المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الشخصيات تصرفات منطقية أو التصرفات الضرورية، ولكنها في الوقت نفسه - الأدب وفنونه - دراسة ونقد

[عز الدين إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌مقدمة الطبعة الثامنة

- ‌افتتاح:

- ‌الباب الأول: نظرية الأدب والنقد الأدبي

- ‌الفصل الأول: نظرية الأدب

- ‌تعريف الأدب

- ‌ مشكلة الأسلوب:

- ‌ العلاقة بين الأديب والمجتمع:

- ‌ مناهج دراسة الأدب:

- ‌الفصل الثاني: نظرية النقد

- ‌معنى النقد:

- ‌أهمية النقد:

- ‌طبيعة النقد:

- ‌قواعد النقد:

- ‌مراحل العملية النقدية:

- ‌الأساس النقدي للأدب القديم والحديث:

- ‌الباب الثاني: الفنون الأدبية

- ‌تمهيد: الأنواع الأدبية

- ‌الفصل الأول: الشعر

- ‌قدم فن الشعر

- ‌محاولة تعريفه:

- ‌طبيعة الشعر:

- ‌الانفعال والفكرة:

- ‌الصورة القديمة وخصائصها:

- ‌الصور في الشعر الحديث، ودورها:

- ‌الشعر الذاتي والشعر الموضوعي وأنواعهما:

- ‌الفصل الثاني: الفن القصصي

- ‌تعريف الفن القصصي:

- ‌مادة العمل القصصي:

- ‌عملية الاختيار:

- ‌عناصر العمل القصصي:

- ‌القصة القصيرة:

- ‌الفصل الثالث: الفن المسرحي

- ‌مدخل

- ‌الحوار والصراع والحركة:

- ‌علاقة المسرحية بالمسرح:

- ‌المسرحية الفلسفية:

- ‌لغة المسرح بين الشعر والنثر:

- ‌الإطار المسرحي:

- ‌الأنواع المسرحية:

- ‌الفصل الرابع: أنواع أدبية أخرى‌‌ ترجمة الحياة. المقال. الخاطرة

- ‌ ترجمة الحياة

- ‌ المقالة:

- ‌ الخاطرة:

- ‌المراجع

- ‌الفهرس

الفصل: الشخصيات تصرفات منطقية أو التصرفات الضرورية، ولكنها في الوقت نفسه

الشخصيات تصرفات منطقية أو التصرفات الضرورية، ولكنها في الوقت نفسه تصدر عن الشخصيات ذاتها وهي في كامل حريتها، لا مسيرة كما يريد الكاتب، وقصة "مرتفعات وذرنج" للكاتبة "إميلي برونتيه"1 أوضح مثال لهذا النوع.

هذه هي عناصر الفن القصصي، والدور الذي يقوم به كل عنصر في أنواع القصة المختلفة، التي تهتم بعنصر أكثر من اهتمامها بغيره.

على أن الأنواع القصصية الرئيسية يفرق بينها عادة بفروق فنية أخرى. وهذه الأنواع في: الرواية، القصة، القصة القصيرة، الأقصوصة2.

والرواية Romance هي أكبر الأنواع القصصية من حيث الحجم، وهي ترتبط بالنزعة الرومانتيكية ونزعة الفرار escapism من الواقع، وتصوير البطولة الخيالية. وفيها تكون الأهمية للوقائع، حتى إن "سانتسبري" يميز الرواية بأنها قصة الواقعة، عن القصة Novel التي هي قصة الشخصية والدافع3.

1 إميلي برونتيه Emily Bronte "1818-1848" روائية إنجليزية، وقد كتبت رواية "مرتفعات وذرنج" Withering عام 1847.

2 أفضل أن أطلق لفظ الأقصوصة على ما يسمى Short-Short story محتفظًا بالقصة القصيرة لما يسمى Short story.

3 انظر:

R. Liddle: A Treatise on the Novel.، Jonatan Cape، London 1947، pp.. 16-17.

ص: 111

‌القصة القصيرة:

وقد تحدثنا فيما مضى عن القصة كثيرًا.

أما القصة القصيرة فقد قال عنها أعظم كتابها الأمريكيين "إدجار ألان بو"1: "إن القصة القصيرة بحق تختلف بصفة أساسية عن القصة بوحدة الانطباع Imperssion. ويمكن أن نلاحظ بهذه المناسبة أن القصة القصيرة غالبًا ما تحقق الوحدات الثلاث التي عرفتها المسرحية الفرنسية الكلاسيكية، فهي تمثل حدثًا واحدًا يقع في وقت واحد. وتتناول القصة القصيرة شخصية مفردة أو حادثة مفردة أو عاطفة، أو مجموعة من العواطف التي أثارها موقف مفرد"2.

وفي هذه العبارة إيجاز لطبيعة القصة القصيرة لا إيجاز بعده، ولم يفت "بو" أن يتحدث عن حجم القصة القصيرة، فقد حدد ذلك بمقياس زمني حين قرر أنها "تتطلب

1 Edgar Allan Poe "1809-1949": كاتب وشاعر أمريكي، يعد أحد أبرز كتاب القصة القصيرة في العالم.

2 The Encyclopedia Britannica، vol. 20. p. 589.

ص: 111

من نصف ساعة إلى ساعة أو ساعتين لقراءتها قراءة دقيقة"1. وجميع النقاد يتفقون على المبادئ الأساسية التي وضعها "بو" للقصة القصيرة، ولكننا قد نجد من يختلف في مسألة التحديد الزمني، فمنهم من يحدد مدة قراءتها بين ربع ساعة وثلثها. وفي تعريف "هـ. ج. ولز" لها ذهب إلى أنها تقرأ في أقل من ساعة2.

وربما كان التحديد الزمني يتأثر بمدى سرعة القراءة؛ ولذلك كان من الأفضل تحديدها في المكان. يقول "موزلي": "إنني أوافق على أن الإنسان لا يستطيع أن يحدد بدقة طول القصة القصيرة، ولكنني أعتقد أن الغالب أن أي قصة تقع في أقل من 500 كلمة من الأفضل أن تسمى Sketch، وأن أي قصة تقع في أكثر من 10000 كلمة من الأفضل أن توصف بأنها قصيصة Novelette، وعندي أن القصة القصيرة بحق ينبغي أن تتراوح في الطول بين 1500 و10000 كلمة"3.

ومهما يكن من أمر فليس هذا التحديد غاية في ذاته، ولكنه مهم لما يترتب عليه؛ لأن الحيز الضيق يؤثر في اختيار الموضوع، وطريقة السرد، وبناء الحادثة، والصياغة اللفظية، وكذلك في الصورة العامة للعمل الأدبي. وهنا لا يلتبس تلخيص الرواية الطويلة في صفحات قليلة بالقصة القصيرة، والفرق بينهما هو الفرق بين الموضوع الحي المعروض في صورة عضوية متفاعلة الأجزاء متكاملة العناصر، والموضوع الجامد الذي يغلب عليه طابع التجريد والتلخيص. فالقصة القصيرة من الممكن أن تجتاز بالقارئ فترة زمنية طويلة، كما تصنع الرواية، ولكن يحدث الفرق هنا في طريقة العرض. فالتفصيلات والجزئيات التي تملأ كل يوم وكل ساعة في تلك الفترة الزمنية لا حاجة لكاتب القصة القصيرة بها، بل إنه يجتاز كل شيء لينتقل مباشرة من لمسة من لمساته للموضوع إلى أخرى، مجتازًا بذلك من الزمن فترة قد تطول وقد تقصر. فطريقة العلاج ترتبط ارتباطًا حيًّا بالموضوع، وهذا -من جهة أخرى- فرق جوهري بين القصة القصيرة والطويلة. فلينتقل كاتب القصة القصيرة في الزمن كيف شاء، وليجتز الشهور والسنين، ولكن الذي يجعل عمله قصة قصيرة -برغم ذلك- هو الوحدة الزمنية التي تتمثل في القصة. فلا بد في القصة القصيرة من هذه الوحدة الزمنية التي ترتبط بين لمساته المتباعدة في الزمان. وهذا طبيعي إذا عرفنا أن القصة القصيرة في عمومها لا تتجاوز الفكرة الواحدة، فحسب كاتب القصة القصيرة الناجحة أن يصور هذه الفكرة أو تلك في

1 Hudson. op. cit، p451.

2 انظر:

Sydney A. Moseley: Short Story Writing and Free- Lance Journalism.، London، 5th ed. 1984، p. 188.

3 نفس المصدر ص118، 119.

ص: 112

قصته، لا مجموعة من الأفكار، مهما يكن بينها من ارتباط، كما هو الشأن في القصة الطويلة1.

وما يقال عن الزمان يقال عن الشخصيات، فالقصة القصيرة تفضل أقل عدد ممكن من الشخصيات، خلافًا للقصة والرواية، حيث يكثر الأشخاص. فليس في القصة القصيرة فرصة لرسم هذا العدد الكبير من الشخصيات؛ لضيق الحيز من جهة، ولأن القصة ذاتها لم تنشأ لتحليل عدد كبير من الشخصيات من جهة أخرى؛ ومع ذلك فمن الممكن أن تكثر الشخصيات في القصة القصيرة، ولكنها لا بد أن تكون في مجموعها وحدة، أي أن يجمعها غرض واحد، تمامًا كما تحدث "بو" عن العواطف الكثيرة التي قد تتضمنها القصة القصيرة، على أن تكون قد أثارها موقف واحد.

كل هذا يجعل صفة "التركيز" أساسية في القصة القصيرة، فهي أساسية في الموضوع، وفي الحادثة وطريقة سردها، أو في الموقف وطريقة تصويره، أي: في لغتها. ويبلغ التركيز حد أنه لا تستخدم لفظة واحدة يمكن الاستغناء عنها، أو يمكن أن يستبدل بها غيرها، فكل لفظة تكون موحية، ويكون لها دورها، تمامًا كما هو الشأن في الشعر.

أما الرواية فهي في رأيي الصورة الأدبية النثرية التي تطورت عن الملحمة القديمة، وقد كان ظهورها مرتبطًا في أوروبا -كما يذهب "كتل Kettle"- بالنظام الإقطاعي الذي ساد العصور الوسطى، فالرواية كانت الأدب الأرستقراطي غير الواقعي للنظام الإقطاعي. وهي لم تكن واقعية بمعنى أن الهدف منها لم يكن لمساعدة الناس مساعدة إيجابية في حل المشكلات المتعلقة بأمور الحياة، ولكن للانتقال بهم إلى عالم مثالي مختلف عن عالمهم هو أجمل منه وأحسن. وكان أرستقراطيًّا لأن الاتجاهات التي عبر عنها، والتي أوصى بها، كانت -على وجه التحديد- الاتجاهات التي ترغب الطبقة الحاكمة في تشجيعها لكي يظل وضعها المكتسب مستمرًّا إلى الأبد.

وأما القصة فقد كان ظهورها -في رأي من الآراء- رد فعل لرواية العصور الوسطى وما بعدها في القرنين السادس عشر والسابع عشر من روايات، وفي رأي آخر نتيجة لظهور شعب قارئ والحاجة إلى ما يقرأ من مادة أدبية. وقد احتلت القصة في القرن الثامن عشر في إنجلترا مكان المسرحية الشعرية. "وقد كانت القصة أنجح في تصوير الشخصية -وهي تعمل وتتحرك- من المسرحية. ثم إن العقول التي كان من الممكن أن تجتذبها المسرحية في العصور الأخرى اجتذبها القصص"2. وقد يقال: إن القصة ظهرت بظهور طبقة البرجوازية التجارية القوية التي تمثل الطبقة الوسطى. وهذه

1 انظر: Hudson.، p. 435.

2 Liddel: A Treatiste on the Novel.، 17-18.

ص: 113

الأسباب تصور جزءًا من الحقيقة، ولكن "كتل" يربط بينهما وبين الثورة الإنجليزية، تلك الثورة التي لم تكتفِ بأن تطور علاقات الناس الاجتماعية، بل امتدت إلى تطوير نظرتهم إلى الحياة وفلسفتهم وفنهم.

وأما القصة القصيرة فهي حديثة العهد في الظهور، وربما أصبحت في القرن العشرين أكثر الأنواع الأدبية رواجًا. وقد ساعد على ذلك طبيعتها والعوامل الخارجية.

أما من حيث طبيعتها فقد أغرت كثيرًا من الشبان بكتابتها، برغم أنها في الحقيقة أصعب أنواع القصص؛ ولذلك يخفق 70% على الأقل في كتابتها.

وأما من حيث العوامل الخارجية فقد تميز عصرنا بالآلية والسرعة، وظهرت مئات الصحف والمجلات التي تحتاج كل يوم لمئات القصص. وهي بحكم الحيز والناحية الاقتصادية تفضل القصة القصيرة.

والإذاعة كذلك -لأنها بحكم عامل الزمن لا تستطيع أن تمنح المتحدث أكثر من ربع ساعة- قد ساعدت على رواج القصة القصيرة. والناس أنفسهم قد أخذتهم السرعة، فهم في كل مظاهر حياتهم ميالون إلى التخفف والبساطة، وكان هذا طابعهم فيما يختارون للقراءة، فوجدوا في القصة القصيرة ما ينشدون. ثم لا ننسى عامل القلق الذي يسود الإنسانية، والذي لا يتيح للناس الحالة النفسية اللازمة لقراءة قصة طويلة أو رواية تحتاج إلى استرخاء ذهني ونفسي، أمدًا بعيدًا، كما كان الشأن في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا، يوم كانت الرواية تطول وتطول إلى أن تملأ المجلدات، ويجلس إليها القارئ يقطع بقراءتها ليالي فصل الشتاء الطويلة.

ومن الصعب أن نجد تحديدًا نهائيًّا لمنهج القصة القصيرة، برغم اتفاقنا على مجموعة من الأصول والظواهر العامة التي تبرز في هذا الفن. فبرغم الإطار الضيق نسبيا الذي تتحرك فيه القصة القصيرة، ما زال هناك تنوع ملحوظ في المناهج التي يتبعها كتاب هذا الفن. وكل من هؤلاء الكتاب إنما يصدر عن تصور خاص لعوامل التأثير في القصة القصيرة وفي الهدف منها، فهم -بعبارة أخرى- يختلفون في المنهج من حيث الغاية، والوسيلة.

المؤكد أن غاية الجميع هي أن يبدعوا عملا فنيا، فهم في ذلك متفقون لا محالة، وإنما يقصد بالغاية هنا الغاية التي يحققها كل منهم بالنسبة لقارئه.

فمن الكتاب من يحرص على أن يقول للقارئ كل شيء تفصيلا، وألا يترك للقارئ شيئًا يستكشفه بنفسه، أو يترك له فرصة استنباط شيء وراء المواقف ووراء الكلمات.

ص: 114

وهذا النمط من الكتاب يعنى في الغالب بعنصر الحادثة في القصة التي يكتبها، ومن ثم يركز الكاتب كل عنايته في سرد المواقف والعناية بالأسلوب، وقصص محمود تيمور القصيرة تمثل هذا النمط أحسن تمثيل.

ومن الكتاب من يؤثر التركيز على الشخصية، يرسمها في أناة ودقة، ويجعلها المحور الذي تدور حوله كل الأحداث المتعلقة به، ومن ثم لا يرد من المواقف والأحداث في القصة إلا ما يجلو الشخصية، بغض النظر عن تناسق هذه المواقف بعضها مع بعض، أي: بغض النظر عن كون هذه المواقف تمثل في مجموعها -أو لا تمثل- حكاية متماسكة.

ثم هناك القصة القصيرة ذات الطابع الرومانتيكي. وفي هذا النمط يركز الكاتب على عواطف الشخصية أو الشخصيات التي يصورها، وكثيرًا ما نجد الكاتب في هذه الحالة يرتاد الموضوعات التي تتيح له مستوًى عاليًا من العاطفة، وكثيرًا ما يكون الموضوع ذا طابع مأساوي.

وقريب من هذا النمط القصة القصيرة ذات الطابع الشعري. وفيها تختفي الحادثة تمامًا أو تكاد، فهي لا تتضمن سلسلة متصلة من المواقف، وهي كذلك لا تعنى برسم الشخصية، وإنما تتكون من انبثاقات عاطفية شتى، نابعة من موقف شعوري بعينه يلحّ على الكاتب، ويضغط على نفسه كما هو الشأن في القصيدة.

ثم هناك القصة القصيرة التي تهتم بالفكرة، وهي نوعان: رمزية، وأسطورية.

وفي هذا النمط يستغل الكاتب الرموز الشعبية والأساطير الجاهزة في أن يضمنها وجهة نظر خاصة أو فكرة خاصة، وفي هذه الحالة لا يأخذ الكاتب من الرمز أو الأسطورة إلا الإطار العام.

ثم هناك كذلك القصة القصيرة الكاريكاتورية، وفيها يهتم الكاتب بالموقف والشخصية معًا، ولكنه يرسمها بطريقة الكاريكاتير، فيجرد الشخصية والموقف من العناصر العادية، ولا يلتفت فيها إلا إلى البارز المميز ذي الدلالة الخاصة فيجسمه، ويضخمه لكي يلفت النظر إليه، تمامًا كما يصنع رسام الكاريكاتير1.

1 راجع تفصيلًا عن هذه الأنماط في مقدمتنا لكتاب "قصص من مصر"، من مطبوعات الجمعية الأدبية المصرية "دار المعرفة بالقاهرة سنة 1955". وانظر كذلك مقالتنا عن إحدى قصص فاروق خورشيد الكاريكاتورية بمجلة الثقافة، عدد 725 "لجنة التأليف والترجمة والنشر".

ص: 115

وليس هذا إحصاء لمناهج القصة القصيرة، وإنما شئنا هنا أن نقدم مجموعة من المناهج البارزة الشائعة. وما يزال كتاب القصة القصيرة يطلون علينا بين الحين والآخر بكشوفهم الجديدة في هذا الميدان، فيزيدون هذا الفن ثراء وتنوعًا، ويعملون -بطريقة غير مباشرة- على تطوير هذا الفن.

وقد عرفنا أن هناك نوعًا من القصص لا هو بالقصير ولا هو بالطويل ولكن بين بين، وهو ما أطلقنا عليه اسم القصيصة، تصغيرًا لاسم القصة. وهذا النوع غير ذائع نسبيًّا، فقليلون من يكتبونه أصلًا، والذين يكتبونه لا يتخذون منه نوعًا مميزًا لنتاجهم الفني. ومن أبرز من عالجوا هذا النوع في أدبنا القصصي يحيى حقي.

وكما يقل بين الكتاب إنتاج هذا النوع يقل كذلك النوع الآخر الذي سميناه بالأقصوصة، أي: القصة الأقصر من القصيرة، وأغلب ما يدور هذا النوع الأخير حول مشهد صغير أو فكرة جزئية أو مجرد الفكاهة أو اللمسة النفسية.

قصة أنا الشعب "دراسة تطبيقية":

هذه هي الخطوط العامة لنظرية "فن القصص"، وواضح أن المجال لا يتسع هنا لدراسة تطبيقية تمثل كل تلك الأنواع والأنماط، ومن ثم فإننا نكتفي بنموذج لدراسة إحدى القصص.

أما القصة فهي قصة "أنا الشعب"، وأما مؤلفها فهو الكاتب المشهور الأستاذ محمد فريد أبو حديد. وهو مشهور في أكثر من ميدان ولكن ربما كانت شهرته الأدبية راجعة أولًا إلى نتاجه الأدبي القصصي الممتاز، سواء منه التاريخي وغير التاريخي.

والحادثة في هذه القصة حادثة بسيطة، وإن كانت قد أخذت شكلًا معقدًا نوعًا ما؛ لكثرة ما تداخل فيها من المواقف الجزئية التي قد يكون لها أهميتها في بعض الأحيان، ولكنها كانت كذلك في أحيان أخرى لا يكاد يكون لها أثر ملحوظ في سياق الحادثة. ومن ذلك مثلًا محاولة "سيد" أن يحصل على شهادة البكالوريا، فنلاحظ أنه صرف جزءًا كبيرًا في التفكير في هذا الموضوع، كما أنه شغل جزءًا من سياق القصة بمحاولته الحصول على البكالوريا ونجاخه أخيرًا في الحصول عليها.

وإذا بحثنا عن المبرر لكل هذا في الحادثة، وجدنا المسألة أبسط من ذلك بكثير، فالقصة في ذاتها لا تفيد شيئًا من هذه المحاولة أكثر من أن تضيف شخصية جديدة هي شخصية "عبد الحميد عباس" صديق سيد القديم، فمحاولته الحصول على البكالوريا تدعوه إلى البحث عن هذا الصديق الذي أصبح مدرسًا ليستعين به في دراسته. ومنذ هذه اللحظة تبدأ أطراف خيوط جديدة لقصة صغيرة تسير جنبا إلى جنب مع القصة الأساسية، وهي قصة علاقة بين عبد الحميد هذا ومنيرة أخت سيد. وقد رأينا في آخر

ص: 116

الأمر إلى أين انتهت هذه العلاقة، فقد اقترن عبد الحميد بمنيرة. وسواء وقفنا عند الحادثة التي صدرت عنها هذه القصة وهي الحصول على البكالوريا أو عند هذه القصة ذاتها، فإننا لا نكاد نجد لها أي دور خطير في سياق القصة ذاتها. بعبارة أخرى: ماذا يربط هذه المحاولة وهذه القصة بالحادثة الكبيرة في القصة الرئيسية؟ أي رباط يربط هذه الأشياء بالحادثة؟ وإلا فما دورها وما أهميتها؟ ومن أجل ذلك تضخمت القصة.

على أن الحادثة الأصلية ذاتها بسيطة كل البساطة، فهي قصة شاب من أسرة كبيرة فقدت عائلها، وكان هذا الشاب ما يزال في مقتبل عمره لم يحصل على البكالوريا بعد. وهو يحس بأن عليه مسئولية ضخمة وهو ما يزال في هذه السن الصغيرة: مسئولية الأسرة ومسئولية نفسه، وربما كان يحس كذلك بمسئوليات أخرى إزاء أشخاص كان يصاحبهم على مضض، وهو يلاقي في صداقته لهم شيئًا من العنت، ولكنه يحاول أن يفرض شخصيته على هؤلاء الأصدقاء. ويظل من هؤلاء شخصان سيكون لهما دورهما في القصة فيما بعد، أحدهما "مصطفى عجوة" والآخر "حمادة الأصفر". ويبدأ الفتى نوعًا من الجهاد في الحياة، يحاول الكتابة في بعض الصحف لأنه كان يظن أنه أديب بارع، ولكن محاولته الأولى لم تأت بنتيجة.

ثم ينتقل من هذه المحاولة إلى محاولة أخرى هي احتراف التمثيل، يغريه بذلك أصدقاؤه أنفسهم، ولكنه لا يستمر في هذه الحرفة طويلا؛ لأنه لا يحب أن يقف هو في الدور الذي يصفع فيه حتى وإن كان هذا تمثيلا وليس حقيقة. فهو إذن فتى متمرد منذ اللحظة الأولى، وربما كان لتمرده هذا أثر كبير في إخفاقه المتلاحق في الحياة، فهو كما أخفق في الكتابة إلى الصحف، وكما أخفق في احتراف التمثيل كذلك، لم تستمر وظيفته الجديدة التي ظفر بها في محلج "السيد أحمد جلال" كثيرًا.

كان بين السيد جلال هذا وبين والد سيد صداقة قديمة هي التي كانت سببًا في أن يلحق الفتى بمحلجه. وعندئذ تبدأ علاقة بين الفتى وبين "منى" بنة السيد جلال، وهنا تبدأ قصة مستقلة إلى حد ما هي قصة هذه العلاقة بين "سيد" و"منى". وهي علاقة ستصادف كثيرًا من العقبات، ويتكلف سيد في سبيلها كثيرًا من المشقات، ولكنها ستنتهي آخر الأمر نهايتها الطبيعية، فيقترن سيد بمنى. على أي حال لا يستمر سيد كثيرًا في محلج السيد جلال، ولم يكن هذا إلا لأن صديقه القديم مصطفى عجوة الذي كان يوقع به في كل مناسبة لدى السيد جلال قد نجح أخيرًا في أن يوغر صدر سيد عليه، وإذا به ينجح في أن يحمله على فصله من العمل.

ويخرج الفتى لا يدري سببًا لما حدث، ويتعمد مقابلة السيد جلال فيما بعد، وتنتهي المقابلة بينهما بتحدٍّ صارخ؛ ذلك أن الفتى كان يحس أنه لا يقل شيئًا عن السيد

ص: 117

جلال، وأنه يستطيع أن يكون ندًّا له، برغم الغنى الذي يتمتع به السيد جلال، وضيق الحال الذي يعاني منه سيد. فلم تكن المسألة أمامه مسألة ثروة أو غنى، ولكنها مسألة حق في الحياة وكرامة إنسانية. وعلى هذا الأساس تحدى ولي نعمته، وإن كان يحس بأن هذا التحدي قد قطع أمله في الحصول على منى.

ثم يمضي إلى التفكير في نفسه وفي الحياة وفي الناس. وتستمر فترة انطواء يعاني فيها شيئًا كثيرًا من الألم، ويحس الفقدان إحساسًا قويًّا، ففي هذه اللحظة اتضح له أنه فقد كل شيء وأنه كان مخطئًا يوم تخلف عن المدرسة. وهو ينظر الآن فيجد زملاءه قد ظفروا بالشهادات العالية، وأصبحوا أشخاصًا لهم مكانتهم في المجتمع، وفي وسعهم أن يقوموا بأعباء الحياة. وعندئذ يفكر في العودة إلى المدرسة، والحصول على شهادة البكالوريا، ولكنه كان يعرف تمامًا أن هذه العملية لن تكون لها قيمة كبيرة؛ لأن حصوله على البكالوريا يقتضي منه أن يتم تعليمه العالي. وهذا بدوره يحتاج منه إلى مال كثير فضلا عن حاجة عائلته وحاجة أخته منيرة، التي كانت على وشك أن تحصل بدورها على شهادة البكالوريا.

ومع كل هذا ذهب إلى صديقه عبد الحميد عباس المدرس ليجد فيه عونًا له على التقدم للبكالوريا والتحضير لها. وهو ينجح في الحصول على هذه الشهادة، ولكنه كما كان متوقعًا، لا يكاد يفيد منها شيئًا، بل جاءت فائدته من ناحية أخرى وفي ميدان آخر هو ميدان التجارة. فهو منذ أن تحدى السيد جلال عوّل على أن يبدأ مثله تاجرًا بسيطًا حتى يصير يومًا ما منافسًا له في ميدان التجارة، ويقف معه على قدم المساواة.

ويحمل الفتى موازينه وعشرين جنيهًا كان قد ادخرها في أثناء عمله بالمحلج، ويمضي نحو الريف إلى السوق ليبتاع وليمارس التجارة. وهو في طريقه إلى السوق يقابل صديقه القديم حمادة الأصفر، وحمادة شخصية لها دور كبير في القصة، يبدأ منذ هذه اللحظة. وكانت لحمادة هذا خبرة بالتجارة -تجارة القطن بخاصة- تفوق ما يعرفه سيد. ويتفق الاثنان معًا، ويكون من هذه الشركة مكسب كبير لهما معًا. وتستمر هذه الشركة بعض الوقت وإن كان سيد يتحملها على كره منه، فقد كان حمادة هذا كريهًا بغيضًا له. وينجح سيد في أن يجمع بعض المال من هذه التجارة الصغيرة ليشتري صفقة أكبر يبيعها إلى السيد جلال ويربح فيها ربحًا كبيرًا، يكتشف بعده بفضل حمادة أنه كان من الممكن أن يخرج منها بربح أكثر.

وهكذا كادت العلاقة بين سيد والسيد جلال تعود مرة أخرى إلى مجاريها الطبيعية، ولكن حدث ما جعل هذه العلاقة تمضي في توترها حين جاء موسم

ص: 118

الانتخابات، فقد حاول السيد جلال أن يستميل بعض الأشخاص إليه؛ ليقوموا بالدعاية له ضد منافسه محمد باشا خلف.

والحق أن السيد قد حاول في هذه المناسبة أن يقف موقفًا كبيرًا ضد تلك التزييفات التي كانت تتم في عمليات الانتخابات، التي كانت الإدارة نفسها تتعهدها؛ ولذلك نجده ينضم إلى المرشح الشعبي السيد العجمي، ويحاول أن يقوم له بالدعاية الكافية. ويدعو إلى إقامة سرادق لهذه الدعوى ينتهي بالإخفاق؛ لأن رجال السيد جلال متضامنين مع رجال الشرطة قد تدخلوا وهدموا السرادق، وشتتوا من حولهم. وتخفق المحاولة، وينتصر السيد جلال، بعد أن يتنازل العجمي ومحمد خلف ولكن السيد سيستدعى إلى المركز، وهناك يلقى معاملة سيئة من رجال الشرطة، ويسجن بعض الوقت، حتى يتدخل السيد جلال في الأمر، ويطلب الإفراج عنه. ويتبين بعد ذلك أن عبد الحميد عباس هو الذي سعى هذا المسعى لدى السيد جلال.

ويخرج سيد من السجن ولكنه لا يستطيع أن يعمل شيئًا، فيفتح له صديقه عبد الحميد بابًا جديدًا يستطيع أن يستغل فيه موهبته الكتابية، فيعرض عليه أن يعمل محررًا في جريدة "بريد الأحرار" التي يصدرها صديقه مختار. ويقبل سيد العرض الجديد، ويجد في هذا الميدان فرصة جديدة للانتقام من هؤلاء الأشخاص الذين هم أساس الفساد، كما يجد فرصة للحملة على الأوضاع الاجتماعية الفاسدة في ميدان الصحافة.

وينتقل سيد إلى مصر ليقوم بمهمته الجديدة، فيبدأ في الجريدة مصححًا للبروفات، وينتقل بعد ذلك إلى الكتابة. وهو في هذه المرحلة يتعرف على الشيخ مصطفى، التاجر الصغير الذي يفتح له بيته، فيتعرف فيه على ابنته فطومة. وتبدأ فطومة تشغل حيزًا من تفكيره وإن كان لا يتعدى الفترات التي يوجد فيها في البيت، ولكنها على كل حال لم تستطع أن تمحو من خياله صورة منى.

وتبدأ مقالاته النزالية التي يحمل فيها على بعض الشخصيات الكبيرة حملة سافرة ولكنها حملة شديدة، ويكون هذا سببًا في أن يجزل له السيد علي مختار العطاء، ولكنه كان سببًا أيضًا في أن يذهب به أكثر من مرة إلى نيابة الصحافة. وهو يفلت في المرة الأولى، ولكنه ينتهي في المرة الثانية إلى أن يودع السجن بعض الوقت. ويعتريه شيء من المرض في أثناء السجن، وينتقل إلى المستشفى، ثم يعود ليفرج عنه بعد قليل. ويمضي ليجد القاهرة تتنفس أنفاسًا مكتومة بعد حريق امتد في أطرافها، فهو يشم الدخان في كل شارع وفي كل مكان، وفي هذه الأثناء تكون أسرته قد جاءت إلى القاهرة بعد أن أخبرها حمادة الأصفر، الذي أصبح ثريًّا بعد صفقة كبيرة عقدها مع محمد خلف.

ص: 119

وهذه الصفقة جاءت بعد مساومات كثيرة بين حمادة هذا ومحمد خلف؛ نتيجة لأن محمد خلف كان قد أصبح متصرفًا في شئون السيد جلال، الذي لقي حتفه فجأة وترك وراءه أسرة تتناولها الألسن كما تتناول سمعته، التي وجد الكثيرون سبيلًا إلى الطعن فيها عندما عرفوا أنه كانت تربطه بالسيدة التركية علاقة زواج ولكنه زواج عرفي. وقد حاول حمادة الأصفر -لصلته بها- أن يستغل الموقف، وأن يعرض عقد الزواج على خلف هذا لقاء مبلغ كبير من المال، ولكنه لم يصنع؛ لأن صديقه السيد استطاع أن يقنعه بمائة جنيه فحسب، ويأخذ منه هذه الوثيقة التي كانت تكفي لأن ينتقل نصف ميراث السيد جلال إلى ابنه من تلك السيدة. أصبح حمادة ثريا بعد أن ظفر بعشرة آلاف جنيه من السيد خلف في فترة كان التلاعب فيها بتجارة القطن كافيًا لأن يرفع أمثاله من الحضيض إلى تلك الصورة التي بلغها. وهو في إقامته في القاهرة تنشأ بينه وبين فطومة بنة الشيخ مصطفى علاقة مودة، ولكن فطومة هذه لا تعيره اهتمامًا؛ لأنها وجدت من هو أكثر منه غنى وجاهًا في البيئات الخاصة التي لا يغشاها إلا الشخصيات الكبيرة من مثل محمد باشا خلف ومن مثل الست هدى. وتنتهي القصة بأن يعود سيد بعد كل هذا إلى منى، ويفض ما بين الأسرة البائسة ومحمد خلف الذي كان يريد أن يحصل على كل الثروة عن طريق زواج ابنه محمود من منى. وينجح سيد آخر الأمر في أن يكشف لمنى عن حقيقة شعوره نحوها، وأن يفض ما بين أسرتها ومحمد خلف من علاقة ومن نزاع، وينتهي الأمر بأن يقترن بمنى.

وإلى هنا تكون حوادث القصة الرئيسية قد انتهت، فهي كما قلت قصة بسيطة في تكوينها لا تعدو أن تكون قصة لفتى متمرد، يشق طريقه بيده ويلاقي في سبيل ذلك الصعوبات التي قد تصل أحيانًا به إلى السجن، ولكنه مؤمن بقوته ومؤمن بحقه، ولذلك تنتهي فترة جهاده بأن يظفر آخر الأمر بما كانت تهدف إليه نفسه منذ اللحظة الأولى.

ولكن هل كان كل همّ الكاتب أن يقص علينا هذه القصة؟ ماذا كان يريد من وراء كل هذا؟ هل يكفيه أن يصور لنا جهاد هذه الشخصية التي عادت آخر الأمر إلى البداية التي بدأت منها، فإذا بنا نجد السيد مديرًا للمحلج في آخر القصة بعد أن رأيناه وزانًا بالمحلج في أول القصة؟ هل كل القصة تجري وراء تصوير هذا الصراع الذي جعل وزان المحلج في يوم من الأيام مديرًا له؟ لو كانت القصة تسعى إلى ذلك لكانت أبعد شيء عن المضمون الذي يبدو أن الكاتب كان يسعى إليه من وراء كل هذه الحوادث. وعبارة "أنا الشعب" لا تتحقق في أن يرتفع وزان المحلج يومًا ما إلى مدير لهذا المحلج،

ص: 120

فمن السهل جدا أن ينقلب هذا الوزان مديرًا وتبقى الأزمة هي هي، وتبقى المشكلة قائمة، ويظل الشعب هو نفس الشعب، بكل أوضاعه وكل أفكاره وتقاليده، أو لنقل: يبقى هذا الشعب كما هو دون أن يحس بشيء من ذلك الوعي الذي أحس به فرد من الأفراد فجأة، يرتقي إلى إدارة محلج بعد أن كان موظفًا صغيرًا فيه. بعبارة أخرى: ليست هذه القصة قصة شعب، ولكنها قصة فرد من هذا الشعب وليست فيها أي رمزية حتى نأخذ صورة هذا الوعي التي تمثلت لنا في شخصية سيد على أنها رمز لوعي أكبر وأكثر امتدادًا هو الوعي الشعبي، وعي الجماهير التي تحس بواقعها المرير، فتحاول جاهدة التخلص منه وإن لاقت في ذلك أكبر العناء حتى تصل آخر الأمر إلى ما تريد.

وليست هناك شخصية أخرى تسير في الخط نفسه، فحمادة الأصفر الذي بقي معنا حتى اللحظة الأخيرة في القصة لم يزد على أن أصبح ثريا، وإن كان لا يزال هو حمادة الأصفر البغيض إلى النفس، الكريه الجبان الخبيث الذي ينطوي على نفس منحطة. قد يكون في صداقته وعطفه على سيد شيء من اعتبار أخلاقي، ولكن هذه المسألة لا تغير من واقع حياته شيئًا، فهو على استعداد دائمًا لأن يقف في وجه صديقه هذا لقاء خمسة جنيهات "أيام الانتخابات". إذن فلم يكن حمادة ممثلا للوعي الشعبي، بل لم يكن فيه أقل قدر من هذا الوعي. وكذلك كان مصطفى عجوة، فقد كان ذنبًا من أذناب السيد جلال، هو والشيخ القرش وأمثالهما ممن يعيشون على فتات موائد السادة، ويقنعون بتلك الحياة المهينة لقاء ما يحصلون عليه من دراهم، حتى عبد الحميد عباس الذي كان على درجة من التعليم، والذي كان هو نفسه يعمل بالتدريس، لم يكن فيه الوعي الكافي، وإذا بمهمته في القصة تقتصر على أن يكون رجلا يمد يد المساعدة أحيانًا لأسرة صديقه، حتى إذا بحثنا عن الدوافع لهذا لم نجد ذلك؛ نتيجة لأنه يريد أن يساعد شخصًا مجاهدًا هو سيد وأن يدفع به إلى أمام، ويحمل عنه عبء القيام بشئون الأسرة، ولكنه كان يصنع ذلك في الحقيقة؛ لأنه كانت له رغبة خاصة في هذه الأسرة وهي أن يقترن بمنيرة أخت سيد، فلم يكن يقوم بهذه المهمة الإنسانية إذن لوعي إنساني، بل لرغبة شخصية.

أما الشخصيات الشعبية الصغيرة الأخرى، مثل شخصية الشيخ مصطفى، فقد رأيناها شخصية ضائعة تخفي عن الناس حقيقة أمرها، تلك الحقيقة التي تنفر منها كل نفس كريمة.

كان الشيخ مصطفى يتجر في المخدرات، وكان هذا سببًا لأن تصل هذه المواد إلى يد ابنته "فطومة" تلك الفتاة الساذجة، وإلى كل الزوار الذين كانت تلاقيهم هذه الفتاة وتقدم إليهم شيئًا من هذه المادة لقاء أجر معين.

ص: 121

كل ذلك فتح نظرها على أشياء غريبة هي من لوازم المجتمع المنحلّ، من لوازم المجتمع الذي يعاني أشد المعاناة، ويحاول الفرار.

حاول الكاتب في هذه القصة أن يمس مواطن الفساد المستشري في كل مكان، فامتد إلى جوانب مختلفة من الحياة؛ ليضع أصبعه على موطن الفساد في كل منها. فهو في أثناء سرده للحادثة يصور لنا الفساد في الإدارة الحكومية، ويصور لنا الفساد في نظم الحكم وما يتبعها من اعتبارات سياسية، كقيام الأحزاب وتناحرها على الحكم بكل وسيلة، وما تبع ذلك من انتخابات تزيف فيها الحقائق، وكيف أن هذا كله كان على حساب الشعب الجائع الفقير. ولم يكن سيد هو الشعب في الحقيقة، وإنما كان حمادة الأصفر هو ذلك الشعب الأصفر المريض المعتلّ الفقير الذي يعاني من كل هذا ولا يجد حرجًا في أن ينافق، وفي أن يكذب ليبلغ من وراء كل ذلك لقمة العيش.

ولا يقف الفساد عند هذه النواحي، بل يمتد إلى الحياة الاجتماعية؛ حياة القصور وما يجري بداخلها من امتهان للكرامة الإنسانية، ومن مظاهر العبودية التي تذكر بالقرون الوسطى. وكذلك يحدثنا عن الفساد في مواطن أخرى؛ في السجن وفي المستشفى وفي غيرهما من الأماكن التي امتدت إليها حوادث القصة.

إذن فقد كانت القصة تتحرك إلى الأمام فتتطور، وتتكون شيئًا فشيئًا، وفي أثناء سياقها يقف الكاتب وقفات يلقي من خلالها الأضواء على تلك الجوانب الفاسدة في حياة الناس وفي المجتمع. بدا هذا منذ اللحظة الأولى واستمر حتى آخر القصة. والحق أننا لم نكن نشعر في جزء كبير من القصة بأن تصوير هذا الفساد أمر مقصود إليه قصدًا مباشرًا، ولكننا نلمحه من بعيد فنفهمه بطريق غير مباشر؛ ولذلك نجح الجزء الأول أو الجزء الأكبر من القصة في أداء هذه المهمة. ولكننا عدنا لنتصور ما صنعه المؤلف في هذا الجزء الناجح بعد أن قرأنا نهاية القصة، فالحقيقة أن هذه النهاية التي ربط فيها المؤلف بين أحداث القصة، أو لنقل بعبارة أصح: بين المواقف المختلفة التي صور فيها فساد الحياة في أثناء سرده للقصة، حين ربط بينها وبين تلك النهاية التي تحققت فيها الثورة المصرية التي نعرفها جميعًا والتي عاصرناها ونعاصرها. وكل ذلك جعلنا نعود لنتصور أن المؤلف لم يصور لنا الحياة الفاسدة تصويرًا عرضيًّا في خلال سرده للقصة، وإنما يخيل للإنسان أنه كان يتعمد الامتداد بحوادث القصة إلى كل مكان؛ حتى يستطيع أن يضع أصبعه على جانب الفساد فيه. وأبرز مثال لذلك حين أصيب سيد بالحمى وهو في السجن، فقد مرض سيد لا لشيء إلا لينتقل إلى المستشفى، وفي انتقاله إلى المستشفى فرصة ولا شك يستطيع الكاتب فيها أن يلمس الحياة في ذلك المكان. وكثير من هذه الجوانب كان

ص: 122

موفقًا؛ لأنه صور فيه الفساد بطريقة غير مباشرة، كان يجعل الموقف جزءًا حيًّا من بنية الحادثة، ويجعله في الوقت نفسه ضرورة منطقية ونفسية معًا، ففي الوقت الذي تستمر فيه أحداث القصة في تطورها الطبيعي يقع القارئ على صور صادقة لتلك الجوانب الفاسدة في حياة المجتمع. وكل هذا يجعلنا ننتهي إلى تصور المهمة التي كان الكاتب يهدف إليها من كتابة هذه القصة، فالهدف واضح، وهو لا يصل إلى أن يكون فكرة أو مجرد وجهة نظر، بل هو أقرب إلى دراسة موضوعية لحياة المجتمع المصري قبل قيام الثورة في 23 يوليو.

وقد اعتدنا في الأعمال الفنية التي هي من هذا النوع ألا تقتصر على الماضي بل ربما كانت مهمتها الأصلية هي الامتداد إلى المستقبل، هي شق الطريق وتمهيده للحياة المستقبلية. وقصتنا لم تبرح الماضي، ولم تجاوزه إلى الحاضر، فهي لا تصور لنا شيئًا من واقعنا بعد قيام الثورة، فضلا عن أن تحدثنا عن المستقبل المأمول لحياة المجتمع المصري بعد قيام الثورة. ثم إن ارتباط القصة بالحادثة التاريخية هنا جعلها تجمع بين نوعين من الكتابة القصصية، فهي في جزء كبير منها لا ترتبط أي ارتباط بالتاريخ، ثم هي في جزء آخر على صلة وثيقة بأحداث تاريخية مشهورة معروفة. وهذا معناه أنها ليست تاريخية صرفًا، وليست كذلك قصة ابتداعية بحتًا، بل هي مزيج من اللونين. وهذا الخلط يفقد القصة شيئًا من قيمتها الفنية؛ لأن القارئ يريد أن يعيش في جو واحد، فإما أن يعيش في جو تاريخي على طول الخط، وإما أن يعيش في الجو الذي يخلقه له القصاص في قصته؛ ولذلك يحس كثير ممن يقرءون هذه القصة -أنا الشعب- أن نهايتها لم تكن موفقة؛ لأنها نهاية قصة من نوع آخر؛ نهاية قصة يصور فيها الكاتب حياة الشعب ودبيب الوعي الرشيد في أبنائه، وتطور هذا الوعي إلى حد أن تصل الحركة الشعبية إلى مواجهة الصورة القائمة للحياة، فتثور عليها وينتهي الموقف بانتصارها.

هذه قصة أخرى صور منها أبو حديد جزأين، صور منها جوانب الحياة الفاسدة، وصور منها -أو لنقل: سرد منها- قيام الثورة. أما الحلقات التي بين هذه الحياة الفاسدة وبين قيام الثورة فمفقودة. وهي في الحقيقة أهم جزء في القصة؛ لأنها هي القصة ذاتها. فالقصة قصة تطور لوعي اجتماعي، وكان ينبغي أن تعيش القصة مع هذا الوعي الذي يبدأ نتيجة لفساد الحياة، ثم يتطور وينمو وينتشر في الجماهير المختلفة حتى ينتهي بها إلى الثورة. هذا ما كان ينبغي أن يتمثل في قصة تعالج حياة شعب يثور على أوضاع قديمة وتنبعث فيه نهضة جديدة. ولكن قصتنا التي أراد لها المؤلف أن تتحدث باسم الشعب لم تكن في الواقع قصة هذا الشعب؛ ولذلك تقف أهمية هذه القصة كما قلنا

ص: 123

عند مجرد تصوير جزء من حياة المجتمع المصري في وقت من الأوقات، ولكنه في الماضي. والعمل الفني حين يستهدف غاية اجتماعية لا يقف لتصوير الماضي وحده، ولكنه يأخذ على عاتقه شق الطريق أمام الشعوب إلى المستقبل. وقصة "أنا الشعب" لم تقم بشيء من هذه المهمة إلا تصوير الحياة في الماضي، وهي بذلك تمثل النوع الذي سميناه "القصة العصرية" أي: التي تصور حياة مجتمع في فترة خاصة تعد مرحلة تطور في حياته، ولكن هذه القصة لم تصور نشأة الوعي وتطوره في جماعات الشعب حتى تنتهي إلى ثورتها. وكان من الممكن أن يقرن الكاتب قصة الحب التي حكاها بين سيد ومنى بقصة هذا الشعب، على أن تسير القصتان جنبًا إلى جنب في خطين نفسيين متوازيين ومتكاملين في الوقت نفسه. ولكي يبدو أن الكاتب لم ينجح في أن يكتب قصة كفاح الشعب كما لم ينجح في أن يكتب قصة حب تسير متوازية ومتكاملة معها، كان سيد زهير بطل القصتين، وكان طبيعيا في هذا الحال أن يكون الدور الذي تقوم به شخصية هذا البطل، سواء في قصة الكفاح أو في قصة الحب، دورًا يحمل طابعًا واحدًا، بمعنى أنه ليس طبيعيا أن يكون له دور إيجابي ينزع إلى التجديد في أساليب الحياة، وهدم التقاليد، وبناء مجتمع سليم من الآفات، وأن تكون شخصيته في الوقت نفسه تحمل طابع السلبية، وتعيش في نطاق القيود والتقاليد، ويدل دورها دلالة واضحة على أن هذه الشخصية تفتقد الثورة في كامنها، فهي إذن شخصية ثائرة وشخصية غير ثائرة. وكان نتيجة لذلك أن محاولة الكاتب في هذه القصة لربط القصتين، قصة الحب وقصة الكفاح، قد ضاعت سدى؛ لأن قصة الكفاح كان بطلها يمثل اتجاهًا خاصًّا، ونزعة ثورية متميزة، وكان بطل قصة الحب -وهو نفس البطل- يمثل اتجاهًا معاكسًا. وهذا هو السبب في أن القصتين لم تندمجا الاندماج الحيوي الذي كان من الممكن أن يتم لو كان الكاتب رسم شخصية البطل منذ اللحظة الأولى رسمًا كافيًا، واتخذ له خطًّا واحدًا يتمثل في كل موقف، سواء ارتبط هذا الموقف بقصة الكفاح أو بقصة الحب.

ومن العجيب أن قصة الحب التي يمكن أن نتحدث عنها هنا لا تحمل إلينا في بابها جديدًا، فقد كان كل المعول في أهمية هذه القصة إذن على تصوير كفاح الشعب، وهو الشيء الذي لا نجد شاهدًا واحدًا عليه من القصة، وكأن حياة الفرد العاطفية شيء لا دخل له في حياته الاجتماعية العامة. وهذا الانقسام إذن جاء نتيجة لتصور الإنسان في حياته العاطفية مستقلا -نفسيا- استقلالا تاما عن جوانب الحياة الأخرى التي يشارك فيها. ولا يبدو هذا التصور مقبولا؛ فالإنسان يفكر بطريقة واحدة، ويتصرف نتيجة لوجهة نظره المتكاملة في الحياة وفي الناس.

ص: 124

وكان يلزم نتيجة لذلك أن تكون شخصية سيد في قصة الحب موازية ومكملة لشخصية سيد في قصة الكفاح. ولم يكن سيد بعد هذا -أو قبل هذا- شخصية شعبية بالمعنى الصحيح، فأسرته من الطبقة المتوسطة برغم أنها فقدت عائلها، وهو حين يطمع في الزواج من منى لا يكون ذلك طموحًا كبيرًا، ولا يكون تحقيقه هدمًا لفكرة الطبقات.

فإذا كان قد انتهت قصة حبه بزواجه من منى، فليس معنى ذلك أن هناك عملية كفاح قد تمت للمقاربة بين طبقتين اجتماعيتين تختلفان من حين المستوى المادي والأدبي، فالحقيقة أن الأسرتين متقاربتان، وفي تحقيق هذا الزواج لا يبدو أي كفاح طبقي، ولا أي انتصار شعبي؛ ولذلك تقف قصة الحب في "أنا الشعب" بعيدة عن الكفاح الذي أراد إليه المؤلف، فقصة الحب لا تحمل أي نزعة ثورية، ولا تدل على تقدم في الوعي الاجتماعي، ولا على تحطيم الفروق بين الطبقات.

وإذا أردنا أن نتصور النزعة السلبية والانطوائية في شخصية سيد كان علينا أن ننظر بخاصة في قصة الحب التي تخللت "أنا الشعب"، فهو في هذه القصة ينظر إلى الحياة نظرة تدل على شعوره بالضعف إزاء الحياة وإزاء المقادير. وفي أكثر من مرة يتصور الحياة كالدوامة الكبيرة، ويتصور نفسه ملقى فيها وهي تدور به كيفما شاءت، دون أن يعترض تيارها أو يشق لنفسه طريقًا خارجها "ص120""ص188". وهو كذلك شخص خجول ينكمش في نفسه أمام حديث الفتاة فطومة الساذجة عندما تحكي له عن صلاتها بشهاب أفندي الموظف الذي كان ينزل في بيتهم قبله "ص51، 252، 281، 282".

وهناك أكثر من موقف نستشف منه ذلك الجانب الضعيف في شخصية سيد زهير، وكل ذلك ينتهي بنا إلى الحكم على هذه الشخصية بأنها كانت منقسمة على ذاتها، أو لم تكن شخصية متكاملة في ثورتها وفي تقدميتها.

ومع أن شخصية سيد زهير لم تكن شخصية شعبية بالمعنى الصحيح، فقد كانت الشخصيات الأخرى تحمل طابع الشعبية ولكنها تفتقد الثورة في كامنها. فحمادة الأصفر، ومصطفى عجوة، والشيخ القرش، والشيخ مصطفى، هذه النماذج الشعبية كانت أفقر النماذج للدلالة على دبيب الوعي في نفوس أبناء الشعب، بل لعلها كانت شخصيات ترمز فحسب إلى مواطن الفساد التي يعاني منها ذلك الشعب، ولكنها لم تكن تحمل في طيها أي نزعة إلى التغيير، وإلى الانطلاق من أوضاعها السيئة. وينجح المؤلف في أن يضفي عليها طابع الشعبية، لا ليستغلها فيما بعد لتكوين الوعي الشعبي وقيام الثورة، ولكنه يصورها فقط ليلقي من خلالها الأضواء على ما يسود هذا الشعب

ص: 125

من أسباب الفساد والانحلال، وقد يبدو لشخص كحمادة الأصفر دور كبير في هذه القصة، ويتضح ذلك من عناية الكاتب به في كل مرحلة من مراحل القصة. ولعله لم يقف لرسم شخصية من شخصيات القصة مثلما وقف لرسم شخصية حمادة هذا. وقد نجح في أن يخلق منه شخصية درامية ممتازة "ص289، 290"، ولكنه برغم نجاحه لم يستغل هذه الشخصية استغلالًا شعبيًّا، فقد جسم لنا فيها ما يسود هذا الشعب من نفاق ومن حياة بائسة، ومن جوع وفقر وسير بغير هدف وحياة بغير أمل، كأن الشعب كله هو حمادة هذا الذي يكسب لقمة العيش من أي طريق، ويعيش يومه لا يفكر في غده، ويقضي حياته تحت رحمة المقادير. وهذا يعد إضافة إلى تصوير حال الشعب قبل قيام الثورة، وكأن الأشخاص أنفسهم قد سخروا في القصة لكي يجسم فيها المؤلف مساوئ الحياة الماضية، فشخصياته سواء كانت من بين أفراد الطبقة الأرستقراطية أو من بين أفراد الطبقة الرأسمالية، أو كانت من بين أفراد طبقة الشعب، كانت وسيلة إلى هدف واحد، هو إلقاء الأضواء على مفاسد الحياة القديمة. ومن هذا يتبين لنا أن القصة من حيث حادثتها وفكرتها وشخصياتها تنتهي إلى هدف واحد، هو تصوير ماضي المجتمع المصري قبل قيام الثورة.

يبقى أن ننظر في القصة من حيث بناؤها الفني، ومن حيث لغتها. ويبدو لكل من يقرأ القصة أن الكاتب كان قد وضع تصميم هذه القصة على أساس تصميم من تصميمات كثيرة مألوفة، وهو الربط بين كفاح شعبي وقصة حب. وقد رأينا أنه لم ينجح في أن يصنع تفصيلات هذا التصميم وأن يملأه بالأحداث اللازمة، وأن يحرك الشخصيات المناسبة، فكان تكوين القصة لا يعدو أن يكون حشدًا لأكبر قدر ممكن من المواقف التي يجد فيها الكاتب فرصة لأن يتحدث عن عيب من العيوب. وقد يكون في سياقها نوع من التسلسل المنطقي، ولكنها كثيرًا ما استعانت بعنصر المصادفة في إدخال أحداث جديدة تلزم لإبراز الناحية الثورية، ناحية الكفاح التي ركزها الكاتب في شخصية سيد. ثم إن تركيب الحوادث لم يكن مثيرًا إلى الحد الذي يجعل القارئ مشوقًا دائمًا لأن يستمر في القراءة وتتبع المواقف، ففي أكثر من مرة يحدث الانقطاع بين جزء من القصة وجزء آخر. وهذا يحدث عادة عندما يبحث الكاتب عن مجال جديد ينقل إليه السيد زهير ليبدأ حلقة جديدة من سلسلة كفاحه في الحياة، وأوضح انقطاع هو ذلك الذي تمثل في الخاتمة، وقد أحس الكاتب نفسه بأنها "تشبه خاتمة القصص الروائية". والرداءة هنا في الواقع تأتي من أن الخاتمة لا يربطها بالقصة رباط حيوي، ولكنها تأتي فجأة ودون أي اتصال بما سرد علينا في خلال القصة، بل نستطيع أن نقول: إن القصة

ص: 126

ذاتها كانت قد انتهت عند اقتران زهير بمنى، ولكن هناك قصة أخرى كما عرفنا هي قصة الكفاح التي كان من المفروض أن تسير جنبًا إلى جنب مع قصة الحب. وكأن هذه النهاية التي أحس المؤلف نفسه أنها نهاية رديئة هي النهاية التي كان من المفروض أن يضعها الكاتب لقصة الكفاح التي لم يكتبها؛ ولذلك كان وضع هذه النهاية غريبًا لأنه يرتبط بقصة لم نعرفها، وكل الذي عرفناه منها لا يعدو أن يكون بمثابة المقدمات التي يبني عليها الكاتب حوادث قصته. لقد كان تصميم هذه القصة إذن إلى جانب ما فيه من انقطاعات وانتقالات، يتضمن فجوة هائلة هي بمثابة جسم القصة. وهذا واضح بصفة خاصة حين نتتبع خيوط قصة الكفاح، فنجد كل خيوط السدى ممتدة أمامنا ولكن عبثًا نجد خيوط اللحمة، وكل ما في الأمر أنه امتد مع هذه الخيوط إلى غايتها، ثم وضع لها نهايتها وخيل إليه أنه في أثناء الطريق صنع نسيجًا طبيعيًّا، والحق أنه نسيج مفرغ.

معنى ذلك كله أن تصميم هذه القصة ليس تصميمًا حيويًّا متماسكًا، كما أنه لا يقدم إلينا قصة مشوقة تربطنا إليها وتثيرنا، وتضطرنا إلى متابعة حوادثها حتى آخر لحظة، أو بعبارة أخرى ليس في هذه القصة الارتفاعات والانخفاضات النفسية التي يمر بها قارئ القصة الناجحة التصميم، التي تثير فيه التشوق والمتابعة حتى نهايتها، ولكنها أقرب إلى أن تكون موجة واحدة، ولكنها لا ترتفع عن السطح ارتفاعًا كبيرًا؛ ولذلك كانت الحادثة كما قلنا من قبل حادثة بسيطة. وهذا معنى قولنا: إنها حادثة بسيطة، فهي بسيطة من حيث التركيب، وبسيطة من حيث التطور. وإذن فقد فقدت عنصرًا مهمًّا هو ذلك العنصر الذي يثير التشوق في القارئ وهو عنصر التعقيد، فلم يتمثل هذا العنصر في أي موقف من المواقف على نحو يثير القارئ، بل كانت كل المواقف تقريبًا تبدو نهايتها وحلولها قبل أن يفرغ القارئ منها. وحين يتكشف للقارئ ما سينتهي إليه الموقف القصصي فإنه لا يجد دافعًا كبيرًا إلى متابعة السرد حتى يصل إلى ما سبق أن تكشف له. وميزة التعقيد هي أن تتركه دائمًا يحدس في النهاية التي يمكن أن ينتهي إليها الموقف، وبذلك يصبح القارئ جزءًا من صميم الموقف، يتحرك معه، ويتجاوب مع أشخاصه، ويرسم له النهاية التي يتصورها، أو يرسم له في نفسه أكثر من نهاية ثم ينتظر تحقق واحدة منها، وكم تكون دهشته عندما ينتهي الموقف على نحو لم يتوقعه على الإطلاق. هذا من شأنه أن يجدد نشاط القارئ، وأن يجعله دائمًا على اتصال بمواقف القصة وحوادثها، كما ينشئ بينه وبين شخصيات القصة المختلفين أنواعًا من العلاقات والتفاعلات.

ص: 127

ولعل الشخصية الوحيدة التي نجحت في أن تأسرنا إليها نوعًا ما -في هذه القصة- وتحظى بعطفنا عليها وتعاطفنا معها هي شخصية حمادة الأصفر، فقد كنا نلمسه عن قرب في كل موقف من مواقفه، وكان هذا سيضفي على الموقف شيئًا من الحيوية. إن الكاتب ينجح في أن يشركنا مع الشخصية في الموقف، حتى إذا ما ذهب حمادة من الميدان لم نجد بيننا وبين شخصية أخرى من الشخصيات أي نوع من التعاطف؛ ولذلك كنا -في أغلب الحالات- بعيدين بعدًا كبيرًا عن شخصيات القصة، وعما يدور في طواياها من أحاسيس ومشاعر. وهذا من جانبه قد باعد بيننا -أو ساعد على المباعدة بيننا- وبين القصة.

وينبغي ألا تفوتنا الإشارة إلى المواقف الخطابية التي تخلَّلت هذه القصة، ففي أكثر من موقف -وبخاصة في بداية الفصول- كان الكاتب يقف وقفات طويلة يتحدث فيها حديثًا مستقلًّا عن الحياة وعن الأدب وعن غيرهما من الموضوعات التي تشغله شخصيا. بل أكثر من هذا، كثيرًا ما ينتهز الكاتب الفرصة في موقف من المواقف لكي يبدأ حملة من الحملات العنيفة بلهجة خطابية قوية على موطن من مواطن الفساد -مثلا- في العهد الماضي.

وكذلك يقف موقفه الخطابي حين يحاول الدعوة إلى شيء، وكل هذه المواقف تبدو متميزة عن مواقف القصة. وإذا كان من حق الكاتب أن يبث في قصته أفكاره وخبراته، فإن ذلك لا يأتي على هذا النحو الخطابي، وإنما من الممكن أن يأتي على صورة أخرى فيتحقق في سياق الموقف وسياق القصة بصفة عامة، وإن كان تحققه -في هذه الحالة- تحققًا غير مباشر.

ونجاح العمل الفني يرتبط ارتباطًا كبيرًا بأن يفضي إلى القارئ ما يريد الكاتب أن يقوله، أو يدعو إليه بطريق غير مباشر، أما الحديث المباشر، والدعوة الصريحة، والفكرة المستقلة في العمل الفني، فإنها لا تنجح ولا تعمل عملها في نفس القارئ الذي لا يرضى في كثير من الحالات أن يقف منه الكاتب موقف الناصح أو موقف الدليل، هذا من حيث بنية القصة والعوامل التي تشترك في حيوية هذه البنية وأهميتها.

أما لغة القصة -وهي المظهر الحسي المباشر لهذه القصة- فلم تكن أغنى من البناء القصصي ذاته، قد يقال: إن لغة القصة كانت من البساطة والوضوح بحيث يستطيع كل قارئ أن يفهمها، وأن يتذوقها عن قرب. وهذا صحيح، ولكن مسألة الكتابة القصصية ليست مسألة لغة سهلة أو صعبة، بل العبرة بحيوية هذه القصة.

وكيف تتحقق الحيوية إذن في لغة القصة؟

ص: 128

من المفروض أن الكاتب لا يتحدث في القصة بلسانه الشخصي بل يتحدث على لسان الشخصيات المختلفة التي نصادفها في القصة. وليست المسألة مجرد إجراء للحديث على ألسنتهم، فيكون من الضروري عندئذ أن يتحدث كل شخص بلغته الخاصة وبلهجته الخاصة، ولكن لا بد أن يصحب ذلك اعتبار للمستويات الفكرية، فكل شخصية لها مستواها الفكري، ولها ميدانها الذي يحدد نشاطها الفكري والوجداني؛ ولذلك يلزم أن يراعي الكاتب مستويات شخصياته الفكرية إلى جانب مراعاته للغة هذه الشخصيات ولهجاتها، فلا يجعل شخصية بسيطة تنطق بالحكمة وتتحدث حديث الخبير المجرب، أو تتحدث حديث المثقف أو العالم، وكذلك تأخذ كل شخصية طابعها العام المستقل الذي يميزها عن غيرها كل التمييز. واللغة هي الفاصل الكبير في هذه المشكلة، فعن طريقها تعرف الشخصية، وعن طريقها أيضًا يعرف مستواها الفكري. وكل من يقرأ قصة "أنا الشعب" يلاحظ أن شخصية الكاتب كانت تطغى في كثير من الأحوال على شخصيات القصة، فإذا به ينساها وينسى مميزاتها الخاصة ومستوياتها الفكرية والوجدانية، ويمضي يتحدث هو من خلالها حديثًا إن دل فإنما يدل على مستواه الفكري كما يدل على شخصيته الخاصة، ففي أكثر من مكان يحس القارئ بشخصية الكاتب بارزة أمامه، وكان هذا سببًا في أن ظهرت الشخصيات باهتة غير مميزة؛ لأنها كانت في أغلب الأحوال تستخدم لغة واحدة، وتفكر في مستوى واحد. ولا شك أن نتيجة ذلك كانت أوضح ما تكون في لغة الحوار، فلم يكن حوارًا حيًّا بالمعنى الدقيق؛ لأن الأشخاص لم يكونوا يتمتعون بحيوياتهم الخاصة، وإنما كانوا ينطقون -حين ينطقون- بلسان المؤلف ذاته، فتلاشت من وراء ذلك شخصياتهم أو كادت، وكأنما أصبحت هذه الشخصيات قوالب من الحجارة يحركها الكاتب كيف شاء.

لم ينجح أسلوب الحوار إذن في هذه القصة؛ لأنه فضلا عن تقيده بالعربية الفصحى لم يكن يدل دلالة كافية على المستويات الفكرية للشخصيات المختلفة.

هذا ما يختص بلغة الحوار، أما السرد فقد كان عاديا لا يكاد يقف عنده القارئ، ولكنه كان من الممكن أن يكون أكثر حرارة وتأثيرًا لو أنه ارتبط بالبناء القصصي ارتباطًا حيًّا. وربما كان ضعف تصميم هذا البناء له أثره في اللغة السردية، وكذلك الأمر فيما يختص باللغة التصويرية. وقد تكون هذه الناحية في القصة أنجح من الأسلوبين الحواري والسردي؛ لأنها كانت تتمتع -إلى حد كبير- بصور فيها كثير من الحيوية، وفيها كثير من الإثارة والتهيئة النفسية، ورسم الأجواء المختلفة لبعض المواقف.

ص: 129

هذه هي قصة "أنا الشعب" من حيث حادثتها وشخصياتها وهدفها، ثم من حيث بناؤها ولغتها. والمؤلف وحده هو الذي يستطيع أن يقول: إن هذا النقد خاطئ؛ لأننا نتطلب منه شيئًا لم يخطر له على بال، ونحاسبه على أشياء لم تثر اهتمامه قط. وعندئذ سيكون جوابنا: إن الكاتب قد كتب ما كتب، والناس يتلقون عمله الفني، كلٌّ بطريقته الخاصة؛ ومن ثم لا يغير من واقع الأمر أن يرى الكاتب نفسه رأيًا في عمل فني له خلاف ما يرى الآخرون.

ص: 130