الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي رَدِّ جَوَابِ الْكِتَابِ وَأُسْلُوبِ السَّلَفِ فِي الْمُكَاتَبَةِ كَالسَّلَامِ]
فِي رَدِّ جَوَابِ الْكِتَابِ وَأُسْلُوبِ السَّلَفِ فِي الْمُكَاتَبَةِ كَالسَّلَامِ)
رَوَى أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «إنِّي لَأَرَى لِرَدِّ جَوَابِ الْكِتَابِ عَلَيَّ حَقًّا كَمَا أَرَى رَدَّ جَوَابِ السَّلَامِ.» قَالَ الشَّيْخَ تَقِيُّ الدِّينِ وَهُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْنِي مَوْقُوفًا انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقَوْلُ صَحَابِيٍّ لَا يَصِحُّ خِلَافُهُ عَنْ صَحَابِيٍّ مَعْمُولٍ بِهِ، وَيُتَوَجَّهُ الْقَوْلُ بِهِ اسْتِحْبَابًا وَيُتَوَجَّهُ فِي الْوُجُوبِ مَا فِي الْمُكَافَأَةِ عَلَى الْهَدِيَّةِ، وَرَدِّ جَوَابِ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَمَّا إنْ أَفْضَى تَرْكُ ذَلِكَ إلَى سُوءِ ظَنٍّ وَإِيقَاعِ عَدَاوَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَوَجَّهَ الْوُجُوبُ وَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّ جَوَابِ مَا قَصَدَهُ الْكَاتِبُ وَإِلَّا كَانَ الرَّدُّ كَعَدَمِهِ شَرْعًا وَعُرْفًا.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: فِي قَوْلِهِ عليه السلام «إنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ «إنِّي لَا أَنْقُضُ الْعَهْدَ وَلَا أُفْسِدُهُ» وَأَصْلُهُ مِنْ خَاسَ الشَّيْءُ فِي الْوِعَاءِ إذَا فَسَدَ قَالَ: وَقَوْلُهُ «لَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ» يُشْبِهُ أَنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ الرِّسَالَةَ تَقْتَضِي جَوَابًا وَالْجَوَابَ لَا يَصِلُ إلَى الْمُرْسَلِ إلَّا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدْ عَقَدَ لَهُ الْعَهْدَ مُدَّةَ مَجِيئِهِ وَرُجُوعِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ، وَإِذَا أَبْطَأَ الْجَوَابَ فَيَنْبَغِي التَّلَطُّفُ لِيَزُولَ لَهُ مَا حَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: كَتَبَ إلَيَّ الْمُغِيرَةُ يَسْتَبْطِئُ كُتُبِي فَكَتَبْتُ إلَيْهِ:
مَا غَيَّرَ النَّأْيُ وُدًّا كُنْتَ تَعْهَدُهُ
…
وَلَا تَبَدَّلْتُ بَعْدَ الذِّكْرِ نِسْيَانَا
وَلَا حَمِدْتُ إخَاءً مِنْ أَخِي ثِقَةِ
…
إلَّا جَعَلْتُكَ فَوْقَ الْحَمْدِ عُنْوَانَا
وَأَظُنُّ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ هُوَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ الْمَشْهُورُ الْإِخْبَارِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ النَّسَبِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما جَدُّ جَدِّ أَبِيهِ وَلَمْ أَجِدْ مَنْ اسْمُهُ الزُّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ غَيْرَهُ وَنَظِيرُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ مَا يَأْتِي فِي آخِرِ الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ الطَّائِيِّ فِي التَّأَخُّرِ عَنْ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ:
وَلَئِنْ جَفَوْتُكَ فِي الْعِيَادَةِ إنَّنِي
…
لِبَقَاءِ جِسْمِكَ فِي الدُّعَاءِ لَجَاهِدُ
وَلَرُبَّمَا تَرَكَ الْعِيَادَةَ مُشْفِقُ
…
وَطَوَى عَلَى غِلِّ الضَّمِيرِ الْعَائِدُ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الدَّارِمِيُّ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ: كَتَبَ إلَيَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لِأَبِي جَعْفَرٍ أَكْرَمَهُ اللَّهُ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقَالَ حَرْبٌ قُلْتُ لِأَحْمَدَ كَيْفَ تَكْتُبُ عَلَى عُنْوَانِ الْكِتَابِ؟ قَالَ نَكْتُبُ: إلَى أَبِي فُلَانٍ، وَلَا يُكْتَبُ لِأَبِي فُلَانٍ، قَالَ: لَيْسَ لَهُ مَعْنًى إذَا كُتِبَ لِأَبِي فُلَانٍ.
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَكْتُبُ عُنْوَانَ الْكِتَابِ: إلَى أَبِي فُلَانٍ، وَقَالَ: هُوَ أَصْوَبُ مِنْ أَنْ يَكْتُبَ لِأَبِي فُلَانٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ يَعْقُوبَ: كَتَبَ إلَيَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ إلَى سَعِيدِ بْنِ يَعْقُوبَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الدُّنْيَا دَاءٌ، وَالسُّلْطَانُ دَوَاءٌ، وَالْعَالِمَ طَبِيبٌ، فَإِذَا رَأَيْتَ الطَّبِيبَ يَجُرُّ الدَّاءَ إلَى نَفْسِهِ فَاحْذَرْهُ. وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ.
وَقَالَ حَنْبَلٌ: كَانَتْ كُتُبُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الَّتِي يَكْتُبُ بِهَا: مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَكَتَبَ كُلَّ مَا كَتَبَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَمْرٌو كَتَبَ إلَى عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ، وَهَذَا الَّذِي يُكْتَبُ الْيَوْمَ لِفُلَانٍ مُحْدَثٌ لَا أَعْرِفُهُ، قُلْتُ: فَالرَّجُلُ يَبْدَأُ بِنَفْسِهِ، قَالَ: أَمَّا الْأَبُ فَلَا أُحِبُّ إلَّا أَنْ يُقَدِّمَهُ بِاسْمِهِ، وَلَا يَبْدَأُ وَلَدٌ بِاسْمِهِ عَلَى وَالِدٍ، وَالْكَبِيرُ السِّنِّ كَذَلِكَ يُوَقِّرُهُ بِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا بَأْسَ، وَفِي مَعْنَى كِبَرِ السِّنِّ: الْعِلْمُ وَالشَّرَفُ وَنَحْوُهُمَا وَهُوَ مُرَادُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رحمه الله إنْ شَاءَ اللَّهُ وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِمُرَاعَاةِ شَيْخٍ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ، وَتَرْكِ عَالِمٍ صَغِيرِ السِّنِّ، وَلَمْ أَجِدْ عَنْ أَحْمَدَ رحمه الله مَا يُخَالِفُ هَذَا النَّصَّ صَرِيحًا، وَلَعَلَّ ظَاهِرَ حَالِهِ اتِّبَاعُ طَرِيقِ مَنْ مَضَى فِي بُدَاءَةِ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا، فَيَكُونُ عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي ذَلِكَ، وَهِيَ تُشْبِهُ مَسْأَلَةَ الْقِيَامِ أَوْ نَظِيرَهَا. وَسَيَأْتِي بَعْدَ نَحْوِ سِتَّةِ كَرَارِيسَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ وَالْكِتَابَةِ.
(فَصْلٌ)
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ ثَعْلَبِ بْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: الرَّسُولُ وَالرُّسُلُ وَالرِّسَالَةُ سَوَاءٌ، قَالَ: وَيُنْشَدُ هَذَا الْبَيْتُ عَلَى وَجْهَيْنِ
لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ
…
بِسِرٍّ وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
وَبِرَسِيلِ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إذَا أَبْرَدْتُمْ إلَيَّ بَرِيدًا أَوْ بَعَثْتُمْ إلَيَّ رَسُولًا فَلْيَكُنْ حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الِاسْمِ، وَإِذَا سَأَلْتُمْ الْحَوَائِجَ فَاسْأَلُوهَا حِسَانَ الْوُجُوهِ» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «الرَّجُلُ الصَّالِحُ يَجِيءُ بِالْخَبَرِ الصَّالِحِ، وَالرَّجُلُ السُّوءُ يَأْتِي بِالْخَبَرِ السُّوءِ» قَالُوا: الرَّسُولُ قِطْعَةٌ مِنْ الْمُرْسِلِ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: رضي الله عنه ثَلَاثَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صَاحِبِهَا الرَّسُولُ عَلَى الْمُرْسِلِ، وَالْهَدِيَّةُ عَلَى الْمُهْدِي، وَالْكِتَابُ عَلَى الْكَاتِبِ. قَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ:
إذَا كُنْتَ فِي حَاجَةٍ مُرْسِلًا
…
فَأَرْسِلْ حَكِيمًا وَلَا تُوصِهِ
فَسَمِعَ الْخَلِيلُ رَجُلًا يُنْشِدُ هَذَا الْبَيْتَ فَقَالَ هُوَ الدِّرْهَمُ.
وَقَالَ آخَرُ:
مَا أَرْسَلَ الْأَقْوَامُ فِي حَاجَةٍ
…
أَمْضَى وَلَا أَنْفَعَ مِنْ دِرْهَمِ
يَأْتِيكَ عَفْوًا بِاَلَّذِي تَشْتَهِي
…
نِعْمَ الرَّسُولُ لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ
وَقَالَ آخَرُ:
مَا مُرْسَلٌ أَنْجَحُ فِيمَا نَعْلَمُ
…
مِنْ طَبَقٍ يُهْدَى وَهَذَا الدِّرْهَمِ
وَقَالَ مَنْصُورٌ:
أَرْسَلْتُ فِي حَاجَةٍ رَسُولًا
…
يُكْنَى أَبَا دِرْهَمٍ فَتَمَّتْ
وَلَوْ سِوَاهُ بَعَثْتُ فِيهَا
…
لَمْ تَحْظَ نَفْسِي بِمَا تَمَنَّتْ
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ: الصَّوَابُ، إلَى أَبِي فُلَانٍ لِأَنَّ الْكِتَابَ إلَيْهِ لَا لَهُ إلَّا عَلَى مَجَازٍ بَعِيدٍ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَيْهِ. كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: يَكْتُبُ الرَّجُلُ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ، وَلَا يَكْتُبُ لِفُلَانٍ.
وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَتَبَ رَجُلٌ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِفُلَانٍ مِنْ فُلَانٍ فَقَالَ: مَهْ، إنَّ اسْمَ اللَّهِ هُوَ لَهُ إذًا، وَعَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ:
كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَكْتُبُوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِفُلَانٍ مِنْ فُلَانٍ وَكَانُوا يَكْرَهُونَهُ فِي الْعُنْوَانِ وَلَا أَحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي أَنْ يُكْتَبَ لِأَبِي فُلَانٍ فِي عُنْوَانٍ وَلَا غَيْرِهِ، قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ.
وَقَالَ: فَأَمَّا ابْتِدَاءُ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ وَكَتْبِهِ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ، فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْعُنْوَانِ وَصَدْرِ الْكِتَابِ فَأَكْثَرُهُمْ يَرَى أَنْ يَبْتَدِئَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ هُوَ السُّنَّةُ كَمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: أَنَّ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ كَتَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَدَأَ بِنَفْسِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا الْخَبَرُ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ زَاذَانَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: أَحْمَدُ قَالَ مَرَّةً يَعْنِي هُشَيْمًا: عَنْ بَعْضِ وَلَدِ الْعَلَاءِ: إنَّ الْعَلَاءَ كَانَ عَامِلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْبَحْرَيْنِ فَكَانَ إذَا كَتَبَ إلَيْهِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ. وَابْنُ سِيرِينَ لَمْ يُدْرِكْ الْعَلَاءَ وَابْنُ الْعَلَاءِ تَفَرَّدَ عَنْهُ ابْنُ سِيرِينَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ لِغِلْمَانِهِ وَوَلَدِهِ: إذَا كَتَبْتُمْ إلَيَّ فَلَا تَبْدَءُوا بِي، وَكَانَ إذَا كَتَبَ إلَى الْأُمَرَاءِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ، وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ أَيْضًا أَنَّهُ كَتَبَ إلَى مُعَاوِيَةَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ فَبَدَأَ بِهِمَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «إذْ كَتَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ إلَّا إلَى وَالِدٍ أَوْ وَالِدَةٍ، وَإِمَامٍ يَخَافُ عُقُوبَتَهُ» وَقِيلَ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ اُكْتُبْ إلَى الْمَهْدِيِّ قَالَ: إنْ كَتَبْتُ إلَيْهِ بَدَأْتُ بِنَفْسِي قِيلَ فَلَا تَكْتُبْ إلَيْهِ إذًا.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَا كَانَ أَحَدٌ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَصْحَابُهُ يَكْتُبُونَ إلَيْهِ فَيَبْدَءُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَرُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَتَبَ إلَى مُعَاوِيَةَ فَبَدَأَ بِاسْمِ مُعَاوِيَةَ. وَعَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ لَا بَأْسَ أَنْ يَبْدَأَ بِالرَّجُلِ إذَا كَتَبَ إلَيْهِ، وَكَتَبَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إلَى عَامِلٍ فِي حَاجَةٍ فَبَدَأَ بِاسْمِهِ فَقِيلَ لَهُ: ابْتَدَأْتَ بِاسْمِهِ فَقَالَ: لِي إلَيْهِ حَاجَةٌ، وَعَنْ ابْنِ شَوْذَبٍ قُلْتُ لِأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ لِي إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ حَاجَةٌ وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَكْتُبَ إلَيْهِ، قَالَ: فَابْدَأْ بِهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ لِأَبِي فُلَانٍ إنَّ اللَّامَ
بِمَعْنَى إلَى، فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ فِي مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ عز وجل:{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5] .
مَعْنَاهُ أَوْحَى إلَيْهَا، فَإِنْ أَعَدْتَ الْكُنْيَةَ خَفَضْتَ عَلَى الْبَدَلِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى إضْمَارِ مُبْتَدَأٍ، وَالنَّصْبُ بِمَعْنَى أَعْنِي وَفِي إعَادَةِ الْكُنْيَةِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ
…
نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا
فِيهِ الْأَخْبَارُ يُقَالُ وَتَتْرِيبُ الْكِتَابِ مَحْمُودٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَسَتَأْتِي فِيهِ الْأَخْبَارُ، يُقَالُ أَتْرَبْتُ الْكِتَابَ وَتَرَّبْتُهُ بِمَعْنًى، وَيُقَالُ تَرِبَ الرَّجُلُ إذَا افْتَقَرَ، وَاشْتِقَاقُهُ أَنَّهُ صَارَ إلَى التُّرَابِ وَأَتْرَبَ: اسْتَغْنَى، مَعْنَاهُ كَثُرَ مَالُهُ حَتَّى صَارَ كَالتُّرَابِ، وَأَكْثَرُ الِاسْتِعْمَالِ أَتْرَبْتُ الْكِتَابَ، فَوَافَقَ لَفْظُهُ لَفْظَ أَتْرَبَ الرَّجُلُ إذَا اسْتَغْنَى، وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَنْ خَتَمَ الْكِتَابَ سُلَيْمَانُ عليه السلام وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] .
أَيْ: مَخْتُومٌ وَيُقَالُ: فُضَّ الْكِتَابُ إذَا كُسِرَ خَاتَمُهُ وَمَعْنَى الْفَضِّ فِي اللُّغَةِ التَّفْرِيقُ وَالْكَسْرُ وَمِنْهُ انْفَضَّ الْقَوْمُ وَمِنْهُ لَا يَفْضُضُ اللَّهُ فَاكَ وَإِنْ شِئْتَ لَا يَفُضُّ اللَّهُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، وَذَكَرَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ مَعْنَى لَا يَفْضُضُ اللَّهُ فَاكَ: قَالَ: لَا يَجْعَلُهُ فَضَاءً لَا أَسْنَانَ فِيهِ لِأَنَّ الْفَضَاءَ الْمَكَانُ الْوَاسِعُ وَهَذَا غَلَطٌ فِي الِاشْتِقَاقِ لِأَنَّ لَامَ الْفِعْلِ مِنْ الْفَضَاءِ لَيْسَتْ ضَادًا وَلَامَ الْفِعْلِ مِنْ فَضَّ ضَادٌ.
وَفِي عُنْوَانِ الْكِتَابِ لُغَاتٌ أَفْصَحُهَا: عِنْوَانٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَجَمْعُهَا عَنَاوِينُ وَعِلْوَانُ وَجَمْعُهَا عَلَاوِينُ وَعِنْيَانٌ وَعِينَانٌ، تَقُولُ عَنْوَنْتُ الْكِتَابَ أُعَنْوِنُهُ عَنْوَنَةً وَعَلْوَنْتُهُ وَعَنَيْتُ تَعْنِيًا وَعَنَيْتُ تَعْنِيَةً وَعَنَوْتُ الْكِتَابَ
أَعْنُوهُ عَنْوًا، وَتَقُولُ مِنْهُ يَا عَانٍ اُعْنُ كِتَابَكَ مِثْلُ دَعَا يَدْعُو، وَالْعُنْوَانُ الْأَثَرُ، فَالْعُنْوَانُ أَثَرُ الْكِتَابِ مِمَّنْ هُوَ وَإِلَى مَنْ هُوَ، وَقِيلَ الْعُنْوَانُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ عَنَتْ الْأَرْضُ تَعْنُوا إذَا أَخْرَجَتْ النَّبَاتَ وَأَعْنَاهَا الْمَطَرُ إذَا أُخْرِجَ نَبَاتُهَا، فَعُنْوَانٌ عَلَى هَذَا فُعْلَانٌ، يَنْصَرِفُ فِي النَّكِرَةِ دُونَ الْمَعْرِفَةِ، وَقِيلَ مُشْتَقٌّ مِنْ عَنَّ يَعِنُّ إذَا عَرَضَ وَبَدَأَ فَعَلَى هَذَا يَنْصَرِفُ نَكِرَةً وَمَعْرِفَةً لِأَنَّهُ فُعْلَانٌ، وَمَنْ قَالَ عِلْوَانٌ أَبْدَلَ مِنْ النُّونِ لَامًا مِثْلُ صَيْدَلَانِيِّ وَصَيْدَنَانِيِّ وَالِاشْتِقَاقُ وَاحِدٌ.
وَقِيلَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَلَانِيَةِ لِأَنَّهُ خَطٌّ مُظْهَرٌ عَلَى الْكِتَابِ، وَاسْتَحْسَنَ جَمَاعَةٌ أَنْ يُصَغِّرُوا أَسْمَاءَهُمْ عَلَى عُنْوَانَاتِ الْكُتُبِ وَرَأَوْا ذَلِكَ تَوَاضُعًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحَسِّنَ اسْمَ اللَّهِ إذَا كَتَبَهُ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَكَانُوا يَكْرَهُونَ الدُّعَاءَ عَلَى الْعُنْوَانِ وَيُنْكِرُونَهُ، كَذَا قَالَ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ: لَا يَحْسُنُ بِالْعُنْوَانِ كَثْرَةُ الدُّعَاءِ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (بَابُ تَرْتِيبَاتٍ اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا) فَمِنْ ذَلِكَ: اصْطِلَاحُهُمْ عَلَى أَنَّ " أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ سَيِّدِنَا " أَجَلُّ الدُّعَاءِ، وَيَلِيهِ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ سَيِّدِي، وَاسْتَقْبَحُوا الْخِلَافَ فِي فُصُولِ الْكِتَابَةِ وَذَلِكَ أَنْ يَكْتُبَ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَ سَيِّدِنَا أَوْ سَيِّدِي ثُمَّ يَقُولُ فِي الْكِتَابِ بَلَّغَكَ اللَّهُ أَمَلَكَ فَإِنْ رَأَيْتَ فَهَذَا خِلَافٌ فِي الدُّعَاءِ، أَوْ يَقُولُ أَيَّدَ اللَّهُ سَيِّدِي ثُمَّ يَقُولُ أَكْرَمَ اللَّهُ سَيِّدِي، وَاسْتَقْبَحُوا أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْأَدْعِيَةُ مُتَّفِقَةً وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: أَعَزَّكَ اللَّهُ وَيَكْتُبَ فِي الْفَصْلِ الَّذِي يَلِيهِ مِثْلَهُ، وَاصْطَلَحُوا عَلَى مُكَاتَبَةِ النَّظِيرِ نَظِيرَهُ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا فَعَلْتَ، وَلَا يَكْتُبُونَ إلَيْهِ فَرَأْيُكَ، فَإِنْ كَانَ دُونَكَ قَلِيلًا فَرَأْيُكَ، وَكَتَبُوا فَأُحِبُّ أَنْ تَفْعَلَ فَإِنْ كَانَ دُونَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَتَبَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ كَتَبَ فَافْعَلْ كَذَا وَكَذَا.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ يَتَعَجَّبُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْكُتَّابِ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَ الْعِلْمَ وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ فَرَأْيُكَ وَبَيْنَ إنْ رَأَيْتَ وَجَعَلَ فَرَأْيُكَ لَا يَكْتُبُ بِهَا إلَّا جَلِيلٌ لَهُ أَمْرٌ، فَقَالَ مَا أَعْجَبَ هَذَا؟ أَتَرَاهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُخَاطِبُ الرَّجُلَ الْجَلِيلَ فَيَقُولُ: اُنْظُرْ فِي أَمْرِي فَيَكُونُ لَفْظُهُ لَفْظَ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ السُّؤَالُ وَالطَّلَبُ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَجَعَلُوا أَعَزَّكَ اللَّهُ أَجَلَّ مِنْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ وَهُوَ مِنْ الِاصْطِلَاحِ الْمُحْدَثِ، قَالَ وَمِنْ الْمُسْتَقِيمِ عِنْدَهُمْ أَيْضًا أَنْ يَدْعُوَ لَهُ وَيَشْتُمَهُ فِي كِتَابٍ وَاحِدٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ اصْطِلَاحَاتٍ فِي الْمُكَاتَبَاتِ وَالْأَدْعِيَةِ إلَى أَنْ قَالَ: إنَّهُ يُسْتَحْسَنُ مَعَ الرُّؤَسَاءِ الْإِيجَازُ وَالِاخْتِصَارُ لِأَنَّ الْإِكْثَارَ يُضْجِرُهُمْ حَتَّى رُبَّمَا يُصَيِّرُهُمْ إلَى اسْتِقْبَاحِ الْحَسَنِ مِمَّا يُكَاتَبُونَ بِهِ وَالرَّدِّ عَمَّا يُسْأَلُونَ، وَإِنَّهُ قَدْ يَكْتُبُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضِ الْخُلَفَاءِ يُعَزِّيهِ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ عَرَفَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيمَا أُخِذَ مِنْهُ مَنْ عَظَّمَ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيمَا أَبْقَاهُ لَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَجْرَ الصَّابِرِينَ فِيمَا يُصَابُونَ أَعْظَمُ مِنْ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يُعَافُونَ فِيهِ. وَعَنْ الْمَأْمُونِ سَمِعْتُ الرَّشِيدَ يَقُولُ: الْبَلَاغَةُ: التَّبَاعُدُ عَنْ الْإِطَالَةِ، وَالتَّقَرُّبُ مِنْ مَعْنَى الْبُغْيَةِ، وَالدَّلَالَةُ بِالْقَلِيلِ مِنْ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى. وَكَتَبَ الْحَسَنُ بْنُ وَهْبٍ إلَى مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ فِي ابْنِ أَبِي الشِّيصِ الشَّاعِرِ: كِتَابِي إلَيْكَ كِتَابٌ خَطَطْتُهُ بِيَمِينِي، وَفَرَّغْتُ لَهُ ذِهْنِي، فَمَا ظَنُّكَ بِحَاجَةٍ هَذَا مَوْقِعُهَا مِنِّي؟ أَتَرَانِي أَقْبَلُ الْعُذْرَ فِيهَا أَوْ أُقَصِّرُ الشُّكْرَ عَلَيْهَا. وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى قَالَ: إنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُكُمْ مِثْلَ التَّوْقِيعِ فَافْعَلُوا.
وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ أَنَّ مِنْ مُجَانَسَةِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْبَلَاغَةِ قَوْلُ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ كَثِيرًا: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَنَا بَيْنَ نِعْمَةٍ وَذَنْبٍ فَأَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى النِّعْمَةِ وَأَسْتَغْفِرُهُ مِنْ الذَّنْبِ. وَاعْتَذَرَ رَجُلٌ إلَى سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ فَأَكْثَرَ فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: حَسْبُكَ فَإِنَّ الْوَلِيَّ لَا يُحَاسَبُ وَالْعَدُوَّ لَا يَحْتَسِبُ لَهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: لَا يُرَى الْجَاهِلُ إلَّا مُفْرِطًا أَوْ مُفَرَّطًا، وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ: اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي حَمْدًا وَمَجْدًا، فَإِنَّهُ لَا حَمْدَ إلَّا بِفِعَالٍ وَلَا مَجْدَ إلَّا بِمَالٍ، اللَّهُمَّ إنَّهُ لَا يَسَعُنِي الْقَلِيلُ وَلَا أَسَعُهُ. وَقَالَ عِنْدَ وَفَاتِهِ: اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ إذْ كُنْتُ أَعْصِيكَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مِمَّنْ يُطِيعُكَ
وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا أَمْلِكُ وَأَسْتَحِلُّكَ لِمَا لَا أَمْلِكُ وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ أَرْضَى لِلرِّضَى، وَأَسْخَطُ لِلسَّخَطِ، وَأَقْدَرُ أَنْ تُغَيِّرَ مَا كَرِهْتَ وَأَعْلَمُ بِمَا تَقْدِرُ، وَمِنْ دُعَاءِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رضي الله عنهما اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي خَوْفَ الْوَعِيدِ وَسُرُورَ رَجَاءِ الْمَوْعُودِ، حَتَّى لَأَرْجُو إلَّا مَا رَجَيْتَ، وَلَا أَخَافُ إلَّا مَا خَوَّفْتَ.
وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: أَسْتَلْطِفُ اللَّهَ لِكُلِّ عَسِيرٍ، فَإِنَّ تَيْسِيرَ الْعَسِيرِ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَكَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّكَ بِمَا أَنْتَ لَهُ أَهْلٌ مِنْ الْعَفْوِ، أَوْلَى مِنِّي بِمَا أَنَا لَهُ أَهْلٌ مِنْ الْعُقُوبَةِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْفَقْرِ إلَّا إلَيْكَ، وَمِنْ الذُّلِّ إلَّا لَكَ، وَحَكَى فِي مَكَان آخَرَ هَذِهِ الدَّعْوَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى الدُّنْيَا بِالْغِنَى وَعَلَى الْآخِرَةِ بِالتَّقْوَى، وَذَكَرَ دُعَاءً آخَرَ مِنْ الْمَأْثُورِ قَالَ: وَقَالَ غَيْرُهُ: اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَوْلِ كَمَا نَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْعَمَلِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ التَّكَلُّفِ لِمَا لَا يُحْسَنُ، كَمَا نَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجَبِ مِمَّا يُحْسَنُ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ السَّلَاطَةِ وَالْهَذْرِ، كَمَا نَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْعِيِّ وَالْحَصْرِ.
وَقَالَ الْأَفْوَهُ:
فِينَا مَعَاشِرُ لَمْ يَبْنُوا لِقَوْمِهِمْ
…
وَإِنْ بَنَى قَوْمُهُمْ مَا أَفْسَدُوا عَادُوا
وَمِنْهَا:
لَا يُصْلِحُ اللَّهُ قَوْمًا لَا سَرَاةَ لَهُمْ
…
وَلَا سَرَاةَ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا
وَإِنْ تَوَلَّى سَرَاةُ الْقَوْمِ أَمْرَهُمْ
…
نَمَا لِذَلِكَ أَمْرُ الْقَوْمِ فَازْدَادُوا
تُهْدَى الْأُمُورُ بِأَهْلِ الرَّأْيِ مَا صَلُحَتْ
…
فَإِنْ تَوَلَّتْ فَبِالْأَشْرَارِ تَنْقَادُ
وَبَلَغَ هُشَامًا كَلَامٌ عَنْ رَجُلٍ فَأُتِيَ بِهِ فَاحْتَجَّ فَقَالَ لَهُ هِشَامٌ: أَتَتَكَلَّمُ أَيْضًا؟ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111] .
فَيُجَادِلُ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَلَا تَكَلَّمُ أَنْتَ؟ فَقَالَ تَكَلَّمَ بِمَا أَحْبَبْتَ. وَقَدِمَ إلَى الْحَجَّاجِ أَسْرَى لِيُقْتَلُوا فَقَدِمَ رَجُلٌ لِيُضْرَبَ عُنُقُهُ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَئِنْ كُنَّا
أَسَأْنَا فِي الذَّنْبِ لَمَا أَحْسَنْتَ فِي الْعُقُوبَةِ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ أُفٍّ لِهَذِهِ الْجِيَفِ أَمَا كَانَ فِيهَا أَحَدٌ يُحْسِنُ مِثْلَ هَذَا؟ وَأَمْسَكَ عَنْ الْقَتْلِ.
وَأُتِيَ الْهَادِي بِرَجُلٍ مِنْ الْحَبْسِ فَجَعَلَ يُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ: اعْتِذَارِي رَدَّ عَلَيْكَ، وَإِقْرَارِي يُوجِبُ لِي ذَنْبًا وَلَكِنِّي أَقُولُ:
إذَا كُنْتَ تَرْجُو فِي الْعُقُوبَةِ رَاحَةً
…
فَلَا تَزْهَدَنَّ عِنْدَ الْمُعَافَاةِ فِي الْأَجْرِ
فَعَفَا عَنْهُ.
وَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى الْمَنْصُورِ فَقَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ بِحُجَّتِكَ فَقَالَ لَوْ كَانَ لِي ذَنْبٌ تَكَلَّمْتُ بِعُذْرِي وَعَفْوُكَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ بَرَاءَتِي. وَاعْتَذَرَ رَجُلٌ إلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ مِنْ ذَنْبٍ كَانَ لَهُ فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: تَقَدَّمَتْ لَك طَاعَةٌ، وَحَدَثَتْ لَكَ تَوْبَةٌ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا مِنْكَ نَبْوَةٌ، وَلَنْ تَغْلِبَ سَيِّئَةٌ حَسَنَتَيْنِ.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ:
عَفَوْتُ عَمَّنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ مِثْلِهِ
…
عَفْوٌ وَلَمْ يَشْفَعْ إلَيْكَ بِشَافِعِ
إلَّا الْعُلُوَّ عَنْ الْعُقُوبَةِ بَعْدَ مَا
…
ظَفِرَتْ يَدَاكَ بِمُسْتَكِينٍ خَاضِعِ
وَرَحِمْتَ أَطْفَالًا كَأَفْرَاخِ الْقَطَا
…
وَحُنَيْنِ وَالِهَةٍ كَقَوْسِ النَّازِعِ
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ الْيَزِيدِيُّ وَكَانَ مُعَلِّمًا حِذَاءَ دَارِ أَبِي الْعَلَاءِ وَقِيلَ لَهُ الْيَزِيدِيُّ لِأَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّبُ وَلَدَ يَزِيدَ بْنِ مَنْصُورٍ الْحِمْيَرِيِّ قَالَ فِي أَبْيَاتٍ:
أَنَا الْمُذْنِبُ الْخَطَّاءُ وَالْعَفْوُ وَاسِعُ
…
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَنْبٌ لَمَا عُرِفَ الْعَفْوُ
قَالَ ذَلِكَ يَعْتَذِرُ إلَى الْمَأْمُونِ لِأَنَّهُ امْتَنَّ عَلَيْهِ بِتَأْدِيبِهِ إيَّاهُ وَوَقَفَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى حَلْقَةِ الْحَسَنِ فَقَالَ رَحِمَ اللَّهُ مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ فَضْلٍ، أَوْ وَاسَى مِنْ كَفَافٍ، أَوْ آثَرَ مِنْ قُوتٍ، فَقَالَ الْحَسَنُ مَا تَرَكَ أَحَدًا إلَّا وَقَدْ سَأَلَهُ. وَقَالَ أَعْرَابِيُّ آخَرُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: قَدْ جَهِدَ النَّاسُ وَأَحَاطَتْ بِهِمْ السُّنُونَ جَاءَتْ سَنَةٌ فَذَهَبَتْ بِالْمَالِ، ثُمَّ رَدِفَتْهَا سَنَةٌ بَرَتْ اللَّحْمَ، ثُمَّ رَدِفَتْهَا سَنَةٌ كَسَرَتْ الْعَظْمَ وَعِنْدَكَ أَمْوَالٌ فَإِنْ تَكُنْ لِلَّهِ فَاقْسِمْهَا بَيْنَ عِبَادِهِ، وَإِنْ تَكُنْ لَهُمْ
فَلَا تَخْزُنْهَا دُونَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل بِالْمِرْصَادِ، وَإِنْ تَكُنْ لَك فَتَصَدَّقْ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ.
وَسُئِلَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ عَنْ: أَعْدَلِ النَّاسِ، وَأَجْوَرِ النَّاسِ، وَأَكْيَسِ النَّاسِ، وَأَحْمَقِ النَّاسِ وَأَسْعَدِ النَّاسِ فَقَالَ: أَعْدَلُ النَّاسِ مَنْ أَنْصَفَ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَجْوَرُ النَّاسِ مَنْ رَأَى جَوْرَهُ عَدْلًا، وَأَكْيَسُ النَّاسِ مَنْ أَخَذَ أُهْبَةَ الْأَمْرِ قَبْلَ نُزُولِهِ، وَأَحْمَقُ النَّاسِ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، وَأَسْعَدُ النَّاسِ مَنْ خُتِمَ لَهُ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ بِخَيْرٍ وَقِيلَ لِلْعَتَّابِيِّ فُلَانٌ بَعِيدُ الْهِمَّةِ. فَقَالَ: إذًا لَا يَكُونُ لَهُ غَايَةٌ دُونَ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ إنَّ اللَّهَ عز وجل رَفَعَ دَرَجَةَ اللِّسَانِ فَأَنْطَقَهُ بِتَوْحِيدِهِ بَيْنَ الْجَوَارِحِ وَضَحِكَ الْمُعْتَصِمُ مِنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَكِّيِّ وَكَانَ مُفْرِطَ الْقُبْحِ فَقَالَ الْمَكِّيُّ لِلْمَأْمُونِ: مِمَّا يَضْحَكُ هَذَا؟ وَاَللَّهِ مَا اُصْطُفِيَ يُوسُفُ لِجَمَالِهِ، وَإِنَّمَا اصْطَفَاهُ لِبَيَانِهِ قَالَ {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] .
فَبَيَانِي أَحْسَنُ مِنْ وَجْهِ هَذَا فَضَحِكَ الْمَأْمُونُ وَأَعْجَبَهُ كَلَامُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْكَلَامُ الْجَزْلُ، أَغْنَى الْمَعَانِي عَنْ اللَّطِيفَةِ مِنْ الْمَعَانِي اللَّطِيفَةِ عَنْ الْكَلَامِ الْجَزْلِ فَإِذَا اجْتَمَعْنَا فَذَاكَ الْبَلَاغَةُ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَظْهَرَ الْمَعْنَى صَرِيحًا وَالْكَلَامُ صَحِيحًا وَقَالَ غَيْرُهُ أَفْضَلُ اللَّفْظِ بَدِيهَةُ امْرِئٍ وَرَدَتْ فِي مَكَانِ خَوْفٍ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ يَسْتَحْسِنُ الْكُتَّابُ أَنْ تَكُونَ الْأَلْفَاظُ غَيْرَ نَاقِصَةٍ عَنْ الْمَعَانِي فِي الْمِقْدَارِ وَالْكَثْرَةِ فَإِذَا كَتَبُوا حَسُنَ عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْأَلْفَاظِ غَيْرَ نَاقِصَةٍ عَنْ الْمَعَانِي وَلَا زَائِدَةً عَلَيْهَا إلَّا فِي مَوْضِعٍ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْإِسْهَابِ وَيُسْتَحْسَنُ فِي هَذَا مَا قَالَهُ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى إذَا كَانَ الْإِكْثَارُ أَبْلَغَ كَانَ الْإِيجَازُ تَقْصِيرًا، وَإِذَا كَانَ الْإِيجَازُ كَافِيًا كَانَ الْإِكْثَارُ عَيًّا. وَدَخَلَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فَقَالَ لَهُ يَا عُمَرُ إلَى مَنْ أَوْصَى بِكَ أَبُوكَ؟ فَقَالَ: أَوْصَى إلَيَّ وَلَمْ يُوصِ بِي. وَقِيلَ لِعِيسَى بْنِ عَاصِمٍ مَا الْبَلَاغَةُ قَالَ: الْإِيجَازُ.
وَقِيلَ لِلْأَصْمَعِيِّ مَا حَدُّ الِاخْتِصَارِ؟ قَالَ حَذْفُ الْفُضُولِ وَتَقْرِيبُ الْبَعِيدِ وَسُئِلَ رَجُلٌ عَنْ الْبَلَاغَةِ؟ فَقَالَ: سُهُولَةُ اللَّفْظِ وَحُسْنُ الْبَدِيهَةِ وَقَالَ آخَرُ:
أَحْسَنُ الْقَوْلِ أَوْجَزُهُ وَأَهْنَأُ الْمَعْرُوفِ أَوْحَاهُ.
وَقَالَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي شَيْبَانَ مَا هَذِهِ الْغَيْبَةُ الْمُنْسَاةُ؟ قَالَ: أَبْقَى اللَّهُ الْأَمِيرَ فِي نِعَمٍ زَائِدَةٍ، وَكَرَامَةٍ دَائِمَةٍ، مَا غَابَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ عَنْ الْعَيْنِ مَنْ ذَكَرَهُ الْقَلْبُ وَمَا زَالَ شَوْقِي إلَى الْأَمِيرِ شَدِيدًا، وَهُوَ دُونَ مَا يَجِبُ لَهُ عَلَيَّ، وَذِكْرِي لَهُ كَثِيرٌ وَهُوَ دُونَ قَدْرِهِ عِنْدِي، وَلَكِنْ جَفْوَةُ الْحُجَّابِ وَقِلَّةُ بِشْرِ الْغِلْمَانِ، يَمْنَعَانِي مِنْ الْإِتْيَانِ فَأَمَرَ بِتَسْهِيلِ أَمْرِهِ وَأَحْسَنَ مَثْوَاهُ.
وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَاقَتْنِي إلَيْكَ الْحَاجَةُ وَانْتَهَيْتُ فِي الْغَايَةِ وَاَللَّهُ مُسَائِلُكَ عَنْ مَقَامِي هَذَا. فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ: مَا سَمِعْتُ كَلَامًا أَبْلَغَ مِنْ هَذَا وَلَا وَعْظًا أَوْجَعَ مِنْهُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: الْبَلَاغَةُ فِي الْمَعَانِي أَلْطَفُ مِنْ الْبَلَاغَةِ فِي الْأَلْفَاظِ، فَيُسْتَحْسَنُ مِنْهَا صِحَّةُ التَّقْسِيمِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي وَإِنَّمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ أَعْطَيْتَ فَأَمْضَيْتَ» . وَعَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى» . وَمِنْ حُسْنِ الْبَلَاغَةِ فِي الْمَعَانِي صِحَّةُ الْمَقَالِ يُؤْتَى فِي الْمُوَافِقِ بِمُوَافِقَةٍ، وَفِي الْمُضَادِّ بِمُضَادٍّ، كَقَوْلِ بَعْضِ الْكُتَّابِ: فَإِنَّ أَهْلَ الرَّأْيِ وَالنُّصْحِ لَا يُسَاوِيهِمْ ذَوُو الْأَفَنِ وَالْغِشِّ وَلَيْسَ مِنْ جَمْعِ الْكِفَايَةِ الْأَمَانَةُ، كَمَنْ أَضَافَ إلَى الْعَجْزِ الْخِيَانَةَ، قَالَ بَعْضُ الْكُتَّابِ إذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْمَقَالَ وَجَدْتَ غَايَةَ الْمُعَادَلَةِ لِأَنَّهُ جَعَلَ بِإِزَاءِ الرَّأْيِ الْأَفَنَ، وَالْأَفْنُ سُوءُ الرَّأْيِ، وَبِإِزَاءِ النُّصْحِ الْغِشَّ، وَقَابَلَ الْعَجْزَ بِالْكِفَايَةِ وَالْأَمَانَةَ بِالْخِيَانَةِ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ: الْأَفَنُ بِالتَّحْرِيكِ ضَعْفُ الرَّأْيِ وَقَدْ أَفِنَ الرَّجُلُ بِالْكَسْرِ وَأَفِنَ فَهُوَ مَأْفُونٌ وَأَفِنَ، وَأَفَنَهُ اللَّهُ يَأْفِنُهُ أَفْنًا فَهُوَ مَأْفُونٌ قَالَ جَعْفَرٌ وَمِنْ هَذَا مَا دَعَتْ بِهِ هِنْدُ بِنْتُ النُّعْمَانِ وَقَدْ أُحْسِنَ إلَيْهَا فَقَالَتْ: شَكَرَتْكَ يَدٌ نَالَتْهَا خَصَاصَةٌ بَعْدَ ثَرْوَةٍ. وَأَغْنَاكَ اللَّهُ عَنْ يَدٍ نَالَتْ ثَرْوَةً بَعْدَ فَاقَةٍ.
وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم وَقَدْ ذَكَرَ أَمْرَ الْخِلَافَةِ: وَمَنْ يَصْلُحُ لَهَا: فَقَالَ: يَصْلُحُ لَهَا مَنْ كَانَ فِيهِ لِينٌ فِي غَيْرِ مَهَانَةٍ، وَشِدَّةٌ فِي غَيْرِ
عُنْفٍ، وَكَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى إنَّ أَسْعَدَ الْوُلَاةِ مَنْ سَعِدَتْ بِهِ رَعِيَّتُهُ، وَأَشْقَاهُمْ مَنْ شَقِيَتْ بِهِ رَعِيَّتُهُ. وَعَنْ دَاوُد أَنَّهُ قَالَ لِلُقْمَانِ عليهما السلام بَعْدَ مَا كَبِرَتْ سِنُّهُ: مَا بَقِيَ مِنْ عَقْلِكَ؟ قَالَ: لَا أَنْطِقُ فِيمَا لَا يَعْنِينِي، وَلَا أَتَكَلَّفُ مَا كُفِيتُهُ. وَكَانَ الْأَحْنَفُ رَجُلًا دَمِيمًا أَعْوَرَ قَصِيرًا أَحْنَفَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ بِأَيِّ شَيْءٍ بَلَغْتَ مَا بَلَغْتَ؟ فَوَاَللَّهِ مَا أَنْتَ بِأَشْرَفِ قَوْمِكَ وَلَا أَشْجَعِهِمْ وَلَا أَجْوَدِهِمْ، فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي بِخِلَافِ مَا أَنْتَ فِيهِ، فَقَالَ وَمَا خِلَافُ مَا أَنَا فِيهِ قَالَ: تَرْكِي مِنْ أَمْرِكَ مَا لَا يَعْنِينِي، كَمَا عَنَاكَ مِنْ أَمْرِي مَا لَا يَعْنِيكَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ صِحَّةُ التَّقْسِيمِ فِي الْبَلَاغَةِ أَنْ تَضَعَ مَعَانِيَ ثُمَّ تَشْرَحَ فَلَا تَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا تُنْقِصُ، قَالَ: وَلِبَعْضِهِمْ مَنْ صَنَّفَ كِتَابًا فَقَدْ اسْتَشْرَفَ لِلْمَدْحِ وَالذَّمِّ لِأَنَّهُ إنْ أَحْسَنَ فَقَدْ اُسْتُهْدِفَ لِلْحَسَدِ، وَإِنْ أَسَاءَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلشَّتْمِ.
وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْ التَّكَافُؤِ فِي الْبَلَاغَةِ وَهِيَ الْمُمَاثَلَةُ مَا قِيلَ لِبَعْضِ الْقُرَّاءِ إنَّ أَخًا لَكَ قَدْ وُلِّيَ وِلَايَةً فَلِمَ لَا تُهَنِّئُهُ؟ قَالَ مَا سَرَّتْنِي لَهُ فَأُهَنِّيهِ، وَلَا سَاءَتْهُ فَأُعَزِّيهِ.
وَقَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا الْمُؤَنُ فَقَالَ مَا أَحَدٌ لِلَّهِ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ، إلَّا وَلِلنَّاسِ عَلَيْهِ مُؤْنَةٌ، فَإِنْ ضَجِرَهُمْ تَعَرَّضَ لِزَوَالِهَا. وَذُكِرَ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَجُلٌ شَرِيفٌ لَا يُفِيقُ مِنْ الشَّرَابِ فَقَالَ الْعَجَبُ لِمَنْ فَقَدَ عَقْلَهُ مَرَّةً كَيْفَ لَا يَشْغَلُهُ الِاهْتِمَامُ بِمَا فَقَدَ عَنْ مُعَاوَدَةِ مِثْلِهِ؟
وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْ الِاسْتِعَارَةِ مِنْ اللُّغَةِ فِي الْبَلَاغَةِ قَوْلُ " الطِّمِّ وَالرِّمِّ " إذَا أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِي كَثْرَةِ مَالِهِ، وَهَذَا مِنْ الِاسْتِعَارَةِ الْبَلِيغَةِ لِأَنَّ الطِّمَّ الْبَحْرُ وَالرِّمَّ الثَّرَى، وَهَذَا لَا يَمْلِكُهُ إلَّا اللَّهُ، وَلَيْسَ هُوَ كَذِبًا لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ مَعْنَاهُ. وَقَالَ وَمَحْفُوظٌ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ يَسْكُتُ، فَقَالَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ مَعْنَاهُ التَّكْثِيرُ. وَمِنْهُ " مَا لَهُ سَبَدٌ وَلَا لَبَدٌ " أَيْ مَا لَهُ شَيْءٌ، وَالسَّبَدُ الشَّعْرُ وَاللَّبَدُ الصُّوفُ.
وَمِنْهُ " مَا يُعْرَفُ قَبِيلُهُ مِنْ دَبِيرِهِ " فَالْقَبِيلُ مَا أَقْبَلَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ عَنْ غَزْلِهَا حِينَ تَفْتِلُهُ، وَالدَّبِيرُ مَا أَدْبَرَتْ بِهِ، وَذَهَبَ الْأَصْمَعِيُّ إلَى أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ مِنْ الْإِقْبَالَةِ.
وَالْإِدْبَارَةِ وَهُوَ شَقٌّ فِي الْأُذُنِ يُفْتَلُ، فَإِذَا بِهِ فَهُوَ الْإِقْبَالَةُ وَإِذَا أَدْبَرَ فَهُوَ الْإِدْبَارَةُ وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ قَالَ يَعْقُوبُ الْقَبِيلُ مَا أَقْبَلْتَ بِهِ إلَى صَدْرِكَ، وَالدَّبِيرُ مَا أَدْبَرْتَ بِهِ عَنْ صَدْرِكَ، يُقَالُ فُلَانٌ مَا يَعْرِفُ قَبِيلًا مِنْ دَبِيرٍ وَالْجِلْدَةُ الْمُعَلَّقَةُ مِنْ الْأُذُنِ هِيَ الْإِقْبَالَةُ وَالْإِدْبَارَةُ كَأَنَّهَا زَنَمَةٌ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَيُسْتَحْسَنُ مِنْ هَذَا مَا كَتَبَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ يَصِفُ الْقَلَمَ: يَخْدُمُ الْإِرَادَةَ وَلَا يَمَلُّ الِاسْتِزَادَةَ، وَيَسْكُتُ وَاقِفًا، وَيَنْطِقُ سَائِرًا عَلَى أَرْضٍ بَيَاضُهَا مُظْلِمٌ، وَسَوَادُهَا مُضِيءٌ.
وَمِنْ الْكُتَّابِ مَنْ يَسْتَحْسِنُ السَّجْعَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ لِقَوْلِ «حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ، وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا هُوَ مِنْ إخْوَانِ الْكُهَّانِ مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الَّذِي سَجَعَ» قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّمَا ذَمَّ سَجْعَهُ لِأَنَّهُ عَارَضَ بِهِ حُكْمَ الشَّرْعِ، فَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّفْهُ فَحَسَنٌ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى «أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْأَعْرَابِ» وَاخْتَارَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ حَسَنٌ إذَا خَلَا مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عليه السلام «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» وَقَوْلِهِ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ «أُعِيذُكُمَا مِنْ السَّامَّةِ وَالْحَامَّةِ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ» وَعَنْ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ مَنْ أَنْعَمُ النَّاسِ عَيْشًا؟ قَالُوا الْأَمِيرُ وَأَصْحَابُهُ قَالَ كَلًّا أَنْعَمُ النَّاسِ عَيْشًا رَجُلٌ فِي دَارٍ لَا يُجْرَى عَلَيْهِ كِرَاءٌ، لَهُ زَوْجَةٌ قَدْ قَنَعَ بِهَا وَقَنَعَتْ بِهِ، لَا يَعْرِفُنَا وَلَا نَعْرِفُهُ، إنَّا إنْ عَرَفْنَاهُ أَفْسَدْنَا عَلَيْهِ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ، وَأَتْعَبْنَا لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ: هَذَا وَاَللَّهِ كَلَامٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامًا مِنْ ذَهَبٍ فَلْيَسْمَعْ هَذَا.
وَعَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ بِقَدْرِ السُّمُوِّ فِي الرِّفْعَةِ، تَكُونُ وَحْيَةُ الْوَقْعَةِ
وَقَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْمَازِنِيُّ كَتَبَ لَا تُحَقِّرْ ضَعِيفًا، وَلَا تَحْسُدْ شَرِيفًا. وَعَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ مَنْ عَرَفَ النَّاسَ دَارَاهُمْ، وَمَنْ جَهِلَهُمْ مَارَاهُمْ وَقَالَ رَجُلٌ لِأَبِيهِ مَا الْمُرُوءَةُ؟ قَالَ إذَا أُنْعِمَ عَلَيْكَ شَكَرْتَ، وَإِذَا اُبْتُلِيتَ صَبَرْتَ، وَإِذَا قَدَرْتَ غَفَرْتَ. وَوَصَفَ رَجُلٌ رَجُلًا فَقَالَ ظَاهِرُهُ مُرُوَّةٌ، وَبَاطِنُهُ فُتُوَّةٌ، وَعَنْ عَلِيٍّ قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ هَذَا إذَا تَدَبَّرَ كَانَ فِيهِ أَعْظَمُ الْحِكْمَةِ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْبَهِيمَةِ مَا يُحْسِنُ وَعَنْهُ أَيْضًا الْفُرَصُ تَمُرُّ مِثْلَ السَّحَابِ.
وَعَاتَبَ عُثْمَانُ عَلِيًّا رضي الله عنهما فَقَالَ عُثْمَانُ مَا لَكَ لَا تَقُولُ؟ فَقَالَ إنْ قُلْتُ لَمْ أَقُلْ إلَّا مَا تَكْرَهُ، وَلَيْسَ لَكَ عِنْدِي إلَّا مَا تُحِبُّ.
وَعَنْهُ أَيْضًا مَنْ لَانَتْ كَلِمَتُهُ، وَجَبَتْ مَحَبَّتُهُ.
وَرَأَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ جَزِعًا فَقَالَ عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ فَبِهِ يَأْخُذُ الْحَازِمُ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الْجَزِعُ.
وَقِيلَ لَهُ صِفْ لَنَا الدُّنْيَا فَقَالَ أَوَّلُهَا عَنَاءٌ، وَآخِرُهَا فَنَاءٌ، حَلَالُهَا حِسَابٌ، وَحَرَامُهَا عَذَابٌ مَنْ صَحَّ فِيهَا زَمِنَ، وَمَنْ مَرِضَ فِيهَا نَدِمَ، وَمَنْ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ وَمَنْ افْتَقَرَ فِيهَا حَزَنَ مَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ، وَمَنْ قَعَدَ عَنْهَا أَتَتْهُ، وَمَنْ نَظَرَ إلَيْهَا أَعْمَتْهُ، وَمَنْ تَهَاوَنَ بِهَا بَصُرَتْهُ.
وَعَنْهُ: الدُّنْيَا دَارُ مَمَرٍّ، لَا دَارُ مَقَرٍّ النَّاسُ فِيهَا رَجُلَانِ رَجُلٌ بَاعَ نَفْسَهُ فَأَوْبَقَهَا وَرَجُلٌ بَاعَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَهَا.
وَعَنْهُ: مَثَلُ الدُّنْيَا كَمِثْلِ الْحَيَّةِ لَيِّنٌ لَمْسُهَا وَفِي جَوْفِهَا السُّمُّ النَّاقِعُ، يَهْوِي إلَيْهَا الصَّبِيُّ، الْجَاهِلُ وَيَحْذَرُهَا ذُو اللُّبِّ الْحَاذِرُ.
وَعَنْهُ إذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلْ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْرًا لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.