الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشعر الذاتي والشعر الموضوعي وأنواعهما:
وحتى الآن نكون قد تحدثنا عن مادة العمل الشعري وأدواته، ولكننا لا نستطيع بذلك أن نقول: إننا تحدثنا عن كل خصائص العمل الشعري، والواقع أننا نريد أن نقتصر في الحديث النظري على ما هو جوهري ومشترك في الأعمال الشعرية. فالشعر، كما هو معروف، اسم جنس يندرج تحته أنواع شعرية كثيرة يختلف بعضها عن بعض. وهذا الاختلاف من شأنه أن يجعل لكل نوع صفات خاصة ينبغي أن تتوافر فيه ولا تكون شرطًا في غيره؛ ولذلك نرى أنه مما يكمل نظرية الشعر هنا أن نتعرف -في استعراض سريع- الأنواع الشعرية المختلفة، وما لكل نوع من خصائص مميزة.
وطبيعي أن نتساءل هنا عن السبب في أن يتنوع الشعر أنواعًا في حين أنه هو في ذاته ليس إلا طريقة من طرق التعبير التي صاحبت حياة الإنسان. والواقع أن الإنسان في بحث دائم عن طريقة جديدة للتعبير كلما تجددت الحياة وتطورت، وظهرت ألوان حضارية جديدة. ولم يكف الإنسان -ولن يكف- عن البحث عن الطريقة الجديدة دائمًا للتعبير.
على أن السعي وراء هذه الطريقة مرتبط بنظرية تنظمه، فالشعر ينظر إليه -بدءًا- على أنه ينقسم قسمين كبيرين تبعًا لموقف الشاعر. فإذا تناول الشاعر المادة الخام لموضوعه تناولا موضوعيا -أي من حيث هي قائمة خارج شخصيته الخاصة ومستقلة عنها- فإن الشعر قد يكون قصصيا أو وصفيا، فإذا تناولها ذاتيا، أي: من حيث هي -بصفة أولية- تجربة شخصية، فإن الشعر يكون غنائيا. والشعر المسرحي يجمع بين هذين المنحيين، فهو موضوعي بالنسبة للشاعر، ولكنه يعرض المادة عرضًا ذاتيًّا من خلال شخصيات خيالية.
ولن نتكلم هنا عن الشعر الموضوعي؛ لأننا سنتحدث عن ذلك في الفصل الخاص بفن المسرحية، فهو -فيما نرى- أنسب مكان لهذا.
أما الشعر القصصي فهو أثر من آثار العصور المتقدمة، وقد قل كثيرًا -إن لم نقل: إنه تلاشى- في العصور الحديثة. وربما كان السبب في قلته هذه أن القصص وجد أسلوب النثر أكثر طواعية وملاءمة، وبذلك اضمحل القصص الشعري أمام القصص النثري في العصر الحديث.
وقد انقسم العشر القديم قسمين هما:
الشعر الملحمي epic poetry.
وشعر القصة الشعبية ballad.
وأما الشعر الغنائي lyric -وهو يمثل الشعر الذاتي- فهو مرتبط في الأصل بالغناء والموسيقى والعاطفة. ولكن هذا النوع تطور مع التطور الطبيعي للحضارة، ودخل
فيه عنصر التفكير والعقل. وهنا ظهرت أنواع مختلفة للشعر الغنائي، فهناك الأغنية Song، وهي تمثل القسم الغنائي الصرف، ثم هناك أنواع أخرى تعرف بأسمائها في الآداب الأوروبية مثل الـ ode ويمثلها في شعرنا العربي الحديث ما يسمى بالأنشودة، والمرثية elegy، والسونيت Sonnet. ويدل النوع الأول على القصيدة الغنائية ذات الطابع العاطفي القوي، وفيها يظهر تأثر الشاعر، وهي محدودة الطول، بخاصة عندما توجه إلى شخصية معنوية، أو عندما تعبر عن المشاعر الشعبية في مناسبة خاصة مهمة. أما النوع الثاني فيدل على ما يعرف في الشعر العربي بقصيدة الرثاء تقريبًا، وهي القصيدة التي تطفح حزنًا وأسًى. والسونيت قصيدة مركزة، يقصد بها إلى التعبير عن فكرة مفردة أو لحظة شعورية، ولها تكوين خاص، فهي تقع دائمًا في أربعة عشر بيتًا، وهي -من حيث الشكل- تنقسم إلى نوعين: الشكل الإيطالي ويسمى الشكل "البتراركي"، وفيه ينقسم الشعر إلى مجموعتين تنقسم معهما الفكرة في العادة، والشكل الإنجليزي الذي تنقسم فيه القصيدة إلى ثلاث مجموعات، كل مجموعة تتكون من أربعة أبيات، ثم يأتي مقطع ختامي تنمو فيه الفكرة المتصلة بالقصيدة نموًا أكبر، ويسمى هذا الشكل بالشكل "الاسبنسري"1.
أما الملحمة فشعر قصصي طويل، وهي بدورها تنقسم إلى نوعين ظهر أحدهما بعد الآخر. أما النوع الأول فهو "الملحمة التاريخية"، "كملحمة الإلياذة""لهوميروس"، وفيها نجد عنصر الأسطورة، كما نجد التاريخ الواقعي. أما القصة في هذه الملحمة فهي قصة "أخيل"2، وأما الأشخاص الخياليون فيها فينتمون إلى عنصر الأسطورة، وأما التاريخ فقد أثبت البحث عن بعض الحقائق المذكورة في الإلياذة3، ولكن قيمة الإلياذة ليست في أنها تضمنت بعض الحقائق التاريخية، فإنها إلى جانب ذلك قد صورت عادات الإغريق ونظم الحرب والحكم والزواج والعبادات لديهم، وغير ذلك. وكل هذا يعد مادة الملحمة التاريخية، ولكن خلودها بطبيعة الحال يرجع إلى ما فيها من فن. ومن خصائص الملحمة القديمة أنها ألفت لتنشد؛ ولذلك كان المؤلف يبذل جهده لإثارة خيال السامع وتنشيطه.
وأما النوع الثاني للملحمة فهو ما يسمى "الملحمة الأدبية"، وتتميز بأنها لا ترتبط بالتاريخ، ومؤلفها لا يستفيد من كتابات سابقيه كما في الإلياذة مثلا، ولكنه يكتبها تحت سيطرة فكرة خاصة به؛ ولذلك كان عنصر الفكرة أساسيا في الملحمة الأدبية. وإذا كانت
1 نسبة إلى الشاعر الإنجليزي إدموند سبنسر Edmond Spenser "1552-1599".
2 Achile.
3 انظر:
Gilbert Murray: The Rise of the Greek Epic.، Oxford 1947 p. 183.
الملحمة القديمة ألفت لتنشد فإن الملحمة الأدبية إنما ألفت لتقرأ، فالتأثير فيها صادر عن الفكرة وعن طريقة عرضها، ومن ثم كان مؤلفها حريصًا على تماسك الموضوعات التي يطرقها بحيث تقوى الفكرة. ومثال الملحمة الأدبية ملحمة "الفردوس المفقود" لملتن1.
وإذا كانت البطولة في الإلياذة لشخصية خارقة هي شخصية أخيل، فإن البطولة في الفردوس المفقود قد تمثلت في جانب آخر، ربما كان أقوى، هو جانب الفكرة. إنها تمثل بطولة الصراع في ميدان الحياة بين الخير والشر؛ ولذلك كانت شخصية "آدم" فيها أعنف من شخصيات الملاحم السابقة2.
ومما يؤسف له أننا لا نستطيع هنا أن نتحدث عن الملحمة في الشعر العربي؛ لأن المحقق -حتى الآن- أن هذا النوع الأدبي لم يوجد ولم توجد فكرته عند شاعر عربي معروف، وإن كان من الواجب أن نلتفت هنا إلى أن السير الشعبية قد تضمنت قدرًا كبيرًا من الشعر، يؤدي -إلى حد بعيد- دور الملحمة "الهوميروسية". وقد ورد على سبيل المثال في قصة عاد الأوسط التي رواها عبيد بن شرية الجرهمي 694 بيتًا من الشعر، في حين يروي وهب بن منبه في كتابه "التيجان" كثيرًا من الشعر على لسان أناس عاصروا تُبّعًا، وكان لهم دور في قصته.
وهذا الشعر كله إنما يروي فيه تُبع سيرة حياته كاملة، غزواته وفتوحاته، معاركه وانتصاراته، ممزوجة كلها بتأملاته وآرائه. كما نلمح في هذا الشعر ما يلقي الأضواء على معارف العرب في عصرهم بالنجوم والشعوب والصناعات، نلمح أيضًا عاداتهم وتقاليدهم في السلم والحرب3، وكل هذه الظواهر تمثل الصور التي تمثلت في الملحمة، وكل ما هناك من فارق هو أن مؤلف "الإلياذة" معروف لنا -برغم ما قد يثار أحيانًا حول شخصيته من شكوك- في حين أننا نجهل حتى الآن مؤلف تلك الأشعار العربية، وهو فارق -بعد- ليس جوهريًّا.
وأما "البالاد" فقصة أقصر من قصة الملحمة، وهي تحفظ وتنشد "وربما كان الأغلب عليها في الأيام الأولى أن تغنى" في جلسة واحدة. وهي تتناول مغامرة أو
1 جون ملتن John Milton "1608-1674" شاعر إنجليزي يعد أعظم الشعراء الإنجليز بعد شكسبير، وأشهر آثاره ملحمة "الفردوس المفقود" Paradise Lost عام 1667.
2 انظر:
C. M. Bowra: From Vergil to Miton.، London 194 p. 199.
3 فاروق خورشيد: في الرواية العربية، مطبوعات الجمعية الأدبية المصرية، نشرته الدار المصرية للطباعة والنشر بالقاهرة، ص179.
واقعة واحدة لقصة شعبية. وكذلك يوحي أصل كلمة ballad بالرقص، ومنها رقص "الباليه ballet" المعروف. ومعنى هذا أن البالاد كانت قصة تنشد أو تغنى في أثناء الرقص وعلى إيقاعه، ولكنها في نماذجها الحديثة قد استقلّت عن الرقص وعن الغناء على السواء، وهي أقرب إلى أن تقوم بمهمة القصة القصيرة حين تتوجه إلى موضوع شعبي.
وإذا كنا لا نجد للملحمة نماذج مباشرة في الأدب العربي فإن الأمر يختلف بالنسبة لشعر البالاد، وبعض الدارسين يجد في الشعر العربي محاولات قريبة الشبه من هذا النوع الشعري1، تتمثل له في شعر "الصعاليك" في العصر الجاهلي، وشعر هذيل، وفي شعر عمر بن أبي ربيعة، وغيرهم. على أننا نجد محاولات معاصرة في الأدب العربي لكتابة القصة القصيرة الشعرية، كمحاولات الشاعر خالد الجرنوسي، إلا أن هذا اللون غير رائج؛ لأن القصة القصيرة النثرية تملأ الميدان.
وهكذا نجد أننا في غير حاجة لأن نشغل أنفسنا كثيرًا بالشعر القصصي؛ لأنه لا يعيش بيننا الآن.
أما الشعر الغنائي، فإن لدينا منه تراثًا هائلًا إن لم يكن كل تراثنا الشعري غنائيًّا، وقد ذكرنا أقسام هذا الشعر الغنائي في الأدب الأوروبي. والحق أننا لا نستطيع أن نتكلم عن هذه الأقسام في الشعر العربي القديم، وهي وإن اتفقت جميعًا في أنها تمثل الشعر الذاتي العاطفي، تختلف فيما بينها من حيث الإطار والبناء الفني، كما أنها تتفاوت في مدى صلتها بالعاطفة وبالفكرة، أما القصيدة الغنائية في الأدب العربي فقد كان لها في كل حالة إطار واحد. ومحاولة الخروج إلى أطر جديدة، كانت في الغالب تتمثل في الشعر الشعبي، كالزجل والقوما وكان وكان وغيرها، أما القصيدة التي تحددت أغراضها منذ وقت مبكر في المدح والرثاء والهجاء والفخر والغزل وما أشبه، فقد استمرت بشكلها التقليدي، حتى عند الشعراء المحدثين الذين كانوا يتبعون تلك التقاليد.
ولكن يحق لنا أن نسجل هنا أن نوعًا جديدًا من القصيدة قد أخذ مكانه في العصر الحديث عند الشعراء الأوروبيين، وبدأ يحتلّ مكانًا واضحًا عند شعرائنا الذين يحملون لواء التجديد. وهذا النوع يسمى "القصيدة الطويلة"، وهو -في رأيي- يعد تطورًا للملحمة الأدبية من جهة، ويرتبط بالقصيدة الغنائية من جهة أخرى، فالقصيدة الطويلة هي حلقة التطور التي ينتهي عندها الشعر القصصي، والشعر الغنائي.
1 انظر أحمد كمال زكي، شعر الألباد، مجلة الثقافة، العدد 828، سنة 1952.
وهنا لا بد أن يتساءل القارئ: بماذا تفترق القصيدة الطويلة عن القصيدة الغنائية؟ وقد حاول "هربرت ريد"1 أن يجيب عن هذا، فوجد أن مجرد الطول لا يجعل من القصيدة عملا شعريا ضخما، فالفرق بين القصيدة الطويلة والقصيدة الغنائية فرق في الجوهر. فنحن نسمي القصيدة في العادة قصيدة غنائية، وكان ذلك يعني في الأصل قصيدة من القصر بحيث يمكن تلحينها وغناؤها في فترة معينة، ويمكن تعريف القصيدة الغنائية من وجهة نظر الشاعر بأنها قصيدة تجسم موقفًا عاطفيًّا مفردًا أو بسيطًا. إنها قصيدة تعبر مباشرة عن حالة أو إلهام غير منقطع. أما القصيدة الطويلة فهي قصيدة تربط بمهارة بين كثير من تلك الحالات العاطفية، وإن كان من الواجب هنا أن تصحب المهارة فكرة عامة واحدة، هي في ذاتها تكوّن وحدة عاطفية. ثم يقول "ريد": وأريد أن أؤكد بصفة خاصة كلمتي العاطفة والفكرة في سياقهما الخاص، فمن الممكن أن نجد أنهما هما الكلمتان اللتان بتسلطهما على طبيعة الشعر، توصلان إلى التفريق الجوهري الذي نرغب في تقريره بين القصيدة الطويلة والقصيدة الغنائية. وينبه "ريد" إلى أن بعض الأنواع الأدبية يكون الطول فيها ملزمًا بحكم موضوعها، كقصص كانتربري2، فهي طويلة بحكم أن الشاعر كان عليه أن يسرد مجموعة من القصص في الشعر، وليس هذا هو العمل الشعري الضخم أو الطويل. وينتهي "ريد" إلى أنه عندما تسيطر الصورة على المعنى "أي: عندما يحدد المعنى تحديدًا كافيًا لينظر إليه بوصفه وحدة مفردة، أي: حين يؤخذ منذ البداية حتى النهاية في توتر ذهني واحد" عندئذ يمكن أن تعرف القصيدة بحق بأنها "قصيرة". ومن جهة أخرى، فإنه عندما يكون المعنى معقدًا بحيث يتحتم على العقل أن يستوعب أجزاء منفصلة، وينظم هذه الأجزاء أخيرًا في وحدة لها مدلول عام، عندئذ تعرف القصيدة بحق بأنها "طويلة"3.
وهذا "البناء" الداخلي للقصيدة الطويلة يدخل التعقيد عنصرا أساسيا فيه، في حين أن البساطة وتحدد العاطفة هما من طبيعة القصيدة الغنائية.
وقليل من النقاد من التفت إلى العلاقة بين الطول في الأعمال الفنية وبين التعقيد والعظمة. ويمكن الانتهاء في ذلك -مع "ريد"- إلى قاعدة عامة، هي أن السطر الواحد من الشعر، أو المقطع الواحد، تتهيأ له فرصة أوسع لأن يكون عظيمًا إذا هو جاء في عمل شعري طويل. ومعنى هذا أن التعقيد يصعب تحققه في الحيز المحدود "مفهوم هنا
1 انظر:
H. Read.، Collected Essays in Literary Criticism. Faber- London 1951. p. 58. ff.
2 The Canterbury Tales-Chaucer للشاعر الإنجليزي تشوسر.
3 نفسه ص19.
أننا لا نتحدث عن التعقيد بما هو ظاهرة بنائية نفسية في القصائد أو الأعمال الشعرية الطويلة". وليس الطول في ذاته هو الذي يشعر بالتعقيد أو يبعث عليه، ولكن كل قسم بمفرده يستمتع بمزيد من الإيحاء والمعنى بسبب علاقته بالكل. فمثلا آخر كلمة نطق بها "هاملت" إزاء مشكلة الحياة والموت هي: "إن البقية صمت! "، وهي عبارة لا تعطي حلًّا واحدًا للمسألة، وإنما هي توحي بأن البقية راحة، ولكنها من الممكن أن تعني أن "هاملت" لن يستطيع الكلام بعد، ويمكن أن تعني كذلك أنه مهما طال اهتمام الكائنات الفانية، فإن الصمت يتلو جميع أسئلتها عن الحياة المستقبلة.
ومن كل هذا يتضح لنا ما قررناه من أن "القصيدة الطويلة" نوع أدبي يعد من جهة تطورًا للقصيدة الملحمية الأدبية، كما أنه في الوقت نفسه يمكن أن يعد تطورًا للقصيدة الغنائية بعد أن تركت بدايتها الغنائية العاطفية الصرف، وتطورت بتطور الحضارة، ودخل فيها العنصر الفكري. ففي "القصيدة الطويلة" تتجمع صفات "الملحمة الأدبية" مع فرق ملحوظ في الطول؛ لأن الملحمة أطول في العادة بكثير. وفيها كذلك تتجمع صفات القصيدة الغنائية الفكرية "الأنشودة ode" بصفة خاصة.
ويحدثنا "جايتان بيكو Gaetan Picon" وهو من أبرز النقاد الفرنسيين في العصر الحديث، عن أن الشعر المعاصر قد أصبح نشاطًا روحيًّا مصاحبًا للواقع، فهو ليس سوى إبداع فني للواقع. ويستوي أن يكون الواقع هنا خبرة نفسية، أو موضوعًا وصفيًّا، أو قصة تاريخية، أو سوى ذلك.
والقصيدة الطويلة حشد كبير من هذه الأشياء "الجاهزة" التي تعيش في واقع الشاعر النفسي، والتي تتجمع وتتضام، ويؤلف بينها ذلك الخلق الفني الجديد ليخرج منها عملا شعريا ضخما. فأنت تجد فيها الخرافة والحقيقة والقصة والواقعة والزمن والخبرة الإنسانية والمعرفة، أو لنقل: تجد فيها آفاقًا فسيحة متعددة من الحياة. وهذا كله ينتقل من صورته الأصلية أو من ماضيه، ليحتل صورة جديدة، وليستقر في حاضر جديد، وكأنه قد خلق خلقًا آخر. و"الشعر" في القصيدة الطويلة هو ذلك الخلق الآخر، ولا تتجمع هذه الآفاق المتعددة بصورة اعتباطية، وإلا أصبحت أمشاجًا لا لون لها ولا طعم، ولأصبحت القصيدة شيئًا آخر، لا هي بالطويلة ولا بالغنائية، ولكنها تتجمع في خلقها الجديد ليربط بين أجزائها رباط حيوي هو ما سماه "ريد" من قبل "الفكرة".
وإذا كنا قد أطلنا الكلام عن "القصيدة الطويلة" فلأنها أهم نوع شعري في الأدب المعاصر. وقد بدأ شعراؤنا -كما قلت- ينصرفون إليها، وكان انصرافهم إليها أمرًا من
الصعوبة بمكان؛ لأنهم كانوا محتاجين إلى أن يغيروا فلسفتهم الفنية تغييرًا جوهريًّا حتى ينتقلوا من جماليات الشعر العربي الغنائي القديم إلى جماليات "التجربة" و"الفكر الفعال"، وما يصحب ذلك من تغييرات جوهرية في "الإطار" و"التكوين".
وقد صحب هذه التغيرات تغيرات أخرى في الشكل، تناولت الوزن والقافية، وهما العنصران التقليديان في كل الشعر القديم.
وسندرس فيما يلي بعض النماذج الدالة من الشعر الذي ينهج النهج القديم، وبعضًا آخر يمثل محاولات التجديد. والهدف من هذه الدراسة النقدية هو أن نكمل الحديث في نظرية الشعر من خلال الدراسة العملية لهذه النماذج.
قصائد لشوقي وحافظ والعقاد "دراسة تطبيقية":
كلنا نعرف -أو ينبغي أن نعرف- أن شعر "شوقي" في العصر الحديث هو خير مثال للقصيدة التقليدية، وهو رأس مدرسة شعرية لم يعد لها ما تمتعت به من قوة النفوذ وقوة الأنصار. وعلى المثل الفنية التقليدية التي كانت هذه المدرسة تأخذ نفسها بها ثار "العقاد" و"المازني" وحملا حملتهما النقدية منذ وقت مبكر على شوقي وأنصار مذهبه، وقد وضعا المقاييس الجديدة التي يقيسان بها الشعر القديم، وكان معهما من حيث النزعة عبد الرحمن شكري، والطريف أنهم جميعًا يكتبون الشعر. وسنتخذ هنا موضوعًا لدراستنا ثلاث قصائد قيلت في موضوع واحد هي: قصائد شوقي وحافظ والعقاد، أما الموضوع المشترك "شكسبير"، فقد كتب عنه الثلاثة بمناسبة الاحتفال بذكراه، وسنرى الآن كيف تناول كل منهم الموضوع.
والواقع أننا نستطيع أن نتحدث عن قصيدتي شوقي وحافظ معًا؛ لأنهما تتفقان إلى حد كبير في المنهج الفني، والملاحظات التي سنسجلها هنا تنطبق كذلك على كل شعرهما دون أدنى مخاطرة. وهما يشتركان هنا على الأقل، في:
1-
الصياغة.
2-
البناء الشعري.
3-
طريقة تناول المعاني.
4-
الارتباط بالمأثور اللغوي القديم، وبصور التعبير التقليدية.
5-
التصوير.
فشوقي وحافظ، ككل الشعراء الذين يتبعون المدرسة القديمة، يشتركون في هذه الظاهرة، ولذلك نجدهم يحتفلون احتفالًا كبيرًا بالصنعة الشكلية، ويصرفون أكبر
جهدهم إلى تكوين الأبيات الرنانة التي تتمتع بوقع موسيقي كبير، والتي تغلب عليها النزعة الخطابية. وهذه الناحية في شعرهم هي التي غالبًا ما تروع القارئ أو السامع بصفة خاصة، وهي تلهيه عما وراء هذه الزخارف والتلوينات الصوتية من قيم شعرية، صحيح أن عنصر الموسيقى عنصر لازم ومهم في العمل الشعري، ولكن ينبغي أن نفرق دائمًا بين موسيقى سطحية مصنوعة، وموسيقى تنبع من النفس لتنتقل إلى صميم النفس. وربما كانت موسيقى حافظ أكثر هدوءًا منها عند شوقي، ولكنها -بعد هذا- لا تجاوز الأذن. أما ظاهرة البناء الشعري فهي قائمة في طريقة نظم القصيدة، وفي الاعتبارات الأساسية الخاصة بمفهوم العمل الشعري. فلم يكن شعراء المدرسة القديمة ينظرون إلى العمل الشعري بوصفه عملا متكاملا، وبنية عضوية حية، تتفاعل عناصرها جميعًا كما تتفاعل الأعضاء المختلفة في الجسم الحي، ولكنهم كانوا ينظرون إلى القصيدة على أنها عدد من الأبيات قد يقل وقد يكثر. ومن هنا تحددت طريقتهم في نظم القصيدة، فهم لا ينظمون القصيدة وإنما ينظمون أبياتًا. ينظمون البيت أو البيتين على فترات نفسية متباعدة، ثم إذا هم يضمون هذه الأشتات بعضها إلى بعض ليؤلفوا منها عددًا من الأبيات يسمونه القصيدة. وهذا معناه أن القصيدة تفقد نسقها الفني، فإذا بها انطباعات شتى نتيجة لوقوع الشاعر في حالات نفسية متباعدة ومختلفة. وليست نتيجة ذلك فقدان النسق الفني في القصيدة فحسب، بحيث يفتقد فيها الخيط النفسي الذي ينتظمها من أولها إلى آخرها، بل إن ذلك يورط الشاعر في كثير من الأحيان في أن يكرر نفسه، وأن يعود إلى عرض معانٍ سبق أن تناولها في أجزاء أخرى. وهذا واضح عند شوقي، فقد كان يبدأ المعنى ويستوفيه أو يكاد، ثم إذا به بعد عشرة أبيات أو يزيد يعود إليه مرة أخرى، فإذا بمحصل القصيدة قليل، برغم كثرة أبياتها.
وكذلك كان حافظ، فقد فقدت القصيدة عنده نسقها الفني، كما ظهر فيها التكرار واضحًا، وهذا من شأنه أن يشكك القارئ في أن الشاعر يقدم إليه أجزاء من خبراته وانفعالاته، ومن انطباعاته الخاصة، ويوحي إليه أن الشاعر إنما يتكلف الحديث في الموضوع تكلفًا، وأنه في كثير من الأحيان لا يجد ما يقوله، فيقول كلامًا كل ما فيه من شعر أنه موزون مقفى.
وأما الظاهرة الثالثة، وهي طريقة تناول المعاني وعرضها، فإن الطريقة التقليدية تقوم على أساس أن يعرض الشاعر المعنى، سواء أكان من عنده أم كان معنى متداولًا، أن يعرضه في صورة لفظية خاصة، وإن كان ما يميزه عن غيره هو هذه الصورة. والحق أن هذا الاعتبار يدعو إلى الشك في فهم هؤلاء الشعراء لمهمتهم، فليست مهمتهم أن يعيدوا بناء المعاني التي ألفها الناس أو سبق أن تناولها الشعراء، وإن كان ذلك في صورة
لفظية جديدة، ولكن مهمتهم الأساسية هي أن يضيفوا إلينا محصولًا جديدًا من الخبرات النفسية، ومشاعر أعمق من مشاعرنا العادية؛ ولذلك نجد "شوقيًّا وحافظًا" يشتركان في قصيدتيهما في كثير من المعاني، وكل ما يمكن أن يكون بينهما من فرق هو أن هذا يعرض المعنى في صورة لفظية، وذاك يعرضه في صورة أخرى. وصحيح أن مجرد اختلاف الصورة اللفظية يؤدي إلى اختلاف في المعنى، وهذا مسلم به بوجه عام، ولكن يلاحظ أن "شوقيا" و"حافظا" قد حلقا في آفاق واحدة، أو غاصا في أعماق قريبة متشابهة. وكل ما في الأمر أن "شوقيا" كان أكثر تهويلا في عرضه لهذه المعاني المشتركة، ولكنهما يشتركان كذلك في تناولهما للمعنى على حدة، مستقلًّا في كثير من الحالات عما قبله وما بعده. وبعبارة أخرى نقول: ليست المعاني عندهما تأتي نتيجة لامتدادات تطورات للموقف النفسي "موقف الشاعر" الذي دفع الشاعر عند اللحظة الأولى لكتابة الشعر، ولكنها دفعات بعيدة مستقلة، فإذا بها في القصيدة أبيات أو مجموعات من الأبيات متباعدة، تكاد تكون مستقلة، فهما إذن يتناولان المعاني الجزئية على حدة، ثم هما يضمان هذه المعاني آخر الأمر في صورة نهائية. وأكتفي -منعًا للإطالة- بتقديم هذه الأبيات من قصيدة شوقي:
دستورهم1 عجب الدنيا وشاعرهم
…
يد على خلقه لله بيضاء
ما أنجبت مثل شكسبير حاضرة
…
ولا نمت من كريم الطير غناء
نالت به وحده إنجلترا شرفًا
…
ما لم تنل بالنجوم الكثر جوزاء
لم تكشف النفس لولاه ولا بليت
…
لها سرائر لا تحصى وأهواء
شعر من النسق الأعلى يؤيده
…
من جانب الله إلهام وإيحاء
فبقليل من الحس الأدبي نستطيع أن ندرك أن كل بيت من هذه الأبيات قد نظم أولا مستقلا عن الأبيات الأخرى، ثم جمع الشاعر بينها في هذا الترتيب الذي كان من الممكن أن يكون على نحو آخر، والذي لا ترتبط فيه الأبيات برباط حيوي، وبخاصة إذا نظرنا إلى العلاقة المفتعلة بين البيت الأخير وما قبله.
أما الظاهرة الرابعة وهي ارتباطهما بالمأثور اللغوي القديم وبالصور التقليدية القديمة، فلعله يتضح لنا في كل بيت وكل صورة، وربما كانت هذه الظاهرة أوضح في قصيدة شوقي منها في قصيدة حافظ. وبنظرة سريعة في القصيدتين تتضح لنا هذه
1 يعني الإنجليز.
الظاهرة. وهي هنا أننا حين نقرأ قصيدتيهما نحس أننا نقرأ شعرًا بيننا وبين لغته شيء من التباعد، فليست لغة شعر شوقي وحافظ هي اللغة التي تستمدّ من واقع حياتنا عناصر التعبير، ولكنها تستمد هذه العناصر من مصدر آخر يبعد بها عن ذلك الواقع.
وظاهرة التصوير تكشف لنا بوضوح عن هذه القضية. وقد سبق أن تحدثنا عن خصائص الصورة في الشعر القديم، وهذه الخصائص هي ذاتها خصائص الصورة في شعر شوقي والمدرسة التقليدية. وفي قصيدة "شكسبير" نقرأ له:
بمن أماتك قل لي: كيف جمجمة
…
غبراء في ظلمات الأرض جوفاء
"كانت سماء بيان غير مقلعة
…
شؤبوبها عسل صاف وصهباء"
فهو هنا يصف جمجمة شكسبير وإنتاجها الغزير، فإذا به يصور هذا الإنتاج بأنه عسل وخمر. ولست أدري هل يثير إنتاج شكسبير في النفس ما يثيره العسل؟! إن العسل يثير الشعور بالحلاوة، وقد يثير في النفس "ميوعة"، وإنتاج شكسبير يثير في النفس المرارة أو "المزازة" أو هما معًا أو شيئًا مثلهما. والخمر وسيلة من وسائل الانطلاق من الحياة والفرار من الواقع، وإنتاج شكسبير يغوص بنا في أعمق أعماق النفس البشرية، ويعمق في نفوسنا الإحساس بالحياة وفهم حقائقها، فالصورة إذن في وادٍ والمشاعر التي كان ينبغي تصويرها في وادٍ آخر. وليس ذلك إلا لأن الصورة لم تتجاوز الشكل المحسوس، ولم يستغلّ الشاعر إيحاءاتها استغلالًا صالحًا، ولم يلتفت إلى إشعاعاتها النفسية؛ ولذلك كانت صورة كاذبة؛ لأنها تصور شعورًا كاذبًا. فالشاعر لم ينفعل بشخصية "شكسبير" ويتأثر بها قبل أن يصورها لنا، بل راح يستخدم مقدرته على نظم الكلام في أن يصوغ قصيدة في مناسبة ما كان يجدر به ألا يشارك فيها وهي ذكرى "شكسبير". ومن هنا حمل نفسه على شيء لم ينفعل به، وكأنه يكتب موضوعًا إنشائيًّا كالذي يكتبه التلاميذ في المدارس مكرهين "تقسيمة القصيدة إلى مقدمة وموضوع وخاتمة أثر من آثار ذلك".
وإذا بحثنا عن السبب في فساد هذه الصورة وجدناه في تأثر شوقي بقيم خاصة تقليدية لبعض الألفاظ التي استخدمها القدامى وصوروا من خلالها مشاعرهم الخاصة ومثلهم العليا. كان من أبرز ما يشخص السراة أن يقدم الرجل لضيوفه العسل والخمر، وهو حينما يقصد إلى التمدح والتفاخر لا يفوته أن يذكر ذلك. ومن هنا أصبح للفظتي العسل والخمر هذه الدلالة على عظمة الشخص الذي يقدمها بسخاء إلى الآخرين،
ولا شك أن العناصر التي استخدمها شوقي "السماء، الشؤبوب، العسل، الصهباء" لها صلتها الوثيقة بحياة البيئة العربية القديمة، ومن ثم كان لها إيحاءاتها وإشعاعاتها النفسية الخاصة لدى العربي القديم. أما حينما يعتمد عليها شوقي، في مصر، وفي القرن العشرين؛ لكي ينقل إلينا من خلالها إحساسه إزاء إنتاج شكسبير، فإنه يكون من الغريب أن تنقل هذه العناصر بقيمها القديمة في موضوع جديد، ومن هنا كان التباعد الشنيع بين ما توحيه الصورة عند شوقي وبين الموضوع الذي يتحدث فيه.
هذه الظواهر الفنية المختلفة تجمل لنا فن الشاعرين. وهناك ملاحظة عامة يشترك فيها الشاعران كذلك، وهي جهلهما بالموضوع الذي تعرضا له، فالصورة التي يصور بها شوقي شكسبير صورة غريبة عن شكسبير من جهة، ثم هي لها طابع عام يصلح أن يكون لغير شكسبير من جهة أخرى. فهو حين يقول عن شعر شكسبير أنه:
شعر من النسق الأعلى يؤيده
…
من جانب الله إلهام وإيحاء
من كل بيت كآي الله تسكنه
…
حقيقة من خيال الشعر غراء
وكل معنى كعيسى في محاسنه
…
جاءت به من بنات الشعر عذراء
فليس هذا إلا وصفًا عامًّا يصلح أن يقال لغير شكسبير كذلك من كبار الشعراء. ومعنى هذا أن الشاعر لا يشخص لنا الظاهرة التي يتحدث عنها، بل يتناولها تناولا عاما.
وليس حافظ أقل من صاحبه في هذا التناول العام، فهو يقول عن مسرحية "هاملت" للشاعر:
وأقعدني عن وصف "هامليت" حسنها
…
وفي مثلها تعيا البراعة والفهم
وأعتقد أن هذا الوصف لمسرحية هاملت لا يعني شيئًا آخر سوى أن "حافظًا" لم يجد ما يقوله عنها، فخلع عليها صفة الحسن، وليس أعم منها بين الصفات، ثم إن الإنسان لا يدري للحسن أدنى علاقة بالمسرحية.
وكل هذا يصل بنا إلى حقيقة عامة هي أنهما لم يتناولا شكسبير من حيث هو ظاهرة إنسانية فريدة كان لها وقع خاص في نفسيهما، فانفعلا إزاءها بشتى الانفعالات، ثم أرادا أن يصورا لنا كل ذلك، وإنما قد تناولا شكسبير على أنه موضوع ينبغي أن
يكتبا فيه. وحافظ هنا يشترك مع شوقي في ظاهرة عامة هي أنه كان دائمًا يقف خارج الموضوع ويطل عليه من بعيد.
فإذا ما قرأنا قصيدة العقاد -وقد أخرنا الحديث عنها لأننا نريد أن ننظر إليها على أنها تمثل المذهب المقابل في الشعر، وهو الذي يقوم على الفهم الحديث- وجدنا أن القصيدة لم تكن -فيما نرى- "بنية حية"، بل كانت مجموعة من المعاني تدور حول موضوع واحد، ولكنها -برغم ارتباطها بموضوع واحد- لم تكن أجزاؤها ترتبط فيما بينها ارتباطًا عضويًّا. ومنهج العقاد في قياس البنية الحية للعمل الفني هو أن يغير من وضع أبيات القصيدة وترتيبها أو يحذف منها، أو يزيد فيها أبياتًا على نسقها، وقد طبعت قصيدته طبعتين مختلفتين، فهناك أبيات أثبتت في إحدى الطبعتين وليست مثبتة في الأخرى. ثم هناك اختلاف في ترتيب بعض الأبيات بين الطبعتين، ثم إن الشاعر قد غير بعض الألفاظ في أكثر من بيت، وهذا معناه أن صياغة القصيدة لم تخلق منها البنية المستوية.
هذا من مجرد شكل القصيدة، ولا تتمثل البنية الحية في الشكل وحده؛ لأن الشكل مرتبط دائمًا بالمضمون؛ ولذلك ينبغي أن ننظر في صميم "البنية النفسية" للقصيدة. وبعد قراءات كثيرة للقصيدة نستطيع أن نطمئن إلى أن النسق النفسي لم يتوافر للقصيدة، فما تزال وحداتها النفسية مفرقة، لا تسلم كل واحدة منها إلى الأخرى. فهناك كثير من الانقطاع وكثير من البدايات يصادفنا، وقد نجد الشطر الواحد قائمًا بذاته، ويمكن أن يفصل عن البيت ليجري على الألسن مجرى المثل، كما هو مألوف في نسق الشعر القديم. من ذلك:
خدعت بالخلد تستدني أقاصيه
…
"ما الخلد من أرب النوامة النهم"
ومع ذلك أنستطيع أن نقول: إن العقاد يشبه في هذه الناحية صاحبيه؟ الحقيقة أن العقاد كان أكثر منهما تعمقًا للشاعر وتصويرًا لجوانب إنسانية بارزة في شخصيته. وكان العقاد نفسه عميقًا في إحساسه بهذه الشخصية، كما كان عميقًا في معانيه التجريدية التي التمس لها الصور الحسية الحية ليزيدها وضوحًا، وتأثيرًا في النفس. ومن ذلك قوله:
قضيت دهرك تلهيهم وتضحكهم
…
يا للعجائب من أضحوكة القِسَم
لا يوثق الهر رئبالًا ليضحكه
…
فاعجب من الناس لا تعجب من البهم
فهو هنا يفترق عن صاحبيه في أنه لا يتناول معاني تقليدية، ولا يلجأ إلى صورة حسية مألوفة، ولكنه يشتق معانيه من شعوره، كما يلمس صورة جديدة من حيث عناصرها ومن حيث تركيبها. وهذا يدل على أن الشاعر يبذل جهدًا نفسيًّا في كتابته هذا الشعر، ولا يتناوله تناولا كيفما يتفق له، وحسبما يملي عليه الشعور العابر.
إذن فقد افترق العقاد عن صاحبيه في معانيه وفي طريقة عرضه لهذه المعاني. أما صوره فقد رأينا أنها صور جديدة، تحمل طابعًا إنسانيًّا من حيث إنها تجسم لنا حقائق إنسانية تجسيمًا واضحًا، يثير في نفوسنا تلك المعاني الإنسانية. وهذه الصور يستغلها الشاعر دائمًا في أن يدفع بالمعنى المجرد إلى نفس القارئ من خلال تلك الصور الحسية الموحية.
وقد سبق أن رأينا تنافرًا بين ما توحيه الصورة عند شوقي وما يريد أن ينقله إلينا من معنى، ولكن ذلك يختفي في قصيدة العقاد، فإيحاءات الصور هي نفس المعاني التي يريد الشاعر أن يوصلها إلى نفوسنا، فليس بين الصورة بإيحاءاتها وتلك المعاني أي لون من التنافر. وهذا معناه أنه في حين نجد أن "شوقيا" -وإلى حد ما "حافظا"- يلجأ إلى التصوير بما هو صنعة وزخرف للشكل، نجد العقاد يلجأ إلى التصوير ليعطي من خلاله معنى حسيا حيا. وبعبارة أخرى يصدق العقاد في تصويره حيث يكذب شوقي وأحيانًا حافظ، وصدق التعبير خط عريض من خطوط المذهب الجديد في الشعر.
على أن كثيرًا من رواسب المدرسة القديمة ما زال يتمثل في قصيدة العقاد، وأعتقد أن هذا الأمر طبيعي. فالقصيدة كتبت في وقت مبكر "1916"، في وقت كان الشعر فيه ما يزال تقليدًا للقديم، ثم إن التطور لا يحدث طفرة واحدة، فنحن لم نتخلص من مخلفات المدرسة القديمة إلا منذ سنوات.
والرواسب القديمة التي تتمثل في قصيدة العقاد تتضح في نسقها، فهي ما تزال متأثرة بالتصميم الخطابي أو طابع الخطابة في القصيدة القديمة. وأنت حين تطالعها تجد نفسك مضطرا لأن ترفع صوتك وإن كنت تقرؤها لنفسك. وليس ذلك في أبيات الحكمة التي يطلقها الشاعر من حين إلى آخر فحسب، ولكنه في طريقة النظم بكاملها، تلك الطريقة التي تجعل للألفاظ ولوقعها قيمة كبيرة تلهي القارئ -عند أول قراءتها- عما يمكن أن تحتوي عليه من معنى. وكثير من الأبيات تسمعه فيروقك سماعه لأول وهلة، فإذا بحثت عما فيه وجدت -بعد الجهد- معنى عاديا. والسبب في ذلك طريقة النظم التي حتمت في بعض الحالات صورًا من التقديم والتأخير، فكثر بذلك استخدام الضمائر العائدة. وفي هذه القصيدة يرتبط العقاد -إلى جانب ارتباطه
بالطابع الخطابي وبطريقة النظم- يرتبط كذلك بمعجم الشعر القديم، فما تزال كثير من ألفاظه أثرًا من آثار الشعر القديم، وهي ألفاظ فقدت كثيرًا من حيويتها بالنسبة لنا، وسأسوق هنا بعض الأبيات التي توضح تلك الرواسب. فمن الناحية الخطابية نبدأ بمطلع القصيدة:
أبا القوافي ورب الطرس والقلم
…
ماذا أفادك صدق العلم في الأمم
ثم حين ترتبط الخطابة بالحكمة، وحين تتوالى أبيات الحكمة:
ما أكثر البر باسم لا غناء به
…
وأندر البر بالأرواح والنسم
لا يقدر الناس يومًا أجر سادتهم
…
وإنما يقدرون الأجر للخدم
أجر العظيم زماع في جوانحه
…
يجزيه بالأمن أحيانًا وبالألم
ثم حين تدعو طريقة النظم إلى تعقيد التركيب اللفظي نتيجة لكثرة الضمائر العائدة:
أغناه باللهو عما أنت ضامنه
…
من ليس يغنيك عنه بالنهي العمم
أما الارتباط بمعجم الشعر القديم فيتضح في استخدام ألفاظ مثل: الأطم واللمم والأين وذرى إرم. وليس الارتباط بالألفاظ وحدها بل بصور التعبير التقليدية.
أو يكبروك فماذا قول مسرجة
…
للشمس هذا ضياء الكوكب العلم
أو في قوله:
تقاربت عندك الأقدار والتهمت
…
حياتك الخلق طرا كل ملتهم
مما يذكر بمعاني المدح في القصيدة القديمة.
ولكن ذلك كله لا يجعل قصيدة العقاد قصيدة تقليدية من كل الوجوه؛ لأن القصيدة -بعد- قد تضمنت أجزاء من تجاربه، ومحاولة جادة وصادقة لتصوير هذه التجارب.
قصيدة لصلاح عبد الصبور "دراسة تطبيقية":
وكان لا بد -مع تطور الوعي الفني- أن يحاول الشعراء فيما بعد أن يتخلصوا من رواسب القصيدة الغنائية القديمة بألفاظها وصورها وشكلها وكل مبادئها الفنية، وأن يؤصلوا مبادئ جديدة يحققونها في أشعارهم. وقد مر بنا نموذجان لهذا الشعر الجديد، أحدهما للشاعرة العراقية "نازك الملائكة" والثاني للشاعر السوداني "جيلي عبد الرحمن". ويعرف العالم العربي الآن عددًا لا يحصى من الشعراء الجدد الذين يمثلون الاتجاه الجديد في الشعر العربي، وقد تكاثر إنتاج هؤلاء في الأعوام الماضية، ولست في مجال إحصاء للشعراء الذين يتأثرون بالمنهج الجديد في القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت وغيرها، فإن عددهم الآن يفوق الحصر، ولكننا لو وقفنا أمام قصيدة كقصيدة "الملك لك"1 لتبينت لنا خصائص القصيدة الجديدة. والحق أنها الخصائص التي تتجمع فيما سبق أن سميناه "القصيدة الطويلة"، وهي خصائص فكرية وفنية. فهناك الفكرة أو الشعور العام الذي يسير على كل وحدات القصيدة ليجعل منها جميعًا كلا متماسكًا، وبناء فكريًّا متكاملًا، ثم هناك الشكل الشعري الذي جاء نتيجة حتمية لذلك البناء النفسي. وظهرت فلسفة جديدة لاستخدام الكلمة وتكوين الصورة، كما ظهر في القصيدة الطابع القصصي السردي:
أواحدتي ربما تعجبين، وقد تسألين:
لماذا إذن يا صديقي ينور عينيك فيض سرور وحب؟
حكاية هذا -على طولها- لا تثير السآم.
سأحكي الحكاية من بدئها
…
لحد الختام.
صباي البعيد
أحن إليه..
ويمضي الشاعر يرسم صور الطفولة وأحلامها وأوهامها، والطفولة مرحلة في حياة الإنسان لا تنفصل عن الأم. وهنا يرسم الشاعر صورة حية للأم المصرية بأوهامها ومعتقداتها، وللطفولة، من خلال مشاهد متنوعة:
1 للشاعر صلاح الدين عبد الصبور، نشرت بمجلة "العالم العربي" التي تصدر في القاهرة، عدد أكتوبر سنة 1953، نشرت بعد ذلك في ديوانه "الناس في بلادي".
إلى أمي البرة الطاهرة.
تخوفني نقمة الآخرة.
ونار العذاب
وما قد أعدوه للكافرين
وللسارقين وللاعبين
وتهتف إن عثرت رجليه
وإن طنّنت نحلة حوليه
"باسم النبي"
وفي الليل كنت أنام على حجر أمي
وأحلم في غفوتي بالبشر
وعسف القدر
وبالموت حين يدك الحياة
وبالسندباد وبالعاصفة
وبالغول في قصره المارد
فأصرخ رعبًا
…
وتهتف أمي: "باسم النبي"......
ولست الآن بسبيل الدراسة التحليلية لهذا الشعر أو هذه القصيدة، وقد عرضت جزءًا منها فقط -لأنها طويلة- يكفي لكي نتبين كيف استغنى الشاعر عن معجم الشعر القديم، وصار يستخدم اللفظ الذي ينقل المعنى مباشرة إلى المتلقي، وكيف يستخدم الألفاظ ذات المضمون الرمزي العام "السندباد، الغول، باسم النبي" ليزيد من حيوية الصورة أو المشهد. فإذا تركنا الألفاظ والصور ظهر لنا أن الشكل التقليدي للشعر لا يتمثل في هذه القصيدة. فليس هناك بيت بالمعنى المعروف لبيت الشعر، بل هناك سطور بعضها طويل وبعضها قصير وبعضها بين بين. ليس هناك الشطران المتساويان اللذان ينتهيان دائمًا بقافية رتيبة تتكرر في كل أبيات القصيدة، فلم يبق من كل ذلك إلا وحدة
الوزن، أي: التفعيلة "فعولن، في هذه القصيدة مثلا"، وقد يكون السطر الواحد تفعيلة أو أكثر بحسب دفقة الشعور، وبحسب تكون المعنى تكونًا طبيعيًّا. وهناك في الواقع قافية ولكنها ليست رتيبة ولا مملة، وبذلك تتنوع الموسيقى في القصيدة، وتتلون بحسب المشاعر المتشابكة المعقدة، تمامًا كما تتنوع أنغام اللحن السيمفوني. وبذلك أصبحت القصيدة بنية موسيقية تختلف عن كل قصيدة أخرى، بجانب أنها في الوقت نفسه بنية نفسية وفكرية. ويصطدم الشاعر في إنجازها بكل مشكلات التعبير القديمة، ولكنه يتغلب أخيرًا على كل صعوبة. وهذا التغيير الذي تناول جوهر القصيدة كما تناول شكلها مرجعه -في رأيي- إلى أن فهمنا لمهمة الشعر قد تغير عن الفهم القديم تغيرًا كبيرًا.