المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأساس النقدي للأدب القديم والحديث: - الأدب وفنونه - دراسة ونقد

[عز الدين إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثامنة

- ‌افتتاح:

- ‌الباب الأول: نظرية الأدب والنقد الأدبي

- ‌الفصل الأول: نظرية الأدب

- ‌تعريف الأدب

- ‌ مشكلة الأسلوب:

- ‌ العلاقة بين الأديب والمجتمع:

- ‌ مناهج دراسة الأدب:

- ‌الفصل الثاني: نظرية النقد

- ‌معنى النقد:

- ‌أهمية النقد:

- ‌طبيعة النقد:

- ‌قواعد النقد:

- ‌مراحل العملية النقدية:

- ‌الأساس النقدي للأدب القديم والحديث:

- ‌الباب الثاني: الفنون الأدبية

- ‌تمهيد: الأنواع الأدبية

- ‌الفصل الأول: الشعر

- ‌قدم فن الشعر

- ‌محاولة تعريفه:

- ‌طبيعة الشعر:

- ‌الانفعال والفكرة:

- ‌الصورة القديمة وخصائصها:

- ‌الصور في الشعر الحديث، ودورها:

- ‌الشعر الذاتي والشعر الموضوعي وأنواعهما:

- ‌الفصل الثاني: الفن القصصي

- ‌تعريف الفن القصصي:

- ‌مادة العمل القصصي:

- ‌عملية الاختيار:

- ‌عناصر العمل القصصي:

- ‌القصة القصيرة:

- ‌الفصل الثالث: الفن المسرحي

- ‌مدخل

- ‌الحوار والصراع والحركة:

- ‌علاقة المسرحية بالمسرح:

- ‌المسرحية الفلسفية:

- ‌لغة المسرح بين الشعر والنثر:

- ‌الإطار المسرحي:

- ‌الأنواع المسرحية:

- ‌الفصل الرابع: أنواع أدبية أخرى‌‌ ترجمة الحياة. المقال. الخاطرة

- ‌ ترجمة الحياة

- ‌ المقالة:

- ‌ الخاطرة:

- ‌المراجع

- ‌الفهرس

الفصل: ‌الأساس النقدي للأدب القديم والحديث:

‌الأساس النقدي للأدب القديم والحديث:

وهنا يأتي هذا السؤال: أي الأدبين على هذا الأساس أكثر قيمة، الأدب القديم أم الأدب الحديث؟ إن النشاط المعاصر هو النشاط الوحيد المهم حقا بالنسبة لنا، وأدب الزمن القديم لا قيمة له عندنا إلا لأنه ينير الحياة التي نحياها. فالأدب يكتب أولًا لهؤلاء الأحياء القادرين وحدهم على أن يستخرجوا منه الحد الأقصى من كمية المعنى، والنشاط الأدبي جانب حيوي من جوانب الحياة، فلا يستطيع إنسان أن يحيا حياة ممتلئة دون أن يهتم بكل نوع من أنواع النشاط المعاصر. وكما أن العلم المعاصر يهم العالم أكثر من علم العصور السابقة، وكما أن السياسة المعاصرة تهم السياسي أكثر من سياسة1 Walpole أو أفكار "بت Pitt" الأكبر2، فكذلك الأدب المعاصر، ينبغي أن يكون من الأهمية عند رجل الأدب في المكان الأول3.

ومعنى هذا أن الأدب الحديث أكثر قيمة؛ لأنه أكثر صلة -بالنسبة لنا- بالحياة التي نحياها، فقد نشأ فيها، وتبع منها. وقد كان نقاد العرب الأوائل يتورطون في أن يجعلوا للقديم كل القيمة، وكانوا يرفضون كل قيمة لأي عمل أدبي محدث، وقد دعتهم إلى ذلك دواعٍ لا محل لها الآن. ولكن ينبغي ألا نقف نحن الآن عند الرأي المقابل، ونتطرف مثلهم، فننفي القيمة عن كل عمل أدبي قديم، لا لشيء إلا أنه قديم، ونخلع القيمة على كل عمل أدبي حديث أو معاصر، ففي الأدب القديم نماذج رائعة لم تفقدها الأيام قيمتها، وكذلك يفتقد كثير من الأدب المعاصر القيمة الحقيقية، ولكن كثيرين منا يحكمون على الأعمال الأدبية المعاصرة بأنها عديمة القيمة للسبب الذي من أجله كان ينبغي أن تعد كبيرة القيمة، وأعني بذلك عنصر الابتكار الذي تحدثنا عنه. فالابتكار -كما قلنا- يقع في العمل الأدبي، في فكرته وصورته على السواء. ومن هنا تطورت الصور الأدبية؛ لأن الأفكار ذاتها تطورت، وفي هذه المرحلة التي يتم فيها الانتقال من طور أدبي إلى طور آخر، لا يجد الكثيرون في أنفسهم الشجاعة الكافية لتقبل الصور الأدبية الجديدة ومحاولة فهمها وتذوقها، بل يقفون منها موقف التنكر، ويسلبونها كل قيمة، ثم يلوذون -بالضرورة- بالأدب القديم. وصحيح أن الأدب المعاصر لا يخلو من

1 السير روبرت وولبول Sir Robert Walpole "1676-1745 م": سياسي بريطاني، ورئيس الوزراء في المدة من "1721 إلى 1742م".

2 وليم بت William Pitt "1708-1778 م": سياسي بريطاني، ورئيس الوزراء في المدة من "1756 إلى 1761م" ومن "1766 إلى 1768م"، قاد دفة السياسة البريطانية خلال حرب السنوات السبع.

3 نفسه ص16.

ص: 49

صعوبات في محاولة فهمه وتذوقه فضلا عن الحكم عليه، ولكن يجب ألا تصدنا هذه الصعوبات عن تلك المحاولة. وقد نضطر إلى أن نعدل من موقفنا حتى نستطيع التجاوب مع هذا الأدب، ولا بأس بذلك، فعندئذ ستتفتح أمامنا الآفاق، وما كان صعبًا سيغدو -مع حسن النية وجدية المحاولة- سهلًا ميسورًا. وعلى الجملة ينبغي أن نكون معتدلين في محافظتنا وفي نزعتنا إلى التجديد، وأن نكون -تبعًا لذلك- معتدلين في حكمنا على قيمة الأدب القديم، والأدب الحديث.

فحين نربط بين قيمة العمل الأدبي والابتكار يجب ألا يغيب عن بالنا أن كل جديد لا يعني أنه مبتكر، وأنا أستخدم كلمة الجديد هنا بمعنى أنه أنتج حديثًا أو أنه إنتاج معاصر.

وكثيرًا ما يصطنع النقد مقياسًا آخر غير الابتكار يقيس به قيمة العمل الأدبي، هو مقياس العمل الخالد. فالأدب الذي يحتفظ بكيانه، ويثبت وجوده في كل الظروف، هو الأدب القيم، أما الأعمال الفنية الموقوتة بزمن معين فإن قيمتها تزول بزوال زمنها، وتموت بموت مقتضياتها؛ ومن ثم تكون الأسباب التي أكسبتها شعبية وقتية هي نفسها التي تعمل ضد استمرار حياتها. وهكذا كان تاريخ كثير من الكتب التي ازدهرت في موسم من المواسم، فالجيل الجديد لم يعرف عنها شيئًا، ولكنَّ هناك كتبًا لها قوة التغلب على كل تغير في المقتضيات والأذواق وحتى الحضارة ذاتها، لماذا؟ لأنها تستطيع أن تتكيف مرة بعد مرة مع ظروف حياتنا العقلية والأخلاقية الدائمة التطور، إن لها رسالة ومعنى يخصنا. وربما كانت هذه الكتب -وفي أحوال كثيرة كانت بلا شك- وقتية بأضيق معاني الكلمة، لكنها لم تعش بسبب وقتيتها بل برغم وقتيتها؛ لأن ما تحمل معها مما لا يتصل ببيئتها وعصرها اللذين ظهرت فيهما هو عقبة في سبيل بقائها وليس مساعدًا على ذلك، ولو أنه كان معينًا على نجاحها الأول. إنها تبقى لأنها -مهما يكن مقدار قربها من المسائل التي لا يمكن أن تكون في طبيعة الأشياء إلا محلية ووقتية- تحتوي على عناصر يظل لها -وقد انقضى أجل تلك الأمور منذ زمن بعيد- القدرة على الإمتاع والتأثير والإلهام1.

ولكن هذا المقياس الذي يصطنعه أحيانًا مقياس غير دقيق، سواء حين ينصب على الأعمال الأدبية القديمة أو الحديثة، فلسنا نستطيع -من جهة- أن نقول: إن الأعمال الأدبية التي عاشت منذ وقت مبكر حتى عصرنا هي أكثر ما أنشئ عبر التاريخ

1 Hudson: كتابه السابق ص412-414.

ص: 50

من أدب ذي قيمة، فهناك أعمال قيمة لم تصل إلينا لسبب آخر غير وقتيتها. ولسنا نستطيع -من جهة أخرى- أن نحكم على العمل الأدبي المحدث بأنه يختص بنا وحدنا وبعصرنا وظروفنا ومقتضيات حياتنا الحاضرة، وأنه لا يتضمن عناصر تضمن بقاءه، فإن ما يبدو لنا الآن شديد الحيوية لن يخفق في أن يبدو لعقولنا له صفات العالمية والبقاء1.

معنى هذا أن المقياس لن يمكن استخدامه إلا بالنسبة لما اندثر من إنتاج أدبي، وهذه مفارقة غريبة! ولكن إذا حدث أن وقفنا أمام عملين أدبيين، أحدهما قديم والآخر حديث؛ لفحص قيمتهما، فإننا ننحاز لإعطاء القيمة لذلك الأدب الحديث الذي نبت من صميم الحياة التي نحياها نحن، وأفاد من كل المؤثرات التي تتصل بالظروف المحيطة بنا، وتناول الحقائق والمشكلات التي تتصل بنا اتصالا مباشرا، بوصفنا كائنات تعيش في بيئتها وعصرها. هذا الأدب لا بد أن تكون له أهمية بالنسبة لنا، وهي تختلف اختلافًا واضحًا عن الأهمية التي للأدب العظيم في الماضي، وهي -لأسباب كثيرة- أكثر منها عمقًا وقوة.

وهناك غير الابتكار والقدرة على البقاء مقاييس أخرى يحدد بها ما للأدب من قيمة.

وهذه المقاييس تستمد مباشرة من فلسفة الناقد الخاصة في الحياة والأدب، التي قلنا: إنه من اللازم وضوحها في نفسه قبل إقدامه على أي نقد أو إصدار حكم نقدي على عمل أدبي.

ومن كل ذلك يتضح لنا أن مهمة النقد -كما هي مفهومة في العصر الحاضر- مهمة ذات شطرين: الأول تفسيري علمي، يحاول فيه الناقد أن يتمثل في نفسه العمل الأدبي، وأن يربط -أو يتلمس ما يربط- بينه وبين الحياة من جهة، وأن يكشف هذه العلاقات للقارئ فيخلق بينه وبين العمل الأدبي -من جهة أخرى- صلة قوية. والشطر الثاني حكم ذاتي يحدد فيه الناقد ما في العمل الأدبي من قيم بالنسبة لغيره من الأعمال الأدبية الأخرى، قبل أن يقول عبارته التقليدية: هذا جيد، أو هذا رديء.

وهذه المهمة ذات شطرين قلّ أن يقوم بها ناقد قديم على الإطلاق؛ لأن النقد القديم له طابع عام غالب عليه، هو أنه نقد حكمي، في حين أن النقد الحديث قد تأثر تأثرًا كبيرًا بالدراسات النفسية التي تشرح طبيعة الخيال والتعبير وعملية الإبداع والشعور

1 نفسه ص41.

ص: 51

والتفكير وما إلى ذلك. ومن هنا كان النقد الحديث إما نقدًا نفسيًّا يقوم به أناس هم قبل كل شيء دارسون لعلم النفس، ويحاولون استخدام نظرياته وتطبيقها في دراسة لون من ألوان النشاط النفسي وهو الإنتاج الفني، وإما نقدًا حكميًّا يقوم به أناس اعتادوا -بحكم طول مزاولتهم لقراءة الأدب- الحكم على ما يقرءون بالجودة أو الرداءة. وقد انفصل شطرا مهمة النقد، وأصبح هناك نوعان منه: النقد التفسيري للأدب، والنقد الحكمي، وفيما يلي عرض لهذين المنهجين.

أ- النقد التفسيري للأدب:

ينظر إلى هذا النقد -في الواقع- لا على أنه فرع من الأدب، بل فرع من العلم، وهو من ثم ينشد الدقة والعدالة العلمية. "وهذا التناول المقصود -كما يقول "مولتون Moulton"- تناول مستقل عن المدح أو الذم، فلا شأن له بالقيمة، نسبية كانت أو مطلقة، ومن ثم فالناقد العلمي كالباحث في أي ميدان من ميادين البحث العلمي، وهو ينظر إليه بكل اطمئنان على أنه زميل له. هذا الناقد يصور ظواهر الأدب كما هي في الواقع، يفحصها ويحاول تنظيم القوانين والمبادئ التي بحسبها تتشكل هذه الظواهر، ويكون لها تأثيراتها"1.

وتفسير الأدب على أساس نفسي قائم على نظرية "فرويد" في تحليل النفس، فكل ناقد ينشد القيام بمهمة التفسير يلزمه معرفة هذه النظرية، وقد كان "الرومانتيكيون" في نقدهم -قبل ظهور "فرويد"- ينزعون نزعة تفسيرية قريبة من هذه، فعدوا الشرح هو العمل الأساسي للناقد2.

ولكي نستطيع الإفادة من فرويد في تفسير الأدب يجدر بنا هنا أن نقف وقفة قصيرة عند تحليله النفسي، فنتبين العناصر التي تتألف منها، وتحدد ميدان عمل كل من هذه العناصر.

تتكون النفس الإنسانية -بحسب فرويد- من الأنا والذات العليا والـ هي. والأنا3 هو الجانب الظاهر من الشخصية؛ وهو يتأثر بالعوامل اللاشعورية من ناحية، وبعالم الواقع من ناحية أخرى؛ ففي عالم الواقع نجد المجتمع بتقاليده وقوانينه وعلاقاته

1 Hudson: كتابه السابق ص358.

2 Roy، P، Basler: Sex، Symbolism and Psychology in Literature.، Rutger's University Press، New Branswick، p. 6.

3 الأنا Ego: الذات العليا Super-ego، الـ هي، أو الـ هذا Id.

ص: 52

وأفراده، ونجد فيه كذلك الأزمنة والأمكنة والأشياء، ومختلف المؤثرات التي ندركها بحواسنا ونتأثر بها تأثرًا يمكننا من استعادتها، ومن التأثر بها في خبرتنا التالية. ويتقدم نمو الأنا مع تقدم نمو الشخص في بيئته المعينة، وكأنما تتميز الأنا عن الطاقة الحيوية الغريزية بعد اتصال هذه بالواقع. وتتصف الأنا بأنها شعورية، ويقصد بهذا أن مكوناتها يمكن الشعور بها أو بآثارها. يضاف إلى ذلك أنها عادة منطقية معقولة، فهي تميل إلى ترتيب النتائج على مقدماتها ترتيبًا منطقيًّا. وهي خلقية كذلك، إذ إنها تميل عادة إلى أن تكون تصرفاتها في حدود المبادئ الأخلاقية التي يقرها عالم الواقع1.

وتتصف الأنا فوق هذا بأنها حلقة الاتصال بين الطاقة الغريزية والعالم الخارجي؛ فالأنا هي التي تتصل بعالم الواقع لتحقيق النزعات الغريزية بالصورة التي تراها خلقية معقولة، وفوق كل هذه الصفات فإن الأنا هي التي تتصل اتصالا مباشرا بعالم الواقع. ويلاحظ أن الأنا تغفل في ساعات النوم.

والخلاصة: أن الأنا شعورية منطقية خلقية، تتصل مباشرة بعالم الواقع، ثم إنها تغفل في ساعات النوم2.

وقد قال الفيلسوف الألماني هارتمان Hartmann في "فلسفة الشعور":

"إن التفكير الشعوري يقتصر على النقد والإنكار والمقابلة والتصحيح والتصنيف والقياس والموازنة والربط واستنتاج العام من الخاص وترتيب الحالات الخاصة تبعًا للقاعدة العامة، غير أنه لا يمكن أن يبرع في الإنتاج أو يفتن فيه، إذ يعتمد في ذلك على اللاشعور كل الاعتماد"3.

ونتقدم مع فرويد في تحليله للنفس فنجد العنصر الثاني: الذات العليا4. والذات العليا تتكون منذ الطفولة، فالطفل يزن الأمور والأشياء ويقدرها بحسب تقدير والده أو من يعيش معه وبتوجيه منه. وقد يكون الطفل معجبًا بوالده محبًّا له؛ لأنه يجمع بين مظهري القوة والعطف، فيتقمص الطفل شخصية والده تقمصًا يترتب عليه توجيهه لسلوك نفسه وتوجيهه لسلوك غيره. وبعبارة أدق فإن في نفسه جانبًا يمثل عنصر

1 عبد العزيز القوصي: أسس علم النفس ص273، 374، 375، "القاهرة، مكتبة النهضة المصرية 1950".

2 نفسه.

3 إسحاق رمزي: علم النفس الفردي، منشورات جماعة علم النفس التكاملي، ص17.

4 Super-ego "Super-1".

ص: 53

السلطة الممتصة، وهو الذي يقوم بعملية الزجر والتوبيخ. وهذا العنصر مركب لاشعوري1، وهو لا يفترق عن الضمير المسيحي المألوف، أو إله سقراط المتغلغل في كل شيء2 "God-within".

وتتلخص الصفات الأساسية للأنا العليا في أنها الناقد الخلقي الأعلى الذي يشعر الأنا بالخطيئة3.

ويتضح من هذا أن الأنا العليا مكلفة بالأنا ورقيبة عليها، وهي بذلك لا دخل لها في عملية الإبداع الفني؛ لأن الأنا -كما رأينا- ليس ميدانها العمل الفني.

وأخيرًا، يأتي العنصر الثالث وهو: الـ هي4. فتكوين كل من الأنا والأنا العليا لا يقضي على المنابع الأساسية للدوافع الغريزية، وإنما تظل هذه حية مندفعة للتعبير عن نفسها، ولا يمنعها من التعبير عن نفسها إلا الأنا العليا، وإلى حد ما الأنا. ويرى فرويد أن هذا الجانب يلعب دورًا مهمًّا في حياة الإنسان، ويسميه الـ هي، ومن خصائصها أنها لاشعورية، وأنها لا تتجه وفق المبادئ الخلقية، وإنما تسير على قاعدة تحقيق اللذة والابتعاد عن الألم، ثم إنها لا تتقيد بقيود منطقية، ومن مركباتها النزعات الفطرية الوراثية والمكبوتة، ويقال -بحسب رأي فرويد: إن أهم هذه المركبات هي النزعة الجنسية5.

وهنا نستطيع أن نخلص إلى النتيجة التي نريدها، فإذا كان الفن -بحسب رأي هارتمان السابق- هو عمل اللاشعور، وكان اللاشعور هو خاصية الـ هي، وكانت الـ هي لا تتجه وفق المبادئ الخلقية ولا تتقيد بقيود منطقية، وكان من مركباتها النزعات الفطرية الوراثية التي أهمها النزعة الجنسية؛ كان الفن كذلك صدًى في أصله الأصيل لتلك النزعة الجنسية "بمفهومها الواسع عند فرويد"، وعلينا الآن أن نتبين الخطوط أو الحلقات الموصلة بين الطرفين.

وقد عزز فرويد نظريته بفهمه الخاص للكبت، وقد نشأ هذا الفهم من دراسته للظاهرة التي تبدو لغوًا من وجهة النظر المعقولة في مثل الرغبة اللاشعورية عند الابنة في

1 عبد العزيز القوصي: أسس علم النفس، ص275، 276.

2 Baster: نفسه ص16.

3 القوصي: أسس علم النفس 77.

4 "ID" IT.

5 عبد العزيز القوصي: أسس علم النفس ص277.

ص: 54

أن تحتل مكان أمها في حب أبيها1، أو الرغبة اللاشعورية عند الابن في أن يحب أمه ويحتل مكان أبيه في ذلك2. وقد منعت هذه الرغبات منذ بداية التاريخ المدون بواسطة أقوى المحرمات الدينية والاجتماعية، وكانت نتيجة ذلك أنه صار ينظر إليها باعتبارها "غير طبيعية". وقد وجد فرويد أن مثل هذه الرغبات تتمثل بوضوح في الأحلام، في الوقت الذي لم يتضح له فيه هذا من سلوك مرضاه الواعي اليقظ عندما حلل هذا السلوك بألفاظ الكبت. ومن هنا فهم أن الدوافع الطبيعية عندما توصف بأنها خطأ، فإنها من الممكن أن تكبت، ولكنها لا تنمحي بل تبقى في اللاشعور حتى وإن لم يعد العقل الواعي يعرفها3. فوظيفة الكبت إذن "هي منع النزعات النفسية من السير في طريقها الطبيعي. وهذا المنع لا يقضي على النزعات النفسية، فهي تظل قوة متحفزة للظهور، ولكنها تبقى مع كل هذا مختفية فيما يسمى اللاشعور"4. وهي تحاول في كل وقت أن تطفو على السطح، وأن تظهر بصورة إيجابية، ولكن الذات العليا "والأنا في بعض الأحيان" ما دامت منتبهة واعية فإنه لا مجال لطفوها وتحققها. فهي إذن لا تظهر في اليقظة وإنما تلتمس الفرصة التي تغفل فيها الأنا والذات العليا، وهي فترة النوم، فتتحقق بصورة ما في الأحلام، سواء أكانت أحلام النوم أم أحلام اليقظة. "وفي اللاشعور تتخذ ثيابًا رمزية ينظر إليها العقل الواعي على أنها كلام فارغ، وهو في الحقيقة لا يعرف أهميتها"5.

فالرغبات المكبوتة إذن تجد مجالا للظهور في الأحلام، وهي تظهر على شكل رموز. "ولقد ألقى فحص المحلل النفسي للأحلام وأحلام اليقظة فيضًا من الضوء على العقل عند الفنان. فإن العمل الإبداعي عند فنان ما -كما هو الشأن في حلم اليقظة- هو إلى حد بعيد عملية لاشعورية"6. على أن القول بأن العمل الإبداعي عملية لاشعورية ليس جديدًا علينا الآن، وإنما المهم هو ذلك الربط بين العمل الإبداعي والأحلام. وإذا كنا نحاول الآن أن نجد الحلقة التي تربط العمل الفني بالنوازع الجنسية فإن الأحلام هي تلك الحلقة المنشودة، فهناك نوازع جنسية مكبوتة لسبب أو لآخر، وهي مكبوتة في اللاشعور، فليست تستطيع الظهور إلا في حالات الغفلة التي تصيب الشعور، فتظهر عندئذ، ويفرغ اللاشعور شحنته في شكل رموز لا يقبلها العقل الواعي

1 وتعرف في التحليل النفسي بعقدة ألكترا.

2 وتعرف في التحليل النفسي بعقدة أوديب.

3 Basler.، op. cit.، p. 15.

4 القوصي: أسس علم النفس 267.

5 Basler: كتابه ص15.

6 Cyril Burt.، How the mind works، "2nd edition، London 1945" p. 273.

ص: 55

بصدر رحب، بل ربما عدها لغوًا. وليس ما يتحقق في الأحلام -في الواقع- شيئًا آخر يغاير في طبيعته ما يتحقق في العمل الإبداعي الفني. ويؤكد "جوته" نفسه "أنه كتب أحسن قصصه في أثناء فترة نوم حالمة غريبة يقارنها هو بحالة السائر في أثناء نومه Somnabulist". وإذا نحن بحثنا عن مثل من الكتاب الأحياء فإن بروفيسور "هوسمان" على استعداد لأن يخبرنا عن الطريقة التي كتبت بها أشعاره الخاصة، حيث يقول: إنني أعتقد أن إنتاج الشعر عملية فيها من الانتباه أقل مما فيها من الغفلة اللاإرادية1.

وإذا كان الحلم -في الأعم- يشبه حلم اليقظة في كونه سلسلة من أفكار وصور ليس بينها كبير علاقة2، فالعملية الإبداعية كثيرًا ما تتخذ فيها الرموز نفس الصفات. وكما يقول "ودورث": إن الحالم لا يعمل، وإنما هو يلعب لملء الفراغ، وصوره تأتي -على نطاق واسع- عن طريق التداعي الحر، مع وجود الرغبات الشخصية الموجهة3. وكذلك العمل الفني، فيه من صفة اللعب هذه قدر كبير.

فالعمل الفني تدفع إليه أسباب هي الأسباب التي تدفع إلى الحلم، ويحقق من الرغبات المكبوتة في الشعور ما يحققه الحلم، وهو يتخذ من الرموز والصور ما ينفس عن هذه الرغبات، ويخلق بين هذه الرموز والصور علاقات بعيدة وغريبة في الوقت نفسه، على الأقل بالنسبة للعقل الواعي.

وقديمًا تحدث أرسطو4 عن فكرة التطهير5 "الكاثرسيز"6، ومؤداها أن المسرحيات تعين المتفرجين على أن يتخففوا من مشاعرهم الزائدة، وأن يحققوا رغباتهم المكبوتة. وهذا التخفف وذلك التحقيق هو الذي يحدث في نفس المتفرج المتعة، ويشعره السعادة لا شيء آخر. والذين يعانون الإنتاج الفني يقرون بسهولة أنهم طالما أحسوا بالمتعة أو اللذة أو السعادة بعد أن أتموا إخراج العمل الذي يبدعونه.

1 انظر: المرجع السابق ص275.

2 R.S. Woodworth: Psychology.، A Study of Mental Life، "18 th edition"، p. 565.

3 المصدر السابق ص568.

4 Aristotle: "384-322 ق. م": فيلسوف يوناني، يعد واحدًا من أعظم الفلاسفة في جميع العصور، ويطلق عليه لقب المعلم الأول.

5 Catharsis: ويحدث ذلك عندما ترتجف النفوس هلعًا، وتذوب شفقة لما هو واقع.

6 راجع في نظرية أرسطو:

Butcher: Aristole's Theory of Poetry and Fine Art، 3 rd edition، p. 242.

وأيضًا قواعد النقد الأدبي، لأبر كرمبي: ترجمة محمد عوض محمد، "لجنة التأليف والترجمة والنشر 1944" ص107 وما بعدها.

ص: 56

فكأن المتعة تحدث نتيجة لعملية التخفف التي تتحقق في النشاط اللاشعوري الذي يبذله الفنان، ولو أن النشاط المبذول كان من العقل الواعي لما حدثت اللذة؛ لأن للوعي صفة الصرامة والجد، وأيضًا فإنه لا يستطيع -إزاء الرقابة المبثوثة حوله- أن يكون وسيلة للتنفيس عن الرغبات المكبوتة.

ومن هذا يتبين لنا أن العمل الفني يتم عند الفنان في حالة شعورية، وأنه يكون أكثر قربًا من أعماق نفسه وطوايا صدره إذا هو تم في حالة لاشعورية. وهو في هذه الحالة يؤدي غرضه بالنسبة للفنان في أنه يخفف عنه القدر الزائد عن احتماله، وأيضًا فإنه ينفس عن النزعات الفطرية والرغبات المكبوتة في اللاشعور، لا في صورة أو صور سافرة، بل في رموز تحمل نفس الدلالة، يؤلف بينها في صورة حرة تلقائية.

ولعلنا الآن نستطيع أن نقول مع "بيرت": إنه ليس لنا بعد حاجة إلى التردد في قبول النتيجة المهمة التي انتهى إليها التحليل النفسي، وهو أن أحسن الشعر وأحسن القصص وأبدع الصور، كلها -إلى حد بعيد- إنتاج النشاط اللاشعوري للعقل1. ومن أجل ذلك كان اعتقادنا بأنه من الممكن -إن لم يكن الآن من الواجب- تفسير الأدب على أساس نفسي، وفهمه في هذا الضوء الجديد2. "ومن الطبيعي أن استخدام نظرية فرويد في الأدب قد حُوول في الغالب بغرض تحليل المؤلف. ومع أن التحليل النفسي قد أضاف بالتأكيد كثيرًا، وما زال في إمكانه أن يضيف أكثر في فهم الفنانين بصفتهم شخصيات، فإن أعظم عمل للنظرية الفرويدية يقدم به دارسو الأدب إنتاجًا طيبًا هو في تفسير الأدب ذاته"3.

على كل حال نستطيع الآن أن نتكلم عن الأدب باعتباره رمزًا للرغبات المكبوتة في اللاشعور. "ومن الممكن الانتهاء إلى أن العمل الفني إشارة أو رمز يقوم مقام شعور الفنان. وهو بهذا يمكن أن يعد إشارة رمزية بالنسبة للفنان نفسه، الذي يصير -بعد أن يتم العمل الفني- فردًا متذوقًَا مستمتعًا أكثر منه مبدعًا. ولأن الموضوع عندما يتم، ينفصل عن الفنان، فإنه ليست هناك عقبة واحدة تمنع من القول بأنه إذا كان رمزًا بالنسبة للفنان فإنه -من باب أولى- يكون رمزًا بالنسبة لغير الفنان من المتذوقين. والقول بأن العمل الفني رمز لمشاعر الفنان معناه قبول الشعور بوصفه إطارًا يرجع إليه لا عند البحث

1 Cyril Burt: How the Mind Works، p. 279.

2 وقد أنجزنا هذه المحاولة عمليًّا في كتابنا "التفسير النفسي للأدب"، دار المعارف بالقاهرة 1963، ودار غريب للنشر 1982.

3 Basler: Sex، Symbolism and Pspchology in Literature، p. 11.

ص: 57

عن المقدرة على الإبداع الفني فحسب، بل أيضًا عند البحث عن التجربة الفنية سواء بسواء"1.

وإذا رجعنا إلى فرويد وجدنا أن لامنطقية اللاشعور تنشئ علاقات جديدة بين الرموز، وهذه العلاقات الجديدة هي التي يجب أن يلتفت إليها عند محاولة تفسير الأدب. فالرمز في ذاته بما هو صورة أو جزء من صورة ليس هو المعنى، وإنما هو الصورة المجسمة للمعنى الكامن في النفس. وأيضًا فإن العلاقات الجديدة بين هذه الرموز ليست مقصودة لذاتها، وإنما هي صورة للتلوين النفسي.

وليس لما يجري في اللاشعور أية علاقة بفكرة الزمن، إذ إنه لا يوجد في تلك المرتبة من مراتب العقل أي توقيت أو زمان. وهكذا يساعد انعدام الزمن في اللاشعور على التكثيف Condensation الذي يمكن عن طريقه أن يلمح اللاشعور الحوادث المتباعدة بعضها عن بعض في الزمن كأنها متجمعة بعضها إلى بعض، إذا كان بينها أي نوع من الترابط أو العلاقة2.

وأخيرًا، فإذا كان العمل الفني طريقة للتعبير ونقل التجربة الشعورية إلى الآخرين3 فكيف إذن يتحقق للفنان ذلك إذا كان يستخدم رموزًا لاشعورية لها تلك الصفات السابقة للتعبير عن تجربته الخاصة؟ "الفهم العام يدعو إلى الظن بأن اختلاف البيئة والثقافة والمزاج والتراث الفطري قد يؤدي غالبًا إلى اختلاف في المعاني التي يدلي بها الرمز الواحد عند مختلف الأشخاص"4. ولكن بعض العناصر الرمزية يخرج من نطاق المحلية ليكون له صفة العمومية والإطلاق عند أكثر من فرد، بل أكثر من أمة، وكل ذلك يترك المجال دائمًا أمام الآخرين لفهم الأثر الفني وتذوقه من خلال هذه الرموز. وفيما يلي بعض المحاولات لتطبيق المنهج التفسيري في نقد بعض الشعراء.

نحن نعرف أن النقاد القدامى قد عابوا على ذي الرمة مطلع قصيدته:

ما بال عينك منها الماء ينسكب

كأنه من كُلى مفرية سرب

عابوا عليه هذه الصورة القبيحة أولًا، وعابوا عليه أن يواجه الخليفة بها ثانيًا، وهم في ذلك يعطوننا خير مثال لفكرة التقويم الجمالي والخلقي. وحق أن الكُلى المفرية

1 Milton V. Nahm: Aesthetic Experience and its Presuppositins، p. 322.

2 إسحاق رمزي: علم النفس الفردي ص43، 44.

3 Cryil Burt: How the Mind Works، p. 279.

4 إسحاق رمزي: علم النفس الفردي ص49.

ص: 58

منظر غير جميل لا تهفو النفوس إليه أو تتهافت لرؤيته، وحق أن الخلق يأبى على شاعر أن يواجه خليفة المسلمين بهذه الصورة التي تنال من نفسه، ولكن الحكم على فن ذي الرمة من هذين الوجهين، والانتهاء إلى ما قيل من فساد ذوقه وقبح صوره، ظلم كبير للشاعر. وأحسن من كل هذا أن ننسى أن هناك خليفة يمدح، ولنتحامل على أنفسنا فلا ننفر من صور الكلى المفرية، ولنبحث في ذلك القرار البعيد من نفسية ذي الرمة عن دلالة ذلك الرمز، أعني الكلى المفرية التي ينسكب منها الماء.

وذو الرمة هو الشاعر الذي عاش في الصحراء وعاش للصحراء، وقد جاب فلواتها ليلًا ونهارًا بمفرده، وسمع فيها عزيف الجن، وعانى فيها ما يعانيه الوحيد في جوف الصحراء. ولعل مما حدث له ذات مرة أن كان في جوف الصحراء وقد اشتدّ به العطش، وعندما هرع إلى قرابه يستسقيه وجد أن خوارزه قد فسدت، وأن الماء قد تسرب منها فلم يبق له ما يسد به رمقه. وقد وصف ذو الرمة نفسه فساد القراب في البيت التالي حيث قال:

وفراء غرفية أثأى خوارزها

مشلشل ضيعته بينها الكتَبُ

وفي تلك الحال من العطش، واللهفة إلى من يزيل عنه هذا العطش، يتذكر ذو الرمة ركبًا قافلا في الصحراء يمده بالماء، فيقول في البيت التالي:

استحدث الركب عن أشياعهم خبرًا

أم راجع القلب من أطرابه طرب؟

وهنا يمكن أن يسأل سائل متسرع: أليست هناك نقلة أو قفزة سريعة بين كلامه عن القراب الذي تلف وبين الركب الذي ينقل إليه الأخبار؟ والواقع أننا نستطيع أن نقفز مع الشاعر نفس القفزة إذا نحن فهمنا السبب الذي جعل الشاعر يلجأ إلى تلك الصورة، صورة القراب الذي سال منه الماء، على أساس ما بينّا.

فإذا كان ذو الرمة يستفتح الخليفة بهذه الصورة، فليس ذلك إلا لأن ذا الرمة قد أتى الخليفة وفي نفسه أنه سيقضي له حاجته، وسيغدق عليه من عطاياه. إنه يشكو إليه ضياع زاده في صحراء تلك الحياة وتسربه منه، وهو في وحدته لا يكاد يتماسك أو يجد سندًا له معينًا. فهي إذن شكوى مرة تلك التي أراد إليها الشاعر، وليست -كما زعموا- تهجمًا على الخليفة، وليست فساد ذوق كذلك.

وهناك محاولات أخرى نكتفي هنا بأن نشير إليها، هي محاولة الأستاذ عباس محمود العقاد لدراسة شخصية "أبي نواس" وفهم شعره على أساس من التحليل

ص: 59

النفسي، ومحاولة الدكتور محمد كامل حسين لدراسة شخصية "المتنبي" وفهم شعره على أساس نفسي كذلك، ثم محاولة الدكتور محمد النويهي على نفس الأساس لدراسة شخصية "بشار". وكل من يطلع على كتاب "أبو نواس" ومقال "المتنبي" من كتاب "متنوعات" وكتاب "شخصية بشار" يستطيع أن يفهم شخصيات هؤلاء الشعراء فهمًا جديدًا تحت الأضواء التي سلطت عليهم، والتي كان مصدرها نظريات التحليل النفسي، فتحت هذه الأضواء حلل الباحثون شخصيات هؤلاء الشعراء، وهم بتحليلهم إياها استطاعوا أن يفسروا شعرهم، وأن يجعلوا القارئ أكثر فهمًا له.

هذا هو المنهج التفسيري العلمي في نقد الأدب.

ولكن مهما تكن قيمة النتائج التي ينتهي إليها المنهج العلمي، فإنها نتائج -بعد كل شيء- لا يستطيع دارس الأدب أن يكتفي بها على الدوام. وإذا كان من الممكن الترحيب بهذا المنهج بوصفه أداة للنقد غاية في الأهمية، فإنه لا يمكن قبوله بوصفه بديلا نهائيا من كل المناهج الأخرى1.

ولعل القارئ يلاحظ أن المنهج يقف عند مرحلة التفسير التي تمكننا من فهم الأشياء فهمًا أصدق، ولكنه لا يحدثنا عن قيمة هذه الأشياء أو قيمة هذا الذي فهمناه، والسؤال عن قيمة الشيء -بخاصة إذا نظرنا إلى عمل الناقد- سؤال جوهري ينتظر دائمًا الجواب، وهذا لا يبرز إلا في النقد الحكمي.

ب- النقد الحكمي:

وهو -كما قلنا- الطابع الغالب على النقد القديم. ولا غرابة في ذلك؛ لأن الناقد كان يشعر بأنه قاضٍ وحكم، ومهمة القاضي تنتهي دائمًا بإصدار الحكم. وأبسط صورة للحكم هي أن يعبر الناقد عن رضاه عن العمل الأدبي أو نفوره منه، فيقول مثلا: إنه جيد أو إنه رديء، وقد يقول: إنه حسن أو إنه قبيح. كل الناس -بطبيعة الحال- يعدون نقادًا على هذا الأساس، فليس هناك من لا يصدر كل يوم حكمًا من هذه الأحكام، ولكن على أشياء أخرى غير الأعمال الأدبية، تصادفنا في حياتنا اليومية العادية. ولكن الوقوف عند هذه المرحلة من الحكم لا يفيد النقد في شيء، والناقد الذي يكتفي بأن يصدر حكمًا على العمل الأدبي لا يفترق عن أي شخص آخر يحكم على طعام بأنه جيد أو رديء؛ ولذلك كان لا بد من "حيثيات" لهذا الحكم، تمامًا كما يصنع

1 Hudson: An introduction to the study of literature، pp. 379-381.

ص: 60

القاضي في المحكمة، فلا بد أن يقول لنا الناقد لماذا حكم بالجودة لهذا والرداءة لذلك. وأكثر من هذا أنه في كثير من الحالات يكون في حاجة لأن يحدد لنا في حكمه "الفرق في الدرجة" بين شيئين، كلاهما جيد. وهنا تكون مهمة الناقد حقا، فوضع المبررات التي جعلته يصدر حكمًا بذاته أمر من الصعوبة بمكان.

والقاضي حين يكتب "حيثيات" الحكم في إحدى القضايا إنما يستلهم القوانين الموضوعة له، أو على الأقل روح هذه القوانين. فهل هناك مجموعة مماثلة من القوانين الأدبية التي يلجأ إليها الناقد يستلهمها حيثيات حكمه؟ ومن وضع هذه القوانين؟ ومن أين اشتقت؟

الواقع أن هناك قوانين يستند إليها الناقد في حكمه وفي تعليله لهذا الحكم، وقد سن هذه القوانين كبار النقاد، وهم قد اشتقوها من أعظم الأعمال الأدبية التي أنتجتها العبقريات المبدعة، والنقاد يعملون بمقتضاها، ويتحركون في حدودها، ويوجهون إليها الشعراء. وقد نشعر بشيء من النفور عندما نسمع عبارة القوانين النقدية؛ لأننا نحب في الناقد ألا يكون مجرد منفذ للقوانين التي تفرض من الخارج، كما لا نود أن نحس بطابع الجمود يدخل ميدان الفن الطليق. ولكن من قال: إن قوانين النقد جامدة، وإن عمل الناقد هو أن يطبقها حرفيا؟ الواقع أنه لا مجال هناك مطلقًا للنفور أو الخوف إذا عرفنا أن في طبيعة هذه القوانين من المرونة ما يترك الفرصة واسعة أمام الناقد كيما يتحرك هو شخصيا ويثبت وجوده. إن القاضي نفسه في ساحة القضاء ليصطنع الكثير من المرونة وتكييف القانون الذي سنته الدولة بحسب الحالة التي يعرض لها للفصل فيها، وبحسب ظروفها الخاصة، فما بالنا بالناقد. ثم إننا لا نكاد نجد للنقد قوانين ثابتة، فهناك تغير مستمر فيها، ولكن هذه المسألة لا تخيفنا، فإن عمل الناقد لا ينتهي، وعليه في هذه الحالة أن يبدأ مرة أخرى. ومع ذلك فإن هذه القوانين تتصف بثبات لا تكاد تستمتع به القوانين البشرية، إنها أشبه ما تكون بقوانين الطبيعة. فالذي يحدث هو أننا لا نغير من قوانين الطبيعة، ولكننا نعدل فيها بحسب اتساع التجربة وعمقها. وإذا نحن قارنا مثلا بين علمي الفلك والطبيعة على يد طاليس1 وأنكسمندر2، وبينهما على يد نيوتن3 وأينشتاين4 لوجدنا الفرق واضحًا بين العالم كما فهم قديمًا والعالم كما فهم حديثًا.

1 طاليس Tnales "640-546 ق. م": فيلسوف يوناني، قال: إن الماء أصل الأشياء كلها.

2 أنكسمندر: فيلسوف يوناني برز في منتصف القرن السادس ق م.

3 السير إسحاق نيوتن Sir Isaac Neuton "1643-1729": رياضي وفيزيائي إنجليزي، وضع قانون الجاذبية العام، وقانون الحركة.

4 ألبرت أينشتاين Albert Einstein "1879-1955": فيزيائي أمريكي، ألماني المولد، صاحب نظرية النسبية، منح جائزة "نوبل" في الفيزياء عام 1921.

ص: 61

أما فهمنا للأدب فيبدو -نسبيًّا- أنه لم يحدث به تغيير كبير، وما زالت قضية المتعة Delectare موضوع المناقشات عبر العصور المختلفة.

فالناقد في حاجة إذن لمعرفة تلك القوانين؛ لينظر في ضوئها إلى العمل الأدبي فيحكم عليه بحسبها، وعندئذ لا يعييه أن يجد التعليل، ولكن ينبغي أن نلتفت إلى أن هذه القوانين وحدها لا تكفي المعرفة بها حتى يستطيع الإنسان أن يعلل لحكمه، بل لا بد له من تجارب كثيرة يختبر فيها مقدرته على الحكم العادل. وهو بعد كل ذلك عرضة لأن يترك جوانب أخرى قيمة في العمل الأدبي الذي حكم عليه. فمن السهل أن نعرف قوانين "القصة القصيرة" مثلا وأن نقيس ما نقرأ من قصص كثيرة على ما عرفناه فنحكم بنجاح الكاتب أو إخفاقه في كتابة هذا النوع الأدبي، ولكن حكمنا بنجاحه أو إخفاقه، وفقًا للقواعد العامة، لا يمكن أن يعد حكمًا نهائيًّا على القصة من حيث قيمتها.

وننتهي من هذا إلى أن القواعد التي وضعت للنقد تساعد الناقد -عادة- على أن يتصور ما يقرأ، وأن يحدد مدى اندراجه تحت نوع أدبي بذاته، وتحقق الأصول الفنية لهذا النوع الأدبي.

والواقع أن هناك حكمين يصدرهما الناقد: الحكم الأول ينصب على مدى تحقق الأصول الفنية للنوع الأدبي الذي نقرؤه، والحكم عليه بأنه عمل أدبي. وهذا الحكم يستند -عادة- إلى فلسفة الناقد الخاصة في القيم.

وكما ذكرت الآن، تحددت للأدب منذ القدم قيمتان لا نكاد نجد أحدًا يخرج عليهما هما: المتعة والمنفعة. وقد نجد ألفاظًا أخرى كثرة تستخدم بديلا من هذين اللفظين، ولكن ليس من الصعب ردهما جميعًا إلى هاتين المقولتين. وكل ناقد يريد أن يكون قد فرغ من تحديد موقفه إزاء هذين النوعين من القيم، وكل من يتبع تاريخ النقد يلاحظ أنه تنقل بينهما. فالنقد الإغريقي كان ينشد من الأدب المنفعة، في حين أن النقد العربي كان ينشد المتعة. والذين يريدون أن يظهروا شيئًا من الحكمة يجمعون للأدب المهمتين، ويحكمون عليه بمدى تحققهما. وهكذا تحددت أمام الناقد قيمتان للأدب: قيمة جمالية وأخرى أخلاقية، فهو أحيانًا يحكم بقيمة العمل الأدبي بمقدار ما تحقق فيه من عناصر الجمال، وبما أحدثه في نفسه من متعة التأمل، وأحيانًا أخرى يحكم بقيمة العمل الأدبي بمقدار ما حقق من هدف أخلاقي. والهدف الأخلاقي هذا شيء يختص بسلوك الفرد والمجموعة بأوسع معاني كلمة السلوك، فيدخل فيها المعنى الديني، والمعنى الخلقي، والمعنى التثقيفي، والمعنى الاجتماعي. وعندئذ نجد ناقدًا يحكم بقيمة العمل

ص: 62

الأدبي؛ لأنه يخدم نزعة دينية خاصة، أو لأنه يدعو إلى مبدأ أخلاقي بذاته، أو لأنه صالح لنقل المعرفة إلى قارئه وتثقيفه، أو لأنه يخدم سياسة خاصة أو مبدأ اجتماعيًّا معينًا.

ومن هنا ظهرت الاختلافات الواضحة بين الأحكام النقدية، وصار هذا يرضى عن العمل الأدبي للسبب الذي من أجله لم يرض عنه الآخر، ويأتي ثالث فيرفض حكم هذا وذاك، ويتناول العمل الأدبي على أساس آخر فيحكم عليه حكمًا مخالفًا. وهكذا تختلف الأحكام النقدية بحسب فهم الناقد لمهمة الأدب، واختلافها لا يبغضها إلينا؛ لأننا نستطيع أن ننظر إلى العمل الواحد على أسس كثيرة من الفهم، وهذا وحده لا ضرر منه. وليس غريبًا أن يختلف الناس، بل الغريب ألا يختلفوا. إنهم يختلفون في التقديرات المنطقية والأخلاقية والاقتصادية، ويختلفون على السواء، أو ربما كان اختلافهم أشد في التقديرات الفنية، ولكن يعاب هذا الاختلاف فقط عندما يكون أثرًا من آثار التحيز. والواقع أنه لا يعيب النقد الحكمي مثل التحيز و"النزعة التقريرية" dogmatism فنحن كثيرًا ما نتحيز لفكرة بذاتها فننظر إلى الأشياء من خلالها ولا نرضى أن نعدل منها أو نغير فيها، وكثيرًا ما يرجع التحيز إلى تأثرنا بشخصيات بذاتها لا نلبث أن نجد أحكامنا ترديدًا لأحكامها، وهذا معيب بطبيعة الحال. وأكثر منه عيبًا تحيزنا لأنفسنا، فنحن كثيرًا ما تنقصنا الشجاعة لكي نعدل عن وجهة نظرنا حتى عندما نعرف أنها ليست صحيحة كل الصحة. على أن التحيز غالبًا ما يكون طابع الكبار منا، في الوقت الذي يكون فيه الميل إلى التقرير طابع الشباب1، فالكبار يكون ذوقهم قد تكوّن واستقرّ، ويكون من الصعب عليهم -تبعًا لذلك- أن يقبلوا أي ظاهرة جديدة، بل قد يغضبهم ذلك. والشبان يراجعون الأحكام القديمة، ويحاولون من جديد أن يقوِّموا الأعمال الأدبية، فيتورطون في أحكام لا سند لها ولا تعليل.

وهكذا يتورط النقد الحكمي في عيوب لا تقل خطرًا عن عيوب النقد التفسيري. وإذا كان النقد التفسيري لا يحدثنا عن قيمة العمل الأدبي فإن تقرير هذه القيمة في النقد الحكمي -كما رأينا- محفوف بكثير من الخطورة. وكثيرًا ما ينسى الناقد -حين يصدر حكمًا- أننا ننتظر منه تحديدًا لقيمة العمل الأدبي، فإذا به -تحت وقع فكرته الخاصة بغاية الأدب- ينسى أنه محتاج لأن يضع يدنا على "فرق القيمة" في هذا العمل الأدبي

1 انظر:

H. J. C Grireson: Criticism and Creation.، Chato and Windus، London 1949، p. 29 ff.

ص: 63

حتى عندما يكون موافقًا لفكرته الخاصة، ففي نطاق الفهم الواحد لغاية الأدب يمكن إصدار أكثر من حكم نقدي على أعمال أدبية تمثل هذا الفهم. فإذا كان الناقد يحكم بقيمة الأعمال الأدبية مثلا لأنها تخدم هدفًا أخلاقيًّا معينًا، فينبغي عليه أن يحدد لنا الفرق بين قيمة كل عمل وآخر، فموافقة العمل الأدبي لهدف بذاته لا تعطيه قيمة مطلقة.

ويمكننا الآن بالرجوع إلى "مولتون"1 الإشارة إلى ثلاثة جوانب من التعارض بين مناهج النقد الحكمي القديمة، ومناهج النقد العلمي الحديثة:

أولًا: يهتم النقد الحكمي اهتمامًا بعيدًا بمسألة درجات القيمة بين الأعمال الأدبية، وهذه المسألة تقع خارج نطاق العلم، فلم يسمع بعالم من علماء طبقات الأرض "الجيولوجيا" يثني على حجر رملي أحمر من حيث هو نموذج لتكون الصخور، أو يلقي عبارات التهكم والسخرية على العصر الثلجي. فالناقد العلمي -كالعالم- لا يعرف شيئًا عن الاختلاف في الدرجة، ولا يعرف سوى الاختلافات في النوع. فهو ينظر إلى المذاهب الأدبية المتعارضة لا من حيث سموها أو انحطاطها، ولكن من حيث مجرد تميزها، وهذا التميز لا يسمح بأي مكان للتفضيل؛ لأنه ليس هناك أساس عام للمقارنة. ومن ثم يمكن ملاحظة الفروق بين كاتب وكاتب وتصنيفها، ولكن دون محاولة لتقدير قيمها الخاصة.

ثانيًا: يقوم النقد الحكمي على فكرة أن القوانين التي يقال لها قوانين الأدب تشبه قوانين الأخلاق أو قوانين الدولة، أي: إنها تفرضها قوة خارجية، وإنها تتحكم في الفنان كما تتحكم قوانين الأخلاق وقوانين الدولة في الإنسان "وقد بينا موقف الناقد من هذه القوانين". هذه القوانين لا وجود لها عند الناقد العلمي، فقوانين الأدب عنده كقوانين الطبيعة عند العالم الطبيعي، ليست أحوالا تفرض من الخارج، ولكنها "حقائق في صور قضايا". قوانين الطبيعة هي مجرد تقرير عام للنظام الذي يلاحظ في الواقع بين الظواهر، وقوانين الأدب ينبغي أن تشتقّ بطريقة متشابهة كل المشابهة، فهي تعبر عما هو كائن لا عما يجب أن يكون. وهكذا "لم تكن قوانين مسرح شكسبير قوانين تفرضها قوة خارجية على شكسبير" يكون مسئولا عن طاعتها، ولكنها قوانين التأليف المسرحي المشتقة من تحليل نفس مؤلفاته. ومن ثم فليس عمل الناقد أن يفحص مدى موافقة تأليف شكسبير -أو حاجته لأن يوافق- أفكارًا مجردة على المسرح، أو قواعد وضعت

1 انظر:

Hudson: An Introduction to the Study of Literature، p. 353.

ص: 64

مستقلة، ولكن عمله هو مجرد الكشف -بطريق الدراسة المباشرة لمسرحياته- عن المبادئ التي كتبت على أساسها المسرحيات، ثم تلخيص نتائج هذه الدراسة في عبارة عامة.

ثالثًا: النقد الحكمي يقوم على فرض أن هناك "مستويات ثابتة" ينشأ الأدب ويقاس بحسبها، وقد اختلفت هذه المستويات اختلافًا كبيرًا عند النقاد المختلفين وفي العصور المختلفة. وهذه الحقيقة تمدنا بسبب لكون النقد في عمومه كان مذمومًا في أغلب الأحيان. ومع ذلك فقد قيل بوجود بعض هذه المستويات، ولا يعرف النقد العلمي مستويات ثابتة، بل ينكر في الحقيقة إمكان قيامها. فالأدب -ككل الظواهر التي تتناولها العلوم- ثمرة التطور، فتاريخه تاريخ تطور دائم؛ ومن ثم فإن البحث عن قاعدة نقدية دائمة مآله الفشل التام؛ لأن النهائية في هذه الحالة تتخذ قاعدة محققة، في حين أن طبيعة الأشياء ذاتها لن توجد فيها هذه النهائية.

ص: 65