَلَيْنَا، وَفِي الْآخِرَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ تَفَاوُتٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالْعَجَبُ لِمَنْ شَرُفَتْ نَفْسُهُ حَتَّى طَلَبَ الْعِلْمَ إذْ لَا تَطْلُبُهُ إلَّا نَفْسٌ شَرِيفَةٌ كَيْفَ يَذِلُّ لِنَذْلٍ، مَا عِزُّهُ إلَّا بِالدُّنْيَا، وَلَا فَخْرُهُ إلَّا بِالْمَسْكَنَةِ، وَقَالَ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا عَيْشٌ إلَّا لِعَالِمٍ أَوْ زَاهِدٍ قَالَ وَإِذَا قَنَعَا بِمَا يَكُفُّ لَمْ يَتَمَنْدَلْ بِهِمَا سُلْطَانٌ، وَلَمْ يُسْتَخْدَمَا بِالتَّرْدَادِ إلَى بَابِهِ، وَلَمْ يَحْتَجْ الزَّاهِدُ إلَى تَصَنُّعٍ، وَالْعَيْشُ اللَّذِيذُ الْمُنْقَطِعُ الَّذِي لَا يُتَمَنْدَلُ بِهِ وَلَا يُحْمَلُ مِنْهُ، وَمَا أَكْثَرَ تَفَاوُتَ النَّاسِ فِي الْفَهْمِ حَتَّى الشُّعَرَاءُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:

هَمُّهَا الْعِطْرُ وَالْفِرَاشُ وَيَعْلُو

هَا لُجَيْنٌ وَلُؤْلُؤٌ مَنْظُومُ

وَهَذَا قَاصِرٌ فَإِنَّهُ لَوْ فَعَلَتْ هَذَا سَوْدَاءُ لِحُسْنِهَا، إنَّمَا الْمَادِحُ هُوَ الْقَائِلُ:

أَلَمْ تَرَ أَنِّي كُلَّمَا جِئْت زَائِرًا

وَجَدْت بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تَطَيَّبْ

وَكَقَوْلِ الْآخَرِ:

أَدْعُو إلَى هَجْرِهَا قَلْبِي فَيَتْبَعُنِي

حَتَّى إذَا قُلْت هَذَا صَادِقٌ نَزَعَا

وَلَوْ كَانَ صَادِقًا فِي الْمَحَبَّةِ لَمَا كَانَ لَهُ قَلْبٌ يُخَاطِبُهُ، وَإِذَا خَاطَبَهُ فِي الْهَجْرِ.

لَمْ يُوَافِقْهُ، إنَّمَا الْمُحِبُّ الصَّادِقُ هُوَ الْقَائِلُ:

يَقُولُونَ لَوْ عَاتَبْت قَلْبَك لَارْعَوَى

فَقُلْت وَهَلْ لِلْعَاشِقَيْنِ قُلُوبُ

انْتَهَى كَلَامُهُ وَالْبَيْتُ الثَّانِي لِامْرِئِ الْقَيْسِ قَالَهُ فِي أُمِّ جُنْدُبٍ.

ص: 218

وَقَالَ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ السِّرُّ الْمَصُونُ: مِثْلُ الْمُحِبِّ لِلْعِلْمِ مِثْلُ الْعَاشِقِ، فَإِنَّ الْعَاشِقَ يَهْتَمُّ بِمَعْشُوقِهِ، وَيَهِيمُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُحِبُّ لِلْعِلْمِ، فَكَمَا أَنَّ الْعَاشِقَ يَبِيعُ أَمْلَاكَهُ، وَيُنْفِقُهَا عَلَى مَعْشُوقِهِ فَيَفْتَقِرُ كَذَلِكَ مُحِبُّ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَسْتَغْرِقُ فِي طَلَبِهِ الْعُمُرَ فَيَذْهَبُ مَالُهُ، وَلَا يَتَفَرَّغُ لِلْكَسْبِ، فَإِذَا احْتَاجَ دَخَلَ فِي مُدَاخِلٍ صَعْبَةٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِالسَّلَاطِينِ إمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي أَشْغَالِهِمْ، أَوْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَطْلُبُ مِنْ الْعَوَامّ الْبُخَلَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْجِعُ عَنْ الْجِدِّ فِي الْعِلْمِ إلَى الْكَسْبِ.

وَقَدْ كَانَ لِلْعُلَمَاءِ قَدِيمًا حَظٌّ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ يُغْنِيهِمْ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَعِيشُ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ كَأَبِي عُبَيْدٍ مَعَ ابْنِ طَاهِرٍ، وَالزَّجَّاجِ مَعَ ابْنِ وَهْبٍ، ثُمَّ كَانَ لِلْعُلَمَاءِ مَنْ يُرَاعِيهِمْ مِنْ الْإِخْوَانِ حَتَّى قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَوْلَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ مَا اتَّجَرْت، وَكَانَ يُبْعَثُ بِالْمَالِ إلَى الْفُضَيْلِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَصَارَ أَقْوَامٌ مِنْ التُّجَّارِ يَفْتَقِدُونَ الْعُلَمَاءَ بِالزَّكَاةِ فَيَنْدَفِعُ الزَّمَانُ، وَقَدْ وَصَلْنَا إلَى زَمَانٍ تَقَطَّعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَسْبَابُ حَتَّى لَوْ احْتَاجَ الْعَالِمُ فَطَلَبَ لَمْ يُعْطَ، فَأَوْلَى النَّاسِ بِحِفْظِ الْمَالِ وَتَنْمِيَةِ الْيَسِيرِ مِنْهُ وَالْقَنَاعَةِ بِقَلِيلِهِ تَوْفِيرًا لِحِفْظِ الدِّينِ وَالْجَاهِ، وَالسَّلَامَةِ مِنْ مِنَنِ الْعَوَامّ الْأَرَاذِلِ الْعَالِمُ الَّذِي فِيهِ دِينٌ وَلَهُ أَنَفَةٌ مِنْ الذُّلِّ.

وَقَدْ قَالَ مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ: إنَّ الرَّجُلَ لَيَسْقِينِي شُرْبَةً مِنْ مَاءٍ فَكَأَنَّهُ دَقَّ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِي، وَقَدْ كَانَ أَقْوَامٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا افْتَقَرُوا لَا يَرَوْنَ سُؤَالَ النَّاسِ فَيَخْرُجُونَ إلَى جَبَلٍ فَيَمُوتُونَ فِيهِ. فَإِذَا اتَّفَقَ لِلْعَالِمِ عَائِلَةٌ، وَحَاجَاتٌ وَكَفَّتْ أَكُفُّ النَّاسِ عَنْهُ، وَمَنَعَتْهُ أَنَفَتُهُ مِنْ الذُّلِّ هَلَكَ، فَالْأَوْلَى لِمِثْلِ هَذَا (الْعَالِمِ) فِي هَذَا الزَّمَانِ الْمُظْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي كَسْبٍ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ نَسَخَ بِأُجْرَةٍ، وَيُدَبِّرُ مَا يُحَصِّلُ لَهُ، وَيَدَّخِرُ الشَّيْءَ لِحَاجَةٍ تَعْرِضُ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى نَذْلٍ.

وَقَدْ يَتَّفِقُ لِلْعَالِمِ مِرْفَقٌ، فَيُنْفِقُ، وَلَا يَدَّخِرُ عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْحَالِ وَنِسْيَانًا لِمَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ مِنْ انْقِطَاعِ الْمِرْفَقِ وَطَبْعًا فِي نَفْسِهِ مِنْ الْبَذْلِ وَالْكَرَمِ، فَيُخْرِجُ مَا فِي يَدِهِ فَيَنْقَطِعُ مِرْفَقُهُ فَيُلَاقِي مِنْ الضَّرَرِ، أَوْ مِنْ الذُّلِّ مَا يَكُونُ الْمَوْتُ دُونَهُ.

ص: 219

فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَعْمَلَ بِمُقْتَضَى الْحَالِ الْحَاضِرَةِ، بَلْ يُصَوِّرُ كُلَّ مَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ.

وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَنْظُرُونَ فِي الْعَوَاقِبِ، فَكَمْ مِنْ مُخَاصِمٍ سَبَّ وَشَتَمَ وَطَلَّقَ، فَلَمَّا أَفَاقَ نَدِمَ، وَقَدْ كَانَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ يَزْهَدُ وَدَفَنَ كُتُبَهُ فَلَمْ يَصْبِرْ عَنْ الْحَدِيثِ فَحَدَّثَ مِنْ حِفْظِهِ فَغَلِطَ فَضَعَّفُوهُ، وَقَدْ تَزَهَّدَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَأَخْرَجُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ احْتَاجُوا فَدَخَلُوا فِي مَكْرُوهَاتٍ، وَكَانَ الشِّبْلِيُّ يَقْدِرُ عَلَى خَمْسِينَ أَلْفًا فَتَزَهَّدَ، وَفَرَّقَهَا فَنَزَلَ بِهِ قَوْمٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ فَبَعَثَ إلَى بَعْضِ أَرْبَابِ الدُّنْيَا يَطْلُبُ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ يَا شِبْلِيُّ: اُطْلُبْ مِنْ اللَّهِ عز وجل، فَقَالَ لَهُ: أَنَا أَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ عز وجل، وَأَطْلُبُ الدُّنْيَا مِنْ خَسِيسٍ مِثْلِك، فَبَعَثَ إلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ.

وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: إنْ كَانَ بَعَثَ إلَيْهِ اتِّقَاءَ ذَمِّهِ فَقَدْ أَكَلَ الشِّبْلِيُّ الْحَرَامَ، وَقَدْ تَزَهَّدَ أَبُو حَامِدٍ الطُّوسِيُّ، وَأَقَامَ سِنِينَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ عَادَ إلَى وَطَنِهِ فَبَنَى دَارًا كَبِيرَةً وَغَرَسَ بُسْتَانًا. فَمِثْلُ هَذَا الْمُتَزَهِّدِ الْمُخْرِجِ لِمَالِهِ كَمُعِيرٍ لِبَاسَهُ، كَمِثْلِ مَاءٍ عُمِلَ لَهُ سَكْرٌ فَإِنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْجَرَيَانِ، ثُمَّ يُعْمَلُ فِي بَاطِنِ السَّكْرِ إلَى أَنْ يَنْقُبَ، وَلِهَذَا كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه إذَا رَأَى شُبَّانًا قَدْ تَنَسَّكُوا يَقُولُ: الْمَوْتُ الْمَوْتُ جَاءَهُمْ، خَوْفًا مِنْ تَغْيِيرِ حَالِهِمْ. وَكَذَلِكَ مُخْرِجُ الْمَالِ فِي حَالِ الْغِنَى إذَا لَمْ يَحْسِبْ وُقُوعَ الْفَقْرِ.

وَقَدْ رَأَيْنَا أَبَا الْحَسَنِ الْغَزْنَوِيَّ وَقَدْ بَنَى لَهُ رِبَاطًا بِبَغْدَادَ وَوُقِفَتْ عَلَيْهِ قَرْيَةٌ فَكَانَ يَقُولُ: يَدْخُلُ لِي فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَسِتُّ مِائَةِ دِينَارٍ فَأَلْفٌ وَمِائَتَانِ لِي وَلِأَوْلَادِي، وَأَلْفٌ وَمِائَتَانِ لِأَهْلِ الرِّبَاطِ، وَأَلْفٌ وَمِائَتَانِ لِلْمَجْلِسِ، فَكَانَ يُعْطِي الْعُلَمَاءَ وَالْقُرَّاءَ وَالزُّهَّادَ وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ أَحَدٌ حَتَّى إنَّهُ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ عِنْدَ الْوَزِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ الزَّيْنِيِّ، فَبَعَثَ إلَيْهِ خِلْعَةً قَبْلَ الْعِيدِ وَهَذِهِ عَادَتُهُمْ فِيمَنْ يُفْطِرُ عِنْدَهُمْ فَحَدَّثَنِي الْحَاجِبُ أَنَّهُ حَمَلَهَا إلَيْهِ فَقَالَ: لَا أَقْبَلُ، قَالَ: فَقَبَّحْت لَهُ هَذَا وَبَالَغْت حَتَّى قَبِلَ عَلَى مَضَضٍ.

وَكَانَ يَقُولُ: عُرِضَتْ عَلَيَّ خَمْسَةُ آلَافِ دِينَارٍ فَدَفَعْتهَا بِهَذِهِ الْأَصَابِعِ الْخَمْسِ، وَقُلْت: لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا، وَكَانَ يَظُنُّ دَوَامَ مَا هُوَ فِيهِ فَاتَّفَقَ مَوْتُ السُّلْطَانِ

ص: 220

مَسْعُودٍ فَأُحْضِرَ بَابَ الْحَاكِمِ وَوُكِّلَ بِهِ وَأُخِذَتْ مِنْهُ الْقَرْيَةُ فَافْتَقَرَ، فَحَدَّثَنِي مَحَاسِنُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ الْغَزْنَوِيِّ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْمُلَقَّبِ شَيْخُ الشُّيُوخِ وَحْشَةٌ.

فَلَمَّا افْتَقَرَ الْغَزْنَوِيُّ بَعَثَ مَعِي إلَيْهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَرُقْعَةٍ بِكَارَاتِ دَقِيقٍ فَجِئْت بِهَا إلَيْهِ، فَقَالَ: لَا أَقْبَلُ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيَّ لِانْبِسَاطٍ كَانَ بَيْنَنَا، فَقَالَ لِي: أَغْنِنِي أَنْتَ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَخَمْسِ كَارَاتٍ، فَالصِّبْيَانُ جِيَاعٌ، وَكَانَ يَقُولُ: مِنْ النَّاسِ مَنْ يُحِبُّ الْمَوْتَ فَمَاتَ قَرِيبًا. وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ دِجْلَةَ قُرًى.

وَالْحَازِمُ مَنْ يَحْفَظُ مَا فِي يَدِهِ كَمَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَنْ كَانَ بِيَدِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ فَلْيَجْعَلْهُ فِي قَرْنِ ثَوْرٍ فَإِنَّهُ زَمَانٌ مَنْ احْتَاجَ فِيهِ كَانَ أَوَّلُ مَا يَبْذُلُ دِينَهُ.

وَقَدْ كَانَ صَالِحُ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِأَصْبَهَانَ فَلَمَّا قُرِئَ عَهْدُهُ بَكَى وَقَالَ ابْنُ عَيْنٍ أَبِي تَرَانِي وَعَلَيَّ السَّوَادُ؟ وَلَكِنْ مَا تَوَلَّيْت حَتَّى رَكِبَنِي الدَّيْنُ وَكَثُرَ الْعِيَالُ، وَكَذَلِكَ يُحْكَى عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْقُضَاةِ. وَقَدْ كَانَ الْمُتَوَكِّلُ يَبْعَثُ إلَى أَوْلَادِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ الْأُلُوفَ، وَإِنَّمَا كَانَ صَالِحٌ سَخِيًّا، فَالسَّخِيُّ الَّذِي لَا يَحْسَبُ إلَّا خَيْرًا لَا يَفِي سَخَاؤُهُ بِمَا يَلْقَى إذَا افْتَقَرَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمْسَاكَ فِي حَقِّ الْكَرِيمِ جِهَادٌ لِأَنَّهُ قَدْ أَلِفَ الْكَرَمَ، كَمَا أَنَّ إخْرَاجَ مَا فِي يَدِ الْبَخِيلِ جِهَادٌ. فَإِنَّمَا يَسْتَعِينُ الْكَرِيمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ بِذِكْرِ الْحَاجَةِ إلَى الْأَنْذَالِ قِيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: لِمَ حَفِظَتْ الْفَلَاسِفَةُ الْمَالَ؟ فَقَالَ: لِئَلَّا يَقِفُوا مَوَاقِفَ لَا تَلِيقُ بِهِمْ.

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ رَأَيْت أَنَا بِبَغْدَادَ مِنْ الصُّوفِيَّةِ مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَدَخَلَ فَكَانَ الْخَلْقُ يَتَقَرَّبُونَ إلَى السَّلَاطِينِ وَيَطْلُبُونَ مِنْهُمْ وَهُوَ لَا يُبَالِي فَكُنْت أَغْبِطُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى السَّلَاطِينِ يُذِلُّونَهُ وَيَحْتَقِرُونَهُ وَرُبَّمَا مَنَعُوهُ، فَإِنْ أَعْطَوْهُ أَخَذُوا مِنْ دِينِهِ أَكْثَرَ قَالَ الرَّشِيدُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: أَتَيْنَاك فَانْتَفَعْنَا وَأَتَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فَلَمْ نَنْتَفِعْ بِهِ، وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: قَدْ كُنْت أُوتِيت فَهْمًا فِي الْقُرْآنِ فَلَمَّا أَخَذْت مِنْ مَالِ أَبِي جَعْفَرٍ حُرِمْت ذَلِكَ.

ص: 221

وَإِنْ احْتَاجَ الْإِنْسَانُ إلَى الْعَوَامّ بَخِلُوا فَإِنْ أَعْطَوْا تَضَجَّرُوا وَمَنُّوا. وَقَلَّ مَنْ رَأَيْنَاهُ يُنَافِقُ، أَوْ يُرَائِي، أَوْ يَتَوَاضَعُ لِصَاحِبِ دُنْيَا إلَّا لِأَجْلِ الدُّنْيَا. وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إلَى كُلِّ مِحْنَةٍ، قَالَ بِشْرٌ الْحَافِيُّ: لَوْ أَنَّ لِي دَجَاجَةً أَعُولُهَا خِفْت أَنْ أَكُونَ عَشَّارًا عَلَى الْجِسْرِ:

فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَجْمَعَ هَمُّهُ لِيُقْبِلَ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِقَلْبٍ فَارِغٍ مِنْ الْهَمِّ وَبَعْدُ فَإِذَا صَدَقَتْ نِيَّةُ الْعَبْدِ، وَقَصْدُهُ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَحَفِظَهُ مِنْ الذُّلِّ وَدَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2 - 3] .

وَيَأْتِي كَلَامُ ابْنُ عَقِيلٍ نَحْوَ ثُلُثَيْ الْكِتَابِ فِي إخْرَاجِ الْمَالِ وَالْكَرَمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ أَيْضًا فِي كِتَابِ السِّرُّ الْمَصُونُ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ سِبَاقِ وَتَحْصِيلِ الْفَضَائِلِ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا عَلَتْ مَرْتَبَتُهُ فِي عِلْمٍ وَعَمَلٍ زَادَتْ الْمَرْتَبَةُ فِي دَارِ الْجَزَاءِ، انْتَهَبَ الزَّمَانَ، وَلَمْ يُضَيِّعْ لَحْظَةً وَلَمْ يَتْرُكْ فَضِيلَةً تُمْكِنُهُ إلَّا حَصَّلَهَا، وَمَنْ وُفِّقَ لِهَذَا فَلْيَبْتَكِرْ زَمَانَهُ بِالْعِلْمِ، وَلْيُصَابِرْ كُلَّ مِحْنَةٍ وَفَقْرٍ، إلَى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَا يُرِيدُ، وَلْيَكُنْ مُخْلِصًا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ عَامِلًا بِهِ حَافِظًا لَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَفُوتَهُ الْإِخْلَاصُ فَذَاكَ تَضْيِيعُ زَمَانٍ وَخُسْرَانُ الْجَزَاءِ، وَإِمَّا أَنْ يَفُوتَهُ الْعَمَلُ بِهِ فَذَاكَ يُقَوِّي الْحُجَّةَ عَلَيْهِ وَالْعِقَابَ لَهُ، وَإِمَّا جَمَعَهُ مِنْ غَيْرِ حِفْظٍ، فَإِنَّ الْعِلْمَ مَا كَانَ فِي الصُّدُورِ لَا فِي الْقِمْطَرِ.

وَمَتَى أَخْلَصَ فِي طَلَبِهِ دَلَّهُ عَلَى اللَّهِ عز وجل إلَى أَنْ قَالَ: وَلْيَبْعُدْ عَنْ مُخَالَطَةِ الْخَلْقِ مَهْمَا أَمْكَنَ خُصُوصًا الْعَوَامَّ، وَلْيَصُنْ نَفْسَهُ مِنْ الْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ فَرُبَّمَا وَقَعَ الْبَصَرُ عَلَى فِتْنَةٍ، وَلْيَجْتَهِدْ فِي مَكَان لَا يَسْمَعُ فِيهِ أَصْوَاتَ النَّاسِ، وَلْيُزَاحِمْ الْقُدَمَاءَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ مُنْتَهِبًا الزَّمَانَ فِي كُلِّ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَارٌّ إلَى اللَّهِ عز وجل وَإِلَى الْعَيْشِ مَعَهُ، وَعِنْدَهُ وَإِنَّ أَيَّامَ الدُّنْيَا أَيَّامُ سَفَرٍ صَبَرَ

ص: 222

عَلَى تَفَثِ السَّفَرِ وَوَسَخِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَقَدْ قَالَ أَيْضًا: لَوْ صَدَقْت فِي الطَّلَبِ، (لَوَقَعْتَ) عَلَى كَنْزِ الذَّهَبِ، وَلَوْ وَجَدُوك مُسْتَقِيمًا، مَا تَرَكُوك سَقِيمًا شِعْرٌ:

وَرُبَّمَا غُوفِصَ ذُو غَفْلَةٍ

أَصَحُّ مَا كَانَ وَلَمْ يَسْقَمْ

يَا وَاضِعَ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ

خَاطَبَك الْقَبْرُ وَلَمْ تَفْهَمْ

خَاضُوا أَمْرَ الْهَوَى فِي فُنُونٍ

فَزَادَهُمْ فِي اسْمِ هَوَاهُمْ حَرْفَ نُونِ

وَقَالَ أَيْضًا: اعْلَمْ أَنَّ الرَّاحِلَةَ لَا تُنَالُ بِالرَّاحَةِ وَمَعَالِي الْأُمُورِ لَا تُنَالُ بِالرَّاحَةِ، فَمَنْ زَرَعَ حَصَدَ، وَمَنْ جَدَّ وَجَدَ:

تَفَانَى الرِّجَالُ عَلَى حُبِّهَا

وَمَا يَحْصُلُونَ عَلَى طَائِلِ

لَا يُعْجِبَنَّك لِينُهَا فَجِلْدُ الْحَيَّةِ كَالْحَرِيرِ، وَلَقَدْ رَأَيْت كَيْفَ غَرَّتْ غَيْرَك وَالْعَاقِلُ بَصِيرٌ.

أَتَرَى يَنْفَعُ هَذَا الْعِتَابُ؟ أَتَرَى يُسْمَعُ لِهَذَا الْعَذَلِ جَوَابٌ؟ إذَا أَقْلَقَهُمْ الْخَوْفُ نَاحُوا، وَإِذَا أَزْعَجَهُمْ الْوَجْدُ صَاحُوا، وَإِذَا غَلَبَهُمْ الشَّوْقُ بَاحُوا. شِعْرٌ:

وَحُرْمَةِ الْوُدِّ مَا لِي عَنْكُمْ عِوَضُ

وَلَيْسَ وَاَللَّهِ لِي فِي غَيْرِكُمْ غَرَضُ

وَمِنْ حَدِيثِي بِكُمْ قَالُوا بِهِ مَرَضُ

فَقُلْت لَا زَالَ عَنِّي ذَلِكَ الْمَرَضُ

انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ بَعْدَ جَمْعِهِ لِطُرُقٍ وَأَسَانِيدَ أَظُنُّهُ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ وَهُوَ تَابِعِيٌّ إمَامٌ عَابِدٌ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُسْتَطَاعُ الْعِلْمُ بِرَاحَةِ الْجِسْمِ وَقَدْ قِيلَ.

ص: 223

لَيْسَ الْيَتِيمُ الَّذِي قَدْ مَاتَ وَالِدُهُ

إنَّ الْيَتِيمَ يَتِيمُ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ

وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ فَيَنْبَغِي لِلْمَشَايِخِ الْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ، وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْهُمْ وَاللُّطْفُ بِهِمْ، لِئَلَّا يَتَضَاعَفَ أَلَمُهُمْ وَهَمُّهُمْ، فَيَضْعُفَ الصَّبْرُ، وَتَحْصُلَ النَّفْرَةُ عَنْ الْعِلْمِ، وَاسْتِحْبَابُ ذَلِكَ مِنْ الطَّلَبَةِ أَوْلَى بِهِمْ وَالْأَدَبُ وَالتَّلَطُّفُ وَمَا يُعِينُهُمْ عَلَى الْمَقْصُودِ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ «بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا» .

وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ» وَقَدْ ذَكَرْت قَوْلَهُ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى حِينَ بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ: «بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا» ، وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ يَقُولُ: مَرْحَبًا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ.

وَقَالَ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ أَبِي سُوَيْدٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «عَلِّمُوا وَلَا تُعَنِّفُوا فَإِنَّ الْمُعَلِّمَ خَيْرٌ مِنْ الْمُعَنِّفِ» . حُمَيْدٌ لَهُ مَنَاكِيرُ تَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرُهُ، وَيَأْتِي قَبْلَ ذِكْرِ الْكَرَمِ وَالْبُخْلِ فِي فُضُولِ الْكَسْبِ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْبَاقِي الْحَنْبَلِيِّ: يَجِبُ عَلَى الْمُعَلِّمِ أَنْ لَا يُعَنِّفَ، وَعَلَى الْمُتَعَلِّمِ أَنْ لَا يَأْنَفَ.

وَقَالَ الْأَعْمَشُ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ إذَا جَاءَهُ أَصْحَابُهُ قَالَ: أَنْتُمْ جَلَاءُ قَلْبِي. وَيَأْتِي فِي أَوَّلِ فُصُولِ الْعِلْمِ قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه: تَوَاضَعُوا لِمَنْ عَلَّمَكُمْ، وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ جَبَّارِي الْعُلَمَاءِ، وَيَأْتِي بَعْدَهُ فِي فَصْلٍ قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قَوْلُ عُمَرَ لَا تَعْلَمْ الْعِلْمَ لِتُمَارِيَ بِهِ، وَلَا لِتُرَائِيَ بِهِ، وَلَا لِتُبَاهِيَ بِهِ، وَلَا تَتْرُكْهُ حَيَاءً مِنْ طَلَبِهِ وَلَا زَهَادَةً فِيهِ، وَلَا

ص: 224

رِضَاءً بِالْجَهَالَةِ، وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ: مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ.

وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِحَلْقَةٍ قَدْ جَلَسُوا إلَى جَانِبِ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا قَضَى طَوَافُهُ جَلَسَ إلَيْهِمْ، وَقَدْ نَحَّوْا الْفِتْيَانَ عَنْ مَجْلِسِهِمْ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلُوا أَوْسِعُوا لَهُمْ وَأَدْنُوهُمْ وَأَلْهِمُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ الْيَوْمَ صِغَارُ قَوْمٍ يُوشِكُ أَنْ يَكُونُوا كِبَارَ قَوْمٍ آخَرِينَ قَدْ كُنَّا صِغَارَ قَوْمٍ أَصْبَحْنَا كِبَارَ آخَرِينَ.

وَهَذَا صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَالْعِلْمُ فِي الصِّغَرِ أَثْبَتُ فَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِصِغَارِ الطَّلَبَةِ لَا سِيَّمَا الْأَذْكِيَاءِ الْمُتَيَقِّظِينَ الْحَرِيصِينَ عَلَى أَخْذِ الْعِلْمِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ عَلَى ذَلِكَ صِغَرُهُمْ أَوْ فَقْرُهُمْ وَضَعْفُهُمْ مَانِعًا مِنْ مُرَاعَاتِهِمْ، وَالِاعْتِنَاءِ بِهِمْ، وَقَدْ سَبَقَ فِي هَذَا الْفَصْلِ قَرِيبًا كَلَامُ الشَّاشِيِّ.

وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ (طَرِيقَيْنِ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ فِي شَبِيبَتِهِ اخْتَلَطَ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ، وَمَنْ تَعَلَّمَهُ فِي كِبَرِهِ فَهُوَ يَتَفَلَّتُ مِنْهُ وَلَا يَتْرُكْهُ فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ» ، وَلِآخِرِهِ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ.

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَحْتَلِمَ فَهُوَ مِمَّنْ أُوتِيَ الْحُكْمَ صَبِيًّا.

وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مَرْفُوعًا.

وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: الْعِلْمُ فِي الصِّغَرِ، كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ مُرْسَلًا " مَنْ تَعَلَّمَ وَهُوَ شَابٌّ كَانَ كَرَسْمٍ فِي حَجَرٍ، وَمَنْ تَعَلَّمَ فِي الْكِبَرِ كَانَ كَالْكَاتِبِ عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ " وَقَالَ عَلْقَمَةُ: مَا تَعَلَّمْته وَأَنَا شَابٌّ فَكَأَنَّمَا أَقْرَأهُ مِنْ دَفْتَرٍ. وَقَدْ تَوَاتَرَ تَعْظِيمُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَايَةً حَتَّى بُهِرَ الْأَعْدَاءُ كَمَا فِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَغَيْرِهِ، وقَوْله تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] .

ص: 225

وَقَوْلُ عُمَرَ «جَلَسْنَا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةٍ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ» «وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَعُونَ بَابَهُ بِالْأَظَافِيرِ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْحَاكِمِ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ الْحَافِظِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الزَّبْيَقِيِّ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى الْمُنْقِرِيِّ حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ حَدَّثَنَا كَيْسَانُ مَوْلَى هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ الْمُغِيرَةِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرَوَيْنَاهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُوَقَّرَ أَرْبَعَةٌ: الْعَالِمُ، وَذُو الشَّيْبَةِ، وَالسُّلْطَانُ، وَالْوَالِدُ، وَمِنْ الْجَفَاءِ أَنْ يَدْعُوَ الرَّجُلُ وَالِدَهُ بِاسْمِهِ ".

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا «ثَلَاثٌ مِنْ تَوْقِيرِ جَلَالِ اللَّهِ ذُو الشَّيْبَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَحَامِلُ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل، وَحَامِلُ الْعِلْمِ مَنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا» خَالِدٌ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَالْأَكْثَرُ.

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَقَالَ: هَكَذَا يُصْنَعُ بِالْعُلَمَاءِ وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخَذَ لَهُ بِالرِّكَابِ، وَأَخَذَ اللَّيْثُ بِرِكَابِ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ مُغِيرَةَ: كُنَّا نَهَابُ إبْرَاهِيمَ كَمَا نَهَابُ الْأَمِيرَ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ مَالِكٍ مَعَ مَالِكٍ.

وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ:

يَأْبَى الْجَوَابَ فَمَا يُرَاجَعُ هَيْبَةً

وَالسَّائِلُونَ نَوَاكِسُ الْأَذْقَانِ

أَدَبُ الْوَقَارِ وَعِزُّ سُلْطَانِ التُّقَى

فَهُوَ الْأَمِيرُ وَلَيْسَ ذَا سُلْطَانِ

وَقَالَ الرَّبِيعُ وَاَللَّهِ مَا اجْتَرَأْت أَنْ أَشْرَبَ الْمَاءَ وَالشَّافِعِيُّ يَنْظُرُ هَيْبَةً لَهُ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: رضي الله عنه إذَا رَأَيْت رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فَكَأَنَّمَا رَأَيْت رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ ارْحَمُوا عَزِيزَ قَوْمٍ ذَلَّ، وَغَنِيَّ قَوْمٍ افْتَقَرَ، وَعَالِمًا بَيْنَ جُهَّالٍ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا وَلَا يَصِحُّ.

ص: 226

وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَافِظُ: سَمِعْت أَبَا إسْمَاعِيلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ سَمِعْت أَبَا الْفَضْلِ الْجَارُودِيَّ يَقُولُ: رَحَلْت إلَى أَبِي الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ إلَى أَصْبَهَانَ فَلَمَّا دَخَلْت عَلَيْهِ قَرَّبَنِي وَأَدْنَانِي، وَكَانَ يَتَعَسَّرُ عَلَيَّ فِي الْأَخْذِ فَقُلْت لَهُ يَوْمًا: أَيُّهَا الشَّيْخُ لِمَ تَتَعَسَّرُ عَلَيَّ وَتَبْذُلُ لِلْآخَرِينَ قَالَ: لِأَنَّك تَعْرِفُ قَدْرَ هَذَا الشَّأْنِ وَهَؤُلَاءِ لَا يَعْرِفُونَ قَدْرَهُ.

قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ: سَمِعْت أَبَا إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيَّ الْحَافِظَ يَقُولُ: رَأَيْت فِي حَضَرِي وَسَفَرِي حَافِظًا وَنِصْفَ حَافِظٍ، فَالْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَالْآخَرُ أَبُو الْفَضْلِ الْجَارُودِيُّ، وَكَانَ إذَا حَدَّثَ عَنْ الْجَارُودِيِّ يَقُولُ: حَدَّثَنَا إمَامُ الْمَشْرِقِ.

وَفِي تَارِيخِ الْمَادِحِ وَالْمَمْدُوحِ لِلْحَافِظِ عَبْدِ الْقَادِرِ الرَّهَاوِيِّ أَنَّ الْجَارُودِيَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَإِنَّ أَبَا إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ إذَا حَدَّثَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ وَكَانَ أَحْفَظُ الْبَشَرِ.

قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ رَحَلْت مِنْ مِصْرَ إلَى نَيْسَابُورَ لِأَجْلِ أَبِي الْقَاسِمِ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُحِبِّ صَاحِبِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْخَفَّافِ، فَلَمَّا دَخَلْت عَلَيْهِ قَرَأْت فِي أَوَّلِ مَجْلِسٍ جُزْأَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّرَّاجِ فَلَمْ أَجِدْ لِذَلِكَ حَلَاوَةً وَاعْتَقَدْت أَنِّي نِلْته بِغَيْرِ تَعَبٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَيَّ وَلَا طَالَبَنِي بِشَيْءٍ هُوَ كُلُّ حَدِيثٍ مِنْ الْجُزْأَيْنِ يَسْوَى رِحْلَةً، وَسَيَأْتِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي فُصُولِ الْقِيَامِ وَبَعْدَهَا قَبْلَ فُصُولِ الْعِلْمِ وَفِي فُصُولِ الْعِلْمِ أَيْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ قِيلَ:

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا فِي الْبِلَادِ فَلَمْ نَجِدْ

أَحَدًا سِوَاك إلَى الْمَكَارِمِ يُنْسَبُ

فَاصْبِرْ لِعَادَتِنَا الَّتِي عَوَّدْتَنَا

أَوْ لَا فَأَرْشِدْنَا إلَى مَنْ نَذْهَبُ

وَقَالَ آخَرُ:

لَا تَلْحَقَنَّك ضَجْرَةٌ مِنْ سَائِلٍ

فَلَخَيْرُ يَوْمِك أَنْ تُرَى مَسْئُولَا

ص: 227

لَا تَجْبَهَنْ بِالْمَنْعِ وَجْهَ مُؤَمِّلِ

فَبَقَاءُ عِزِّك أَنْ تُرَى مَأْمُولَا

وَاعْلَمْ بِأَنَّك صَائِرٌ مَثَلًا فَكُنْ

مَثَلًا يَرُوقُ السَّامِعِينَ جَمِيلَا

وَقَالَ آخَرُ:

وَإِذَا الْحَبِيبُ أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ

جَاءَتْ مَحَاسِنُهُ بِأَلْفِ شَفِيعِ

وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا:

وَرُبَّمَا كَانَ مَكْرُوهُ النُّفُوسِ إلَى

مَحْبُوبِهَا سَبَبًا مَا مِثْلُهُ سَبَبُ

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الدَّجَاجِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي آخِرِ أَبْيَاتٍ لَهُ:

فَجُدْ بِلُطْفِ عَطْفِك وَأَغْنِهِ

بِجَمَالِ وَجْهِك عَنْ سُؤَالِ شَفِيعِ.

ص: 228