الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: أنواع أدبية أخرى
ترجمة الحياة
. المقال. الخاطرة
ترجمة الحياة
…
الفصل الرابع: أنواع أدبية أخرى: ترجمة الحياة، المقال، الخاطرة
1-
ترجمة الحياة:
لا تقتصر الفنون الأدبية على الشعر والقصة والمسرحية بأنواعها المختلفة، وإن كانت هذه هي الأنواع الكبرى الذائعة منذ أقدم العصور، فإن هناك فنونًا أخرى لا تقل رواجًا في السوق الأدبية وتستحق منا العناية والدراسة. وهي فنون حديثة العهد بالقياس إلى فن الشعر أو فن المسرح. وهي في الحقيقة مرتبطة بظهور فن الكتابة النثرية؛ لأن ترجمة الحياة والمقال والخاطرة جميعًا فنون نثرية.
وترجمة الحياة Biography هي الكتابة عن أحد الأشخاص البارزين لجلاء شخصيته، والكشف عن عناصر العظمة فيها. ولسنا نريد بذلك أن نعرف هذا الفن؛ لأن ترجمة الحياة تتسع لتشمل جوانب العظمة وجوانب الانحطاط -إن وجدت- في الشخصية المترجم لها. فالترجمة في الواقع عملية تحليلية لكل مركز من عناصر كثيرة مختلفة هو الشخصية. ومن خلال هذا التحليل تبرز القيم الإنسانية التي تنطوي عليها الشخصية، والتي يهم الآخرين الاطلاع عليها.
ولكي نفهم عملية التحليل التي تتم في ترجمة الحياة ينبغي أن نفهم معنى الشخصية. وكتب علم النفس تمدنا بكثير من المعرفة الخاصة بالشخصية، ولكننا -دون الدخول في تفصيلات الدراسة النفسية- نستطيع أن نقرر أن الشخصية "مجموعة من المجالات"، فأنا مع أصدقائي غيري مع أقاربي، وأنا مع تلاميذي غيري مع أساتذتي، وأنا مع جاري غيري مع الشخص الغريب، ومع المصري غيري مع الأجنبي
…
وهلم، ففي كل حالة من هذه يظهر جانب خاص من شخصيتي يكون هو الغالب على الموقف. وهو يظهر نتيجة لوجودي مع شخص معين، فوجودي مع ذلك الشخص حدد لي مجالًا معينًا للتفاعل والتفاهم والسلوك بعامة، فحين يزورني أقاربي من الريف يظهر من شخصيتي الجانب الذي يستطيع أن يتفاعل معهم، أو الجانب الذي يستطيع أن يدخل في مجالهم. وهذا الجانب يختفي تمامًا حينما يجمعني بشخص أجنبي مكان، وعندئذ يظهر جانب آخر، أو مجال آخر
…
وهكذا، فمن دراسة "العلاقات" التي تجمع الشخص بآخرين، وكذلك التي تتمثل في تصرفات الشخص الخاصة في المواقف المختلفة،
أستطيع أن أحدد مجموع المجالات التي تتكون منها الشخصية، ولسنا نستطيع أن نتصور الشخصية بغير مجالات، فمن يكون الشخص بغير العلاقات الكثيرة التي بينه وبين الحياة؟!
وفي ضوء هذا الفهم لمعنى الشخصية نستطيع أن نفهم معنى ترجمة الحياة، فترجمة الحياة عملية فنية تجمع بين عمل المؤرخ من جهة ارتباطها بسيرة إنسان عاش في بيئة بعينها وزمن بعينه، وبين عمل المصور الفنان الذي يتخصص في رسم الصور النصفية للأشخاص "البورتريت" Portrait.
ومن اللازم للمؤرخ أن يكون دقيقًا وموضعيًّا وأن يرتب الأحداث في نسقها المعقول، فلا يكفي المؤرخ أو كاتب ترجمة الحياة أن يحشد الحقائق التاريخية حشدًا، وإنما يحتاج المؤرخ كذلك إلى نوع من الحس الفني في اختياره وصياغته وتنسيقه لتلك الحقائق. وكذلك يحرص رسام البورتريت على أن يقدم صورة صادقة للشخص الجالس أمامه، وذلك في الوقت نفسه عمل فني.
ومن ثم يتحدد عمل كاتب ترجمة الحياة مبدئيا في جمع المصادر والحقائق وكل الوثائق المتصلة بالشخص الذي يترجم له، ثم تركيب صورة لحياة هذا الشخص بطريقة تجعل منها -إلى جانب ذلك- عملا أدبيا بكل ما للعمل الأدبي من مقومات.
ومع ما هنالك من تشابه جزئي بين عمل كاتب ترجمة الحياة والمؤرخ، فإن طريقة تناول كل منهما لحياة زعيم سياسي أو فكري أو حياة قائد عسكري أو مصلح اجتماعي تختلف. فحين يترجم كاتب لحياة نابليون مثلا فإنه لا يهتم بوقائع التاريخ إلا من زاوية واحدة هي مدى ما كان لتلك الوقائع التاريخية من تأثير في حياته، وتشكيل لشخصيته، وبلورة لها على مر الأيام.
ويتصور بعض كتاب الترجمة أن مهمتهم لا تقتصر على تصوير حياة الشخص الذي يترجمون له وإنما تمتد إلى العصر الذي عاش فيه. ويرى إدموند جروسيه E. Grosse أن هذا التصوير خطأ؛ لأن ترجمة الحياة -في رأيه- دراسة محدودة بحادثين هما الميلاد والوفاة، ومن ثم يجب أن تكتب الترجمة بحيث تجعل الشخصية الأساسية في حالة استرخاء كلي. فإذا تناول كاتب حياة دزرائيلي1 مثلا فمن الواضح أنه لا يستطيع أن يهمل الظروف السياسية في إنجلترا خلال القرن التاسع عشر، ولكنه يجب أن يقتصر على تلك الجوانب التي كانت معروفة لدزرائيلي نفسه، وكان لها تأثير في حياته.
1 بنيامين دزرائيلي Beniamin Disdraeil "1804-1881": سياسي بريطاني، ورئيس الوزراء "1868" و"1874-1880". اشترى حصة مصر من أسهم قناة السويس في عام 1875.
وهذه الوجهة ترد كاتب ترجمة الحياة مرة أخرى إلى وظيفة رسام البورتريت، فهذا الأخير دائمًا يواجه مشكلة خلفية الصورة التي يرسمها. وليس الرسامون على وفاق بشأن هذه الخلفية، فبعضهم يتركها عارية تمامًا من أي تفصيلات، وبعضهم يختار منظرًا له دلالته ليجعل منه خلفية للصورة. وبنفس المنطق يواجه كاتب الترجمة -أو ينبغي أن يواجه- مشكلة الخلفية التاريخية لحياة من يترجم له، ترى أي الإطارين يختار؟ أيكتفي بحياة الشخص نفسه المحددة بحادثتي ميلاده ووفاته، أم يضع هذه الحياة المحددة داخل إطار من تفصيلات العصر؟
الجواب على هذا السؤال تحدده طبيعة الإنسان نفسه الذي نترجم له، فإذا كانت حقيقته البارزة ماثلة في تطور "حياته الداخلية"، وكان قد آثر لنفسه العزلة فلم ينتمِ إلى مدرسة فكرية أو أدبية أو إلى تنظيم سياسي، فعند ذلك يكون من العبث الصراح صرف اهتمام كبير إلى تفصيلات الحياة في العصر الذي عاش فيه. أما إذا كان قد خضع لبعض المؤثرات في هذا العصر، فإن الضرورة تقضي بالتعرض لتلك المؤثرات -وتلك المؤثرات وحدها- التي عملت على تشكيل شخصيته.
ولعلنا نلاحظ في هذا المقام عيبًا فنيًّا في كثير من التراجم التي يصدرها كتابنا، هو أنهم يحشدون كل ما يجمعونه من حقائق عن عصر الشخص الذي يترجمون لحياته دون أن يستفيدوا منها في تجلية جوانب الشخص الرئيسية. قد تكون هذه الحقائق معلومات مفيدة في ذاتها، ولكنها -بهذه الطريقة- تجافي طبيعة فن ترجمة الحياة.
كيف يختار كاتب الترجمة موضوعه؟
قدر لبعض الشخصيات ذات الأهمية أن تظفر بعناية الكتاب سواء في حياتهم أو بعد وفاتهم، ولكن مثل هذه الكتابات لا يمكن أن تكون نهائية، فما زال هناك أكثر من مبرر لإعادة الكتابة عنها. وفي الوقت نفسه يحفل التاريخ بأشخاص كان لهم في حياتهم دور كبير، ولكن المترجمين أهملوهم؛ لنقص في المصادر والوثائق، أو لظروف اجتماعية وسياسية عاشها أولئك الكتاب أو لغير ذلك من الأسباب. وفي هاتين الحالتين يجد كاتب الترجمة الفرصة متاحة له لاختيار الشخصية التي يترجم لها.
فإذا كانت الشخصية قد سبق أن ترجم لها آخرون في أزمان مختلفة فهناك المبررات التي تجعل من حق الكاتب الترجمة لها من جديد، فكثيرًا ما يكون ظهور الوثائق والشواهد والأدلة الجديدة مغيرًا لما انتهت إليه التراجم السابقة كليا أو جزئيا، وهذا مبرر لإعادة الترجمة. وحتى عندما لا تظهر الوثائق الجديدة فإن المبرر يظل قائمًا في أن الشخصية الواحدة قد تعني بالنسبة لعصر خلاف ما تعنيه بالنسبة لآخر. ومن ثم
يمكن أن ينظر كل جيل إلى الشخصية الواحدة من منظور خاص به. فإذا لم تكن الترجمة الجديدة قائمة على أحد هذين الأساسين، أو على أساس آخر مقنع يبررها، وكانت مجرد إعادة صياغة لترجمة سابقة، كانت لغوًا لا قيمة له.
أما في حالة الأشخاص الذين لم تسبق ترجمة حياتهم فمبرر الترجمة لهم واضح، ما دامت الوثائق والشواهد المطلوبة قد صارت في متناول يد الكاتب. فكثيرًا ما يحدث أن يترك بعض الأشخاص من الرجال والنساء الذين لم يكونوا معروفين على نطاق واسع في أثناء حياتهم مذكرات أو يوميات أو خطابات ذات أهمية فائقة، وعندما تستكشف هذه الوثائق فيما بعد يصبح أصحابها موضوعات صالحة لكتابة تراجم حياتهم، وحياة صمويل بيبس S. pepsy ومي زيادة مثال على هذا.
ما المصادر الأساسية التي يتحتم الرجوع إليها لكتابة ترجمة حياة؟
عرفنا أن من واجب كاتب السيرة أن يلم بكل الحقائق التي لها صلة مباشرة ببطله، وبالأحداث والمواقف التي كان لها تأثير مباشر في حياته. وعلى هذا الأساس لا يحق له أن يهمل أي مصدر يمكن أن يمده بشيء من هذا، ألا يحدث في كثير من الأحيان أن يمدنا شاهد لم نتوقعه ولم نحسب له حسابًا بمادة طريفة تلقي ضوءًا مباشرًا على الشخصية موضوع دراستنا؟
ومن ثم حددت المصادر اللازمة لكاتب الترجمة بما يلي:
أ- الكتب التي سبق تأليفها في الموضوع، أو في موضوع متصل به.
ب- الوثائق الأصلية؛ كالخطابات أو اليوميات أو السجلات الرسمية.
جـ- ذكريات المعاصرين.
د- مقتنيات الشهود الأحياء، وذلك عندما لا تكون الفترة موضوع الدراسة بعيدة.
هـ- ذكريات المؤلف نفسه إذا كانت له معرفة شخصية ببطله، كما هو ماثل في ترجمة بوزول لحياة جونسون، أو ترجمة العقاد لسعد زغلول.
وأخيرًا، ينبغي على الكاتب -قدر المستطاع- أن يزور الأماكن التي يجد نفسه مضطرًّا لوصفها1.
1 Cassells Encyc، Of Lit.
ولكن ما موقف الكاتب من المادة التي يجمعها من هذه المصادر؟
قلنا: إنه لا يستطيع أن يحشد كل ما جمع كما هو، وإنما هو مطالب على الدوام بأن يزن الأمور ويتحقق من صدق هذه المادة، ولكن هذا وحده لا يكفي، فترجمة الحياة كما قلنا عمل فني، وكل عمل فني يتضمن وجهة نظر خاصة بالضرورة، ومن ثم يبرز عنصر شخصي خاص بالكاتب نفسه، متجليًا في "تفسيره" الخاص لهذه المادة التي وزنها وتثبت من صحتها، ثم لا ننسى أن الكاتب كثيرًا ما يواجه تناقضًا في المادة التي يجمعها. وهنا ينبغي الالتفات إلى حقيقة مهمة، هي أن هذا التناقض قد يكون راجعًا إلى عيب في المصادر نفسها، وقد يكون راجعًا إلى نفس الشخص الذي يترجم له. ومن ثم يتعين على الكاتب أن يحدد ما إذا كانت المصادر نفسها هي المسئولة عن هذا التناقض، فعند ذاك يحق له -بل يجب عليه- أن ينفي من الروايات ما لا يرقى إلى مستوى الثقة. أما إذا لم يستطع الكاتب رد هذا التناقض إلى عيب في المصادر نفسها فلا ضير على الكاتب في أن يقرر أن التناقض في الشخصية نفسها التي يترجم لها.
وهنا يحق لنا أن نتنبه إلى أن بعض كتاب التراجم يميلون إلى إرجاع التناقض دائمًا إلى المرويات وإلى المصادر، ويتحرجون من نسبته إلى الشخصية التي يترجمون لها، وهذا خطأ؛ لأنهم يتصورون أنهم مطالبون بأن يقدموا إلينا دائمًا شخصية منطقية مع نفسها، وإن كان الواقع يشهد بعكس ذلك. ألا يحدث كثيرًا أن يتناقض الإنسان مع نفسه خلال تطوره؟ ألا يحدث كثيرًا أننا نستكشف في الحياة نفسها تناقضا؟ وكل هذا يجعل من الخطأ نفي التناقض الثابت عن الشخصية التي نترجم لها، وإنما يقتضينا الأمر إثبات هذا التناقض ومحاولة تفسيره، بل إن تفسير هذا التناقض يصبح عملا أساسيا بالنسبة لكاتب الترجمة.
ماذا يهدف كاتب ترجمة الحياة من عمله؟
إنه يريد أن يثير فينا الاهتمام بحياة إنسان له قيمته، ولكن أي مدى من الحرية في التناول يحق له لكي يثير فينا هذا الاهتمام؟ كان الكاتب -في تراجم الحياة ذات الطابع الرومانتيكي- يسمح لنفسه باختراع الأحداث والحوار، مقتربًا بذلك من الرواية التاريخية. ولكن ترجمة الحياة شيء آخر غير الرواية التاريخية، وإن غلب على طريقة بنائها الأسلوب القصصي. فمهمة كاتب الترجمة هي أن يصور لنا البطل وهو يستكشف الحياة شيئًا فشيئًا، كما يحدث في الواقع بالنسبة لكل فرد منا. لا شك أن نظرتنا إلى الأمور تتطور وتتبلور خلال مراحل حياتنا المختلفة، فنحن إذن في كشف مستمر لأنفسنا وللحياة من حولنا، وما يقربنا من الشخصية المترجم لها هو إحساسنا بهذا الكشف
المستمر الذي تقوم به هذه الشخصية؛ ومن ثَمَّ فإننا نتعرف ملامح هذه الشخصية خلال هذا الكشف المستمر.
وما زال هناك من كتابنا من يتبع المنهج البلوتاركي1 القديم في تقديمه الشخصية، فقد كان بلوتارك يسرد أعمال من يختار الترجمة لهم من المشاهير ثم يأتي في النهاية بتلك المواقف التي تصور شخصياتهم. وهو منهج لا يمكن أن يخلق التعاطف بين القارئ والشخصية المترجم لها، ذلك التعاطف الذي لا بد منه كي تؤدي الترجمة مهمتها وتثبت فنيتها. على أن فن التراجم الحديث قد نبذ هذا المنهج تمامًا.
وأخيرًا، ينبغي الالتفات إلى حقيقة مهمة في موقف الكاتب من الشخصية التي يترجم لها ومن القراء، فليس الكاتب مطالبًا -بل ليس من حقه- أن يصدر على الشخصية التي يترجم لها أي حكم من أي نوع.
وهنا لا بد من الالتفات إلى نوعين من ترجمة الحياة. فالكاتب قد يترجم لشخصية سابقة، وهو عندئذ يتمثل الآخر في البيئة والزمان اللذين عاش فيهما هذا نوع، والنوع الآخر هو ترجمة الحياة الشخصية، وذلك عندما يكتب لنا الكاتب ترجمة حياته هو الخاصة، وهي عندئذ تسمى "ترجمة ذاتية Autobigrophy"، وهذا النوع يحتاج من الكاتب إلى الأمانة والصدق.
ويمكن أن يقال: إن أصدق حياة يمكن أن يكتبها الإنسان هي ترجمته لحياته الخاصة، فهو أعرف الناس بها، ولكن يبدو أن هذا غير صحيح في كثير من الأحوال، ففهم الإنسان لنفسه أمر مشكوك فيه، فربما كانت قدرته على فهم الآخرين أكبر من قدرته على فهم نفسه. واعتماد الإنسان على ذاكرته في استرجاع أحداث حياته يجعل من المحتمل إفلات كثير من الوقائع الصغيرة ذات الدلالة الكبيرة في حياته من ذاكرته. ولا بد في هذه الحالة من أن يكون الشخص قد دون كل ما مر به في حياته في حينه، حتى إذا ما عاد إليه بالقراءة استطاع أن يسترجع المواقف القديمة. وهو في هذه الحالة مضطر لأن يخرج عن ذاته يفحص ذلك الذي دونه فحصًا موضوعيًّا، وكأنه يفحص مذكرات شخص آخر يريد أن يكتب ترجمة حياته.
ومن جهة أخرى يستطيع كاتب الترجمة الذاتية أن يتجنب من الوقائع القديمة ما لا يرضى عنه، وبخاصة تلك الوقائع التي لا يعرفها -أو لم يعد يعرفها- أحد سواه.
1 نسبة إلى كاتب السير اليوناني Plutarch "46-120م". ومن أشهر آثاره كتاب "حيوات متوازية Paralle Livs".
ومن ثم يحتاج كاتب الترجمة الذاتية لكثير من الصراحة. وقبل ذلك هو في حاجة لكثير من الشجاعة؛ لكي يثبت الوقائع التي لا يرضى عنها، وأغلب ما يكون ذلك متعلقا بحياته العاطفية والجنسية. فإذا كانت لديه الشجاعة لأن يكشف كل ذلك من نفسه، فإنه ربما تحرج من ذكر الوقائع كاملة؛ لأنها عندئذ تمس شخصيات الآخرين الذين شاركوه تلك المواقف.
يضاف إلى هذا أنه مهما بلغت صراحة كاتب السيرة الذاتية وشجاعته، فإنه غالبًا ما يحرص على أن يقدم صورة متناسقة لحياته من أولها إلى آخرها، وهو لذلك قد يتجنب تلك الوقائع التي قد تبرز نوعًا من التناقض في شخصيته.
وكل هذه العوامل تجعل الترجمة الذاتية شاقة على نفس صاحبها، وقليلون هم أولئك الذين استطاعوا أن يكونوا صادقين مع أنفسهم في ترجمتهم لذواتهم.
وقد ظهر فن الترجمة لدينا حديثًا. ويعد العقاد أول كاتب يكتب لنا ترجمة فنية تمثل النوع الأول، ويتجلى فيها الذكاء والمهارة والخبرة، كالعبقريات، وترجماته للمهاتما غاندي ومحمد علي جناح وسن يات سن وغيرهم. أما النوع الثاني فقد بدأه الدكتور طه حسين بكتابه "الأيام" الذي ترجم فيه لنشأته وأطوار حياته، وهو لذلك قريب من طابع القصة. ومنذ أكثر من أربعة أعوام أصدر المرحوم الأستاذ أحمد أمين كتابه "حياتي"1 الذي ترجم فيه لنفسه. والمفروض في حالة النوع الثاني أن الكاتب يكون حريصًا على أن يلحظ الحياة الخارجية بحيث تمتد عملية التحليل والتفسير والتقويم خارج حياة الكاتب الخاصة إلى الحياة العامة. ولعل الكاتب والشاعر الإنجليزي المعاصر "إستيفن إسبندر Stephen Spender" كان صادقًا كل الصدق حين سمى ترجمته لحياته "حياة خلال حياة Life Within Life".
هذا النوع الأدبي له مكانته في الآداب الأوروبية الحديثة وله خطورته، بما يحمل إلى الناس من نماذج بشرية وقيم إنسانية لا بد أن يكون لها أثرها في تكوينهم وتوجيههم، ولكنه يحتاج دائمًا إلى الكاتب الخبير المتمكن، ونرجو أن يصرف الأدباء جزءًا من جهودهم للنهوض بهذا النوع.
وفيما يلي دراسة لنموذج من السيرة الذاتية.
كتب المفكر والأديب الكبير عباس محمود العقاد سيرة حياته في عدد من الفصول، نشر مفرقًا في مجلات "الهلال والمصور والاثنين وكل شيء والقافلة"، ثم قام
1 ينبغي أن نتذكر أن هذا التحديد الزمني صحيح بالنسبة للطبعة الأولى لكتابنا هذا.
على جمعها في كتاب بعنوان "أنا" الكاتب الصحفي طاهر الطناحي بعد موافقة العقاد نفسه.
وربما خطر لنا منذ البداية أن كتابة هذه الفصول مفرقة ونشرها على هذا النحو "وإن كان معظمها قد نشر في مجلة "الهلال"" قد لا يؤديان بها مجتمعة إلى ما يكون عليه العمل الأدبي، الذي تتصل كتابته، من التماسك والوحدة، لكن من يعرف منهج العقاد في التأليف بصفة عامة، يدرك أنه لم يكن يتقيد في تأليف كتبه بنسق الفصول التي يتضمنها كل كتاب، وأنه ربما كتب فصلًا متأخرًا من الكتاب قبل فصل متقدم، حسبما تتيسر له كتابة الفصول التي يشتمل عليها الكتاب. لقد جرى على أن يبني في عقله تصوره للكتاب الذي يؤلفه، في إجماله وتفصيله، وفي نسقه الواجب له، فإذا جاءت مرحلة الكتابة لم يجر فيها -بالضرورة- على النسق الذي تصوره، وإن كان ذلك لا ينفي -في النهاية- تحقق الوحدة الموضوعية، والفكرية للكتاب.
وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول: إن العقاد حين نشر تلك الفصول المفرقة عن نفسه إنما كان يصدر فيها عن تصور شامل لكتاب يترجم فيه لنفسه، أو يقدم فيه سيرة حياته. ويؤكد هذا ما ذكره طاهر الطناحي حين اقترح عليه أن يكتب كتابًا عن حياته فأجاب بقوله:
"سأكتب هذا الكتاب، وسيكون عنوانه "عني" وسيتناول حياتي من جانبين: الأول حياتي الشخصية بما فيها من صفاتي وخصائصي، نشأتي وتربيتي البيتية والفكرية، وآمالي وأهدافي، وما تأثرت به من بيئة وأساتذة وأصدقاء، وما طبع أو انطبع في نفسي من إيمان وعقيدة ومبادئ أو بعبارة أخرى "عباس العقاد الإنسان" الذي أعرفه أنا وحدي، لا "عباس العقاد" كما يعرفه الناس، ولا "عباس العقاد" كما خلقه الله، والجانب الثاني حياتي الأدبية والسياسية والاجتماعية المتصلة بمن حولي من الناس، أو بالأحداث التي مرت بي وعشت فيها أو عشت معها، وخضت بسببها عدة معارك قلمية، وكانت صناعة القلم أبرز ما فيها، أو بعبارة أخرى "حياة قلمي". ولعلي أبدأ بالجانب الأول، الذي هو "أنا"؛ لأنه أقرب إلى الكتابة، وبخاصة وأنا في نهاية الحلقة السادسة من عمري
…
"1.
من هذا يتضح أن العقاد حين شرع في كتابة تلك الفصول عن نفسه كان يدرك أنه بصدد أن يكتب ترجمة ذاتية، وأن عناصر هذه الترجمة كانت واضحة في ذهنه،
1 عباس محمود العقاد: أنا، دار الهلال، ب ت، مقدمة الطناحي، ص 6، 7.
حتى إنه قسمها إلى مجموعتين متمايزتين ومتكاملتين في الوقت نفسه، إحداهما تتعلق بشخصه، والأخرى بعالم الكتابة عنده، وقد أنجز كتابة القسم الأول، الذي هو بين أيدينا الآن، والذي يحمل عنوان "أنا"، وإن نشرت فصول هذا القسم في البداية مفرقة، ودون التزام بنسقها الطبيعي.
ينقسم كتاب "أنا" إلى تسعة فصول، يشتمل كل فصل منها على عدد من العناصر يقل أو يكثر، وقد رُوعي في كل فصل أن تكون عناصره -في الأغلب الأعم- متآلفة ومتكاملة. فالعناصر التي يشتمل عليها الفصل الأول -على سبيل المثال- هي على التوالي: أنا، أبي، أمي، بلدتي، طفولتي، ذكريات العيد، وهذه العناصر في مجموعها وفي نسقها هذا توحي بأن الكاتب قد أفرد هذا الفصل لمرحلة النشأة الأولى في حياته، أي: مرحلة الطفولة، حيث يتحدد عالم الطفل بعلاقاته المحدودة بأقرب الناس والأشياء إليه. ومع ذلك فإن العقاد حين تحدث في العنصر الأول عن نفسه لم يتحدث عن أنا الطفل في شخصه، بل راح يتحدث عن أنا العقاد الناضج المشهور بين الناس. ولما كانت صورته المتداولة بين الناس ليست -في رأيه- هي صورته الحقيقية بل لعلها -في رأيه كذلك- نقيض صورته الحقيقية، فقد اتخذ من الحديث عن مكونات صورته الحقيقية التي يعرفها لنفسه مدخلا لتصحيح تلك الصورة المغلوطة الشائعة، فإذا كان الشائع عنه بين الناس أنه رجل مفرط الكبرياء، مفرط القسوة والجفاء، وأنه رجل منقطع للكتب، لا يباشر الحياة كما يباشرها الناس، وأنه يملكه سلطان المنطق والتفكير ولا سلطان للقلب والعاطفة عليه، وأنه شديد الصرامة فلا تفتر شفتاه بضحكة واحدة إلا بعد الاستغفار، إذا كان هذا هو الشائع عنه فإنه ينكره جملة وتفصيلًا، ويقول:"أقسم بكل ما يقسم به الرجل الشريف أن عباسا العقاد هذا رجل لا أعرفه، ولا رأيته، ولا عشت معه لحظة واحدة، ولا التقيت به في طريق، ونقيض ذلك هو الأقرب إلى الصواب"1. ثم يمضي يحدد مشخصاته التي هي نقيض ذلك.
لقد اختار العقاد أن يكون هذا الحديث عن صورته المغلوطة لدى الناس وصورته الحقيقية مدخلًا إلى الحديث عن سيرته الذاتية، وكأنه يقدم بين يدي القارئ ما يبرر له كتابة هذه السيرة.
أما بقية عناصر هذا الفصل فيتصل الحديث فيها على نحو يحدد ملامح البيئة المادية التي تفاعل معها العقاد في طفولته، ونعني بها مدينة أسوان، كما يحدد أسلوب التربية الذي خضع له -أو تمرد عليه أحيانًا- في البيت وفي المدرسة. أضف إلى هذا
1 العقاد: أنا، ص21.
الحديث عن شخصية أبيه وشخصية أمه، وعن أصولهما في أجداده لأبيه وأجداده لأمه
…
إلخ.
على أن العقاد لا يذكر ذلك كله لمجرد تقرير عدد من الحقائق التي صاحبت نشأته الأولى، بل كان الهدف البعيد من ذكر ذلك هو أن يفسر في ضوئه -قدر المستطاع- سلوكه الشخصي والعقلي بعد أن شبَّ ونضج؛ إيمانًا منه بأن الطباع تورث، وأن كثيرًا من طباعه التي لازمت سلوكه في شتى مراحل حياته دون تغير إنما يرجع بصفة أساسية إلى عناصر الوراثة لديه. وهو نفسه يقول في الفصل السادس من الكتاب تحت عنوان "فلسفتي في الحياة":"من فلسفة الحياة ما نستمده من الطبع الموروث، ومنها ما نستمده من تجربة الحوادث والناس، ومنها ما نستمده من الدرس والاطلاع، وهي في اعتقادي على هذا الترتيب في القوة والأصالة"1، ومن ثم نراه حين يحدثنا عن نزعته الإيمانية -مثلًا- يقول:
"أؤمن بالله وراثة وشعورًا وبعد تفكير طويل"2. ونعود فنتذكر حديثه في الفصل الأول عن أبيه، كيف أنه كان يؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها، وكيف أن صورته وهو يؤدي صلاة الصبح، جالسًا على سجادة الصلاة من مطلع الفجر إلى ما قبل الإفطار، يتلو سورًا خاصة من القرآن الكريم ويعقبها بالدعوات، كيف أن صورته هذه ظلت مطبوعة في ذاكرته طوال حياته3. وكذلك نتذكر ما قرره في الفصل نفسه عن أمه، من أنه ورث عنها تقواها، وأنه فتح عينيه يراها وهي تصلي وتؤدي الصلاة في مواقيتها4.
وعلى هذا النحو يتشبث العقاد بأثر التنشئة الأولى وبعنصر الوراثة في تشكيل سلوكيات الإنسان ومعتقداته على السواء، ومن هنا يتضح لنا معلم أساسي من معالم منهج العقاد في كتابة الترجمة الذاتية، بل في كتابة السيرة بعامة، وهو أنه يقدم على الشخصية التي يترجم لها كأنها موضوع دراسة لا بد أن تلتئم نتائجه مع مقدماته، وكأن الشخصية موضوع الترجمة أمامه مجموعة من الظواهر المادية والمعنوية التي تصدر في بدايتها عن عوامل بيئية ووراثية، وتئول في نهايتها إليها. وهو منهج تبريري في أساسه، يرد فيه الكاتب كل مزية أو نقص في الشخصية التي يترجم لها إلى ما كمن فيها من
1 نفسه ص168.
2 نفسه ص152.
3 نفسه ص31.
4 نفسه ص39.
استعداد بأثر الوراثة أو أثر البيئة. وهذا ما صنعه في ترجمته لنفسه، فهو لا يروي سيرة حياته بكل ما فيها، ولا يكتفي بتسجيل ذكرياته عن الأشخاص والأحداث كما مرت في حياته، أو يكتفي برواية مواقفه ومغامراته بمعزل عن أي قيمة اجتماعية أو موقف أخلاقي، بل يجعل ما يختار روايته من ذلك موضع تأمل، ومادة لا بد لها من تفسير. ومن ثم نستطيع أن نقول: إن كتاب "أنا" لا يحكي لنا قصة حياة العقاد بقدر ما يعكس محاولة الكاتب فهم نفسه.
وتسلمنا هذه الحقيقة العامة إلى أسلوب العقاد في تناول كل عنصر من العناصر التي أدار عليها الكلام في فصول ذلك الكتاب، ذلك أنه يدخل إلى الحديث -في الأغلب الأعم- من مدخل فكري وتأملي عام، يطول أحيانًا ويقصر أحيانًا، وكأنه شرح أو تبرير لما سيتحدث به عن نفسه فيما بعد. ولنقف -على سبيل المثال- عند بداية الفصل السابع من الكتاب لنجد مصداق هذا.
في مستهل هذا الفصل يتحدث العقاد -تحت عنوان "طفت العالم من مكاني"- حديثًا مستفيضًا عن كبار الرحالين وكيف أنهم تملكهم -على الرغم منهم- "ملكة شخصية" يصح أن تسمى عبقرية السياحة، وكيف أن هذه الملكة الشخصية تستمد أصولها من ملكة قومية، حيث خرج هؤلاء الرحالون من أمم قد تعود أبناؤها الرحلة، كالعرب؛ لأنهم أبناء بادية، والفينيقيين والإغريق والبنادقة والبرتغاليين والإنجليز؛ لأنهم جميعًا بحريون وملاحون. ثم ينتقل إلى الحديث عن نوع آخر من الرحلة في غير المكان، وهي الرحلة في داخل النفس، أو في عالم الخيال، حيث تتم الرحلة دون أن يفارق الإنسان مكانه خلال عشرات السنين، كأبي العلاء المعري، الشاعر العربي، رهين المحبسين، وكجول فيرن، الكاتب الفرنسي المشهور في عالم القصص العلمي.
حتى إذا ما انتهى من تقرير هذين النوعين من الرحلة، راح يحدثنا عن نفسه، كيف أنه ينتمي إلى الرحالين بغير انتقال، على الرغم من أنه في صباه كان مشوقًا للسياحة في مشارق الأرض ومغاربها. إنه يرد ذلك الشوق القديم إلى ما يسميه "عارضًا من عوارض الصبا التي تنزوي مع الزمن وراء غيرها من الميول المتمكنة في السليقة"1. وكان الميل المتمكن من السليقة لديه هو حب العزل التي نشأ عليها وورثها من أبويه2. فهو إذن أميل إلى ذلك النوع من الرحلة الذي يتحقق دون الانتقال في المكان، على أنه يعتقد أنه لم يخسر بذلك شيئًا مما يحصله الرحالون المتنقلون.
1 نفسه ص177.
2 نفسه ص178.