المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الباب الأول: نظرية الأدب والنقد الأدبي ‌ ‌الفصل الأول: نظرية الأدب ‌ ‌تعريف الأدب … الفصل - الأدب وفنونه - دراسة ونقد

[عز الدين إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثامنة

- ‌افتتاح:

- ‌الباب الأول: نظرية الأدب والنقد الأدبي

- ‌الفصل الأول: نظرية الأدب

- ‌تعريف الأدب

- ‌ مشكلة الأسلوب:

- ‌ العلاقة بين الأديب والمجتمع:

- ‌ مناهج دراسة الأدب:

- ‌الفصل الثاني: نظرية النقد

- ‌معنى النقد:

- ‌أهمية النقد:

- ‌طبيعة النقد:

- ‌قواعد النقد:

- ‌مراحل العملية النقدية:

- ‌الأساس النقدي للأدب القديم والحديث:

- ‌الباب الثاني: الفنون الأدبية

- ‌تمهيد: الأنواع الأدبية

- ‌الفصل الأول: الشعر

- ‌قدم فن الشعر

- ‌محاولة تعريفه:

- ‌طبيعة الشعر:

- ‌الانفعال والفكرة:

- ‌الصورة القديمة وخصائصها:

- ‌الصور في الشعر الحديث، ودورها:

- ‌الشعر الذاتي والشعر الموضوعي وأنواعهما:

- ‌الفصل الثاني: الفن القصصي

- ‌تعريف الفن القصصي:

- ‌مادة العمل القصصي:

- ‌عملية الاختيار:

- ‌عناصر العمل القصصي:

- ‌القصة القصيرة:

- ‌الفصل الثالث: الفن المسرحي

- ‌مدخل

- ‌الحوار والصراع والحركة:

- ‌علاقة المسرحية بالمسرح:

- ‌المسرحية الفلسفية:

- ‌لغة المسرح بين الشعر والنثر:

- ‌الإطار المسرحي:

- ‌الأنواع المسرحية:

- ‌الفصل الرابع: أنواع أدبية أخرى‌‌ ترجمة الحياة. المقال. الخاطرة

- ‌ ترجمة الحياة

- ‌ المقالة:

- ‌ الخاطرة:

- ‌المراجع

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ ‌الباب الأول: نظرية الأدب والنقد الأدبي ‌ ‌الفصل الأول: نظرية الأدب ‌ ‌تعريف الأدب … الفصل

‌الباب الأول: نظرية الأدب والنقد الأدبي

‌الفصل الأول: نظرية الأدب

‌تعريف الأدب

الفصل الأول: نظرية الأدب

"إني أعرف إذا لم أسأل، فإذا ما سئلت لم أعرف" سانت أوغسطين1

1-

تعريف الأدب:

من حق القارئ أن يتوقع مني هنا أن أبدأ حديثي إليه عن الأدب بأن أقدم إليه تعريفًا لهذا الأدب، وليس هذا حقا فحسب بل هو منطقي كذلك، إذ ينبغي أن نبدأ دائمًا بتحديد ألفاظنا، بأن نعرف الأشياء التي سنتحدث عنها قبل أن نمضي في هذا الحديث.

وليس من الصعب أن أسوق هنا طائفة كبيرة من التعريفات التي يعرف بها الأدب، ولكن ينبغي أن نذكر أنه من الأفضل أن نبدأ حديثنا عن الأدب دون تعريف له، إذ يكفي غرضنا هنا أن تترسب في نفس القارئ بعض الحقائق الخاصة بهذا اللون من النشاط، التي تتصل اتصالًا مباشرًا بجوهر الأدب.

وكل إنسان له حظ من الثقافة يعرف، بصورة أو بأخرى، ما الأدب، وكل ما في الأمر أن ما يعرفه هذا قد يختلف عما يعرفه ذاك، أو يفترق عنه قليلًا أو كثيرًا. ولكن المؤكد أنهم جميعًا يستخدمون كلمة "أدب" استخدامًا متقاربًا -إن لم يكن موحدًا- حين يطلقونها على شيء يقرءونه أو يستمعون إليه.

ولكن هل الأدب حقا هو ذلك الشيء الذي يقرؤه الناس أو يستمعون إليه؟ إن تاريخ كلمة "أدب" في اللغة العربية لا يدل على ارتباط بهذا المعنى.

معنى كلمة أدب:

وكلمة "أدب" Literature في الإنجليزية، و Litterature كذلك في الفرنسية مأخوذة من2Litera، وهي بذلك توحي بالأدب المكتوب أو المطبوع، ولكن ينبغي أن يشمل تعريف الأدب ذلك الأدب الملفوظ كذلك؛ ولهذا كان للفظة "فن الكلمة Wort-kunst" الألمانية، ولفظة Slavesnost الروسية، ميزتهما على نظيرتيهما الإنجليزية والفرنسية3

1 Saint Augustine "534-430 م": فيلسوف كاثوليكي حاول التوفيق بين الفكر الأفلاطوني والعقيدة النصرانية.

2 كلمة لاتينية.

3 انظر:

Rene Wellek & Austen Warren Warren: Theory of Literature A. W. Bain & Co. london 1949، p. 11.

ص: 9

وإذا قلنا: إن الأدب هو فن الكلمة، سواء الكلمة المقروءة والكلمة المسموعة، كان علينا أن نعود لنتساءل: هل يتمثل الأدب فيما نقرأ مكتوبًا من شعر مثلا؟ وعندئذ تكون الكتابة في ذاتها، أي: الحروف المنقوشة بالحبر على الورق؛ جزءًا من القصيدة؟ طبيعي أن هذا لا يمكن الأخذ به؛ لأن الشعر مستقل تمامًا عن هذه الحروف المكتوبة، وعن نوع الحبر الذي كتبت به، وليست الكتابة في الواقع إلا نوعًا من التسجيل لهذا الشعر، يضمن وجوده وبقاءه في مكان ما؛ ولذلك يمكن أن يوجد الشعر غير مكتوب حين يتمثل في الذاكرة. وكذلك ليس الأدب ما تنطق به من شعر مثلا؛ لأن قراءتنا لهذا الشعر ستتأثر بصوتنا في من حيث معدنه، وبمقدرتنا على إخراج الحروف إخراجًا سليمًا، وعندئذ هل تكون هذه الأصوات التي تخرج من أفواهنا هي الشعر؟ طبيعي أنها ليست كذلك؛ لأنها أشياء متغيرة. ومن هنا كانت القطعة الأدبية الواحدة تختلف على لسان القارئ نفسه من وقت إلى آخر، متأثرة بحالته الخاصة؛ ولذلك فالصوت الذي يؤدى فيه العمل الأدبي حين يقرأ يضيف إليه عناصر ليست في العمل الأدبي، ولكن القول بأن العمل الأدبي حشد من الأصوات يبدو غير كاف تمامًا، كما لا يكفي القول بأنه تلك الحروف المنقوشة بالحبر على الورق.

فن الكلمة:

وعلى هذا فعبارة "فن الكلمة" لا تكفي للدلالة على الأدب إذا كان المقصود بها الكلمة، سواء المكتوبة والمنطوق بها، فإذا لم يتمثل الأدب فيما هو مكتوب أو منطوق به، ففيم إذًا يتمثل؟

هنا يأتي القول بأن العمل الأدبي ليس شيئًا خارج العملية العقلية التي نزاولها في القراءة أو في الاستماع إلى قصيدة مثلا. ومعنى هذا أن الأدب يتمثل في نفوسنا، في نشاطنا النفسي الذي نبذله حين نقرأ الكلمة أو نستمع إليها، ولكن هذا الحل النفسي بدوره غير كافٍ. صحيح -بطبيعة الحال- أن القصيدة لا يمكن أن تعرف إلا من خلال الخبرات الفردية، ولكن القصيدة ذاتها ليست هي نفس هذه الخبرات، فكل مزاولة فردية لقصيدة من القصائد تحتوي على شيء خاص وفردي صرف، فهي تتلون بلون حالتنا واستعدادنا الفردي، والثقافة، وشخصية كل قارئ، والجو الحضاري العام في فترة من الزمن، والمفاهيم الدينية والفلسفية والفنية الصرف لدى كل قارئ، كل ذلك يضيف شيئًا مفاجئًا جديدًا لكل مرة من مرات قراءة القصيدة، فقراءتان في زمنين مختلفين للفرد نفسه يمكن أن تختلفا اختلافًا واضحًا، سواء لأنه قد نما عقليا، أو لأن الظروف الوقتية أضعفته، كالتعب أو القلق أو التشتت الذهني. وهكذا نجد أن كل مزاولة للقصيدة تترك شيئًا أو تضيف شيئًا فرديًّا، ولن تتسع المزاولة حتى تشمل القصيدة، فحتى القارئ الممتاز

ص: 10

نفسه، سيكشف في القصيدة الواحدة في كل مرة من مرات قراءتها تفاصيل جديدة لم يعاينها خلال قراءاته السابقة. ولا حاجة بنا إلى الإشارة إلى مبلغ الضحالة والاختلاط في قراءة قارئ أقل دربة أو غير مدرب.

فالقول: إن نشاط القارئ العقلي هو القصيدة ذاتها، أو العلم الأدبي ذاته، يؤدي إلى نتيجة غير معقولة، هي أن القصيدة لا توجد ما لم يمارسها إنسان، وأنها تخلق من جديد في كل ممارسة، فلن تكون هناك إذن "كوميديا إلهية"1 واحدة، بل كوميديات إلهية بعدد ما يوجد، وما وجد، وما سيوجد من قراء. وبذلك ننتهي إلى الشك والفوضى التامة، ونصل إلى العبارة الرديئة القائلة: لا مشاحة في الذوق2.

المزاولة النفسية للعمل الأدبي:

فالدراسة النفسية إذن -التي تنظر إلى العمل الأدبي متمثلا خلال العملية العقلية، سواء لدى القارئ أو المستمع، وسواء لدى المتحدث أو المؤلف- تثير من المشكلات أكثر مما تساعد على حل المشكلة الأساسية.

فكلمة "أدب" إذن لا تعني ما هو مكتوب أو منطوق به، ولا ممارسة ما هو مكتوب أو منطوق به.

ولقد تغيرت مفهومات طبيعة الأدب ووظيفته عبر التاريخ، وقد مال البعض في تعريفه للأدب إلى تضييق ميدانه حين نظر إلى بعض الإنتاج الفكري دون بعضه الآخر، وفي الجانب المقابل نجد من يتوسع في معنى الأدب حتى ليدخل في ميدانه الكتابات التشريعية والدينية والطبية، وهذان المفهومان المتطرفان لا يصيبان شيئًا من الحقيقة؛ لأنهما تنقصهما الدقة اللازمة. ويمكن البدء في محاولة تعريف للأدب "إذا نحن نظرنا إلى اعتبارين، فالأدب يتكون من تلك الكتب، وتلك الكتب وحدها، التي لها أولًا وقبل كل شيء -بحكم موضوعها، وطريقة تناول هذا الموضوع- أهمية إنسانية عامة، وهي -بعد ذلك- ينظر إلى عنصر الصورة فيها، والمتعة التي تقدمها الصورة، على أنها جوهرية، فالقطعة الأدبية تختلف -من ناحية- عن بحث متخصص في علم الفلك أو الاقتصاد السياسي أو الفلسفة أو حتى التاريخ؛ لأنها لا تتصل بطبقة خاصة من القراء فقط، بل بالناس من حيث هم ناس، رجالا ونساء. وفي حين نجد موضوع البحث -من ناحية أخرى- يكتفي بأن ينقل المعرفة، إذا بالقطعة الأدبية، سواء أكانت تنقل المعرفة

1 دانتي ليجييري Dante Alighieri "1265-1321 م" كبير شعراء إيطاليا، صاحب ملحمة "الكوميديا الإلهية" Divina commedia "1308-1320 م".

2 انظر المرجع السابق ص146.

ص: 11

كذلك أم لا، من أهدافها المثالية أن تحدث الرضا الفني، وذلك بالطريقة التي تقدم بها موضوعها"1.

المتعة والمنفعة في العمل الأدبي:

وهذه الخطوة في محاولة فهم ماهية الأدب لم تزد على أن أدخلت عنصرًا جديدًا في البحث هو عنصر "المتعة الفنية" التي يحدثها الأدب. وطبيعي أن هذا العنصر الجديد ليس جزءًا من طبيعة تكوين الأدب، بل هو أثر له، فالمتعة قد تحدث لشخص يتلقى عملا أدبيا ولا تحدث لشخص آخر يتلقى نفس هذا العمل، على أننا كذلك قد نجد المتعة في أشياء ليس لها بالأدب صلة.

والغريب أن فلسفة الجمال فيما يتعلق بالفن والأدب كانت في أغلب الأحيان تترك الأدب ذاته لتبحث في آثاره، ويمكن تلخيص هذه الفلسفة ببساطة في مقولتين قال بهما "هوراس"2 منذ أمد بعيد هما: المتعة والمنفعة. وقد كان تاريخ فلسفة الفن تسجيلا للمواقف التي تتوزعها هاتان المقولتان، فمن أديب ينتهي إلى أن الفن متعة، إلى مفكر يخلص إلى أن الفن منفعة، وبإزاء المتعة والمنفعة نجد اللعب والعمل، فالفن لعب في رأي، وهو عمل في رأي آخر. والمحاولة الثالثة، وهي المحاولة التي قام بها عصر النهضة في أوروبا، هي محاولة الجمع بين الخاصتين بحيث لا يمكن أن يقوم فن يوصف بوصف واحد من الوصفين، فالعمل الأدبي يقوم بالمهمتين، ويحدث الأثرين معًا، وبنجاح.

وقد قلنا: إن هناك أشياء تمتعنا وهي ليست من الأدب في شيء، وكذلك هناك أشياء نافعة ولا تمتّ إلى الأدب بصلة، فحتى هذان الأثران المعروفان للأدب ليسا إذن أثرين خاصين به. وهنا "ينبغي أن نأخذ بأن متعة الأدب ليست متعة مختارة من بين قائمة بالمتع الممكنة، ولكنها متعة أعلى؛ لأنها متعة لنشاط أرقى، أعني تأملا لا يهدف إلى حيازة شيء. أما المنفعة أو الجدية والتعليم في الأدب، فهي جدية ممتعة، أعني أنها ليست جدية الواجب الذي يجب أن يعمل، أو الدرس الذي يجب أن يحفظ، ولكنها جدية فنية، جدية إدراك حسي

"3.

فإذا ما خصصنا نوعي المتعة والمنفعة اللذين يحدثهما الأدب ويؤثر بهما في التلقي، أمكننا أن نصل إلى الحديث عن الأدب ذاته، إذا ما تساءلنا عن سر المتعة والمنفعة في العمل الأدبي: لماذا كان الأدب ممتعًا ونافعًا؟

1 William Henry Hudson: An Introduction to the study of literature. 2nd ed.، p. 10.

2 Horace "65-8 ق. م" شاعر روماني تدور قصائده حول محور الحب والصداقة والفلسفة.

3 Weliek & Warren: Theory of Literature، p. 21.

ص: 12

والحق أن "عنايتنا بالأدب ترجع أولا وقبل كل شيء إلى أهميته الإنسانية العميقة الباقية، فالكتاب العظيم يستمد مباشرة من الحياة، ونحن حين نقرؤه نستكشف بين أنفسنا والحياة علاقات كثيرة وطيدة وجديدة. وفي هذه الحقيقة نجد التفسير النهائي لما له من قوة، فالأدب إبداع جديد حي لما رآه الناس في الحياة، وما خبروه منها، وما فكروا فيه، وأحسوا به إزاء مظاهرها التي لها عندنا جميعًا أهمية مباشرة وباقية، تفوق كل أهمية. وهو بذلك يعد -بصورة أساسية- تعبيرًا عن الحياة وسيلته اللغة، ولكن من المهم أن نفهم منذ البداية أن الأدب يعيش بفضل الحياة التي تتمثل فيه"1.

فالمتعة والنفع اللذان نتحدث عنهما في الأدب مصدرهما تلك الأشياء التي نجدها في العمل الأدبي، والتي لها أهمية إنسانية، فبمقدار ما يكون لهذه الأشياء من أهمية يكون إمتاعها ونفعها لنا. وقد قال "هدسن" في العبارة السابقة: إن الأدب تعبير عن الحياة وسيلته اللغة، وهنا نقول: إن هذه الصلة الوطيدة بين الأدب والحياة هي السر فيما يتضمن من متعة ومنفعة؛ لأننا نحب أن نرى الحياة "منقولة إلينا"، نحب أن نجلس في مكاننا لنشاهد الحياة تمر بنا جزئياتها في سلسلة متصلة الحلقات "وهذه المتعة تتحقق في جلوسنا لقراءة كتاب، وتتمثل بصورة أوضح وأقوى في ذهابنا إلى "السينما"، ومشاهدتنا لأحد "الأفلام" أو إحدى المسرحيات"، ولكن قيمة الكتاب الذي نقرؤه، أو "الفيلم" الذي نشاهده، لا تقف عادة عند مجرد قضاء سويعات في استعراض مشاهد ممتعة من الحياة، بل إننا نمضي بعد الفراغ من القراءة أو المشاهدة لنناقش ما قرأنا وما شاهدنا. وكثيرًا ما نناقش أنفسنا بسبب كتاب قرأناه، وهناك كتب غيرت من منهج حياة قارئيها تغييرًا كاملًا، وهنا يتمثل ما للأدب من نفع، حين يعمق فهمنا للحياة، بل أكثر من هذا حين يوجه حياتنا، فالأدب يستمد من الحياة، ويدفع الحياة ويوجهها.

الحياة مادة الأدب:

مادة الأدب إذن في أي صورة من صوره هي الحياة، وانتقال هذه المادة إلينا يحدث في نفوسنا المتعة، وقد يشكل حياتنا، ولكن هل هذا حقا هو كل شيء في الأدب، أن ينقل إلينا الحياة؟ لا شك أن الأدب يشتمل على عناصر أخرى، فإذا نحن رجعنا إلى العبارة القائلة إن:"الأدب تعبير عن الحياة وسيلته اللغة" كان علينا أن نفهم أن الأدب لا ينقل إلينا الحياة حقا كما هي، ولكنه يعبر عنها. وقد يقال: إنه يفسرها2، وقيل أيضًا: إنه ينقدها3، وكل هذه العبارات المختلفة عن علاقة الأدب بالحياة تدل على

1 Hudson: كتابه السابق ص11.

2 و3 أول من قال بذلك الناقد الإنجليزي ماثيو أرنولد. انظر:

b.Ifor Ivans: Literature and Science.، George Allen & Unwin، 1954، pp. 99-100.

ص: 13

أنه لا ينقل إلينا الحياة كما هي نقلا حرفيا. قد نقول: إنه ينقل إلينا فهم الأديب للحياة من خلال تجاربه الشخصية، وهنا نكون قد أدخلنا عنصرًا جديدًا يقوم عليه الأدب، فبجانب الحياة لا بد من "فهم" الأديب لها.

عناصر العمل الأدبي:

هناك إذن عناصر كثيرة تشترك في تكوين العمل الأدبي، فنحن "أولا نجد بطبيعة الحالة العناصر التي تقدمها الحياة ذاتها، تلك التي تمثل المادة الأولية لأي عمل أدبي، سواء أكان قصيدة أم مقالة أم مسرحية أم قصة. ثم هناك العناصر التي يضيفها المؤلف في عملية نقله هذه المادة الأولية إلى هذه الصورة أو تلك من صور الفن الأدبي، وهذه العناصر يمكن أن تقسم تقسيمًا تقريبيًّا إلى أربعة أقسام:

أولًا: هناك العنصر "العقلي"، ويتمثل في الفكرة التي يأتي بها الكاتب ليبني منها موضوعه، والتي يعبر عنها في عمله الفني.

ثانيًا: هناك العنصر "العاطفي"، وهو الشعور "كائنًا ما كان نوعه" الذي يثيره الموضوع في نفسه، والذي يود بدوره أن يثيره فينا.

ثالثًا: هناك عنصر "الخيال""ويشمل النوع الخفيف الذي نسميه الوهم fancy"، وهو في الحقيقة القدرة على التأمل القوي العميق، وبعمله سرعان ما ينقل إلينا الكاتب قدرة مماثلة على التأمل. وهذه العناصر تجتمع لتقدم للأدب المادة والحياة، ولكن مهما تبلغ المواد التي قدمتها التجربة من الغنى، ومهما يبلغ فكر الكاتب وشعوره وخياله من الجدة، فإن عنصرًا آخر يلزم الكاتب عند الاهتمام بهذه العناصر قبل أن يتمكن من إتمام عمله، فهذه المادة يجب أن تشكل وتهذب وفق مبادئ النظام والتناسق والجمال والتأثير. ومن ثم نجد عنصرًا رابعًا في الأدب هو العنصر "الفني"، أو عنصر "التأليف والأسلوب"1.

هذا معناه أن الأدب يقوم على عناصر بعضها بمثابة "المادة""الحياة والفكر والخيال والعاطفة"، وبعضها يتحقق في عملية "التكوين" أي: في بناء العمل الأدبي من هذه المادة. وهذا في الواقع تعبير آخر -ولكنه ربما كان أكثر دقة- عما يقسم إليه العمل الأدبي من "محتوى" و"صورة". فإذا كان المقصود بالمحتوى الأفكار والعواطف التي يشتمل عليها العمل الأدبي، فإن الصورة عندئذ تشمل كل العناصر الشكلية التي تعبر عن هذا المحتوى، "ولكننا إذا فحصنا هذا التمييز فحصًا أكثر دقة لرأينا أن المحتوى يدل على بعض عناصر الصورة. فمثلًا: الحوادث المسرودة في الرواية تعد أجزاء من المحتوى،

1 Hudson المرجع السابق ص15، 16.

ص: 14

في حين أن الطريقة التي تنسق بها، بحيث تكون عملا قصصيا، تعد جزءًا من الصورة، فإذا هي انفصلت عن طريقة التنسيق هذه فلن يكون لها تأثير فني بأي حال من الأحوال"1.

ومهما يكن من أمر دلالة المصطلحات المستخدمة في هذا المجال، فإن هناك صفات خاصة بما سميناه مادة العمل الأدبي، وهي صفات تعد جوهرية، ولا بد من تحققها كيما يعد الأدب أدبًا، وهناك صفات أخرى خاصة بالتكوين.

قد نقرأ العمل الأدبي لأغراض كثيرة، ولكننا إذا نظرنا إلى الأدب على أنه قوة حقيقية وجب علينا أن نبحث عن مصدر أسباب الرضا الأساسية، التي تتمثل في صفات: الوضوح، وعمق الفهم، وسمو الروح.

ويتحقق الوضوح من خلال إحساس المؤلف بالصورة، فالمؤلف يختار المادة وينظمها وفقًا لغرض خاص. وهو بذلك يركز الاهتمام على الشكل الجوهري للأشياء في العالم المرئي وغير المرئي، وهو بذلك يومئ أيضًا إلى الغرض الذي يوجه التجربة. ومؤلفات كبار الكتاب تهدي إلى السلوك السليم بأوسع معانيه؛ لأنها تكشف لنا عن النظام الدقيق، وعن الحكمة والتوافق بين العناصر المختلفة، التي بدونها تبدو الحياة أجزاء لا معنى لها. وهذا العمل يتضمن توضيحًا واعيًا للتجربة، لا عند المؤلف وحده بل عند القارئ كذلك، وذلك باتحاده مع المؤلف خلال عملية التمثيل2.

صفات الأدب المرضي:

وهنا يأتي بالضرورة السؤال عن الموضوعات التي تصلح للأدب وتلك التي لا تصلح، والواقع أن الأديب -على الرغم من أنه يختار موضوعه بلا شك- يعمل في ميدان، كل ما يلقاه فيه صالح للعمل الأدبي وهو ميدان الحياة، "فلم يعد من الممكن القول: إن هناك بعض موضوعات تصلح للتناول وبعضًا آخر لا يصلح، وفي خلال نمو الواقعية في الفن القصصي، واستخدام التحليل النفسي للشخصية، اتسع ميدان الأدب اتساعًا عظيمًا"3.

ثم يأتي دور الأدب في أن يعمق فهمنا للحياة "بأن يطلعنا لا على عالم الرؤية الخارجي فحسب، بل على العالم الداخلي للفكر والشعور كذلك. إننا نبدأ في فهم كيف يعيش الناس، ومن أجل ماذا يموتون، وكذلك فإننا ننظر في ذلك العالم

1 Wellek & Warren: op. cit،. p. 140.

2 انظر:

Nathan Comfort Star: the Dynamics of Literature: Columbia Univ. Press، New York 1945. p22.

3 المرجع السابق ص22.

ص: 15

الغامض، عالم العواطف واللاشعور. وعلاقتنا العاطفية الخاصة بالحقيقة الخارجية تلمس هذه الحقيقة وتوضحها بومضات اللون والضوء والظل. وهذه العلاقة الخارجية لا تكتفي بأن تخلق في الحال علاقة مثالية "غير ذريعية" بين نفوسنا وبين العالم، ولكنها كذلك تجعل من المستطاع قيام علاقة مرنة واضحة بشكل غير عادي بين ظواهر تبدو منفصلة في عقولنا. ويتبع ذلك أنه ينبغي علينا أن نشحذ مداركنا حتى نستطيع فهم ظلال المعنى الدقيقة، وإدراك الطرق التي يستطيع بها الأدب أن يوسع من فهمنا عن طريق الدقة في الكناية والإيحاء"1.

فالعمل الأدبي يرتاد بنا الحياة، ويخلق بيننا وبينها علاقات جديدة من الفهم، والمعرفة، وهي الغاية التي تسعى لها الإنسانية في نشاطها الدائب.

وعندما نفهم طبيعة التجربة الموضوعية، وطابع الحياة الداخلية فإننا نجد أنفسنا -وقلّ أن يحدث ذلك- في ميدان الروح. وكثيرًا ما يأتي هذا الشعور بالسمو نتيجة مثير عاطفي -له قوة ورهافة غير عادية- يقف وحده غالبًا، سواء أكانت هناك علاقة بسيطة أم لم تكن، بينه وبين مجموعة من القيم الراسخة في السلوك البشري. ولحظة من التفكير تذكرنا بمجموعة من القصائد التي لها من هذه القوة والإثارة ما يجعلنا نشعر بأننا نسمو عند قراءتها.

هذه الأسباب الثلاثة لرضائنا عن العمل الأدبي ليست منفصلة، ولكنها تتحد جميعًا لتخرج لنا عملا جميلا محكما2.

مشكلة العمل الأدبي:

فالعمل الأدبي -فيما يبدو- ليس بسيطًا، إنه يستمد من الحياة، ولكنه ليس مجرد معنى للحياة أو فكرة عنها نتعلمها كما نتعلم الأشياء الأخرى أو كما نتعلم ذلك من الفلسفة مثلا. إنه طاقة هائلة تشع ألوانًا من الإشعاعات على مر الزمن، فلا يخبو لمعانها حتى يتجدد مع الإنسانية المتجددة الدائبة التجدد. وهي طاقة هائلة التأثير، فيكفي أن يقول الأديب كلماته حتى يكون لها من الفعل بالنفوس ومن تحريك الأرواح ما يفوق أثره كل قوة؛ ذلك أن فعلها لا يقتصر على جماعة من الناس في وقت من الأوقات، ولكنه من الممكن أن يمتد إلى كل إنسان في كل زمان وكل مكان. ويوم يطلق الشاعر قصيدته يكون العالم قد كسب قوة هائلة جديدة، ولكنها قوة خالدة باقية.

إن خفقة القلب لتدفع إلى الوجود وجودًا، وإن لمحة الروح لتنفذ فتخترق القيود والسدود. وفي الوجود الأكبر تلتقي كل طاقة كونية، تلتقي الطاقة تشعها الذرة، وتلتقي الطاقة تشعها الكلمة.

1 المرجع السابق ص23، 24.

2 المرجع السابق ص24، 25.

ص: 16

فالأدب كائن حي متجدد الحيوية، متجدد الحرارة، وله كيانه وشخصيته، مثلي ومثلك. إنها شخصية ممتلئة بالقوة، ولكنها شخصية أميز ما فيها أنها مرنة، وليست صلبة جامدة. إن النبات والحيوان والإنسان جميعًا تتكيف بحسب البيئة التي توجد فيها، وهذه القدرة على التكيف مرجعها إلى المرونة التي يتمتع بها كيانها وتتمتع بها شخصياتها. وهي كلما اختلفت عليها الأزمنة والأماكن راحت تتكيف مع البيئة الجديدة. ولولا هذه القدرة على التكيف، ولولا هذه المرونة التي تتمتع بها شخصياتها -على تفاوت بينها في أنصبتها من هذه المرونة- لوجدناها تنقرض وتزول، فالشخص لا يعيش إلا بما في شخصيته من مرونة يواجه بها ظروف الحياة فيتكيف معها، ويتغلب بذلك عليها، ويستمر بعد كل محنة في وجوده الحي النابض، وتزداد بذلك شخصيته قوة على قوة.

شخصية العمل الأدبي:

العمل الأدبي شخصية من هذا النوع، ولكنها شخصية جبارة، إنها شخصية قد كسبت قوتها من آلاف التفاعلات التي مرت بها في حياتها الطويلة. إننا نتفاعل مع أصدقائنا وأقاربنا وتلاميذنا ألوانًا مختلفة من التفاعل بما هم كائنات حية تؤثر وتتأثر، وكذلك تتفاعل مع الأدب. ألسنا نتخذ في كثير من الأحوال من الشعراء الذين مرت عليهم مئات السنين أصدقاء لنا؟ ألسنا نطيل صحبة قصيدة من القصائد ونعتزّ بها؟ إننا نتفاعل بذلك معها كما نتفاعل مع أصدقائنا، نتفاعل معها فتؤثر فينا ونؤثر فيها، ولكننا نمضي جميعًا وتبقى هي محتفظة بحصيلة تلك التفاعلات، ممتعة بما أفادت من تأثرات الألوف من الذين صاحبوها في وقت من الأوقات وتفاعلوا معها. ألا يكون للعمل الأدبي بعد ذلك شخصية جبارة، وطاقة هائلة؟ ولكنها شخصية مرنة، وطاقة متلونة.

إنها شخصية مرنة لا تقف منك موقف عناد، ولا تصر على شيء وهي بذلك تمتاز عن الحقائق الصارمة. إنك تقرأ هذه العبارة الحسابية "2+2=4" فلا تستطيع أن تفهم منها إلا فهمًا واحدًا، ولن تخرج منها إلا بحقيقة واحدة، وهي حقيقة خالدة باقية كذلك، ولكنها حقيقة جامدة لا مرونة فيها بل فيها إصرار. ونحن نذعن دائمًا في هذه الحالة للإصرار والبناء، ويوم نريد من "2+2" أن تساوي خمسة مثلا تخذلنا العبارة؛ لأنها تصر على أن تساوي أربعة فقط، ولا يمكن التزحزح عن هذا الإصرار؛ وعندئذ نمضي طائعين أو مكرهين إلى التسليم بهذه الحقيقة التي نضطر جميعًا إلى الاتفاق عليها. إنها حقيقة صارمة جامدة لا حياة فيها، ومن ثم لا نتفاعل معها، فلا تتأثر بها شخصياتنا، ولا تترك شخصياتنا فيها أثرًا. إنها شخصية ذات جانب واحد، إذا أمكن التعبير. ولكن العمل الأدبي شخصية متعددة الجوانب، وهذا هو السر في أنها تستطيع

ص: 17

أن تجتذب أكبر عدد ممكن من الأصدقاء، هذا يتفاعل مع جانب، وذلك مع جانب آخر. إشعاعات كثيرة كما قلنا تلك التي تصدر عن الطاقة الهائلة الكامنة في العمل الأدبي. وكل منا يتلقى من هذه الإشعاعات بمقدار استعداده للتفاعل، وتبادل الفهم والتفاهم.

فمن أراد من العمل الأدبي صورة جامدة من الألفاظ فإنه واجد من هذه الصورة، ومن أراد شخصية حية نابضة فإنه واجد هذه الشخصية هذه إشعاعة وتلك إشعاعة، ولكن فرق بين من يتذوق الأدب روحًا، ومن يتذوقه صورة جامدة.

هكذا تقوم للعمل الأدبي شخصيته، ويتحدد ما فيه من طاقة وقوة بمقدار ما يستمد من الحياة، وما يوصله إلى نفوس الآخرين من خبرة جديدة وفهم عميق لهذه الحياة. ولكن يبدو أننا نتساهل كثيرًا في هذا التصور؛ لأن كل ما يربطنا في الواقع بالأديب لا يزيد عن ألفاظ، وكأن كل ما حسبناه للعمل الأدبي من قوة هو كامن في الكلمات، فالأدب -كما سبق- تعبير عن الحياة "أداته اللغة"، فكأن اللغة هي الظاهرة الأولى التي ينبغي الوقوف عندها عندما نتحدث عن الأدب؛ لأن الأدب لا يمكن أن يتحقق إلا فيها، وحين يفرغ الأديب من أداء كلماته يكون -في الواقع- قد فرغ من أداء عمله الأدبي.

وليس هذا في الحقيقة تبسيطًا للموضوع، فقد يبدو أن استخدام اللغة للتعبير أمر غاية في السهولة. ألسنا نستخدم اللغة كل يوم وكل دقيقة في قضاء حاجتنا، وفي التفاهم مع غيرنا؟ فاللغة وسيلة طَيِّعة لقضاء أمورنا وربطنا بالآخرين. ولكن اللغة في العمل الأدبي تختلف عن هذا، ومهما بلغت اللغة من وفرة المفردات التي تستطيع أن تنقل أدق المعاني، وأدق ظلال لهذه المعاني، فإنه تبقى هناك صعوبة تواجه الأديب في استخدامه اللغة في عمله الأدبي. والذين يمارسون الإنتاج منا يلاحظون في يسر أن اللغة لا تكون في كل الأحوال تلك الأداة الطيعة للتعبير عن المعنى أو الفكرة أو الشعور، فهذه الأشياء لا يتم نقلها خلال الألفاظ إلا بعد جهد كبير، ولا نذهب في المثل بعيدًا، فكلنا قد مارس الكتابة العادية، وصادف الصعوبات التي كانت تقتضيه أن يقدم لفظة على لفظة، أو يستبدل بلفظة أخرى، أو يضرب عن التعبير كله ليبدأ من جديد تركيبًا آخر للألفاظ يراه أقرب إلى تكوين الجملة التي تنقل المعنى أقرب ما يكون إلى الدقة، أو أقرب ما يكون إلى ما في نفسه، فإذا أدركنا ذلك كان تقريرنا للصعوبات التي يواجهها الأديب في استخدام اللغة أمرًا بدهيًّا. ولكن حينما نعرف أن الأديب لا يكتفي بمجرد أن يفهمنا شيئًا أو ينقل إلى نفوسنا معنى، ولكنه -إلى جانب ذلك-

ص: 18

يهدف إلى التأثير فينا، عندئذ ندرك الجهد الذي يبذله الأديب لتطويع الألفاظ لأداء مهمته الكبرى، فالمؤلف لا يكتفي بأن يجد اللغة الدالة على ما يرغب في أن يقوله، ولكنه يجب كذلك أن يذهب -أبعد من الدلالة- إلى الإيحاءات الفنية خلال ذبذبات النفس والفكر1.

وهذا معناه أن الأديب يختار في عمله الأدبي الكلمات ذات الإيحاء الفني. ولكن ينبغي ألا توقعنا هذه العبارة في الفكرة الخاطئة التي شاعت قديمًا واتخذت في كثير من الحالات أساسًا للحكم على الإنتاج بأنه أدبي أو غير أدبي، وأعني بذلك الفكرة القائلة: إن هناك لغة أدبية، أو -على وجه التحديد- ألفاظًا أدبية وأخرى غير أدبية، فكما أن موضوعات الحياة كلها تصلح للتناول الأدبي -"ومن الخطأ أيضًا بطبيعة الحال أن نقول: إن هناك موضوعات تصلح للأدب وأخرى لا تصلح"2- فكذلك كل ألفاظ اللغة صالح لأن يستخدم في عمل أدبي. كل ما في الأمر أن الأديب يختار للكلمة المكان الذي تكون فيه أصلح كلمة تستخدم، وتكتسب الكلمة "وضعًا" خاصًّا باستخدام الأديب لها في ذلك المكان. وهذا جزء من عملية التطويع التي يتناول بها الأديب اللغة ليخضعها لغرضه، ويستخدمها استخدامًا خاصًّا.

ويلاحظ "نيومان" أنه بينما تستخدم الأغلبية من الناس لغة زمانهم "كما يجدونها" فإن العبقري يستخدم اللغة لأغراضه الخاصة، ويشكلها تبعًا لاستعداداته الخاصة. ويعلق "هدسون" بقوله: ومعنى هذا أن اللغة تستقبل دائمًا أثرًا جديدًا خاصًّا على يدي كل كاتب له شخصية قوية التميز"3.

فالكلمة قد تكتسب قوتها من الشخصية التي استخدمتها. وكم من عبارات كان لها أثرها في النفوس لم تكن لتحدث هذا الأثر لو لم تصدر عن شخصية بذاتها.

إن الأديب ذا الشخصية القوية المؤثرة يخلق للكلمة -باستخدامه إياها- مجالا واسعا، ولا يلبث الكثيرون أن يجدوا أنفسهم واقعين في إسارها. فمن حيوية الشخصية وقوتها تستمد الكلمة، وهي بهذه الحيوية والقوة تؤثر في الآخرين، وتفرض نفسها عليهم.

1 Starr كتابه السابق ص30.

2 انظر المرجع السابق ص22.

3 Hudson كتابه السابق ص36.

ص: 19

فإذا كانت خاصية اللغة التي يستخدمها العالم في شرح نظرية هي نقل الدلالة العامة التي يتحد جميع الناس في كل زمان ومكان في معرفتها حتى لقد يستخدم العالم الرموز الإشارية لنقل هذه الدلالات، وكانت خاصية اللغة التي تستخدم لأغراض الحياة اليومية هي أنها محلية تتخذ وسيلة لقضاء الأمور المعيشية، فإن خاصية اللغة -حين تستخدم استخدامًا أدبيًّا- هي أنها إيحائية، فهي"لا تكتفي بأن تقرر وتعبر عما تقول، ولكنها كذلك تهدف إلى التأثير في اتجاه القارئ وإقناعه، وتغييره تغييرًا تامًّا"1.

إمكانية اللغة:

إن لكل لغة إمكاناتها، وليس العمل الأدبي إلا بناءً لغويًّا يستغل أكبر قدر ممكن من هذه الإمكانات. ولكن هذا البناء لا تأخذ صورته شكلا طبيعيا، "فهي ليست تخطيطا هندسيا أو شكليا، ولكنها أقرب إلى أن تكون -كما هو الشأن في الموسيقى- تطورًا ناميًا لموضوع. فالأدب إذن -كالموسيقى والمسرحية الممثلة- فن حيوي، بمعنى أنه حركة تحدث نتيجة لقوة"2.

معنى هذا أن الأدب يستخدم أداة تعبيرية من نوع خاص، يتحقق فيها إمكانات الموسيقى من جهة، كما أنه يتبع في تكوينه نظاما تشكيليا خاصا بها. ولكن الأدب -بعد كل هذا، أو قبله- ليس موسيقى وليس نحتًا، فالأديب الذي يخيل إليه أنه يستطيع في عمله أن يخلق بناء موسيقيا إنما هو أديب واهم؛ لأن "الموسيقى فن هائل قائم بذاته، وإمكاناته الخاصة تقع نهائيا وراء مدى اللغة المتكلمة"3. وكذلك الأدباء الذين يظنون أنهم يستطيعون أداء مهمة الفن التشكيلي في اللغة قد جرهم سوء الفهم إلى أن يحاكوا الفنانين، سواء باهتمامهم بالتفصيلات التي تقع عليها العين، أو بوصف أعمال من الفن التشكيلي.

والحق أن العمل الأدبي من حيث هو بناء لغوي يتضمن إمكانات موسيقية وأخرى تشكيلية، ولكن هذه الإمكانات في اللغة تعدو وسيلة لا غاية. قد يستفيد الأديب من الإيقاع والتجانس الصوتي وغيره من الزخارف الصوتية التي يستطيع تحقيقها في عمله الأدبي، ولكن يوم تصبح هذه الأشياء هي كل مهمته فعندئذ لا يمكن أن يقال: إنه قد أنتج أدبًا؛ لأن الأدب شيء غير الموسيقى. ويستفيد الأديب بلا شك من الصور الحسية

1 Wellek & Warren المرجع نفسه ص12.

2 Starr، نفس المرجع ص18.

3 J. Middleton Murry: The Problem of Style.، Oxford Univ. London 1930، p. 87.

ص: 20